الصفحة 40
النار"(1).

ثمّ إنّ الامام بعد أن ثبتت عصمته وإمامته من خلال تلك البيانات، عرّف للاُمّة أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيانات كثيرة في النهج، نقف عند بعضها:

قال (عليه السلام): "لا يقاس بآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، من هذه الاُمّة أحد، ولا يستوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصيّة والوراثة"(2).

ثمّ قال (عليه السلام): "انظروا أهل بيت نبيّكم، فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا"(3).

وقال أيضاً: "ألا أنّ مثل آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) كمثل نجوم السماء، إذا خوى نجم، طلع نجم، فكأنّكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون"(4).

وقال أيضاً: "فأين تذهبون، وأنّى تؤفكون، والاعلام قائمة، والايات واضحة، والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم، وكيف تعمهون، وبينكم عترة نبيّكم، وهم أزمّة الحقّ، وأعلام الدين، وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورود الهيم العطاش"(5).

مع كلّ هذه النصوص وعشرات غيرها، تأتي بعض الاقلام لتقول: إنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وعلى رأسهم الامام علي ابن أبي طالب، لم يدّعوا لانفسهم العصمة، ولم يقولوا ما قالته الشيعة عنهم، وإنّما هي من اختلاقات فلاسفة الشيعة ومتكلّميهم، والامر كما ترى.

____________

(1) نهج البلاغة: رسائل الامام، رسالة رقم 41.

(2) نهج البلاغة: الخطبة رقم 2.

(3) نهج البلاغة: الخطبة رقم 97.

(4) نهج البلاغة: الخطبة رقم 100.

(5) نهج البلاغة: الخطبة رقم 87.


الصفحة 41
ب ـ حديث الكساء: رواه الفريقان بطرق كثيرة وأساليب مختلفة، وأماكن متعدّدة أشرنا إليها في كتاب العصمة(1). ويمكن مراجعته تفصيلاً في كتاب آية التطهير(2).

وقد رواه مسلم في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه الكبرى، وكلّ من الطبري وابن الاثير والسيوطي في تفاسيرهم، وغيرهم كثير، فقد ورد عن عائشة قالت: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غداةً وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمّ جاء الحسين، فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة، فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله، ثمّ قال: "إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً"(3).

ويقول الالوسي في هذا المجال: (وأخبار ادخاله (صلى الله عليه وآله) عليّاً وفاطمة وابنيهما ـ رضي الله تعالى عنهم ـ تحت الكساء، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي" ودعاءه لهم، وعدم إدخال اُم سلمة أكثر من أن تحصى، وهي مخصّصة لعموم أهل البيت، بأي معنى كان البيت، فالمراد بهم من شملهم الكساء، ولا يدخل فيهم أزواجه (صلى الله عليه وآله))(4).

وقال الرازي في تفسيره الكبير في ذيل قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى) (الشورى 23). وأنا أقول: (آل محمّد (صلى الله عليه وآله) هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل، كانوا هم الال، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين، كان التعلّق بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)أشدّ التعلّقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الال. وأمّا غيرهم، فهل يدخلون

____________

(1) العصمة: محاضرات السيّد كمال الحيدري، بقلم محمّد القاضي، ص 199 ـ 228.

(2) آية التطهير في أحاديث الفريقين: ج 2، ص 159 ـ 312.

(3) صحيح مسلم: ج 7، ص 130; مستدرك الحاكم: ج 3، ص 147; سنن البيهقي: ج 2، ص 149; تفسير الطبري: ج 22، ص 5; الدرّ المنثور: ج 5، ص 198; تفسير ابن كثير: ج 3، ص 485.

(4) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: ج 22، ص 14، دار إحياء التراث العربي، بيروت.


الصفحة 42
تحت لفظ الال، فمختلف فيه)(1).

ويقول بعض الاعلام المعاصرين: (والذي يبدو أن الغرض من حصرهم تحت الكساء، وتطبيق الاية ـ آية التطهير ـ عليهم، ومنع حتّى اُمّ سلمة من الدخول معهم، كما ورد في روايات كثيرة، هو التأكيد على اختصاصهم بالاية، وقطع الطريق على كلّ ادعاء بشمولها لغيرهم. وكأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد خشى أن يستغل بعضهم قربه منه، فيزعم شمول الاية له، فحاول قطع السبيل عليهم بالتأكيد على تطبيقها على هؤلاء بالخصوص، وتكرار هذا التطبيق، حتّى تألفه الاسماع، وتطمئن إليه القلوب)(2). وهذا ما ورد في روايات عديدة أشار إليها السيوطي في الدر المنثور، قال: (أخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء ـ رضي الله عنه ـ قال: حفظت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمانية أشهر بالمدينة، ليس من مرّة يخرج إلى صلاة الغداة، إلاّ أتى إلى باب علي ـ رضي الله عنه ـ فوضع يده على جنبتي الباب، ثمّ قال: "الصلاة الصلاة، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً")(3).

جـ ـ خروجه إلى المباهلة: روى مسلم في صحيحه، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ قال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلن أسبّه، لئن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليَّ من حمر النعم، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول حين خلّفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي"؟، وسمعته يقول يوم خيبر: "لاعطيّن الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله"، قال: فتطاولنا لها، فقال: "ادعوا لي عليّاً"، فاُتي به أرمد العين، فبصق في عينه، ودفع الراية إليه، ففتح الله على يديه، ولمّا نزلت هذه الاية: (قل تعالوا ندع

____________

(1) التفسير الكبير: ج 27، ص 166.

(2) الاُصول العامّة للفقه المقارن: ص 156.

(3) الدر المنثور في التفسير بالمأثور: ج 6، ص 606، دار الفكر.


الصفحة 43
أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله)عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وقال: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي".

وروى ذلك الترمذي في صحيحه، وأبو المؤيّد في كتاب فضائل علي، وأبو نعيم في الحلية، والحمويني الشافعي في فرائد السمطين.

وفي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي"، دلالة واضحة على أنّ هؤلاء لا غير هم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته، لما ينطوي عليه الكلام من القصر والاختصاص.

وعلى كلّ حال، فإنّ خلاصة هذا الطريق، أنّه بعد أن تعيّن عدد من المعصومين من أهل البيت في الخطوة الاُولى، كما تمّ لعلي وفاطمة والحسن والحسين، يأتي دور هؤلاء لتعيين كلّ سابق، الامام اللاحق له.

وهذا ما نجده واضحاً في كثير من الروايات التي عيّن فيها كلّ سابق اللاحق له ونصّ عليه.

لا يقال: إنّ بعض هذه الروايات إمّا هي ضعيفة السند، وعلى فرض صحّتها فهي آحاد، لا يمكن الاعتماد عليها في الاُصول الاعتقاديّة كمبحث الامامة.

فإنّه يقال: حتّى لو سلّمنا ما يقوله المستشكل، فإنّه لا نعتمد على خصوص هذه الروايات لتعيين الائمّة من السجّاد (عليه السلام) إلى القائم (عليه السلام)، وإنّما يضاف إليها عشرات الروايات التي تحدّثت عن أسمائهم جميعاً، كما في الطريق الاوّل. مضافاً إلى دليل آخر يمكن اعتماده في هذا المجال وهو الدليل التأريخي، لاثبات إمامتهم، وتوضيحه كما قرّره اُستاذنا الحكيم في الاُصول العامّة: (إنّ هؤلاء الائمّة الاثني عشر، قد ادّعوا لانفسهم الامامة في عرض السلطات الزمنيّة، واتخذوا من أنفسهم، كما اتخذهم الملايين من أتباعهم قادة للمعارضة السلميّة للحكم القائم في زمنهم، وكانوا عرضة للسجون والمراقبة، وكثير منهم قُتِل بالسم، وفيهم من استشهد في ميدان الجهاد على أيدي القائمين بالحكم، وفي هؤلاء من تولّى الامامة وهو ابن عشرين سنة كالحسن العسكري (عليه السلام)، بل فيهم من تولّى منصبها وهو ابن ثمان كالامامين الجواد والهادي (عليهما السلام). ومن المعروف عن الشيعة ادعائهم العصمة لائمتهم الملازمة لدعوى

الصفحة 44
الاحاطة في شؤون الشريعة جميعها، بل ادعوا الاعلميّة في جميع الشؤون وهم أنفسهم صرّحوا بذلك)(1).

ومن كلماتهم في ذلك:

1 ـ عن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: "نحن شجرة النبوّة، ومحطّ الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكمة"(2).

2 ـ وعنه (عليه السلام) أيضاً: "أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يُستعطى الهدى، ويُستجلى العمى، إنّ الائمّة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم"(3).

3 ـ وقال الامام السجّاد (عليه السلام): "وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن، فتأوّلوه بآرائهم، واتهموا مأثور الخبر فينا ـ إلى أن قال ـ: وإلى من يفزع خلف هذه الاُمّة، وقد دُرِست أعلام الملّة، ودانت الاُمّة بالفرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً، والله تعالى يقول: (ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات) فمن الموثوق به على إبلاغ الحجّة، وتأويل الحكمة، إلاّ أهل الكتاب، وأبناء أئمّة الهدى، ومصابيح الدجى، الذين احتجّ الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجّة، هل تعرفونهم أو تجدونهم، إلاّ من فروع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"(4).

4 ـ وقال الامام الصادق (عليه السلام): "إنّ الله عزّ وجلّ أوضح بأئمّة الهدى من أهل بيت نبيّنا عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه، وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه ـ إلى أن يقول ـ فلم يزل الله تبارك وتعالى يختارهم لخلقه، من ولد الحسين (عليه السلام) من عقب كلّ إمام،

____________

(1) الاُصول العامّة للفقه المقارن: ص 181.

(2) نهج البلاغة: الخطبة رقم 109.

(3) نهج البلاغة: الخطبة رقم 144.

(4) كشف الغمّة: ج 2، ص 99.


الصفحة 45
يصطفيهم لذلك، ويجتبيهم ويرضى بهم لخلقه، ويرتضيهم، كلّ ما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماماً، علماً بيّناً، وهادياً نيّراً، وإماماً قيّماً، وحجّةً عالماً، أئمّة من الله، يهدون بالحقّ وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه... جعلهم حياةً للانام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام، ودعائم للاسلام، جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها"(1).

5 ـ وقال الامام الرضا (عليه السلام): "إنّ الامامة هي منزلة الانبياء وإرث الاوصياء، إنّ الامامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وميراث الحسن والحسين (عليهما السلام)، إنّ الامامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، إنّ الامامة اُس الاسلام النامي، وفرعه السامي ـ إلى أن يقول ـ الامام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضّل الوهّاب" "أتظنّون أنّ ذلك يوجد في غير آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كذَّبتهم والله أنفسهم، ومنّتهم الاباطيل، فارتقوا مرتقاً صعباً دحضاً، تزل إلى الحضيض أقدامهم، راموا إقامة الامام بعقول حائرة بائرة ناقصة، وآراء مظلّة، فلم يزدادوا منه إلاّ بعداً، ولقد راموا صعباً، وقالوا إفكاً، وظلّوا ظلالاً بعيداً..." "وأنّ العبد إذا اختاره الله عزّ وجلّ لاُمور عباده، شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيّد، موفّق مسدّد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصّه الله بذلك ليكون حجّته على عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"(2).

ونظير هذه الاقوال كثير في كلام أئمّة أهل البيت (عليهم السلام). من هنا قد يقال: (أما كان بوسع السلطة وهي تملك ما تملك من وسائل القمع، أن تقضي على هذه الجبهة من المعارضة ذات الدعاوى العريضة من أيسر طرقها، وذلك بتعريض أئمّتها لشيء من الامتحان العسير في بعض ما يملكه العصر من معارف، وبخاصّة ما يتصل بغوامض

____________

(1) الاُصول من الكافي: ج 1، ص 203، باب نادر وجامع في فضل الامام وصفاته، ح 2.

(2) الاُصول من الكافي: ج 1، ص 200، ح 1.


الصفحة 46
الفقه والتشريع، ليسقط دعواها في الاعلمية من الاساس، أو يعرّضهم إلى شيء من الامتحان في الاخلاق والسلوك ليسقط ادعاءهم العصمة. وإذا كان في الكبار منهم عصمة وعلم، نتيجة دربه ومعاناته، فما هو الشأن في ابن عشرين عاماً أو ابن ثمان، فهل تملك الوسائل الطبيعيّة تعليلاً لتمثّلهم لذلك كلّه. ولو كان هؤلاء الائمّة في زوايا أو تكايا، وكانوا محجوبين عن الرأي العام كما هو الشأن في أئمّة الاسماعيليّة، أو بعض الفرق الباطنيّة، لكان لاضفاء الغموض والمناقبيّة على سلوكهم من الاتّباع مجال، ولكن ما نصنع وهم مصحرون بأفكارهم وسلوكهم وواقعهم، اتجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الفكر، والتأريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لافكارهم، وتعريضهم لمختلف وسائل الاغراء والاختبار، ومع ذلك فقد حفل التأريخ بنتائج اختباراتهم المختلفة وسجّلها بإكبار. ولقد حدّث المؤرّخون عن كثير من هذه المواقف المحرجة، وبخاصّة مع الامام الجواد، مستغلّين صغر سنّه عند تولّي الامامة. وحتّى لو افترضنا سكوت التأريخ عن هذه الظاهرة، فإنّ من غير الطبيعي أن لا تحدث أكثر من مرّة، تبعاً لتكرر الحاجة إليها، وبخاصّة أنّ المعارضة كانت على أشدّها في العصور العبّاسيّة.

وطريقة إعلان فضيحتهم بإحراج أئمّتهم فيما يدّعونه من علم واستقامة سلوك، وإبراز سخفهم لاحتضانهم أئمّة بهذا السنّ وهذا المستوى لو أمكن ذلك، أيسر بكثير من تعريض الاُمّة إلى حروب قد يكون الخليفة نفسه من ضحاياها، أو تعريض هؤلاء الائمّة إلى السجون والمراقبة أو المجاملة أحياناً... وإذا كان للصدفة ـ وهي مستحيلة ـ مجالها في امتحان ما، بالنسبة إلى شخص ما، فليس لها موقع بالنسبة إليه في مختلف المجالات، فضلاً عن تكرّرها بالنسبة إلى جميع الائمّة، صغارهم وكبارهم، كما يحدّث في ذلك التأريخ. وأظنّ أنّ في هذه الاعتبارات التي ذكرناها مجتمعة ما يغني عن استيعاب كلّ ما ذكر في تشخيص المراد من أهل البيت)(1).

____________

(1) الاُصول العامّة للفقه المقارن: ص 182.


الصفحة 47

المحور الرابع
المهدي، هل هو حي، أم سيولد بعد ذلك؟


تعتبر مسألة الامام المهدي (عج) من المسائل الاساسيّة في بحث الامامة الخاصّة، من هنا ورد التأكيد عليها في التراث الشيعي، بما يناسب موقعها المهم هذا. كما إنّ فكرة مجيء المصلح في آخر الزمان، فكرة لا خلاف عليها بين علماء المسلمين عامّة، حيث اتفقت كلمتهم إلاّ من شذّ منهم، على أنّه لابدّ أن يأتي في آخر الزمان من يصلح الارض، ويملاها قسطاً وعدلاً، بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً. وممن صرّح بأحاديث المهدي، الترمذي في السنن، والنيسابوري في المستدرك، والبغوي في مصابيح السنّة، وابن الاثير في النهاية، وابن تيميّة في منهاج السنّة، والذهبي في تلخيص المستدرك، والتفتازاني في شرح المقاصد، والهيثمي في مجمع الزوائد، والجزري الدمشقي في أسنى المطالب، والصبّان في إسعاف الراغبين، والشوكاني وعشرات غيرهم(1).

وصحح النيسابوري كثير من روايات المهدي، وعبّر عن طائفة منها بأنّها صحيحة على شرط الشيخين ولم يخرّجاه، كحديث اُم سلمة حول خسف البيداء الذي يكون في زمن المهدي(2)، وحديث ابن مسعود "لا تذهب الدنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطيء اسمه اسمي"(3)، وحديث ثوبان حول الرايات التي

____________

(1) سنن الترمذي: ج 4، ص 505; مستدرك الحاكم: ج 4، ص 553; مصابيح السنّة: ص 488، ح4199; النهاية في غريب الحديث والاثر: ج 5، ص 254; منهاج السنّة: ج 4، ص 211; تلخيص المستدرك: ج 4، ص 553; شرح المقاصد: ج 5، ص 312; مجمع الزوائد: ج 7، ص 313 ـ 314; أسنى المناقب في تهذيب أسنى المناقب: ص 163 ـ 168; إسعاف الراغبين: ص 145; الاذاعة: ص 125.

(2) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 429.

(3) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 442.


الصفحة 48
توطّيء للمهدي سلطانه(1)، وحديث أبي سعيد: "المهدي منّي أجلى الجبهة"(2)، وحديث أبي سعيد أيضاً: "لا تقوم الساعة حتّى تُملا الارض ظلماً وجوراً وعدواناً، ثمّ يخرج من أهل بيتي من يملاها قسطاً وعدلاً"(3)، وحديث محمّد ابن الحنفيّة عن أبيه علي (عليه السلام) أنّه قال، وقد سأله رجل عن المهدي: "ذاك يخرج في آخر الزمان"(4).

وعبّر عن طائفة ثانية منها، بأنّها صحيحة على شرط مسلم ولم يخرّجه، كحديث أبي سعيد الخدري: "المهدي منّا أهل البيت"(5)، وحديثه الاخر أيضاً: "تملا الارض جوراً وظلماً فيخرج رجل من عترتي"(6).

وعبّر عن طائفة ثالثة بأنّها صحيحة الاسناد ولم يخرّجاه، كحديث أبي سعيد: "ينزل باُمّتي في آخر الزمان بلاء شديد، فيبعث الله عزّ وجلّ من عترتي، فيملا الارض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً"(7)، وحديث أبي سعيد أيضاً: "يخرج في آخر اُمّتي المهدي"(8).

بل صرّح بعض الاعلام بتواتر هذه الاحاديث، كالاُبري في مناقب الشافعي، كما نقل ذلك المزّي في تهذيبه(9)، والقرطبي في التذكرة(10)، والعسقلاني في تهذيب التهذيب(11)، والسخاوي في فتح المغيث، والسيوطي في مصباح الزجاجة، والمتقي

____________

(1) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 464.

(2) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 457.

(3) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 557.

(4) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 554.

(5) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 557.

(6) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 558.

(7) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 465.

(8) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 558.

(9) تهذيب الكمال: ج 25، ص 146 / 5181، في ترجمة محمّد بن خالد الجندي.

(10) التذكرة: ص 701.

(11) تهذيب التهذيب: ج 9، ص 125/ 201 ترجمة محمّد بن خالد الجندي.


الصفحة 49
الهندي في البرهان في علامات مهدي آخر الزمان، والبرزنجي في الاشاعة لاشراط الساعة، وعشرات غير هؤلاء لا مجال لذكرهم في هذه العجالة(1).

فمثلاً، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب، نقلاً عن الاُبري في ترجمة محمّد بن خالد الجندي: (وقد تواترت الاخبار، واستفاضت بكثرة رواتها، عن المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في المهدي، وأنّه من أهل بيته، وأنّه يملك سبع سنين، ويملا الارض عدلاً، وأنّ عيسى (عليه السلام) يخرج فيساعده على قتل الدجّال، وأنّه يؤمّ هذه الاُمّة، وعيسى خلفه)(2).

وقال أيضاً: (وفي صلاة عيسى (عليه السلام) خلف رجل من هذه الاُمّة، مع كونه في آخر الزمان، وقرب قيام الساعة، دلالة للصحيح من الاقوال "أنّ الارض لا تخلو من قائم لله بحجّة" والله العالم)(3).

ولم يقتصر الامر على المتقدّمين من علماء المسلمين، بل نجد ذلك واضحاً في كتابات المتأخّرين أيضاً، حيث صرّح أهل التحقيق منهم، بصحّة أحاديث المهدي، بل بتواترها، كالشيخ محمّد الخضر المصري، والشيخ محمّد فؤاد عبدالباقي، وأبو الاعلى المودودي، وناصر الدين الالباني، والشيخ حمود التويجري، والشيخ عبدالعزيز بن باز، وغيرهم(4).

وقال الشيخ منصور علي ناصف في كتابه (التاج الجامع للاُصول): (اشتهر بين

____________

(1) نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني: ص 144; العطر الوردي لشرح القطر الشهدي للبلبيسي: ص 45.

(2) تهذيب التهذيب: ج 9، ص 125/ 201، ترجمة محمّد بن خالد الجندي.

(3) فتح الباري: ج 6، ص 385.

(4) نظرة في أحاديث المهدي: ص 829 ـ مقال نشرته مجلّة التمدّن الاسلامي، دمشق 1370 هــ ـ 1950م; محاضرة نشرت في مجلّة الجامعة الاسلاميّة للشيخ محمّد فؤاد عبدالباقي، العدد الثالث، السنة الاُولى، 1388 هــ السعوديّة; البيانات للمودودي: ص 116; حول المهدي ـ مقال ـ 644، نشرته مجلّة التمدّن الاسلامي 1371 هــ ـ دمشق; الاحتجاج بالاثر على من أنكر المهدي المنتظر: ص 70 ـ 71; الاحتجاج بالاثر للتويجري: كلمة التصدير، بقلم ابن باز، ص 3.


الصفحة 50
العلماء سلفاً وخلفاً، أنّه في آخر الزمان، لابدّ من ظهور رجل من أهل البيت، يسمّى المهدي، يستولي على الممالك الاسلاميّة، ويتبعه المسلمون، ويعدل بينهم، ويؤيّد الدين، وبعده يظهر الدجّال، وينزل عيسى (عليه السلام) فيقتله، أو يتعاون عيسى مع المهدي على قتله. وقد روى أحاديث المهدي، جماعة من خيار الصحابة، وخرّجها أكابر المحدّثين، كأبي داود والترمذي، وابن ماجة...، ولقد أخطأ من ضعّف أحاديث المهدي كلّها، كابن خلدون وغيره)(1).

وقال ابن باز: (فأمر المهدي معلوم، والاحاديث فيه مستفيضة، بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواترها... وهي متواترة تواتراً معنويّاً، لكثرة طرقها واختلاف مخارجها، وصحابتها، ورواتها، وألفاظها، فهي تدل على أنّ هذا الشخص الموعود به، أمره حقّ ثابت وخروجه حق)(2).

وقال أيضاً: (ولقد تأمّلت ما ورد في هذا الباب من أحاديث، فاتضح لي صحّة كثير منها، كما بيّن ذلك العلماء الموثوق بعلمهم ودرايتهم، كأبي داود، والترمذي، والخطّابي، ومحمّد بن الحسين الابري، وشيخ الاسلام ابن تيميّة، والعلاّمة ابن القيّم، والشوكاني وغيرهم)(3).

وقد ورد في معجم أحاديث الامام المهدي ما يقرب من (2000 رواية) عن رسول الله وأهل بيته تعرّضت لمختلف شؤون المهدي، كالابحاث المتعلّقة بمرحلة ما قبل ظهور المهدي (عج)، ثمّ ما يتعلّق بشخصيّته، وحركة ظهوره، وأحداثها، ثمّ ما يكون بعده(4).

إذن، فمسألة ظهور المهدي في آخر الزمان، وأنّه من أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته، وأنّه

____________

(1) التاج الجامع للاُصول: ج 5، ص 341.

(2) كلمة ابن باز في آخر محاضرة: عقيدة أهل السنّة والاثر، مجلّة الجامعة الاسلاميّة، المدينة المنوّرة1388.

(3) الاحتجاج بالاثر للتويجري: كلمة التصدير لابن باز، ص 3.

(4) معجم أحاديث الامام المهدي: ج 1، ص 11، تأليف ونشر مؤسسة المعارف الاسلاميّة.


الصفحة 51
يملا الارض قسطاً وعدلاً، ممّا لا ريب فيها، ولا مجال للتشكيك والتردّد إزائها، وبتعبير الشيخ محمود التويجري: (أنّه لا ينكر خروجه إلاّ جاهل أو مكابر)(1).

ولقد أجاد بعض الكتّاب المعاصرين حيث قال: (إنّ في عالم الدجل، الكثير من الذين يدّعون العلم ويتاجرون بالورع، يريدون أن يجعلون تراثنا خالياً من الهواء...، لقد رفض فكرة المهدي رجال هناك، أمثال (غولد سابهر) و(فلهوزن) فاتبعهم رجال هنا، من منطلق أنّهم يأكلون كلّ طعام يأتي من هناك)(2).

نعم، الذي وقع الخلاف فيه بين علماء المسلمين، إنّما هو في جهة اُخرى من البحث، هي: هل أنّ المهدي حي؟ ولكنّه غائب مستور، كما ذهب إلى ذلك أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تبعاً للروايات الصحيحة الواردة عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، أمّ أنّه سيولد بعد ذلك؟ كما هو الاتجاه العام عند مدرسة الخلفاء.

من هنا لابدّ أن ينصبّ الحديث على إثبات أنّ المهدي المنتظر حي أم لا؟ ويمكن ذكر طريقين في هذه العجالة لاثبات حياته:

الطريق الاوّل: وهو الطريق غير المباشر، إن صحّ التعبير، وذلك بأن يقال: بعد أن ثبتت ضرورة استمرار وجود معصوم، لا يفارق الكتاب ولا يفارقه الكتاب، كما هو نص حديث الثقلين، وأنّ هؤلاء المعصومين لا يتجاوز عددهم (12) كما هو مقتضى أحاديث (خلفائي من بعدي إثنا عشر)، وأنّ هؤلاء هم علي والحسن والحسين وتسعة من صلب الحسين (عليهم السلام) ينتهون بالمهدي المنتظر، كما هو نص عشرات الروايات من الفريقين، إذن يثبت بالدلالة الالتزاميّة العقليّة، أنّ الامام الثاني عشر، حيٌّ يُرزق، لكنّه غائب مستور عن الخلق لحكمة إلهيّة في ذلك.

ومن الواضح أنّ هذا الطريق يثبّت لنا وجود إمام معصوم غائب، هو المهدي

____________

(1) الاحتجاج بالاثر: ص 127.

(2) عقيدة المسيح الدجّال في الاديان، قراءة في المستقبل، تأليف سعيد أيّوب، ص 361، دار البيان للطباعة والنشر.


الصفحة 52
المنتظر ابن الامام الحسن العسكري (عليه السلام) الذي ينتهي نسبه إلى الامام الحسين بن علي (عليهما السلام).

ولكنّه لا يتعرّض لتفاصيل سنة ولادته، وكيفيّة ذلك، ومن هي اُمّه، ومتى غاب، وهل له غيبة واحدة أم أكثر. إلاّ أنّ هذا لا يؤثّر في أصل فكرة إثبات وجوده، وأنّه حيٌّ غائب، لانّ الضرورة النقليّة وما يلزمها عقلاً تثبّت هذه الحقيقة.

الطريق الثاني: وهو الطريق المباشر، ولكي يتضح ذلك جيّداً لابدّ من الاشارة إلى التسلسل الوارد في الروايات، لاثبات هذه الظاهرة الالهيّة، وهذا ما أحصاه بعض المحقّقين المعاصرين:

1 ـ الروايات التي تبشّر بظهور (عج)657 رواية
2 ـ الروايات التي تبيّن أنّه يملا الارض عدلاً وقسطاً123 رواية
3 ـ الروايات التي تثبّت أنّ المهدي المنتظر من أهل البيت389 رواية
4 ـ الروايات التي تبيّن أنّه من ولد أمير المؤمنين (عليه السلام) 214 رواية
5 ـ الروايات التي تثبّت أنّه من ولد فاطمة الزهراء (عليها السلام)192 رواية
6 ـ الروايات التي تقول أنّه من ولد الامام الحسين (عليه السلام) 185 رواية
7 ـ الروايات التي تقول أنّه التاسع من ولد الامام الحسين (عليه السلام) 148 رواية
8 ـ الروايات التي تقول أنّه من ولد علي بن الحسين (عليهما السلام)185 رواية
9 ـ الروايات التي تقول أنّه من ولد محمّد الباقر (عليه السلام) 103 رواية
10 ـ الروايات التي تقول أنّه من ولد الصادق (عليه السلام) 103 رواية
11 ـ الروايات التي تقول أنّه السادس من ولد الصادق (عليه السلام) 99 رواية
12 ـ الروايات التي تقول أنّه من ولد موسى بن جعفر (عليهما السلام)101 رواية
13 ـ الروايات التي تقول أنّه الخامس من ولد موسى بن جعفر (عليهما السلام)98 رواية
14 ـ الروايات التي تقول أنّه الرابع من ولد علي بن موسى الرضا (عليه السلام) 95 رواية
15 ـ الروايات التي تقول أنّه الثالث من ولد محمّد بن علي التقي (عليه السلام) 90 رواية
16 ـ الروايات التي تقول أنّه من ولد علي الهادي (عليه السلام) 90 رواية

الصفحة 53
17 ـ الروايات التي تقول أنّه ابن أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) 146 رواية
18 ـ الروايات التي تقول أنّه الثاني عشر من الائمّة وخاتمهم136 رواية
19 ـ في ولادته (عليه السلام) وتأريخها وبعض حالات اُمّه214 رواية
20 ـ في أنّه له غيبتين10 رواية
21 ـ في أنّه له غيبة طويلة91 رواية
22 ـ في أنّه طويل العمر جدّاً318 رواية(1)
ولا شكّ أنّ روايات بعض هذه العناوين، قد تتداخل مع بعضها الاخر، كما هو واضح.

لا يقال: بأنّ الاستدلال بروايات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لاثبات إمامة أنفسهم وبيان خصائصها، وعدد الائمّة، وأنّ الثاني عشر حيّ، ونحو ذلك، إنّما يلزم منه الدور، لانّ حجيّة أقوالهم موقوفة على إمامتهم وعصمتهم، والمفروض أنّ إمامتهم متوقّفة على حجيّة أقوالهم.

لانّه يقال: إنّ هذا الاشكال مدفوع ببيانين:

الاوّل: إننا بعد أن أثبتنا عصمتهم بإحدى الطرق المتقدّمة في المحور الثالث، يمكن الاحتجاج والاستناد إلى أقوالهم لاثبات خصائص إمامة المهدي المنتظر (عج)، ولا يلزم محذور في المقام، لاختلاف الموقوف عن الموقوف عليه، فيرتفع الدور.

الثاني: إنّه حتّى لو لم تثبت عصمة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في الرتبة السابقة، إلاّ أنّه يمكن الاعتماد على رواياتهم، وذلك من خلال أنّهم رواة ثقاة عن الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتكون حجيّة قولهم على حدّ حجيّة قول أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين قبل المسلمون عامّة، الاعتماد على ما ينقلونه عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا أظن أنّ أحد من المسلمين يتوقّف في قبول مثل هذا الامر بشأن أهل البيت (عليهم السلام) سواء فيما صرّحوا فيه من الروايات، بأنّهم ينقلونه عن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو التي لم يصرّحوا فيها بذلك، بل اكتفوا بالقاعدة الكليّة التي بيّنوا فيها، أنّ حديثهم هو

____________

(1) منتخب الاثر، للصافي الگلپايگاني.


الصفحة 54
حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يقول الامام الصادق (عليه السلام): "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "(1).

وعلى هذا، لم نجد أحداً من المسلمين، شكك فيما نقل الامام الباقر أو الامام الصادق (عليهما السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع علمنا أنّ كثيراً من هؤلاء الذين سمعوا هذه الاحاديث من الائمّة (عليهم السلام) وقبلوها، ورووها، لم يكونوا يعتقدون بعصمة الائمّة (عليهم السلام)كاعتقاد الشيعة بهم، غير أنّهم، كانوا يعتقدون، بأنّ هؤلاء في أعلى درجات التقى والعلم والوثاقة والصدق.

ولا يخفى أنّ هناك طرق اُخرى لاثبات حياته (عج) كشهادة من رآه، وهم جمٌّ غفير، وفيهم الثقاة والعلماء، فقد أحصى البعض (عدد مَنْ شاهد الامام المهدي، فبلغوا زهاء 304 شخص)(2). ولعلّ ما فاته أكثر ممّا ذكره.

من هنا جاءت اعترافات عدد كبير من علماء السنّة، تبيّن ولادة المهدي (عج)، وقد صرّح بعضهم، أنّه هو الامام الموعود بظهوره في آخر الزمان. وقد أحصت بعض المؤلّفات المعاصرة وهو (المهدي في نهج البلاغة) للشيخ مهدي فقيه إيماني ما يزيد عن (100) شخصيّة، صرّحت بولادته (عج).

وكنموذج على ذلك، ما ذكره العلاّمة الشعراني الحنفي في كتابه القيّم (اليواقيت والجواهر) حيث قال: (فهناك يترقّب خروج المهدي (عليه السلام) وهو من أولاد الامام الحسن العسكري، ومولده (عليه السلام) ليلة النصف من شعبان سنة خمسة وخمسين ومائتين، وهو باق إلى أن يجتمع بعيسى بن مريم (عليه السلام) ـ إلى أن يقول ـ وعبارة الشيخ محي الدين في الباب السادس والستين وثلثمائة من (الفتوحات): واعلموا أنّه لابدّ

____________

(1) وسائل الشيعة: ج 27، ص 83، باب 8; الكافي: ج 1، ص 53.

(2) من هو المهدي، أبو طالب التجليلي التبريزي، ص 460 ـ 505، نقلاً عن كتاب دفاع عن الكافي: ج 1، ص562.


الصفحة 55
من خروج المهدي (عليه السلام)، لكن لا يخرج حتّى تمتلئ الارض جوراً وظلماً، فيملاها قسطاً وعدلاً، ولو لم يكن من الدنيا إلاّ يوم واحد، طوّل الله تعالى ذلك اليوم، حتّى يلي ذلك الخليفة، وهو من عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ولد فاطمة (رضي الله عنها) جدّه الحسين بن علي بن أبي طالب، ووالده الحسن العسكري، ابن الامام علي النقي بالنون، ابن الامام محمّد التقي بالتاء، ابن الامام علي الرضا، ابن الامام موسى الكاظم، ابن الامام جعفر الصادق، ابن الامام محمّد الباقر، ابن الامام زين العابدين علي، ابن الامام الحسين، ابن الامام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، اسمه اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يبايعه المسلمون بين الركن والمقام...)(1).

كانت هذه عبارة صاحب الفتوحات المكيّة، كما ينقلها أحد أعلام القرن العاشر الهجري، ولكن ممّا يؤسف له، فإنّ الايادي غير الامينة، عبثت بهذا النص، عندما طبعت الفتوحات، فجاء النص بنحو آخر: (اعلم أيّدنا الله، إنّ لله خليفة يخرج وقد امتلات الارض ظلماً وجوراً، فيملاها قسطاً وعدلاً، لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد، طوّل الله ذلك اليوم حتّى يلي هذا الخليفة من عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، من ولد فاطمة، يواطيء اسمه اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، جدّه الحسن بن علي بن أبي طالب، يبايع بين الركن والمقام...)(2).

وبهذا تخرج مسألة الايمان بالمهدي المنتظر (عج)، وأنّه حيٌّ يُرزق، عن دائرة اتهام الشيعة، باختلاقها وإيجادها في الفكر الاسلامي.

وبإضافة هذا المحور إلى المحاور الثلاثة المتقدّمة، ونعني بها: استمرار الامامة، وعدد الائمّة، ومصاديقهم، يتم بحث الامامة بشكل منطقي، وننتهي من خلاله إلى نتائج قطعيّة لا ينكرها أي عالم باحث عن الحق والحقيقة.

____________

(1) اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الاكابر: ج 2، ص 562، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التأريخ العربي، بيروت ـ لبنان.

(2) الفتوحات المكيّة: ج 3، ص 327، دار إحياء التراث العربي.


الصفحة 56

وفي الختام:

فإنّ الكتاب الماثل بين أيدينا، وهو كتاب (دفاع عن التشيّع) فقد طالعته، وسرّني ما وجدت فيه من الجهد العلمي والتحقيقي، الذي بذله أحد أعزّة تلامذتنا المتتبع، السيّد نذير الحسني، حيث تصدّى فيه للرد على بعض الاسئلة والاستفهامات، بل جملة من الاتهامات التي جاءت في كتاب (تطوّر الفكر السياسي الشيعي) لاحمد الكاتب.

وأوّد الاشارة هنا إلى أنّ البحث في مسائل الامامة، يمكن أن يكون من خلال بعدين:

الاوّل: البعد الوجودي والتكويني.

الثاني: البعد السياسي والفقهي والتأريخي.

والمراجع لكتاب (تطوّر الفكر السياسي...) يجد أنّ المؤلّف تجاهل البعد الاوّل تماماً، وأغفل الحديث عنه بالكليّة، وإنّما حاول أن يقرأ الامامة من خلال البعد الثاني، وهذا ما أوصله إلى جملة من النتائج الخاطئة، وهذه هي النكتة التي أومأنا إليها في بداية هذا البحث، وقلنا بأنّ المدرسة السنيّة، انطلقت من نقطة مركزيّة لفهم نظريّة الامامة، تمثّلت في أنّ الامام والخليفة، يعني القائد والزعيم السياسي. لذا بيّنا أننا ما لم نحدّد محلّ النزاع في الامامة، ونقف على المسؤوليّات التي اُنيطت بها، فإنّ البحث لا يمكن أن ينتهي إلى نتائج صحيحة.

وعلى هذا الاساس جاءت محاولة هذا الكتاب لعرض الجوانب السياسيّة والتأريخيّة لبحث الامامة، واستطاع مؤلّفه أن يعطي صورة واضحة وتفصيليّة عن هذا البعد، مضافاً إلى بيان مدى الاشتباه والتحريف الذي وقع فيه الكاتب.

وما توفيقي إلاّ بالله، على توكّلت، وإليه اُنيب

كمال الحيدري   
24 صفر 1421 هـ
قم المقدّسة