الصفحة 119

إنكار علائم الظهور بدون بحث وتحقيق


أنكر الكاتب علائم الظهور التي تحدّث عنها الفكر الاسلامي عامّة (السنّي والشيعي)، والتي رويت بأسانيد صحاح لا يعتريها الشكّ مطلقاً، فقال في هذا المجال:

(إنّ جميع هذه الروايات الواردة في هذا الشأن هي مرسلة أو مرويّة عن مجاهيل وغلاة ووضّاعين)(1).

وهذا الشعار ـ كالشعارات السابقة ـ خلا من التحقيق لسند أو متن روايات علائم الظهور، فهو إنكار ساذج لاسانيد صحيحة روت لنا علائم الظهور، منها:

ما رواه الحاكم، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندما سأله رجل عن المهدي فقال: "هيهات"، ثمّ عقد بيده سبعاً فقال: "ذلك يخرج في آخر الزمان، ثمّ إذا قال الرجل الله الله قتل، فيجمع الله تعالى له قوماً كقزح السحاب، يؤلّف الله بين قلوبهم، لا يستوحشون إلى أحد، ولا يفرحون بأحد، يدخل فيهم على عدّة أصحاب بدر، لم يسبقهم الاوّلون، ولا يدركهم الاخرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر".

وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)(2).

وأخرج ابن ماجه حديثاً في علائم الظهور عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "يقتل عند كنزكم ثلاثة كلّهم ابن خليفة، لا يصير إلى واحد منهم، ثمّ تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم"، ثمّ ذكر شيئاً لا أحفظ ـ على حدّ تعبير الراوي ـ ثمّ قال: "فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج، فإنّه خليفة الله المهدي"(3).

قال الحاكم ـ متحدّثاً عن سند هذا الحديث ـ: (صحيح على شرط الشيخين)(4). وقال ابن كثير: (وهذا إسناد قوي صحيح)(5).

____________

(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 255.

(2) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 596 ـ 597، رقم 8659.

(3) سنن ابن ماجه: ج 2، ص 1367، رقم 4084.

(4) مستدرك الحاكم: ج 4، ص 510، رقم 8432.

(5) كتاب النهاية (الفتن والملاحم): ج 1، ص 301.


الصفحة 120
ثمّ تحدّث ابن كثير عن هذا الحديث فقال: (هذه الرايات ليست هي الرايات التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني فاستلب بها دولة بني اُميّة في 132 هـ بل رايات سود تأتي بصحبة المهدي)(1).

وغير ذلك من العلامات التي نُقلت بالاحاديث الصحاح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أمير المؤمنين، والعشرات من هذه الروايات نقلت عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد رماها الكاتب بسهام الضعف والوضع من دون مناقشة تذكر، أضف إلى ذلك أنّ الصحابة رووا بالاثار الصحيحة الكثير من العلامات، كما ذكر ابن حمّاد.

يقول عبدالرزّاق في مصنّفه، عن معمّر بن راشد الازدي أبي عروة البصري، عن ابن طاووس وهو عبدالله بن طاووس بن كيسان، عن علي بن عبدالله بن عبّاس، قال: (لا يخرج المهدي حتّى تطلع مع الشمس آية)(2).

فهذا الاثر الذي روي عن معمّر بن راشد الثقة الثبت الفاضل، الذي قال عنه ابن حجر في تهذيبه: (إنّ حديثه عن ابن طاووس مستقيم)(3)، وكذلك قال الذهبي(4)، وأمّا ابن طاووس فهو ثقة فاضل(5)، وأخيراً علي بن عبدالله بن عبّاس أبو محمّد فهو ثقة عابد(6).

فهذه الاحاديث، وعشرات مثلها، وبأسانيد صحيحة من ثقات تؤكّد وجود علامات للمهدي قبل ظهوره، استهزأ بها الكاتب من غير دراسة ولا بحث، ورماها بالوضع والاختلاق، وجرّه هذا القول إلى قول آخر، وهو أنّ أحاديث علامات الظهور لم تحدّد هويّة المهدي، بينما نجد علي بن المكّي الهلالي يقول في حديث إنّه دخل

____________

(1) كتاب النهاية (الفتن والملاحم): ج 1، ص 301.

(2) مصنّف عبدالرزّاق: ج 11، ص 373، رقم 2775.

(3) تهذيب التهذيب: ج 10، ص 220، رقم 441.

(4) ميزان الاعتدال: ج 4، ص 154، رقم 8682.

(5) تقريب التهذيب: ص 251، رقم 3397.

(6) تقريب التهذيب: ص 342، رقم 4761.


الصفحة 121
على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة (عليها السلام) عند رأسه في مرضه، فبكت، فأخبرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باختياره واختيار علي (عليه السلام) والاوصياء من بعده، وهم خير الاوصياء، وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعدّد علائم الظهور التي أنكرها الكاتب، ثمّ أخيراً ـ وكما يقول الحديث ـ أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة بأنّ المهدي من ولدها، ومن ولد الحسين بالذات. وأخرج هذا الحديث الذي أنكر الكاتب مضمونه الطبراني والهيثمي والجويني وغيرهم، والذي حدّد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هويّة المهدي من فاطمة (عليها السلام) من الحسين (عليه السلام)، وحدّد الاوصياء فيه.

وهذا غيضٌ من فيض من الاحاديث التي حدّدت معالم الظهور وعلاماته، ومن أراد الاطّلاع أكثر فليراجع معجم أحاديث الامام المهدي(1)، كلّ ذلك أنكره الكاتب بكلمة إنشائيّة خالية من المصادر.

الاشتباه في فهم ألفاظ الروايات


ونتيجة للفهم الخاطئ لالفاظ الروايات وقع الكاتب في اشتباهات فضيعة، أدّت به إلى إنكار نص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ومن مصاديق ذلك قوله: (إنّ الائمّة لم يكونوا يعرفون بخلفهم من قبل)(2).

والسرّ في فهمه الخاطئ هذا أنّه لم يستطع أن يميّز بين الروايات جيّداً، أي لم يستطع التمييز بين معرفة الامام بنفسه أنّه إمام، وبين بداية إمامته.

أمّا الامر الاوّل، وهو معرفة الامام بنفسه أنّه إمام، فهذا ممّا دلّت عليه كتب الحديث، وطالعتنا به الروايات التأريخيّة بالتصريح بأسمائهم من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما نقل ذلك القندوزي الحنفي في ينابيعه، والصدوق في إكمال الدين، والكليني في الكافي، مضافاً إليه حديث اللوح الذي نقله الصدوق والكليني.

أمّا الصدوق فقد قال: حدّثنا الحسين بن أحمد بن إدريس، قال: حدّثنا أبي عن

____________

(1) معجم أحاديث الامام المهدي 5 مجلّدات.

(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 73.


الصفحة 122
أحمد بن محمّد بن عيسى، وإبراهيم بن هاشم، جميعاً، عن الحسن بن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، عن جابر بن عبدالله الانصاري، قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الاوصياء، فعددت اثني عشر اسماً، آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمّد، وأربعة منهم علي صلوات الله عليهم(1).

وروى الصدوق هذا الحديث بطريق آخر، وهو: عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، عن أبيه، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن الحسن بن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبدالله الانصاري.... الحديث.

وقد يقال: إنّ السند غير حجّة من وجهين:

الاوّل: أنّ الحسين بن أحمد بن إدريس في السند الاوّل، وأحمد بن محمّد بن يحيى العطّار في السند الثاني لم يوثّقا.

قلت: هما من مشايخ الاجازة، ولم يذكر الصدوق أحدهما في جميع كتبه إلاّ مترضياً عليه، ومن البداهة أن لا يقال للفاسق: (رضي الله عنه)، بل يقال ذلك للرجل الجليل.

ولو تنزلنا بعدم دلالة هذا اللفظ على الوثاقة، فإنّه من البعيد كلّ البعد أن يتفق كلّ منهما على الكذب على أبيه، لانّهما رويا الحديث عن أبويهما.

وممّا يدل على صدقهما أنّ الكليني أخرج الحديث بسند صحيح، عن أبي الجارود، وابتدأ السند بوالد الشيخ الصدوق عن محمّد بن يحيى العطّار، عن محمّد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبدالله الانصاري(2)، والمشايخ الثلاثة الاُوَل في هذا السند من أجلاّء المحدّثين وثقاتهم المشهورين بالاتفاق.

الثاني: أنّ أبا الجارود قد طُعن عليه، فالسند ليس بحجّة.

والجواب: إنّ أبا الجارود تابعي، ومن أين للتابعي أن يعلم بأنّ في أسماء الاوصياء (عليهم السلام) ثلاثاً باسم محمّد وأربعة باسم علي؟! وهذا هو المنطبق مع الواقع، وقد مات أبو الجارود قبل إتمام هذا الواقع بعشرات السنين، على أنّ الشيخ المفيد قد وثّقه

____________

(1) كمال الدين: ص 293، باب 28، ح 3.

(2) الكافي: ج 1، ص 532، باب 126، ح 9.


الصفحة 123
في رسالته العددية.

هذا، والصدوق أخرج حديث اللوح في أوّل الباب بهذا السند، قال: حدّثني أبي ومحمّد بن الحسن (رضي الله عنهما) قالا: حدّثنا سعد بن عبدالله وعبدالله بن جعفر الحميري، عن أبي الحسن صالح بن حمّاد والحسن بن طريف، عن بكر بن صالح.

وحدّثنا أبي، ومحمّد بن موسى المتوكّل، ومحمّد بن علي بن ماجيلويه، وأحمد بن علي بن إبراهيم، والحسن بن إبراهيم بن تاتانه، وأحمد بن زياد الهمداني (رضي الله عنهم) قالوا: حدّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن بكر بن صالح، عن عبدالرحمن بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله... الحديث.

والسندان صحيحان، إلاّ بكر بن صالح الذي ضُعِّف، ولا يضر ضعفه هنا لانّه من غير المعقول أن يخبر الرجل الضعيف عن شيء قبل أوانه، ثمّ يتحقّق ذلك الشيء على طبق ما أخبر به، ثمّ لا يكون الخبر ـ بعد ذلك ـ صادقاً، فالرجل روى عن الامام موسى بن جعفر (عليه السلام)، فمِن أين له أن يعلم بأولاده وصولاً إلى المهدي (عليهم السلام)؟! وهو كما يبدو من طبقته لم يدرك الائمّة (الهادي والعسكري والمهدي (عليهم السلام))، ويدلّك على هذا أنّ من مشايخ الحسن بن طريف الراوي عن بكر بن صالح في السند الاوّل هو ابن أبي عمير (ت 217)، ومن في طبقته(1).

فحديث اللوح: ـ عهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الائمّة من ولده، كما قال الصادق (عليه السلام): "أترون الامر إلينا نضعه فيمن نشاء؟ كلاّ والله، إنّه عهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي بن أبي طالب، رجل فرجل إلى أن ينتهي إلى صاحب هذا الامر"(2) ـ يخبر بحقيقة علم الائمّة بأنفسهم بأنّهم أئمّة، وقد أنكر أحمد الكاتب ذلك(3).

وأمّا الامر الثاني ـ وهو معرفة الامام وقت بداية إمامته ـ فيقول الصادق (عليه السلام): "إنّ

____________

(1) المهدي في الفكر الاسلامي: ص 86 ـ 88.

(2) بصائر الدرجات: ص 471، باب 1، ح 2.

(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 73.


الصفحة 124
الامام التالي يعرف إمامته في آخر دقيقة من حياة الاوّل"(1)، أي يعرف بداية إمامته بقرينة آخر دقيقة من حياة الاوّل.

وعبّرت رواية صفوان بن يحيى عن هذا المعنى الذي خلط الكاتب فيه، قال: قلت لابي الحسن الرضا (عليه السلام) أخبرني عن الامام متى يعلم أنّه إمام، حين يبلغ أنّ صاحبه قد مضى، أو حين يمضي مثل أبي الحسن (عليه السلام) قبض ببغداد وأنت هيهنا؟ قال: "يعلم ذلك حين يمضي صاحبه"(2).

فالامام الرضا (عليه السلام) أكّد أنّ الامام اللاحق يعرف بداية إمامته حينما يمضي الامام السابق، لا حينما يبلّغ بأنّ الامام السابق قد مضى، فلعلّ هذا الابلاغ ليس له حقيقة وواقع، فلا يمكن أن يكون هناك إمامان في وقت واحد، فبداية إمامته تبدأ بعد وفاة السابق.

وهذا الخلط الذي وقع فيه الكاتب بين معرفة الامام نفسه بأنّه إمام، وبين بداية إمامته، أدّى به إلى القول: (لم تكن هناك قائمة مسبقة بأسماء الائمّة القادمين، وإنّما كانت هذه القضيّة متروكة للزمن.... ـ وقال: ـ إنّ الائمّة لم يكونوا يعرفون بخلفهم من قبل)(3).

وبعد ما تقدّم تبيّن أنّ هذا الكلام لا معنى له، ناشئ من عدم التحقيق والبحث والتمييز بين الروايات.

وعندما لم يجد الكاتب أدلّة على ما يقول، راح يبحث عن قضيّة سؤال الشيعة للائمّة عن هويّة الامام اللاحق، وفي بعض الاسئلة يرفض الائمّة تحديد الهويّة(4)، ولكنّه تجاهل السبب الذي حدا بالائمّة عدم تحديد هويّة الامام اللاحق لاُولئك الذين لم يؤنس منهم رشد(5)، واكتفى بالنتيجة، لانّ السبب يدينه، والسبب ـ كما هو واضح

____________

(1) بصائر الدرجات: ص 477 ـ 478.

(2) بصائر الدرجات: ص 466، ح 1.

(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 73.

(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 74.

(5) معجم رجال الحديث: ج 19، ص 299 ـ 300.


الصفحة 125
عملاً ـ ما قام به أبو جعفر المنصور ببثّ جواسيسه ينظرون إلى من تتفق شيعة جعفر عليه فيضربون عنقه(1).

فلهذا السبب رفض الائمّة تحديد هويّة الامام اللاحق لاُولئك الذين لم يؤنس منهم رشداً، فالمسألة ليست كما يتصوّر الكاتب بهذه السهولة أن يطرح الامام هويّة الامام اللاحق، لانّ ذلك معناه الذبح، كما يقول الكاظم (عليه السلام) (2).

مخالفة المفسّرين واتهامهم


خالف الكاتب المفسرين في تفسيرهم لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِى الاَْمْرِ مَنْكُمْ)(3)، ونفى الكاتب دلالة الاية على العصمة، وقال: (إنّ الاية قد تفهم على أساس النسبيّة، بل إنّ هذا ـ النسبيّة في الطاعة ـ ما يوحي به العرف والعقل والايات الاُخرى في القرآن الكريم)(4).

ومراد الكاتب من النسبيّة في الطاعة أنّ اُولي الامر ليسوا بمعصومين، ولكن فلنستمع إلى الرازي في تفسيره لهذه الاية، يقول الرازي: (إنّ الله تعالى أمر بطاعة اُولي الامر على سبيل الجزم في هذه الاية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدّ أن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الامر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وإنّه محال، فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة اُولي الامر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت أنّ اُولي

____________

(1) الكافي: ج 1، ص 412، ح 7.

(2) نفس المصدر السابق.

(3) النساء: الاية 59.

(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 79.


الصفحة 126
الامر المذكور في الاية لابدّ أن يكون معصوماً)(1).

بينما نجد الكاتب يقول: بأنّ من يفهم من الاية هذا المعنى مخالف للعرف والعقل والايات الاُخرى، لانّه جعل العرف والعقل والايات الاُخرى كلّها أدلّة على فهم النسبيّة في الطاعة التي تتحدّث عنها الاية، فاتهام الرازي بعدم معرفته بالعرف والعقل وآيات القرآن ومن قبل الكاتب من عجائب الدنيا.

ثمّ راح الكاتب يشوّش ذهن القارئ فقال: (فإنّ المسلمين الاوائل لم يكونوا يفهمون من معنى الاطلاق والطاعة لاُولي الامر حتّى في المعاصي والمنكرات، وقد رفضت جماعة من المسلمين كان الرسول الاكرم قد أرسلها في سريّة وأمّر عليها رجلاً طاعة ذلك الرجل عندما أمر الجماعة في وسط الطريق بدخول نار أشعلها وطالبهم بالامتثال لاوامره، وقالوا له: لقد فررنا من النار فكيف ندخل فيها)(2).

ومن الغريب جدّاً أن يجعل الكاتب مورد نزول الاية دعابة فعلها عبدالله بن حذافة، تقول الرواية: إنّ عبدالله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سريّة، قال أبو عمر: وكان في عبدالله بن حذافة دُعابة معروفة، ومن دُعابته أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمّره على سريّة فأمرهم أن يجمعوا حطباً ويوقدوا ناراً، فلمّا أوقدوها أمرهم بالتقحّم فيها، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بطاعتي؟ وقال: "من أطاع أميري فقد أطاعني"، فقالوا: ما آمنّا بالله واتبعنا رسوله إلاّ لننجو من النار، فصوّب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلهم، كما يقول القرطبي(3).

لقد أصبح القرآن عند الكاتب نازلاً لدعابات يلعب بها عبدالله بن حذافة، وليس لهداية البشريّة، فمورد نزول الاية عند الكاتب هو دعابة يلعب بها عبدالله بن حذافة، ورفض أن يكون مورد نزول الاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)، تقول الرواية: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية يوماً على رأسها علي، فصنع علي شيئاً أنكروه، فتعاهد أربعة

____________

(1) التفسير الكبير: ج 10، ص 116.

(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 79 ـ 80.

(3) الجامع لاحكام القرآن: ج 5، ص 260.


الصفحة 127
من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعلموه، وكانوا إذا قدموا من السفر بدأوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالوا له ذلك، فنهرهم وقال غاضباً: "ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، علي منّي وأنا من علي، وعلي ولي كلّ مؤمن بعدي"(1).

أضف إلى ذلك قول الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِى الاَْمْرِ مَنْكُمْ)(2) قال: "هي في علي وفي الائمّة، جعلهم الله مواضع الانبياء"(3).

ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنّ هذه الاية نزلت فيمن قرنهم الله بنفسه ونبيّه، وهم اُولئك الذين قال عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا بعدي إن تمسّكتم بهما، كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي"(4). كلّ ذلك نبذه الكاتب وراء ظهره ليشتري به ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون.

ادعاءات إعلاميّة فارغة


امتلا كتاب أحمد الكاتب بالادعاءات الاعلاميّة الفارغة التي في كثير منها لا يسوق لها أي شاهد، وفي بعضها الاخر يحرّف المراد الواقعي لها من قبل فقهاء الاماميّة ومتكلّميهم، وأنكر في بعض آخر حقائق اتفق عليها الفكر الاسلامي، أعم من كونه سنّياً أو شيعياً، فلقد أنكر العدد المحدّد للائمّة أو الخلفاء من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (5). في الوقت الذي نجد فيه أنّ العدد الاثني عشر (خليفة، امام، أمير) ورد في روايات كتب الفريقين، كما سيتضح فيما بعد.

ثمّ شنَّع على الشيعة فهمه الخاطئ لالفاظ أحاديث تقول: إنّ الامامة مستمرّة في

____________

(1) مصنّف بن أبي سنيّة: ج 7، ص 504، ح 58; مسند أحمد: ج 4، ح 19426; سنن الترمذي ج 5، رقم 3712; الاحسان بترتيب صحيح ابن حيّان: ج 6، ص 269، رقم 6938.

(2) النساء: الاية 59.

(3) الميزان: ج 4، ص 421.

(4) الميزان: ج 4، ص 421.

(5) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 109.


الصفحة 128
الخلق، وقال: (إنّ الامامة لا تنقطع ولا تنحصر في عدد معين)(1)، ولكنّه لا يستطيع أن يطلي أكاذيبه على القارئ، لتسالم الفكر الشيعي والسنّي على وجود اثني عشر خليفة حتّى تقوم الساعة، يقول مسلم في صحيحه:

"لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة، ويكون عليكم اثني عشر خليفة كلّهم من قريش"(2).

فالحديث واضح المعنى، إنّ الرقم المحدّد اثني عشر، هو خلفاء الله على البشريّة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى تقوم الساعة، ولكن عندما أنكر الكاتب ذلك العدد زوّر كلمة (حتّى تقوم الساعة) وما يشابهها في كتب الشيعة، ليجعل الامامة إلى يوم القيامة وأنّها مستمرّة بدون عدد محدّد.

وبعد هذا وذاك، كذب على الشيعة من جديد عندما قال: (إنّ النظريّة الاماميّة تقول: إنّ النص قد حدث على علي فقط، وإنّ النص على الائمّة الاخرين يتم من قبل الاوّل للثاني، وهكذا)(3).

وهذا كذب محض، وافتراء واضح، لانّ الشيعة تسالموا في نقل النصوص على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأعدّ بعض الفقهاء أبواباً خاصّة باسم (النصوص العامّة على إمامة الائمّة الاثني عشر (عليهم السلام) وخلافتهم على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... إلخ)، كما نقل ذلك الحر العاملي وغيره(4)، ومسألة النص على الائمّة من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في حديث اللوح الذي نقله جابر وغيره من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كسلمان، مسألة مفروغ عنها في الفكر الشيعي، وكذلك بعض كتب المنصفين من السنّة، أمثال القندوزي الحنفي الذي جعل باباً بعنوان: (بيان الائمّة الاثني

____________

(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 109.

(2) صحيح مسلم: ح 1822.

(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 110.

(4) إثبات الهداة: ج 2، ص 244 ـ 566.


الصفحة 129
عشر بأسمائهم)(1)، ونقل حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون".

يقول الحرّ العاملي: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "أوحى الله إليَّ يا محمّد، إنّي اطّلعت إلى الارض إطّلاعة فاخترتك منها فجعلتك نبيّاً، ثمّ اطّلعت ثانياً فاخترت منها عليّاً فجعلته وصيّك ووارث علمك والامام بعدك، وأخرج من أصلابكما الذريّة الطاهرة والائمّة المعصومين، خزّان علمي، فلولاكم لما خلقت الدنيا ولا الاخرة ولا الجنّة ولا النار، يا محمّد أتحبّ أن تراهم؟ فقلت: نعم، فنوديت، يا محمّد، ارفع رأسك، فرفعت رأسي، فإذا أنوار علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمّد بن علي، وعلي بن محمّد، والحسن بن علي، والحجّة يتلالا من بينهم كأنّه كوكب درىّ، يا محمّد هم الائمّة بعدك المطهّرون من صلبك..."(2).

هذا ما ذكره الحرّ العاملي في إثبات الهداة، والغرض من نقلنا لهذا الكلام هو أن نبيّن أنّ الكاتب نسب إلى الحرّ العاملي أنّه قال بأنّ النص حدث على الامام علي فقط، وأنّ النص على الائمّة الاخرين يتم من قبل الاوّل للثاني(3)، بينما نرى أنّ الحر العاملي نقل الحديث أعلاه، وعشرات مثله تؤكّد النص على الائمّة من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثمّ أطلق الكاتب شعارات فارغة، لم تعترف بها الشيعة في أي زمان، فقال: (وكانت النظريّة تعترف بعدم وجود النص الصريح من بعض الائمّة على بعض)(4).

فلو تفضّل علينا الكاتب، وذكر لنا مورداً واحداً تقول الشيعة فيه أنّ النص على هذا الامام لم يقم عليه دليل؟ بل على العكس تماماً، فقد ذكروا أحاديث للنص عليهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثمّ من آبائهم واحداً بعد واحد، وأنّه أمر إلـهي لا يضعه الامام

____________

(1) ينابيع المودّة: ج 3، ص 281، باب 76.

(2) إثبات الهداة: ج 2، ص 520; عيون أخبار الرضا: باب النصوص على الرضا (عليه السلام).

(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 110.

(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 110.


الصفحة 130
حيث يشاء، كما يقول الصادق (عليه السلام).

وأوّل تأويلاً قسريّاً بعض الاحاديث التي تقول بأنّ الامام اللاحق تبدأ إمامته في اللحظة الاخيرة من حياة الامام الاوّل، فأوّله الكاتب بأنّ الامام السابق يجهل الامام اللاحق، وحاول جاهداً بتأويل قسري أن يحمّل الاحاديث ذلك المعنى(1).

الاهمال المتعمّد لكثير من الروايات


أهمل الكاتب تراثاً كاملاً من الروايات الصحيحة التي حفلت بها كتب الشيعة، منها ما تعلّق بالامامة الالهيّة، ومنها ما تعلّق بولادة المهدي (عج)، فلقد روى الشيخ الطوسي وحده (31 رواية) حول ولادة الامام الثاني عشر، أضف إلى ذلك روايات الكليني والمفيد والصدوق وغيرهم، كلّ ذلك أهمله الكاتب، واكتفى بمناقشة روايتين منه فقط، وأهمل أيضاً خبر محاولة اعتقال الامام المهدي الذي رواه الصدوق، والذي حدّث به أحمد بن عبيدالله بن خاقان، فقال:

لقد ورد ـ جعفر ـ إلى السلطان يخبره باعتلال الامام العسكري واستعدّوا لذلك، وبعد وفاة الامام أعدّوا العدّة للمداهمة والتفتيش للقبض على من يهد عروش الطواغيت، ولكن خيّب الله مسعاهم(2).

كلّ ذلك أهمله الكاتب، ونسب محاولة القبض على الامام إلى مرويّات الطوسي والمجلسي والصدر، واتهم أخبارهم بالارسال(3)، ولم يذكر بقيّة علماء الشيعة أمثال الصدوق وغيره، والذين دوّنوا حادثة محاولة اعتقال الامام.

وعندما أحسّ الكاتب بأنّ الروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً وكلامه السابق لا يفي بالغرض، جعل من العبّاسيين الساعد الايمن للعلويين، وأوجد الموادعة والمؤانسة بينهم، فقال: (كان المعتضد العبّاسي يميل إلى التشيّع... مما يبعد صحّة الرواية المرسلة التي

____________

(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 110.

(2) كمال الدين: ص 49 ـ 52.

(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 225.


الصفحة 131
تتحدّث عن محاولة اعتقال الامام المهدي)(1).

ولقد فسّر أحمد الكاتب إرسال السلطان إلى داره ـ الحسن العسكري ـ من يفتّشها ويفتّش حجرها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاؤوا بنساء يعرفن الحبل، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنّ، فذكر بعضهن أنّ جارية هناك بها حمل، فأمر بها فجُعلت في حجرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم(2)، فسّره بالميل إلى التشيّع.

ولم يذكر الكاتب أنّ جعفر أخبر المعتمد ـ الذي يميل إلى التشيع على حد زعمه ـ بالامام المنتظر، فثارت ثائرته ـ كما يقول الصدوق ـ فوجّه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية، فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي، فسُلّمت إلى أبي الشوارب القاضي(3).

ولم يذكر الكاتب قول أحمد بن عبدالله حيث قال: فلمّا دفن ـ الحسن والد المنتظر ـ وتفرّق الناس، اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده، وكثر التفتيش في المنازل والدور(4).

كلّ هذا أهمله الكاتب ليجعل المؤانسة والموادعة والمحبّة بين العبّاسيين والعلويين دليله لعدم الضغط العبّاسي على البيت العلوي.

أحمد الكاتب يريح نفسه عناء البحث


أراح الكاتب نفسه عناء البحث عن فصل مهم، نقله الثقات إلينا من فصول دراسة الامام الثاني عشر، وهو الاعترافات الصريحة والصحيحة من قبل العشرات، بل المئات الذين شاهدوا الامام المنتظر في حياة أبيه العسكري وبعدها، ونحن هنا نكتفي

____________

(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 225.

(2) كمال الدين: ص 51 ـ 52.

(3) كمال الدين: ص 472.

(4) كمال الدين: ص 52.


الصفحة 132
بنقل بعض الاسماء والثقات الذين شاهدوا الامام، والذين ضرب الكاتب عنهم صفحاً، فلم يُشر لهم بكلمة واحدة، منهم: إبراهيم ابن إدريس أبو أحمد(1)، وإبراهيم ابن عبده النيسابوري(2)، وإبراهيم بن محمّد بن أحمد الانصاري(3)، وإبراهيم بن مهزيار أبو إسحاق الاهوازي(4)، وأحمد بن إسحاق بن سعد الاشعري(5)، وأحمد بن إسحاق الوكيل(6)، وأحمد بن الحسين بن عبدالملك الازدي(7)، وأحمد بن عبدالله الهاشمي(8)، وأحمد بن محمّد بن مطهّر(9)، وأحمد بن هلال والحسن بن أيّوب(10)، وأبو الاديان(11)، وإسماعيل بن الحسن الهرقلي(12)، وإسماعيل بن علي النوبختي(13)، وجعفر بن علي(14)، وجعفر الكذّاب(15)، وجعفر بن محمّد بن عمرو(16)، والحسن

____________

(1) الكافي: ج 1، ص 392، ح 8; الارشاد: ج 2، ص 353.

(2) الكافي: ج 1، ص 392، ح 6; الارشاد: ج 2، ص 352.

(3) الطبري، دلائل الامامة: ص 298.

(4) كمال الدين: ص 408، باب 44، ح 19; ينابيع المودّة: ج 3، ص 335، باب 83، ح 12.

(5) ينابيع المودّة: ص 331، باب 83، ح 7.

(6) كمال الدين: ص 418، ح 21; الاحتجاج للطبرسي: ج 2، ص 524 ـ 525.

(7) الغيبة للطوسي: ص 152.

(8) الغيبة للطوسي: ص 155.

(9) الكافي: ج 1، ص 392، ح 5; الارشاد: ج 2، ص 352.

(10) الغيبة للطوسي: ص 217.

(11) كمال الدين: ص 432، باب 44، ح 25.

(12) النجم الثاقب: ج 2، ص 343، الباب السابع.

(13) الغيبة للطوسي: ص 164.

(14) الكافي: ج 1، ص 392، ح 9.

(15) كمال الدين: ص 405، ح 15.

(16) الغيبة للطوسي: ص 208.