المقدّمة:
بينما أنا أتجوّل في خزائن السلف الصالح، اُقلّب تلك الكنوز التي تركها مصنّفوها والتي تحكي واقعهم العلمي والعملي من خلال نقلهم الحقائق بأدلّة لا تقبل الشكّ والخلاف، وقع نظري على كتاب أسفل المكتبة بعنوان (تطوّر الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه)، وكان مؤلّفه باسم (أحمد الكاتب) ونظراً لعدم شهرة هذا الاسم لم أتعرّف عليه بدقّة، ولكنّي أخذت أتصفّح الكتاب واُقلّب فهارسه، فوجدت فيه عناوين لمواضيع مختلفة شدّتني إلى قراءته، وبدأت في القراءة وإذا بالمؤلّف يتحدّث عن شبهات كثيرة قرأتها في كتب المتقدّمين الشيعة سابقاً مع ردودها، ولكنّ الذي أثار انتباهي هنا أنّ المؤلّف ينسب في كثير من الاحيان هذه الشبهات إلى علماء الشيعة وليس إلى أصحاب المذاهب الاُخرى الذين أثاروها، فكان هناك فارق كبير بين ما أقرأه في كتب الشيعة الاوائل التي اعتمدها المؤلّف وبين ما نسبه إليهم، أضف إلى ذلك أنّه نسب إلى علي (عليه السلام) وأبنائه القول بالشورى خلافاً لما نُقِل إلينا من تراث صحيح علم به المخالف والموالف، وتحدّث أيضاً عن اُمور نعلم خلافها بالضرورة، ولعدم التسرّع في الحكم على الكتاب حتّى لا يُظلم صاحبه، عدت من جديد لقراءة الكتاب للمرّة الثانية على التوالي وبدون فاصل زمني بين القراءتين، فلم يسعفني محمل واحد من السبعين لحمل المؤلّف عليه، عندها بادرت إلى من له باع طويل في الحوزة وأبلغته بذلك،
ولكن بعد فترة ليست طويلة أخذت هذه الشبهات تطلق وتنسب إلى المؤلّف، وتناقلت بعض الصحف ذلك، وطبّل لها الكثير ليؤجّجوا نار الفتنة بعدما أخذت الحقيقة تنجلي شيئاً فشيئاً، ولكي تُنصَف الحقيقة ولا تتحقّق أهداف اُولئك، تركت ما تعوّدت عليه يوميّاً وتفرّغت لهذا الكتاب بالكامل ـ صباحاً ومساءً ـ وأخذت في أوّل عملي بتخريج جلّ الروايات والاقوال التي اعتمدها المؤلّف، معتمداً بذلك ما أشار إليه هو في هامشه، ولم يكن هذا العمل سهلاً، خصوصاً وأنّ المؤلّف لم يتبع المنهج العلمي في ذكر المصادر، ولم يذكر مشخّصات الكتاب المقتبس منه بالكامل، ومن المعلوم أنّ لاكثر الكتب طبعات مختلفة تختلف الاجزاء وأرقام الصفحات والمطالب بحسبها، هذا فضلاً عن اعتماد المؤلّف على أكثر من طبعة لمصدر واحد، فاستغرق العمل وقتاً طويلاً جدّاً، خرج بنتيجة تقول: (من يقرأ كتاب المؤلّف يقرأ تأريخاً منكوساً على رأسه، ومن يقرأ مصادره يقرأ تأريخاً قويماً ناصعاً لا شكّ فيه ولا خلاف)، أضف إلى ذلك مخالفات كثيرة وقع فيها المؤلّف عمداً تارة، وسهواً اُخرى ـ حملاً على قاعدة صحّة عمل المسلم ـ، ومن هذه المخالفات:
1 ـ مخالفات منهجيّة في أجزائه الثلاثة، ففي جزئه الاوّل يقول في (صفحة19): (وبالرغم ممّا يذكره الاماميّون من نصوص حول تعيين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للامام علي بن أبي طالب كخليفة من بعده، إلاّ أنّ تراثهم يحفل بنصوص اُخرى تؤكّد التزام الرسول الاعظم وأهل بيته بمبدأ الشورى)، بالرغم من هذا الاعتراف لم يقم المؤلّف بمقارنة نصوص التعيين ونصوص الشورى، ولم يوازن بينهما حسب المنهج العلمي المتعارف عليه، فترك نصوص التعيين وتعلّق بنصوص الشورى المزعومة.
وفي جزئه الثاني بحث عن وجود ولد للعسكري بعد أن نفى إمامته في جزئه
وفي جزئه الثالث ربط قضايا فقهيّة بمسألة الغيبة، وجعل الاختلاف فيها من الاثار السلبيّة لها، مع أنّ الاختلاف في هذه المسائل نابع من دليليّة الدليل واُمور اُخرى ذكرناها في المتن، فضلاً عن اختلاف علماء أهل السنّة في كثير منها وهم لا يؤمنون بأنّ المهدي هو ابن الحسن العسكري.
2 ـ بثلاث روايات عليلة ـ كما سنرى ـ نفى المؤلّف الامامة وأقام الشورى دستوراً للمسلمين.
3 ـ الكذب الصريح على علماء الشيعة، وبالخصوص الشيخ المفيد والنوبختي والصدوق والطوسي والنعماني والسيّد المرتضى وغيرهم.
4 ـ عدم التروّي في نسبة الكتاب إلى مؤلّفه، فنسب "فرق الشيعة" إلى النوبختي، مع أنّ هذه النسبة عليها عدّة علامات استفهام.
5 ـ الاعتماد على روايات الضعفاء وتضعيف الثقة وتوثيق الضعيف، كما فعل ذلك مع الريّان بن الصلت، وقال عنه: (ضعيف)، مع أنّ النجاشي يقول: (ثقة، صدوق).
6 ـ قراءة منكوسة لتأريخ أئمّة أهل البيت، وتأويل بعض الروايات بالرأي، وتحميلها معنىً قسرياً تأباه.
7 ـ الجهل التام بما ورد في التأريخ الاسلامي (الشيعي والسنّي) حول مسألة "الخلفاء اثنا عشر كلّهم من قريش"، فنسب عدم حصر الخلفاء باثني عشر إلى التراث السنّي، مع أنّ البخاري ومسلم وبقيّة علماء السنّة نقلوا هذا الحديث وبالحصر.
8 ـ التشبّث بروايات تعلّق المؤلّف بأعناقها لاوياً إيّاها مطيِّعاً معناها إلى مرامه.
9 ـ الخلط الواضح في كثير من المسائل، وعدم التمييز بين المصطلحات وخصوصاً في مسألة الاجتهاد.
10 ـ النتيجة التي توصّل إليها (شورى الاُمّة على نفسها) لا تستدعي نفي
وغير ذلك من المخالفات العلميّة لابسط قواعد البحث العلمي، والتي سيجدها القارئ في هذا الكتاب الذي قسّمنا فصوله إلى أحد عشر فصلاً.
تناول الفصل الاوّل المخالفات الصريحة والتحريف المتعمّد والتجاهل لكثير من الحقائق في التأريخ.
وتناول الثاني موارد الكذب المتعمّد الذي اعتمده المؤلّف على علماء الشيعة، أمثال المفيد والصدوق والمرتضى والطوسي والنوبختي والنعماني وغيرهم.
وتناول الثالث موارد الخلط التي وقع فيها المؤلّف وعدم التمييز في المواقع.
وتناول الرابع افتراءات وأكاذيب المؤلّف على مصاديق الامامة الالهيّة ابتداءً بعلي (عليه السلام) وانتهاءً بالمهدي المنتظر (عج).
وأمّا الخامس فقد كرّسناه لنظريّة الشورى والتحدّيات التي واجهتها.
وتحدّث السادس عن الافتراءات المتعمّدة التي افتراها المؤلّف على أركان نظريّة الامامة الالهيّة.
وتحدّثنا في السابع عن حديث "الخلفاء اثنا عشر" ومصاديقه، ودفعنا بعض الشبهات في ذلك.
وأمّا الثامن فتناول التسرّع الذي وقع فيه الكاتب في إصدار الاحكام من دون بحث ودراسة للظروف الموضوعيّة لكثير من المسائل التأريخيّة.
وتحدّث التاسع عن التقيّة في الفكر الاسلامي، وقسم من أقسام العلم بالغيب الذي أطلع الله رسوله وأولياءه عليه.
وذكرنا في العاشر الحركات والفرق التي حاول الكاتب التعلّق بأهدافها لخدمة نتائجه.
وفي الحادي عشر تحدّثنا عن التشيّع وعلمائه والظروف التي واجهوها.
وأخيراً، دراسة النتيجة النهائيّة التي توصل إليها المؤلّف والتي كانت غريبة
وبهذه الجولة المضنية والطويلة نقدّم للقارئ دفاعاً عن التشيّع الذي حاول المؤلّف إثارة الغبار على كثير من مسائله العقائديّة.
وأخيراً لا أنسى شكري العام إلى الاُخوة العاملين في المكتبات المختصّة في فروع الحديث والرجال والتأريخ والتفسير والفقه والاُصول، المنتشرة في مدينة قم المقدّسة، وشكري الخاص إلى الاخ الشيخ كمالي، الذي لم يدّخر جهداً في المساعدة.
ونسأل الله أن يهدي اُولئك الذين لم ينشدوا الحقيقة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
نذير الحسني
محرّم الحرام 1421 هـ
قــم المقدّسة
الفصل الاوّل
مخالفات صريحة
ادعاء خال من التوثيق
ادّعى أحمد الكاتب في مطلع بحثه، أنّ الامّة الاسلاميّة كانت خلال العقود الاُولى من تاريخها تؤمن بنظام الشورى(1)، وأطلق هذا الشعار من دون الاستناد إلى أي وثيقة، وأين يجد الوثيقة وصانع الشورى عمر بن الخطاب ـ كما يتضح فيما بعد ـ يحكي لنا بيعة أبي بكر بقوله: (كانت فلتة وقى الله شرّها)(2)، ثمّ لمّا أَفلت الخلافة عنه قال: (لو كان أبو عبيدة حيّاً لولّيته)(3)، وقال أيضاً: (لو كان معاذ بن جبل حيّاً لوليته)(4)؟!
وبالاضافة إلى أقوال الخليفة الثاني عمر التي تعبّر عن شعور راسخ بمسألة النص، وعدم إيمان بمسألة الشورى، نجد أنّ الخليفة الثالث عثمان بن عفّان صرّح بذلك أيضاً عندما خاطب ابن عبّاس قائلاً: (ولقد علمت أنّ الامر لكم، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم)(5).
وأمّا عبدالله بن عبّاس فكان لا يروق له أي صفة يصف بها علي (عليه السلام) إلاّ أنّه
____________
(1) أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي: ص 19.
(2) صحيح البخاري: كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة، باب رجم الحبلى، ح 6442; تاريخ الطبري: ج 3، ص 446; سيرة ابن هشام: ج 4، ص 308 ـ 309.
(3) الكامل في التاريخ: ج 3، ص 65; صفة الصفوة: ج 1، ص 367; سير أعلام النبلاء: ج 1، ص 10.
(4) صفوة الصفوة: ج 1، ص 367.
(5) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج 9، ص 9.
وكذلك محمّد ابن الخليفة الاوّل أبي بكر، يصف عليّاً أنّه وارث رسول الله ووصيّه(2).
هذا فضلاً عن موقع أمير المؤمنين عند الزبير وعمّار بن ياسر وأبي ذر والمقداد وسلمان، وعشرات الصحابة الذين آمنوا بمسألة النص والوصيّة.
إذن مسألة النص كانت من مرتكزات الفكر السياسي الاسلامي في الصدر الاوّل من تاريخه، ومجرّد دعوى من قبل الكاتب ـ وإن كان تشوّش الاذهان ـ لا تمحو الواقع الاسلامي والتاريخ المكتوب، وسيتضح ذلك ـ فيما بعد ـ بشكل جلّي.
أخطاء منهجيّة
الخطأ الاوّل: يقول الكاتب: (بالرغم ممّا يذكره الاماميّون من نصوص حول تعيين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كخليفة من بعده إلاّ أنّ تراثهم يحفل بنصوص اُخرى تؤكد التزام الرسول الاعظم وأهل البيت بمبدأ الشورى وحقّ الامّة في انتخاب أئمتها)(3).
يلاحظ على هذا النص:
1 ـ تجاوز الكاتب الاعتبارات العلميّة للبحوث، فعلى الرغم من اعترافه بنصوص الامامة التي ملات كتب الشيعة، إلاّ أنّه لم يذكر نصّاً واحداً في كتابه، والمنصف في هذا المجال عليه أن يذكر أدلّة الطرفين ويناقشها، ويثبت صحّة ما يعتقد به، فهذا لم نجده عند الكاتب مطلقاً.
2 ـ حاول استغفال القارئ وإيهامه بأنّ نصوص تعيين الامام واردة من طرق الشيعة فقط، والمطالع للرواية السنيّة يجد مسألة تعيين الامام كخليفة من قبل رسول
____________
(1) مروج الذهب: ج 3، ص 8.
(2) مروج الذهب: ج 3، ص 21; وقعة صفين: ص 118 ـ 119.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 19.
أوّلاً: حديث الغدير:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه"(1).
وتعرّض هذا الحديث إلى محاولتين:
الاُولى: فسّرته بالنصرة والمحبّة، وأصبح معنى الحديث: إنّكم تحبوني أكثر من أنفسكم، فمن يحبّني يحبّ عليّاً، اللهمّ أحبّ من أحبّه، وعادِ من عاداه(2).
الثانية: رأت الاُولى غير كافية لتصحيح مواقف الصحابة الذين خرجوا على علي (عليه السلام)، فأصدرت بنداً جديداً يقول: إنّ بعض الصحابة لهم حقّ على غرار ما يسمّى بحقّ النقض، بأن يجتهدوا أمام النصوص، فقالت هذه المحاولة بأنّ من حقّ هؤلاء الذين نصبوا العداء لعلي الاجتهاد في مقابل النص، وهم معذورون وإن أخطأوا(3).
ولم يبقَ لهذا الحديث بعد ذلك أي معنى، لانّ من أحبّ عليّاً ومن أبغضه واحد من حيث التكليف، مادام باب الاجتهاد مقابل النص مفتوحاً.
ثانياً: حديث الدار:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا"(4).
وحاولت كثير من الكتب الحديثيّة مصادرة هذا المعنى بعدم نقله، ولكن رفضت كتب التاريخ ذلك وأبرزته بأجلى صوره، ولما كان لسان الحديث آبياً عن التأويل القسري وجهت أصابع الاتّهام إلى عبدالغفّار بن القاسم الواقع في سنده، حيث اتهمه
____________
(1) مسند أحمد: ج 1، ح 642 و672 و953 و964; سنن النسائي: كتاب الخصائص، ح 8542; البداية والنهاية: ج 5، ص 229 ـ 232 وج 7، ص 383 ـ 385 في عشرين طريقاً.
(2) روح المعاني: ج 6، ص 195 ـ 196.
(3) الفصل في الملل والاهواء والنحل: ج 3، ص 291 ـ 292; الباعث الحثيث: ص 135.
(4) تاريخ الطبري: ج 2، ص 63; الكامل في التاريخ: ج 2 ص 62 ـ 64; السيرة الحلبيّة: ج1، ص 461; تفسير الخازن: ج 3، ص 333.
والذي يهوّن الخطب أنّ ابن حجر قال بحقّه: (ذا اعتناء بالعلم وبالرجال، وقال شعبة: لم أرَ أحفظ منه)(2).
ثالثاً: حديث المنزلة:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ إنّه لا نبي بعدي"(3).
فقالوا: هذا الحديث ورد تطييباً لخاطر الامام (عليه السلام)، وترغيباً له في البقاء بالمدينة، ولئلاّ يلتفت إلى مقالة المنافقين، وقد تناسوا تلك الاية التي نسبت كلّ أقوال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الوحي، حيث قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى)(4).
هذا بعض ما ورد في كتب العامّة الحديثيّة والتاريخيّة والتفسيريّة بشأن تعيين الامام خليفةً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحتّى هذا الواضح الذي لا يختلف فيه اثنان، ولا يتناطح عليه عنزان، لم يذكره الكاتب، ولم يناقشه، والسرّ الذي يكمن وراء عدم ذكره لهذه النصوص أنّه لا يستطيع أن يستغفل القارئ بتلك التأويلات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فاكتفى بالعبارة المتقدمة: (بالرغم ممّا يذكره الاماميّون من نصوص حول تعيين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كخليفة من بعده)، متناسياً ما ورد من نصوص في كتب العامّة الحديثيّة والتأريخيّة والتفسيريّة، التي هي كالشمس الطالعة في وضح النهار على إمامة علي (عليه السلام).
الخطأ الثاني: ربط في جزئه الثالث القضايا الفقهيّة مثل ولاية الفقيه والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد، والخمس، وصلاة الجمعة ـ ربطها ـ بالغيبة، وجعل اختلاف العلماء في ذلك من الاثار السلبيّة لنظريّة الغيبة، كما
____________
(1) ابن كثير، البداية والنهاية: ج 3، ص 53.
(2) ابن حجر، لسان الميزان: ج 4، ص 42 ـ 43.
(3) مسند أحمد: ج 1، ح 1550; صحيح البخاري: باب مناقب علي، ح3503; صحيح مسلم: فضائل علي، ح 2404; مصنف ابن أبي شيبة: ج 7، ص 496/ 11 ـ 15.
(4) النجم: آية 4.
يقول القاضي أبو يعلى محمّد بن الحسين الفرّاء:
وأمّا الامامة في صلاة الجمعة، فقد اختلف الفقهاء في وجوب تقليدها، فذهب أبو حنيفة وأهل العراق إلى أنّها من الولايات الواجبة، وأنّ صلاة الجمعة لا تصحّ إلاّ بحضور السلطان أو من يستنيبه فيها، وذهب الشافعي (رضي الله عنه) وفقهاء الحجاز إلى أنّ التقليد فيها ندب، وأنّ حضور السلطان ليس شرطاً فيها... ويجوز أن يكون الامام فيها عبداً وإن لم تنعقد ولايته(2).
ويقول مغنية متحدّثاً عن صلاة الجمعة: (واختلفوا هل يشترط في وجوبها وجود السلطان أو من يستنيبه لها أو أنّها واجبة على كلّ حال).
وقال الحنفيّة والاماميّة: (يشترط وجود السلطان أو نائبه، ويسقط الوجوب مع عدم وجود أحدهما، واشترط الاماميّة عدالة السلطان، وإلاّ كان وجوده كعدمه، واكتفى الحنفيّة بوجود السلطان ولو غير العادل).
ولم يعتبر الشافعيّة والمالكيّة والحنابلة وجود السلطان، وقال كثير من الاماميّة: (إذا لم يوجد السلطان أو نائبه، ووجد فقيه عادل يخيّر بينها وبين الظهر مع ترجيح الجمعة)(3).
وقد اختلفوا في مسألة الخمس، فمنهم من أسقط سهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بموته، وهم الحنفيّة، وأمّا المالكيّة فقالوا يرجع أمر الخمس إلى الامام يصرفه حسبما يراه من المصلحة.
وقالت الشافعيّة والحنبليّة: (تقسم غنيمة الخمس إلى خمسة أسهم، واحد منها سهم الرسول، ويصرف على مصالح المسلمين، وواحد يعطى لذوي القربى، وهم من
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 271.
(2) الاحكام السلطانيّة: ص 134.
(3) الفقه على المذاهب الخمسة: ص 120.
وقالت الاماميّة: (إنّ سهم الله وسهم الرسول وسهم ذوي القربى يفوّض أمرها إلى الامام أو نائبه يضعها في مصالح المسلمين، والاسهم الثلاثة الباقية تعطى لايتام بني هاشم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ولا يشاركهم فيها غيرهم)(1).
وأمّا مسألة الامامة والولاية فقد اختلف فيها السنّة وفي كيفيّة انعقادها، وفي شروطها، وشروط الامام، وكيفيّة الاختيار(2).
فكلّ هذه المسائل اختلف فيها أهل السنّة مع عدم إيمانهم بغيبة الامام الثاني عشر، لانّها من المسائل الفقهيّة التي لا علاقة لها بوجود غائب أم لا، ومرد الاختلاف فيها إلى دليليّة الدليل شرعاً عند واحد دون غيره، أو الاختلاف في حصول الجزم والتصديق لبعض دون آخر، أو الاختلاف في الاذهان في الحدّة والذكاء، وسرعة الانتقال إلى المطالب وبطؤه من الادلّة الثابتة كالحجيّة المقرّرة(3).
وراح الكاتب في هذه البحوث الفقهيّة التي لا يحقّ لاحد الخوض فيها ماعدا الفقهاء والعلماء، راح يخلط بين الجهاد الابتدائي والجهاد للدفاع عن بيضة الاسلام الذي قال عنه الشهيد الثاني: (أمّا الجهاد الذي يخشى فيه على بيضة الاسلام يجب بغير إذن الامام أو نائبه)(4).
ولم ينقل الكاتب الصورة بأمانة للقارئ حول موقف الشيعة من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يقول الشهيد الاوّل فيهما:
(وهما واجبان عقلاً ونقلاً على الكفاية... ويجوز للفقهاء حال الغيبة إقامة الحدود
____________
(1) الفقه على المذاهب الخمسة: مج 1 ـ 2، ص 188.
(2) الاحكام السلطانيّة: ص 6 ـ 21.
(3) تاريخ حصر الاجتهاد: ص 80.
(4) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة: ج 2، ص 379 ـ 381.
وهذه البحوث لا يحق لاي أحد أن يدلي بها دلوه إلاّ إذا كان فقيهاً مجتهداً معلوماً طريقه إلى الفقاهة.
الخطأ الثالث: وبعد أن عجز الكاتب من إيجاد أي ثغرة عند الاماميّة، راح يبحث عن سبب للغيبة بعد أن نفى إمامة المهدي (عج)(2).
وهذا المنهج عليل، لانّ البحث عن سبب غيبة الامام بعد نفي إمامته لا معنى له.
يقول الشيخ الطوسي: (ذلك لانّ الكلام في سبب غيبة الامام فرع على ثبوت إمامته، فأمّا قبل ثبوتها فلا وجه للكلام في سبب الغيبة)(3).
فلابدّ أن نبحث أوّلاً إمامة المهدي (عج) ثمّ نبحث عن سبب الغيبة، فإذا لم يكن إمام فسواء غاب أم لم يغيب لا ربط له بالمسألة المبحوث عنها.
وأثبت الشيعة بالادلّة العقليّة والنقليّة إمامة الامام الثاني عشر، وتجاهل الكاتب ولم يذكر تلك الادلّة والروايات الصحيحة ـ التي سنذكرها فيما بعد ـ، بل اكتفى بالعبارات الاعلاميّة والشعارات الخالية من التوثيق، والشيعة أثبتوا ذلك قبل أن يلجأوا إلى إثبات سبب غيبته، لانّ في الاثبات الاوّل استدلالاً لا يحتمل الاشتباه والغموض، وإمكان التأويل. أمّا سبب الغيبة والعلّة النهائيّة فيها فقد يخالطها الشكّ والغموض والتأويل من قِبَل مَنْ لا دين له، وممّن يعتمد على المنهج الحسّي في إثبات الحقائق ويهمل المنهج الغيبي الذي صرّح به القرآن مراراً وتكراراً.
يقول الشيخ الطوسي: (وإنّما رجّحنا الكلام في إمامته (عليه السلام) على الكلام في غيبته، لانّ الكلام في إمامته مبني على اُمور عقليّة لا يدخلها الاحتمال، وسبب الغيبة ربما غمض واشتبه، فصار الكلام في الواضح الجلي أولى من الكلام في المشتبه الغامض، كما فعلنا مع المخالفين للملّة، فرجّحنا الكلام في نبوّة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) على الكلام على ادعائهم
____________
(1) اللمعة الدمشقيّة في فقه الاماميّة: ص 84.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 241 ـ 246.
(3) الغيبة للطوسي: ص 59.
فبينما تتابع الشيعة وفقهاؤها البحوث الدقيقة التي لا تحتمل التأويل، غير خائفين من نتائجها للقطع بعقيدتهم، يتابع الكاتب وغيره منهجاً ملتوياً غامضاً، يعوّمون المسائل خلاله، ويشوّشون أذهان القرّاء التي لم تسمح لهم الفرصة للاطلاع على التراث الشيعي.
وعندما نفى الكاتب إمامة الامام المهدي بالتزوير والتحريف للحقائق، ونفى أي سبب للغيبة بنفس الاسلوب، راح يبحث عن نظريّة الخوف، والتي نفى سببها من خلال إيجاد الموادعة بين البيتين العبّاسي والعلوي.
وهنا تخبّط الكاتب تخبّطاً عجيباً، وضاق خناقه، وأطلق شعاراً يقول: (لقد زال الخوف اليوم)(2).
فلماذا لا يظهر المهدي، وكأنّه سلم بالخوف في تلك الحقبة الزمنيّة، وتراجع عن الوداعة والسلام بين العبّاسيين. وهذا هو منهج الغريق، وسنبيّن للكاتب بالادلّة القاطعة وضع العلاقة بين العبّاسيين والعلويين، أضف إلى ذلك أنّ الخوف هو أحد الحِكَم التي غاب الامام لاجلها.
استغفال القارئ
حاول أحمد الكاتب أن يستغفل ذهن القارئ، حيث ذكر رواية نقلها من كتاب الشافي للسيّد المرتضى، تقول تلك الرواية: إنّ علي بن أبي طالب خاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حول الخلافة هو والعبّاس بن عبدالمطلب، فقالوا له: يا رسول الله استخلف علينا، فقال: "لا، إنّي أخاف أن تتفرّقوا عنه كما تفرّقت بنو اسرائيل عن هارون، ولكن إن يعلم الله في قلوبكم خيراً اختار لكم"(3).
____________
(1) الغيبة للطوسي: ص 59 ـ 60.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 246.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 19.
قال السيّد المرتضى: يقال له ـ أي للقاضي عبدالجبّار المعتزلي ـ: أمّا سؤال العبّاس (رض) عن بيان الامر من بعده فهو خبر واحد غير مقطوع عليه، ومذهبنا في أخبار الاحاد، التي لا تكون متضمنة لما يعترض على الادلّة والاخبار المتواترة المقطوع عليها، معروف، فكيف بما يعترض بما ذكرناه من أخبار الاحاد؟ فمن جعل هذا الخبر المروي عن العبّاس دافعاً لما تذهب إليه الشيعة من النص الذي قد دللنا على صحّته، وبيّنا استفاضة الرواية به، فقد أبعد، على أنّ الخبر إذا سلّمناه وصحّت الرواية به غير دافع للنص، ولا مناف له، لانّ سؤاله (رحمه الله) يحتمل أن يكون عن حصول الامر لهم وثبوته في أيديهم، لا عن استحقاقه ووجوبه، يجري ذلك مجرى رجل نحل بعض أقاربه نحلاً وأفرده بعطيّة بعد وفاته، ثمّ حضرته الوفاة، فقد يجوز لصاحب النحلة أن يقول له: أترى ما نحلتنيه وأفردتني به يحصل لي من بعدك، ويصير إلى يدي، أم يُحال بيني وبينه ويمنع من وصوله إليَّ ورثتك؟ ولا يكون هذا السؤال دليلاً على شكّه في الاستحقاق، بل يكون دالاًّ على شكّه في حصول الشيء الموهوب له إلى قبضته. والذي يبيّن صحّة تأويلنا وبطلان ما توّهموه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جواب العبّاس على ما وردت به الرواية: "إنّكم المقهورون"، وفي رواية اُخرى: "إنّكم المظلومون"(1).
____________
(1) الشافي في الامامة: ج 2، ص 152 ـ 153.
الاعتماد على على رواية الضعفاء
خالف الكاتب المنهج العلمي في قبول الرواية وردّها، وراح ـ كالقصّاصين ـ يسرد الروايات، من دون بحث وتحقيق، فنقل رواية تقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عرض على العبّاس بن عبدالمطلّب بقوله: "يا عم النبي محمّد، تأخذ تراث محمّد وتقضي دينه وتنجز عداته"، فرفض العبّاس وقال: يا رسول الله، بأبي أنت واُمّي، إنّي شيخ كبير، كثير العيال، قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح، فعرضها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على العبّاس مرّة اُخرى، وعاد العبّاس مقالته، ثمّ عرضها على علي (عليه السلام) فقبلها.
وقال بعدها: (إنّها وصيّة عاديّة شخصيّة آنيّة، لا علاقة لها بالسياسة والامامة والخلافة الدينيّة)(1).
وجعل الكاتب هذه الرواية ركناً لنفي الامامة الالهيّة، ولكنّه تناسى أنّ الشيعة لا تعتمد على هذه الرواية لاثبات الخلافة السياسيّة للامام علي (عليه السلام) مطلقاً، ولم نجد في كتبهم ذلك، بل تعتمد على ما جاء بطريق لا يقبل الشكّ، أمثال حديث الدار، وحديث المنزلة، وحديث الغدير، والعشرات من هذه الاحاديث، وسرّ عدم استدلال الشيعة بهذه الرواية أنّ في سندها سهل بن زياد الذي ضعّفه النجاشي(2)، وقال عنه الطوسي: (ضعيف جدّاً عند نقّاد الاخبار)(3).
فعرض الكاتب هذه الرواية مجرّدة عن السند، خوفاً من اطلاع القرّاء عليه، والحكم عليها قبل قراءتها.
لماذا لم يذكر أحمد الكاتب الرواية؟
يقول: (هناك وصيّة اُخرى، ينقلها الشيخ المفيد في بعض كتبه عن الامام أمير
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 19 ـ 20.
(2) خلاصة الاقوال: ص 356 ـ 357، ر 1411.
(3) الاستبصار: ج 3، ص 267، ح 935.
يلاحظ على ذلك:
1 ـ لم يرو الشيخ المفيد في (المجلس رقم 21) من كتاب الامالي ـ الذي اقتبس الكاتب الكلام منه ـ أي رواية عن الامام علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يوجد أي ذكر لاي وصيّة جاء في طريقها علي (عليه السلام) من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في المجلس (21)، نعم هذا المعنى جاء عن جابر، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما سنوضّحه، فلقد وردت في المجلس (21) سبع روايات:
الاولى: عن أبي حمزة الثمالي (رحمه الله)، عن أبي جعفر الباقر محمّد بن علي (عليهما السلام) قال: سمعته....
الثانية: عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):....
الثالثة: عن جابر بن عبدالله الانصاري، قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت: يا رسول الله....
الرابعة: عن أبي ذر الغفاري (رحمه الله) قال: رأيت رسول الله....
الخامسة: عن عبدالرحمن بن جندب، عن أبيه قال... سمعت المقداد بن الاسود يقول لعبدالرحمن بن عوف....
السادسة: عبدالملك بن عمير اللخمي، قال: قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية...
السابعة: عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)...
فهذه سبع روايات لم نجد فيها ما يقوله الكاتب بأنّ هناك وصيّة عن أمير المؤمنين، ويقول ـ أي أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أوصى بها إليه قبل وفاته.
2 ـ إنّ في المجلس (21) في الرواية الثالثة، أنّ جابر بن عبدالله الانصاري سأل رسول الله: يا رسول الله، من وصيّك؟ فأجابه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما أمسك عنه، قال
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 20.