فلقد جعل الله الرجس على الكاتب بتحريفه لهذه الرواية واتهام البزنطي باُمور هو بريء منها، وشوّش ذهن القارئ بأكاذيبه وضلالاته، ولم يكتفِ بإلصاق التهم بأصحاب الامام الرضا (عليه السلام)، فراح يتهم بعضهم الاخر أمثال داود بن كثير الرقي وقال: إنّه توقّف بالامام الرضا لرواية حول الكاظم أنّه القائم(2)، ولكنّه لم يذكر الرواية، ولا حتّى أي شيء حول داود، هذا، والرواية تقول: إنّ داود سأل الامام الرضا (عليه السلام) بأنّه قد سمع رواية بأنّ سابعنا قائمنا، ولم يفهم معنى القائم، فهو معنى عام، كما صرّح به أحد الائمّة، بأنّ كلّ إمام هو قائم، فأجابه الامام الرضا (عليه السلام) على مراده(3).
أضف إلى ذلك، أنّ الكاتب لم يكلّف نفسه عناء البحث في موقف داود هذا، فإنّ الشيخ المفيد عدّه من خاصّة الامام الكاظم (عليه السلام) وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته(4).
ونحن هنا لا نريد أن نعطي الموقف النهائي بحق هذا الرجل، الذي وثّقه الكشي أيضاً باعتراف الكاتب(5)، بقدر ما نشير إلى ما يجب عمله كمقدّمات للبحث العلمي النزيه.
ثمّ راح يعتمد على الروايات الضعيفة، فاعتمد على رواية ضعيفة ـ كما يقول السيّد الخوئي(6)، وجعل من عبدالله بن المغيرة واقفياً لم يقل بإمامة الرضا (عليه السلام)، مع أنّ السيّد الخوئي بعد بحثه عن الرجل قال: (لم يثبت أنّ عبدالله بن المغيرة كان مسبوقاً
____________
(1) الانعام: الاية 125.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 101.
(3) خاتمة المستدرك: ج 4، ص 286.
(4) نقله عن الارشاد محمّد صادق آل بحر العلوم، رجال الطوسي: هامش رقم 1، ص 190، دائر الذخائر.
(5) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 101.
(6) معجم رجال الحديث: ج 10، ص 339.
فيجب على الكاتب التدبّر والمراجعة، فإنّ في الروايات ما هو ضعيف لا يمكن الاعتماد عليه. وراح يتهم البعض بتهم مجرّدة عن التحقيق والبحث، فاتهم الوشّاء بمثل ما اتهم به أصحابه، ولم يلتفت إلى أنّ الوشّاء نقل رواية عن جدّه العبّاس قال: لمّا حضرته الوفاة قال: اشهدوا عليَّ وليست ساعة الكذب هذه الساعة لسمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: "والله لا يموت عبد يحبّ الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتولّى الائمّة فتمسّه النار"(2)، فالوشّاء يعتقد بما يروي حول إمامة الائمّة (عليهم السلام).
فكلّ هذا الكذب والدجل والتزوير لم ينفع الكاتب لحد الان في النيل من الامامة ومن مصاديقها ومَن حملها من أصحاب الائمّة (عليهم السلام).
ولم يقف الكاتب عند هذا الحدّ، بل أضاف لبعض الروايات كلمات ليحرّف معناها، فقال: (وكان ابنه عبدالله ـ أي ابن الحسن ـ يقول: ليس لنا في هذا الامر ما ليس لغيرنا، وليس في أحد من أهل البيت إمام مفترض الطاعة من الله)(3).
فحاول أن يدلِّس على القارئ ويزوّر الحقيقة; لانّ الرواية لم يكن فيها كلمة (ليس)، فأضاف هذه الكلمة ليسهّل عمليّة انكار الامامة الالهيّة على لسان عبدالله بن الحسن، وإليك نصّ الرواية بالكامل ليتبيّن زيف الكاتب:
عن علي بن سعيد، قال: كنت جالساً عند أبي عبدالله (عليه السلام)، وعنده محمّد بن عبدالله ابن علي إلى جنبه جالساً، وفي المجلس عبدالملك بن أعين ومحمّد الطيّار وشهاب بن عبدربّه، فقال رجل من أصحابنا: جُعلت فداك، إنّ عبدالله بن الحسن يقول: (لنا في هذا الامر ما ليس لغيرنا)، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) ـ بعد كلام ـ: "أما تعجبون..."(4)، إلى آخر الرواية.
____________
(1) المصدر السابق.
(2) معجم رجال الحديث: ج 5، ص 34، رقم 2960.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 31.
(4) بصائر الدرجات: ص 153، رقم 5.
إذن، فليس من الغريب أن يدّعي هذا الرجل الامامة لنفسه، ولكن الغريب أنّ الكاتب ينفي الامامة الالهيّة بإضافة كلمة (ليس) في الرواية على لسان هذا الرجل، أضف إلى ذلك أنّ الرواية خالية من عبارات اُخرى أضافها أحمد الكاتب، والعبارات هي: (وليس في أحد من أهل البيت امام مفترض الطاعة من الله).
وحاول الكاتب أن يركّز فهمه هذا في ذهن القارئ بقطع جواب الامام الصادق (عليه السلام) ردّاً على مزاعم عبدالله هذا، والذي أكّد فيه الامام الصادق (عليه السلام) موقعه في الاُمّة; لما يملك من تراث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتراث آبائه وأجداده (عليهم السلام)(2).
وبعد عمليّات التزوير والتحريف والقطع، خلص إلى نتيجة تقول بعدم وجود إمامة إلهيّة(3).
شبهة لا محلّ لها
أثار الكاتب شبهة نتجت عن عدم معرفته بالمفهوم العام للعصمة التي تقول بها الشيعة، وتصوّر أنّ هذا المفهوم هو نفس المفهوم الذي دأب الامويّون على ترويجه ومطالبة الناس بطاعتهم طاعة عمياء.
والشبهة التي أثارها تقول: (كانت فلسفة العصمة تقوم على مفهوم الاطلاق في الطاعة وولي الامر، وعدم جواز امكانيّة النسبيّة فيها، وذلك مثل الرد على الامام، ورفض طاعته في المعاصي والمنكرات لو أمر بها، والاخذ على يده عند ظهور فسقه
____________
(1) معجم رجال الحديث: ج 10، ص 161 ـ 162، رقم 6794.
(2) بصائر الدرجات: ص 153، رقم 5.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 31.
ومن هذا نستنتج أنّ الكاتب لم يفهم معنى العصمة عند الشيعة، وإلاّ لما قال هذا الكلام، لانّ العصمة عندهم هي: (عصمتهم ـ الائمّة ـ عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت عمداً أو سهواً)(1)، وهذا المعنى مأخوذ من النص القرآني (لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ).
والامامة هي العهد الالـهي كما يقول الرازي(2)، وصرّح به الزمخشري بقوله: (أي من كان ظالماً من ذرّيّتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالامامة، وإنّما ينال من كان عادلاً برئياً من الظلم)(3).
فمفهوم الامام المعصوم هو الامام العادل البريء من الظلم، صغيراً كان الظلم أو كبيراً، وهذا هو المراد من (أُولِى الاَْمْرِ) الذين أمر الله بطاعتهم.
إذن، لا يوجد مقتض للتناقض حتّى يقع الشيعة فيه; لانّ اُولئك الذين أمر الله بطاعتهم ليس الحكّام والجبابرة حتّى توفّق الشيعة بين طاعة الله وطاعتهم التي أمر الله بها، بل اُولئك الائمّة المعصومون المطهّرون من كلّ رجس صغيراً كان أو كبيراً، وعلى أحمد الكاتب أن يوضّح كيف يوفّق بين طاعة الله في الاية وطاعة اُولئك الذين أمر الله بطاعتهم; لانّ عنده أنّ اُولي الامر هم من ينتخبه الشورى، فلابدّ له أن يثبت كيف قرن الله طاعته بطاعة اُولئك إن لم يكونوا معصومين مطهّرين.
فالشيعة عندهم الطاعة مطلقة، لانّ الامام معصوم من كلّ رجس، ولهذا قال الشيخ الطوسي: (فإن قيل: فَلِمَ أنكرتم أن يكون الاقتداء بالامام إنّما يجب فيما نعلمه حسناً، فأمّا ما نعلمه قبيحاً أو نشكّ في حاله فلا يجب الاقتداء فيه؟
____________
(1) نهج الحقّ وكشف الصدق: ص 164.
(2) تفسير الفخر الرازي: ج 4، ص 31 ـ 42.
(3) الكشّاف: ج 1، ص 183.
وكذلك قول الصدوق: (إنّ الدليل على أنّ الامام يجب أن يكون معصوماً هو أنّه لو جاز عليه فعل الخطيئة، فإن وجب الانكار عليه سقط محلّه من القلوب فلا يتبع)(2).
فلا معنى لان يجعل الكاتب المعصوم هو الحاكم الذي يقع في الخطأ والمعاصي والمنكرات، فهذا ليس معصوماً حتّى يشكل أحمد الكاتب على مبنى الشيعة في ذلك.
صياغة نظريّة شيعيّة من أعداء التشيّع
صاغ أحمد الكاتب نظريّة شيعيّة تقول: لم يكن عامّة الشيعة يميّزون بين أئمّة أهل البيت(3); ليسهل له نفي النص الالهي.
وحصل الكاتب على هذه النظريّة من أقوال سليمان بن جرير، وأبي الجارود زياد ابن أبي زياد الهمداني الكوفي، ومن مواقف كثير النواء أبي إسماعيل، أو كثير بن إسماعيل بن نافع النواء، والحكم بن عيينة، وسلمة بن كهيل، وأبي المقدام ثابت الحدّاد.
وهؤلاء الذين صاغ أحمد الكاتب من أقوالهم ومواقفهم نظريّة شيعيّة عامّة هم من أعداء أئمّة أهل البيت، بل نسب بعضهم الكذب إلى الائمّة، وإليك أقوالهم:
أمّا سليمان بن جرير الذي نظَّر للكذب على أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ـ كما ذكر ذلك النوبختي ـ ونسب الكذب إليهم، وخصوصاً في البداء والتقيّة، وكفّره أهل السنّة لانّه كفّر عثمان بن عفّان، فقد قال هذا متجرّئاً على أئمّة أهل البيت (عليهم السلام): (إنّ أئمّة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبداً، وهما القول بالبداء وإجازة التقيّة)(4).
____________
(1) تلخيص الشافي: ج 1، ص 192.
(2) النكت الاعتقاديّة: ص 40.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 45.
(4) فرق الشيعة: ص 76 ـ 77.
أمّا بالنسبة إلى أبي الجارود، فيقول أحمد الكاتب: (كان يوالي الامام الباقر في البداية، ثمّ انتقل إلى حزب أخيه زيد بن علي)(1).
وهذا ليس انتقالاً كما يصوّره أحمد الكاتب; لانّ زيد بن علي لم يشكّل حزباً أمام أخيه الباقر (عليه السلام)، وكان زيد على علم بالامامة.
ولمّا وجد الكاتب أنّ زيداً وأنصاره على علم تام بالامامة، وأنّ انضمام أبي الجارود لا يشكّل نقطة سلبيّة على الامامة، راح يبحث عن مواقفه وأقواله، ناسياً البحث العلمي الذي أثبت رجوع أبي الجارود إلى مذهب الحقّ بعد أن شرّق يميناً وشمالاً; لانّ الحسن بن محبوب نقل عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، عن جابر بن عبدالله الانصاري، قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الاوصياء، فعددت اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمّد وأربعة منهم علي(2).
ورواية هكذا خبر تدل على رجوعه عن مذهب الزيديّة، خصوصاً وإنّ الحسن ابن محبوب الذي روى الخبر عن أبي الجارود ولد قريباً من وفاة الصادق (عليه السلام)، فلا محالة ـ كما يقول السيد الخوئي ـ أن تكون هذه الرواية بعد تغيّره، وبعد اعتناقه مذهب الزيديّة ـ أي بعد اعتناق مذهب الزيديّة عاد وروى هذا الخبر الذي يعتقد بمضمونه ـ بكثير، فإذا روى أنّ الاوصياء اثنا عشر، آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمّد، وأربعة منهم علي، كان هذا رجوعاً منه إلى الحق، والله العالم(3).
فلم يتطرّق الكاتب إلى كلّ تلك البحوث والاقوال، وراح يجرّد النظريّة الشيعيّة من كلّ الملازمات، ويستخرجها من أقوال ومواقف سليمان بن جرير الذي عرفت موقفه وقوله، ومن قول أبي الجارود الذي أرسله إرسال المسلّمات بدون بحث
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 45.
(2) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 52، ح 6 و7.
(3) معجم رجال الحديث: ج 7، ص 325 ـ 326.
أمّا كثير النوّاء، فقد تبرّأ منه الصادق (عليه السلام) بقوله: "اللهمّ إنّي إليك من كثير النوّى أبرأ في الدنيا والاخرة"(1).
وأمّا بالنسبة إلى الحكم بن عيينة ـ أو عتيبة ـ فقد قال له الباقر ولسلمة بن كهيل: "شرّقا أو غرّبا، لن تجدا علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا أهل البيت"(2).
وأيضاً حكم عليه الباقر (عليه السلام) وجعله ممّن قال الله عزّ وجلّ عنهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).
وشمل الامام الباقر (عليه السلام) بهذا الحكم سلمة بن كهيل، وكثير النوّاء، وأبا المقدام... إلخ.
وأمّا سلمة بن كهيل واُولئك الذين ذكرهم أحمد الكاتب، فإنّ الكشي يقول بحقّهم ما هذا نصّه: (والحسن بن صالح بن حي، وسالم بن أبي حفصة، والحكم بن عيينة، وسلمة بن كهيل، وأبو المقدام ثابت بن الحدّاد، وهم الذين دعوا إلى ولاية علي (عليه السلام) ثمّ خلطوها بولاية أبي بكر وعمر، ويثبتون لهما إمامتهما، ويبغضون عثمان وطلحة والزبير وعائشة... إلخ)(3).
إذن، لا تصاغ نظريّة شيعيّة عامّة من هؤلاء الذين صدرت أحكام اللعن بحقّهم من أهل البيت (عليهم السلام)، والذين لا يميّزون بين إمامة علي وأبي بكر وعمر، ويثبتون لهم إمامتهم كما يقول الكشّي.
ولا أدري لماذا لم يناقش الكاتب أقوال أبي خالد الوالبي، الذي يقول للسجّاد (عليه السلام): (فعلمتُ أنّك الامام الذي فرض الله طاعته على كلّ مسلم)(4). ومحمّد بن الحنفيّة، الذي يقول: (إنّ الامام علي بن الحسين عليَّ وعليك وعلى كلّ مسلم)(5) مخاطباً أبا
____________
(1) رجال الكشي: ترجمة كثير النوى، ص 241، رقم 440 و441.
(2) الكافي: ج1، ص 463، باب ليس شيء من الحقّ في يد الناس إلاّ ما خرج من الائمّة.
(3) معجم رجال الحديث: ج 8، ص 14، نقلاً عن الكشّي في رجاله.
(4) معجم رجال الحديث: ج 14، ص 131.
(5) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 347.
وأمثال منصور بن حازم، الذي يقول للصادق (عليه السلام): (وأشهد بالله أنّك أنت الحجّة، وأنّ طاعتك مفروضة)(1).
فالنظريّة الشيعيّة تؤخذ من أنصار نفس تلك النظريّة، لا من أعدائها. أضف إلى ذلك، أنّ الكاتب يحكم بدون بحث وتحقيق، فهو يقول: (إنّ سالم بن أبي حفص الذي كان أوّل الدعاة إلى إمامة الصادق بعد وفاة أبيه ينضمّ إلى حركة زيد)(2).
ونحن لا نناقش مسألة الانضمام إلى حركة زيد; لانّ الحركة كانت تعرف الامامة والامام، كما صرّح بذلك قائدها زيد الشهيد، ولكنّ سالماً هذا ذمّه الامام الباقر (عليه السلام) بقوله: "ويل سالم ويل سالم، ما يدري سالم ما منزلة الامام، إنّ منزلة الامام أعظم ممّا يذهب إليه سالم والناس أجمعون"(3).
فالرجل مذموم في زمن الباقر والد الصادق (عليهما السلام)، فكيف يكون أوّل الدعاة إلى إمامة الصادق، أضف إلى ذلك، أنّه ضال مضلّ منحرف، كما عبّر عنه السيّد الخوئي(4)، فلا تؤخذ منه نظريّة شيعيّة.
واستنكر الامام الصادق (عليه السلام) عليه أقواله وأفعاله وقال: "ما يريد منّي سالم"(5).
فمن هؤلاء وأمثالهم صاغ أحمد الكاتب نظريّته التي تقول: (لم يكن عامّة الشيعة يميّزون بين أئمّة أهل البيت).
وأراد من تلك النظريّة نتيجة تقول: إنّ الامامة ليست من الله. وبعد أن اطّلع القارئ على أقوال ومواقف اُولئك، نترك له الحكم على ما كتبه أحمد الكاتب، ثمّ راح يشوّش على القارئ بقوله: (ويؤيّد هذا ـ يؤيّد قول الجاروديّة ـ قول قسم من الشيعة في
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 244 ـ 245، ح 15.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 45.
(3) معجم رجال الحديث: ج 8، ص 15 ـ 16.
(4) معجم رجال الحديث: ج 8، ص 15 ـ 17.
(5) معجم رجال الحديث: ج 8، ص 15 ـ 16.
ونسب هذا الكلام إلى النوبختي، وبعد مراجعة كتاب فرق الشيعة للنوبختي وجدنا أنّ هؤلاء يسمّون بالسرحوبيّة، وقال النوبختي: (إنّ أبا الجارود زياد بن المنذر لقبه سرحوباً ـ وقال ـ: كلّهم من الزيديّة)(2).
فلماذا عدّهم الكاتب فرقة اُخرى مناصرة للجاروديّة، فهل أراد أن يكثِّر السواد ظنّاً منه أنّ القارئ غافل عن هكذا تدليس؟!
مخالفة نص القرآن الكريم
لقد خالف الكاتب نص القرآن الكريم عندما نفى عقليّاً أن يُنصّب الله تعالى لقيادة المسلمين طفلاً صغيراً، فقال: (لم يكن يُعقل أن يُنصب الله تعالى لقيادة المسلمين طفلاً صغيراً)(3).
وهذا النفي العقلي من قبل الكاتب خالف به نص القرآن الكريم عندما قال متحدّثاً على لسان عيسى: (قَالَ إِنِّى عَبْدُاللهِ آتَانِى الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا)(4).
ويقول الرازي: الجمهور قالوا: (إنّه قال هذا الكلام حال صغره)(5).
فعلى قول الكاتب يكون القرآن قد خالف العقل في تنصيب عيسى نبيّاً لقيادة الناس وهو طفل صغير.
وقال تعالى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)(6).
والحكم هنا هو النبوّة، يقول الرازي: (والاقرب حمل الحكم على النبوّة لوجهين:
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 46.
(2) فرق الشيعة: ص 67 ـ 68.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 102.
(4) سورة مريم: آية 30.
(5) التفسير الكبير: ج 21، ص 182.
(6) سورة مريم: الاية 12.
الثاني: أنّ الحكم هو ما يصلح لان يحكم به على غيره ولغيره على الاطلاق، وذلك لا يكون إلاّ بالنبوّة.
فإن قيل: كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنبوّة حال الصبا.
قلنا لهذا السائل: إمّا أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع؟ فإن منع منه فقد سدّ باب النبوّات، لانّ النبوّة بناء الامر فيها على المعجزات ولا معنى لها إلاّ خرق العادات، وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد، فإنّه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلاً أشدّ من استبعاد انشقاق القمر وانفلاق البحر).
إذن، لقد خالف الكاتب نص القرآن عندما قال: (لم يعقل أن يُنَصِّب الله طفلاً)، وقصد الكاتب من نفيه العقلي هذا، نفي إمامة الجواد (عليه السلام) لانّه صغير، متناسياً أنّ الامامة تجري مجرى النبوّات، فليس منكراً إذن أن تكون إمامة الجواد قبل أن يبلغ الرشد، إذ يجوز للامام أن يؤتى الحكم صبيّاً(1).
ولا يوجد سبباً لانكار إمامة الجواد (عليه السلام) إلاّ صغر السن كما يقول النوبختي: (إنّ أبا الحسن الرضا (عليه السلام) توفي وابنه محمّد ابن سبع سنين فاستصبوه واستصغروه، وقالوا: لا يجوز الامام إلاّ بالغاً)(2).
ومن المعلوم أنّ اُولئك الذين استصغروه ليس كأمثال علي بن جعفر الذي جعل نفسه عبداً للامام عندما وبّخه أصحابه لتعظيمه هذا الصغير وهو شيخ كبير، فقال لهم:
(اسكتوا، إذا كان الله عزّ وجلّ ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهّل هذه الشيبة وأهّل
____________
(1) الامامة وأهل البيت: ج 3، ص 168.
(2) فرق الشيعة: ص 97.
فاُولئك الذين استصغروه هم عبدة العباسيين الذين دعوا له يحيى بن أكثم ليناظره.
فالمشكلة الرئيسيّة هي صغر الامام، ولكنّهم نبذوا الكتاب وراء ظهورهم كما فعل أحمد الكاتب، ولم يلتفتوا إلى أنّ عيسى ويحيى اُعطيا النبوّة صغيرين، ولهذا ردّ الامام الرضا (عليه السلام) مقالتهم عندما قال: "فقد قام عيسى بالحجّة وهو ابن ثلاث سنين"(2).
وبهذا المنهج دعا الامام الجواد إلى إمامته عندما قالوا له: إنّ الناس ينكرون عليك حداثة سنّك، فقال: "وما ينكرون من ذلك، وقد قال الله تعالى لنبيّه: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى)(3)، فوالله ما اتبعه حينئذ إلاّ علي وله تسع سنين وأنا ابن تسع سنين"(4).
عدم توخّي الامانة في النقل من المصادر
اعتمد الكاتب هذا الاسلوب لتشويش ذهن القارئ عمداً ـ وهذه وسيلة العاجز ـ ولم نقل بالعمديّة إلاّ بعد العجز عن تأويل ذلك لتبرئته حتّى على مبدأ السبعين محملاً، فلقد كذب الكاتب على الشيخ الصدوق من خلال نقله لشبهة وردها في كمال الدين، لانّ منهج الصدوق في كمال الدين هو ذكر إشكال الزيديّة وغيرهم، ثمّ يشرع بالرد، وعادة ما ينقل شبهتين أو ثلاث ثمّ يشرع بالرد عليها واحدة بعد واحدة، ولكنّ الكاتب نقل اعتراض الزيديّة على لسان الشيخ الصدوق، وهذا الاعتراض شمل على أربع إشكالات، ولم ينقل جواب الصدوق إلاّ على الاشكال الرابع حتّى يشوّش ذهن القارئ بذلك، يقول أحمد الكاتب: (وقد نقل الصدوق اعتراض الشيعة الزيديّة على الاثني عشريّة وقولهم: إنّ الرواية التي دلّت على أنّ الائمّة اثنا عشر قول أحدثته الاماميّة قريباً
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 383 ـ 384، باب 73، ح 12.
(2) الكافي: باب الاشارة والنص على أبي جعفر الثاني (عليه السلام).
(3) يوسف: الاية 108.
(4) الكافي: ج 1، ص 447، ح 8.
هذا هو نص الكاتب الذي نقل من كمال الدين للشيخ الصدوق، وفي هذا النص عدّة اعتراضات للزيديّة:
الاوّل: الائمّة اثنا عشر قول أحدثته الاماميّة.
الثاني: تفرّق الشيعة بعد وفاة كلّ إمام.
الثالث: معنى البداء في إسماعيل ومحمّد.
الرابع: وفاة زرارة من دون معرفة الامام بعد الصادق.
ولكن للاسف لم ينقل الكاتب سوى ردّ واحد مزوّر للشيخ الصدوق على مسألة زرارة، ونحن سنذكر ردود الشيخ الصدوق على تلك الاشكالات، ونبيّن تزوير الكاتب وتحريفه.
ردّ الشيخ الصدوق على الاعتراض الاوّل:
نقل الشيخ الصدوق الروايات التي تؤكّد أنّ أصل نظريّة الاثني عشريّة هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونقل ذلك من كتب العامّة، وليس من كتب الشيعة فقط، فعن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، قال: بينا نحن عند عبدالله بن مسعود نعرض مصاحفنا عليه، إذ قال له شاب: هل عهد إليكم نبيّكم (صلى الله عليه وآله وسلم) كم يكون من بعده خليفة؟ قال: إنّك لحدث
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 112.
وذكر الشيخ الصدوق طرق هذا الحديث وألفاظه المختلفة من كتب السنّة، ثمّ قال: (وقد أخرجت طرق هذا الحديث أيضاً، وبعضهم روى "اثنا عشر أميراً"، وبعضهم روى "اثنا عشر خليفة"، فدلّ بذلك أنّ الاخبار التي في يد الاماميّة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمّة (عليهم السلام) بذكر الائمّة الاثني عشر أخبار صحيحة(1).
كلّ ذلك حذفه الكاتب، ونقل فقط اشكال الزيديّة، ليشوّش ذهن القارئ.
ردّ الشيخ الصدوق على الاعتراض الثاني:
وردّ الشيخ اعتراضهم حول تفرّق الشيعة بعد وفاة كلّ إمام، والمعترضين هم الزيديّة الذين يؤمنون بنص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي بالامامة، فردّعليهم ناقضاً: (إنّكم تقولون إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف عليّاً وجعله الامام بعده، ونصّ عليه، وأشار إليه، وبيّن أمره وشهّره، فما بال أكثر الامّة ذهبت عنه وتباعدت)(2).
وكلام الشيخ نقض على كلامهم ومبناهم، وإلاّ فيوجد جواب حلّي لهذه الشبهة، ولكن حتّى هذا النقض لم يذكره الكاتب ليجعل من الشيخ الصدوق مسلّماً لشبهاتهم.
ردّ الشيخ الصدوق على الاعتراض الثالث:
ملخّص الردّ: إنّكم قلتم إنّ الصادق نصّ على إسماعيل بالامامة، فأين هذا الخبر، ومن رواه، ومن تلقّاه بالقبول، وتحدّاهم الصدوق في أن يأتوا بحديث واحد على ذلك، وقال: إنّما هذه حكاية ولّدها قوم قالوا بإمامة اسماعيل، وليس لها أصل، لانّ الخبر بذكر الائمّة الاثني عشر (عليهم السلام) قد رواه الخاص والعام عن النبي والائمّة.
وقال الشيخ الصدوق: (فأمّا قول الصادق "ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل
____________
(1) كمال الدين: ص 74.
(2) كمال الدين: ص 74.
وقد ذكر الصدوق عقيدة الشيعة في البداء ليسدّ المنافذ على المتصيّدين بالماء العكر، فقال: وعندنا من زعم أنّ الله عزّ وجلّ يبدو له في اليوم شيء لم يعلمه أمس فهو كافر والبراءة منه واجبة(1).
وردّ الشيخ الصدوق من قال بإمامة إسماعيل بالنصوص الواردة على الائمّة الاثني عشر، وغير ذلك. كلّ ذلك حذفه الكاتب ليوهم القارئ عدم وجود ردّ من قبل الصدوق عليه.
ردّ الشيخ الصدوق على الاعتراض الرابع:
لقد حرّف الكاتب الشبهة وجوابها، وصاغ ذلك بكلمات منمقة كالشعارات البرّاقة البعيدة عن الحق والحقيقة، فلقد نسب للشيخ الصدوق أنّه لم ينكر عدم معرفة زرارة بحديث الائمّة الاثني عشر(2)، ولا يعرف الامام موسى الكاظم.
وبمراجعة بسيطة لكلام الصدوق نجده يقول: (إنّ هذا كلّه غرور من القول وزخرف)، رادّاً على الزيديّة الذين أشكلوا بعدم معرفة زرارة بإمامة الكاظم (عليه السلام)، ثمّ قال: فالصادق (عليه السلام) لا يجوز أن يقول لزرارة إنّه من أحب الناس إليه وهو لا يعرف إمامة موسى بن جعفر(3).
فحرّف الكاتب كلام الشيخ الصدوق، ونسب إليه أنّه لا ينكر عدم معرفة زرارة بالائمّة الاثني عشر.
وما اتبعه الكاتب ليس جديداً على التشيّع وعلمائه حتّى ينطلي ببساطة على القارئ المسلم، أضف إلى ذلك، أنّ الشيخ الصدوق قد ضعّف الخبر الذي يروي أنّ زرارة وضع المصحف على صدره، لانّ فيه أحمد بن هلال، وهو مجروح عند مشايخنا ـ
____________
(1) كمال الدين: ص 75.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 112.
(3) كمال الدين: ص 82.