ويسأل جابر عن نتيجة مَن لم يؤمن بهذا؟ فأجابه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: "نعم، يا جابر، ما وضع هذا الموضع ليتابع عليه، فمن تابعه كان معي غداً، ومن خالفه لم يرد عليَّ الحوض أبداً"(2).
3 ـ إنّ الوصية التي تحدّث عنها الكاتب وجدناها في المجلس (22)، ولكنّه حذف منها قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: "وأنت الامام لامّتي، والقائم بالقسط في رعيّتي، وأنت وليي، ووليي ولي الله، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ الله"(3).
فهذه الفقرة لم يذكرها الكاتب بل اكتفى بالقول: (هناك وصيّة ينقلها الشيخ المفيد... وهي أيضاً وصيّة أخلاقيّة روحيّة عامّة)(4)، فأين النزاهة العلميّة باقتباس الروايات؟! وأين الاحترام الذي يكنّه الكاتب لذهن القارئ؟!
بثلاث روايات عليلة نفى الامامة وأقام الشورى
اكتفى الكاتب بثلاث روايات فقط ليقول بعدم وصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للامام علي (عليه السلام) بالخلافة والامامة، وترك الامر شورى(5). فكان عمدة استدلاله في الاُولى أنّها ذكرت في كتب الشيعة، والمقصود من كتب الشيعة كتاب الشافي للسيّد المرتضى، ولم يذكر أنّ السيّد المرتضى ذكرها ليردّ على القاضي عبدالجبّار المعتزلي الذي استدلّ بها.
وأمّا الرواية الثانية التي اعتمد عليها الكاتب، فقد حذف الكاتب سندها ولم
____________
(1) الامالي: ص 167 ـ 168، باب 7، المجلس 21.
(2) الامالي: ص 167 ـ 168، باب 7، المجلس 21.
(3) الامالي: ص 174، المجلس 22، ح 4.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 20.
(5) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 20.
وأمّا الثالثة، فقد حذف منها قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): "وأنت الامام لامّتي، والقائم بالقسط في رعيّتي"(2).
وبهذه الروايات العليلة خرج الكاتب بنتيجة تقول: إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ترك الامر شورى(3).
وبالرغم من ذلك كلّه نتنازل للكاتب جدلاً، ونسلّم معه بما ذكر، ولكن هل من المعقول أن يُترك تراث ضخم قائم على النص والوصيّة لاجل ثلاث روايات فقط، فلم يقنع الكاتب حتّى نفسه بذلك فراح يجنّد الشواهد التي كان يعتقد أنّها تؤيّد رواياته الثلاث، فلوى أعناقها ليؤكّد ذلك التأييد، فأوّل تلك الشواهد التي ذكرها هو إحجام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن العرض الذي قدّمه العبّاس إليه عندما قال له: (اُمدد يدك اُبايعك).
يقول الكاتب: (بالرغم من إلحاح العبّاس بن عبدالمطلب عليه بذلك، حيث قال له: امدد يدك اُبايعك وآتيك بهذا الشيخ من قريش (يعني أبا سفيان)، فيقال: إنّ عمّ رسول الله بايع ابن عمّه، فلا يختلف عليك من قريش أحد، والناس تبع قريش، فرفض الامام علي (عليه السلام) ذلك)(4).
ففسر امتناع الامام عن قبول البيعة إيماناً منه بالشورى، ليؤكّد نظريّته التي استخرجها من ثلاث روايات فقط.
ونحن نشاطر الكاتب هذا الفهم لولا جواب الامام للعبّاس الذي حذفه الكاتب ولم يُشر إليه، يقول الراوي: بعدما عرض العبّاس على الامام ذلك أجابه الامام بقوله:
____________
(1) الاستبصار: ج 3، ص 267، ح 935.
(2) الامالي: ص 74، المجلس 22، ح 4.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 20.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 20.
فهذا الجواب يوضّح لنا أنّ الخلافة ليست بيعة، حتّى يوافق الامام على ذلك العرض، وإنّما هي حقّ من الحقوق يؤخذ ولا يعطى، فحذف الكاتب هذه العبارة التي تفسّر لنا عقليّة الصحابة الذين لا يستطعيون أن ينكروا حقّه في الامامة والخلافة، إلاّ أن يقوموا بانقلاب ـ كما نسمّيه اليوم ـ على كلّ ما هو سائد لدى القوم. فحذف الكاتب تلك العبارة ليزوّر الحقائق ويشوّش ذهن القارئ.
ولم يقف عند هذا الحد، بل جاء بما هو أسوأ من ذلك، جاء بالمعونة التي قدمها أبو سفيان للامام علي (عليه السلام) عندما قال له: (ابسط يدك اُبايعك فوالله لاملاها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً)، وجعل من رفض الامام علي (عليه السلام) دليلاً على إيمانه بالشورى(2)، ولكنّه عاد من جديد وحذف جواب الامام "ويحك يا أبا سفيان، هذه من دواهيك".
وعجباً لرجل يأتي في القرن العشرين، ويستدل بعروض أبي سفيان بعدما عرف المؤالف والمخالف مَنْ هو أبو سفيان، ولماذا عرض ذلك على الامام؟ وما هو قصده؟ وهل آل الامر بعلي بن أبي طالب أن ينتصر لدين الله بعدوّ الله أبي سفيان!
ولعلّ الكاتب استدلّ على إيمان الامام علي (عليه السلام) بالشورى من عبارة اُخرى موضوعة ذُكرت في الرواية، وهي: "ويحك يا أبا سفيان، هذه من دواهيك، وقد اجتمع الناس على أبي بكر"(3).
فهذا الاجتماع المزعوم لم يؤيّده عمر بن الخطّاب الذي وصف لنا أجواء السقيفة بقوله: (كثر اللغط وارتفعت الاصوات)(4)، فضلاً عن أمير المؤمنين الذي لا يملك اجتماع الناس على الخلافة أي مساحة في حساباته، فهو يقول في هذا المجال: "لا يقاس بآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الامّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم
____________
(1) نهج البلاغة: ج 1، ص 160.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 20 ـ 21.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 21.
(4) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج 14، ص 111، طبعة دار الفكر.
ولذا ناشد أمير المؤمنين (عليه السلام) كلّ المسلمين عندما قال: "اُنشد الله من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، لما قام وشهد"، فقام اثنا عشر بدريّاً فقالوا: (نشهد إنّا سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم.... إلخ)(2).
إذن، الامامة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) منصب إلهي، مجعول من قبله تعالى، كما ورد في الذكر الحكيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)، وهذا ما أثبته ابن عبّاس لعمر عندما قال له عمر: (إنّ القوم كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة).
فأجابه ابن عبّاس: (وأمّا قولك: إنّهم أبَوْا أن تكون لنا النبوّة والخلافة، فإنّ الله عزّ وجلّ وصف قوماً بالكراهيّة فقال: (ذَ لِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)(3))، فقد جعل ابن عبّاس مسألة الامامة من المسائل المنزلة من الله تعالى، لا من عطايا البشر حتّى يجتمعوا عليها على فرض تحقّق ذلك الاجتماع.
وتحدّث الداوودي عن بيعة أبي بكر ـ شارحاً قول عمر ـ: (كانت فلتة): (يعني وقعت من غير مشورة)(4).
بهذه الشواهد وأمثالها استدلّ الكاتب على الشورى متناسياً أنّ الاجتماع الذي يتحدّث عنه قتل سعد بن عبادة لانّه لم يبايع، ونسب قتله إلى الجن، ولكن هذه الكذبة إذا انطلت على بعض، لم تنطلِ على المفكرين، أمثال طه حسين الذي عزا مقتل سعد بن عبادة إلى السياسة(5).
____________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 2، ص 25.
(2) مسند أحمد: ج 1، ح 642 و672; البداية والنهاية: ج 5، ص 229 ـ 232; سنن الترمذي: ج 5، ح 3713; سنن ابن ماجة: ج 1، ح 116 و121.
(3) تاريخ الطبري: ج 3، ص 289.
(4) فتح الباري: ج 14، ص 117، دار الفكر.
(5) طه حسين، تاريخ الادب العربي: ج 1، ص 146.
إذن، ما اعتمد عليه الكاتب من الروايات الثلاث العليلة، ومن الشواهد المريضة، لا ينطلي على القارئ، فضلاً عن الباحث والمحقّق.
الكذب على الصحابة
يقول الكاتب: (إنّ الصحابة لم يفهموا من حديث الغدير أو غيره من الاحاديث معنى النص والتعيين بالخلافة، ولذلك اختاروا طريق الشورى وبايعوا أبا بكر)(4).
ولنسأل الكاتب: أي قسم من أقسام الصحابة تقصد هنا; لانّ الصحابة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انقسموا إلى قسمين: الاوّل ذهب إلى السقيفة، والقسم الثاني امتنع عن السقيفة.
وبلا إشكال لا يستطيع الكاتب أن يقول: كلاهما المقصود، لانّ الممتنعين لم نطّلع على نواياهم لنعرف سبب امتناعهم، هل لانّهم لم يفهموا من كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تعيين علي وتنصيبه، ولم يرغبوا في الدخول في هذه المعمعة السياسيّة، أم لا، امتنعوا لانّهم يقرّون ويعترفون بأنّ الرسول نصّب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا الذي يحدث انقلاب
____________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 3، ص 28.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 144، ص 263.
(3) نهج البلاغة: الخطبة 67، ص 102 ـ 103.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 22.
وتحديد أي الطرفين متروك لهم في أقوالهم، وسنبيّن تحت عنوان (النص أم الشورى في فكر الصحابة) آراء هذا القسم وأفكارهم، وسيتضّح أنّها قائمة على أساس النص والوصيّة السياسيّة لعلي (عليه السلام).
إذن، الكاتب يقصد القسم الاوّل، اُولئك الذين ذهبوا إلى السقيفة، فلو أثبتنا للكاتب أنّ رأس اُولئك عمر بن الخطاب لا يعترف بمبدأ الشورى، بل يعترف بمبدأ النص، ويصرّح بذلك، فلا يبقى له كلام في هذا المجال.
أمّا متى اعترف عمر بمبدأ النص؟ ولماذا لم يعمل فيه؟ كل ذلك تطالعنا به الرواية التاريخيّة المنقولة، وهي قول عمر لابن عباس: (كيف خلَّفت ابن عمّك؟ قال ـ يعني ابن عبّاس ـ: فظننته يعني عبدالله بن جعفر، فقلت: خلّفته مع أترابه. قال: لم أعنِ ذلك، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت. قال: خلّفته يحتج بالغرب وهو يقرأ القرآن. قال:يا عبدالله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قال: قلت: نعم. قال: أيزعم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ عليه؟ قال ابن عبّاس: قلت: وأزيدك، سألت أبي عمّا يدّعي ـ من نص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه بالخلافة ـ فقال: صدق. فقال عمر: كان من رسول الله في أمره ذرو(1) من قول، لا يثبت حجّة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع(2) في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعته من ذلك)(3).
واجتهاد عمر هذا بمنع رسول الله من التصريح نابع من قاعدة استنتجها تقول تلك القاعدة على لسان عمر: (إنّ قريشاً كرهت أن تجتمع فيكم ـ بني هاشم ـ النبوّة
____________
(1) الذرو: المكان المرتفع والعلو مطلقاً، والمعنى أنّه كان من رسول الله في أمر علي علو من القول في الثناء عليه، أي مبالغة.
(2) يريد أنّ النبي كان في ثنائه على علي بتلك الكلمات البليغة يمتحن الامّة في أنّها هل تقبله خليفة أم لا؟
(3) شرح نهج البلاغة: ج 11، باب 223، ص 21.
إذن، زعيم الصحابة في السقيفة يعترف بأنّ النص هو الفكر الاسلامي الاصيل لولا رفض قريش لذلك، أضف إلى ذلك أقواله المتكرّرة أمثال: (لو كان سالم حيّاً لوليته) وكذلك (لو كان أبو عبيدة حيّاً لوليته)، كلّ ذلك يدلّنا على أنّ الشورى بدعة حدثت متأخّراً، وسنتعرّف على وقت حدوثها في البحث اللاّحق إن شاء الله تعالى.
التزوير بتقطيع الحديث
يقول: (وهناك رواية في كتاب سليم بن قيس الهلالي تكشف عن إيمان الامام علي بنظريّة الشورى، وحقّ الامّة في اختيار الامام، حيث يقول في رسالة له: الواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل... أن لا يعملوا عملاً، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لانفسهم إماماً عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة)(2).
والواجب يفرض على كلّ باحث نزيه يتعامل مع التاريخ أن يحفظ الحقيقة العلميّة، ويدافع من أجلها، ولا يحاول تشويش ذهن القارئ ظانّاً منه عدم الرجوع إلى مصادره المعتمدة، والتأكّد من دقّة كلامه، فمن عاد إلى كتاب سليم بن قيس الهلالي يجد الرواية بهذا الشكل: "والواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يُقتل أن لا يعملوا عملاً، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لانفسهم إماماً عفيفاً، عالماً. إن كانت الخيَرة لهم، وإن كانت الخيرة إلى الله عزّ وجلّ وإلى رسوله فإنّ الله قد كفاهم النظر في ذلك الاختيار، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رضي لهم إماماً، وأمرهم بطاعته واتّباعه"(3).
فقد حذف الكاتب الترديد الثاني الذي رجّحه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: "فإنّ الله
____________
(1) الكامل في التاريخ: ج 3، ص 63 ـ 64; تاريخ الطبري: ج 3، ص 289.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 23.
(3) كتاب سليم: ج2، ص752 ـ 753، ح 25.
الامر الاوّل: إن كانت الخيرة للناس فعليهم أن يختارو إماماً عفيفاً... إلخ.
الامر الثاني: إن كانت الخيرة لله ورسوله فإنّ الله قد كفاهم النظر في ذلك الاختيار، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رضي لهم إماماً وأمرهم بطاعته واتباعه.
ولم يشر الكاتب لا من قريب ولا من بعيد إلى الامر الثاني، محاولاً استغفال القارئ وتشويش ذهنه، بل اعتمد على الاوّل وجعله ركناً أساسيّاً في نظريّته.
هذا مضافاً إلى أنّ كتاب سليم بن قيس الهلالي معدّ لتركيز نظريّة الامامة وتعداد الائمّة وأسمائهم، فكيف بكتاب يكون هذا منهجه ينقل رواية تخالف منهجه بالمرة؟!
أضف إلى ذلك، أنّ الكاتب ضعّف كتاب سليم، وحاول جاهداً أن يتتبع كلمات العلماء في تضعيف كتاب سليم(1)، وما هذا التتبع الخالي عن الموضوعيّة إلاّ لانّ كتاب سليم نصّ على الائمّة (عليهم السلام)، وعندما وجد ما توهّم أنّه ينفعه اعتمد على الكتاب، وهذا منهج الغريق، فإنّه يتعلّق بالقشّة لعلّها تنفعه.
شواهد عليلة وكذب صريح
حاول الكاتب أن يحشد أكبر عدد من الشواهد كدليل على نظريّته الجديدة (الشورى) فاستدلّ بقول الامام علي (عليه السلام) إلى طلحة والزبير: "بايعتماني ثمّ نكثتما"(2)، واتخذ من هذا الكلام دليلاً على إيمان الامام بالشورى; لانّه لو كان يؤمن بالنص لاحتجّ عليهم به.
وهذا من عجيب القول; لانّ طلحة والزبير بايعا ثمّ نكثا، فكيف يؤمنان بالنص على علي (عليه السلام) كي يحتجّ الامام عليهما به، واحتجاج الامام هنا من باب "ألزموهم بما
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 205.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 24.
وبعد أن أفلس الكاتب من ذلك، عدل عن مسألة إيمان الامام علي بالشورى، وراح يبحث عن طريق آخر ينفي فيه عصمة الامام ليسوّغ لنفسه نسبة الخطأ إليه، فقال: (كان الامام علي (عليه السلام) ينظر إلى نفسه كإنسان عادي غير معصوم، ويطالب الشيعة المسلمين أن ينظروا إليه كذلك...)(1)، ونقل الكاتب دليلاً لذلك الادّعاء كلام الامام أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنّي لست في نفسي بفوق أن اُخطئ ولا آمن ذلك من فعلي، إلاّ أن يكفيني الله من نفسي ما هو أملك به منّي".
ونسي الكاتب أنّ الامام علي (عليه السلام) هو المربّي الاوّل للانسانيّة، بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتماداً على قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا علي أنا وأنت أبوا هذه الاُمّة" فهو يربّي الناس على أخلاق التعامل فيما بينهم، فكيف يكون إنساناً عادياً ـ كما يقول أحمد الكاتب ـ وهو يقول: "ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليَّ الطير"، فهل يوجد إنسان عادي أو غير عادي ـ عبقري مثلاً ـ يقول هذه الكلمة، ونحن في هذا القرن.
أضف إلى ذلك أنّه بناءً على منهج الكاتب يكون الامام علي (عليه السلام) قد ارتكب كل الذنوب، صغيرة وكبيرة، لانّ الامام هو القائل: "اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء..."(2).
فإذا لم تحمل هذه الاُمور على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يحاول تربية الناس على أخلاق التعامل فيما بينهم تارة، وفيما بينهم وبين ربّهم اُخرى، يكون أمير المؤمنين (عليه السلام)
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 24.
(2) دعاء كميل للامام علي (عليه السلام).
وبعدما أفلس الكاتب من كلّ ما اعتمد عليه، وأحسّ في نفسه أنّ كلّ هذا غير كاف لايهام القارئ وتشويش ذهنه، راح يكذب على أصحاب الكتب، وبالخصوص السيّد المرتضى، فقال: (إنّ السيّد المرتضى ينقل رواية يتجلّى فيها إيمان الامام علي بالشورى دستوراً للمسلمين بصورة واضحة، وذلك في خلافة الامام الحسن (عليه السلام)، ويقول الكاتب نقلاً عن كتاب الشافي: إنّ المسلمين دخلوا على الامام علي (عليه السلام) بعدما ضربه عبدالرحمن بن ملجم، وطلبوا منه أن يستخلف ابنه الحسن، فقال: "لا، وسألوا عليّاً أن يشير عليهم بأحد فما فعل"(1).
ويلاحظ على كلامه هذا الذي نسبه إلى الشافي أنّه كذب على السيّد المرتضى; لانّ الشافي هو رد السيّد المرتضى على القاضي عبدالجبّار المعتزلي، فيورد السيّد المرتضى ما أثاره القاضي ويردّه، فأحمد الكاتب أخذ فقط الرواية التي نقلها السيّد المرتضى من المغني ـ كتاب القاضي عبدالجبّار ـ ولم يذكر الرد على تلك الرواية من قبل السيّد المرتضى، فأين الامانة العلميّة؟ وأين النزاهة التي يفترض أن تتصف بها البحوث؟
يقول السيّد المرتضى (قدس سره) ردّاً على تلك الرواية التي ذكرها أحمد الكاتب ونسبها للشافي، يقول (قدس سره): (إنّ الخبر الذي رواه عن أمير المؤمنين ـ رواه القاضي ـ متضمن لما يكاد يعلم بطلانه ضرورةً. والظاهر من أحوال أمير المؤمنين والمشهور من أقواله وأفعاله جملة وتفصيلاً، يقتضي أنّه كان يقدم بنفسه على أبي بكر وغيره من الصحابة، وأنّه كان لا يعترف لاحدهم بالتقدّم عليه).
وذكر السيّد المرتضى (قدس سره) الامثلة الكافية على ذلك، وجعل هذا الخبر ـ الذي ذكره الكاتب ـ شاذّاً، وجعل بإزاءه الاخبار التي ترويها الشيعة من جهات عدّة، وطرق مختلفة، تضمنت الوصيّة السياسيّة من الامام علي (عليه السلام) لابنه الحسن حيث أشار إليه واستخلفه، وأرشد إلى طاعته من بعده، وهي أكثر من أن تحصى، فمنها: ما رواه أبو
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 24.
وروى حمّاد بن عيسى، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: "أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن (عليه السلام)، وأشهد على وصيّته الحسين ومحمّداً (عليهما السلام)، وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ثمّ دفع إليه الكتب والسلاح"(2).
وأضاف السيّد المرتضى: (وأخبار وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام) واستخلافه له ظاهرة مشهورة بين الشيعة)(3).
فهذا منهج السيد المرتضى الذي حاول الكاتب أن يحرّفه عن معناه الحقيقي من خلال نقله الرواية من كتاب الشافي بدون ردّ السيّد عليها.
بالاضافة إلى ذلك، فإنّ الرواية لم تذكر في كتب الشيعة أبداً.
وبعد أن أعلن الكاتب إفلاسه من كتب الشيعة راح يبحث في كتب السنّة أمثال كتب ابن أبي الدنيا، صاحب الموسوعة المتعلّقة بالاُمور الروحيّة الاخلاقيّة، ليستدلّ بشواذ ما نقلوه حتّى يدعم نظريّته (الشورى) الجديدة، وذكر رواية ينقلها ابن أبي الدنيا حول عدم نص الامام علي على ولده الحسن، وبغض النظر عن القيمة العلميّة لكتب ابن أبي الدنيا، فقد اعتمد على شاهد عليل وترك العشرات من روايات الاشارة والنص على الحسن بن علي (عليهما السلام) في كتب الشيعة، فعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن، وأشهد على وصيّته الحسين (عليه السلام)، ومحمّد وجميع ولده ورؤساء الشيعة وأهل بيته، ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح، ثمّ قال لابنه الحسن: يا بني، أمرني رسول الله ودفع إليَّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفع إلى أخيك الحسين... ثمّ أقبل على ابنه الحسن فقال: يا بني أنت وليُّ
____________
(1) الشافي: ج 3، ص 99 ـ 102.
(2) المصدر نفسه.
(3) الشافي: ج 3، ص 199 ـ 102.
وبعد كلّ ذلك راح يكذب على العلماء، أمثال الشيخ المفيد، حيث نسب إليه عدم القول بوصيّة الامام علي إلى ابنه الحسن (عليهما السلام)، ونسب ذلك إلى "الارشاد" ولم ينقل الكاتب كلام المفيد حول المسألة، وبمراجعة بسيطة إلى "الارشاد" نجد أنّ الشيخ المفيد يقول عندما حضرت الامام الحسن الوفاة: (ثمّ وصّى (عليه السلام) إليه ـ إلى الحسين ـ بأهله وولده وتركاته، وما كان وصّى به إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) حين استخلفه وأهّله لمقامه، ودل شيعته على استخلافه ونصبه لهم علماً من بعده)(2).
فالامام الحسن (عليه السلام) كان وصي أبيه، والحسين (عليه السلام) وصي أخيه، وتوجّهت لهم الناس، واشرأبّت إليهم الاعناق، وحوربوا من طغاة زمانهم أشدّ محاربة; لما يعرفه اُولئك الطغاة من موقع لهم (عليهم السلام) في الدين المحمّدي الحنيف.
أضف إلى ذلك عشرات الروايات التي دلّت على إمامة الحسن (عليه السلام)، والتي آمن بها المفيد والمرتضى والطوسي والكليني والصدوق وغيرهم من أقطاب الفكر الشيعي، ويكفي القارئ تصفح كتبهم للاطّلاع على ذلك.
تحريف الحقائق
يقول: (وتبعاً لمفهوم الاولويّة قالت أجيال من الشيعة الاوائل، وخاصّة في القرن الاوّل الهجري: إنّ عليّاً كان أولى الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لفضله وسابقته...)(3).
ونسب الكاتب هذا الكلام إلى النوبختي في (فرق الشيعة)، ولو سلّمنا أنّ هذا الكتاب للنوبختي، ورجعنا إلى نص النوبختي وجدناه يقول هكذا: (فجميع اُصول الفرق كلّها الجامعة لها أربع فرق: الشيعة، والمعتزلة، والمرجئة، والخوارج. فأوّل الفرق الشيعة، وهم فرقة علي بن أبي طالب (عليه السلام) المسمّون بشيعة علي في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 358 ـ 309، ح 5.
(2) الارشاد: ج 2، ص 17.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 30.
فهذا نص النوبختي الذي يؤكّد أنّ الشيعة الاوائل في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعده كانوا يقولون بإمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولم يقولوا بمفهوم الاولويّة كما يزعم أحمد الكاتب.
ولكن بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) افترقت الشيعة إلى ثلاث فرق، فرقة قالت: الامام علي (عليه السلام) إمام مفترض الطاعة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفرقة قالت: إنّ عليّاً (عليه السلام) أولى الناس بعد رسول الله....(2).
وهذا كما هو واضح حدث بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذين قالوا: إنّ عليّاً أولى الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكونوا هم الجيل الاوّل للشيعة كما شوّش أحمد الكاتب أذهان القرّاء بذلك، بل صرّح النوبختي ـ كما ذكرنا سابقاً ـ بأنّ الشيعة الاوائل انقطعوا إلى القول بإمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، واستمرّوا على ذلك حتّى آخر حياتهم.
كذب وافتراء
كذّب الكاتب على الاماميّة من جديد بقوله: (... مؤرّخي الاماميّة لم يستطيعوا إثبات أي نص حول إمامة الائمّة الاخرين، وخاصّة علي بن الحسين...)(3).
ولا أظنّ من له أدنى اطلاع بتراث التشيّع يصدّق هذا الكلام، لانّ الشيعة في موسوعاتهم الحديثيّة أفردوا أبواباً كاملة تحت عنوان (أبواب النص والاشارة على الائمّة) ابتداءً من أمير المؤمنين وحتّى الامام المهدي (عج)(4)، وأمّا إمامة علي بن
____________
(1) فرق الشيعة: ص 36 ـ 37.
(2) فرق الشيعة: 37 ـ 38.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 67.
(4) الكافي: أبواب الاشارة والنص على إمامة أمير المؤمنين.
بالاضافة إلى نصوص الامامة عليه من قبل أبيه الحسين (عليه السلام)، والتي أوردها الكافي في (باب الاشارة والنص على علي بن الحسين (عليهما السلام))(2).
وينقل المؤرّخ المسعودي: (إنّ الحسين عندما تزوّج اُم علي السجّاد قال له أمير المؤمنين: "احتفظ بها وأحسن إليها، فستلد لك خير أهل الارض بعدك"(3).
هذا من ناحية النصوص الواردة بحقّ السجّاد (عليه السلام).
ومن ناحية اُخرى، أنّ السجّاد (عليه السلام) جعل نفسه من اُولي الامر الذين وجبت طاعتهم، فقال: "إنّ اُولي الامر الذين جعلهم الله عزّ وجلّ أئمّة للناس وأوجب طاعتهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين ابنا علي بن أبي طالب، ثمّ انتهى الامر إلينا"(4).
فهذا كلام السجّاد (عليه السلام) نفسه، الذي يقول عنه حمّاد بن زيد بن سعيد الانصاري: (إنّه ـ أي السجّاد ـ أفضل هاشمي أدركته)(5). ويقول الزهري بحقّه: (لم أدرك من أهل البيت أفضل من علي بن الحسين)(6).
____________
(1) إثبات الوصيّة: ص 168 ـ 170; الكافي: ج 1، ص 592 ـ 594، باب 126; عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 47/ ح 1; الغيبة للطوسي: ص 91; الغيبة للنعماني: ص 59; الارشاد: ج 2، ص 138 ـ 139; مناقب ابن شهرآشوب: ج 4، ص 143.
(2) الكافي: ج 1، ص 364.
(3) إثبات الوصيّة: ص 170.
(4) كمال الدين: ص 299، ح 2، باب ما أخبر به سيّد العابدين.
(5) تهذيب الكمال: ج 20، ص 387.
(6) الجرح والتعديل: ج 6، ص 178، رقم 977.
تزوير مفضوح
لقد نسب الكاتب إلى أحمد بن محمّد بن عمرو بن أبي نصر البزنطي السكوني الكوفي ـ نسب إليه ـ أنّه قد سأل الامام الرضا، وأجاب الامام عن بعض المسائل الفقهيّة بخلاف ما جاء عن آبائه وأقرباؤه، وجعل الكاتب من هذه الشبهة دليلاً لتوقّف البزنطي عن القول بإمامة الرضا(1).
ولم يذكر الرواية التي أكدت ذلك، ولكنّه صاغها بكلامه، ونقف هنا لنكشف للقارئ حقد هذا الرجل، وطريقته في التزوير والتحريف، وننقل الرواية بالكامل ليتضّح ما قلناه:
عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام): إنّي رجل من أهل الكوفة، وإنّا أهل بيت ندين الله عزّ وجلّ بطاعتكم، وقد أحببت لقاءك لاسألك عن ديني وأشياء جاء بها قوم عنك بحجج يحتجّون بها عليَّ فيكم، وهم الذين يزعمون أنّ أباك حي في الدنيا لم يمت يقيناً ومما يحتجّون به إنّهم يقولون: إنّا سألناه عن أشياء فأجاب بخلاف ما جاء عن آبائه وأقربائه.... إلخ(2).
إذن، البزنطي يسأل الامام عن موقفه من اُولئك الذين يدّعون أنّ الامام أجاب عن مسائل، بخلاف ما أجاب عليها آبائه وأقربائه، وليس البزنطي هو الذي سأل الامام تلك المسائل، كما حرّف الكاتب مورد الرواية.
ولننظر إلى جواب الامام الرضا (عليه السلام) على رسالة البزنطي هذه، وهذه الاجابة تشمل اُولئك الذين نسبوا للامام ما قالوه، وتشمل أيضاً أحمد الكاتب.
يقول البزنطي: فأجابني الامام فقال: "ولعمري ما يسمع الصمّ ولا يهدي العمي إلاّ
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 101.
(2) قرب الاسناد: ص 348 ـ 349، ح 1260.