(قد دللنا على ثبوت النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) بأخبار مجمع على صحّتها، متّفق عليها وإن كان الاختلاف واقعاً في تأويلها، وبيّنا أنّها تفيد النص عليه بغير احتمال ولا إشكال، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى" و"من كنت مولاه فعلي مولاه"، إلى غير ذلك ممّا دللنا على أنّ القرآن يشهد به، كقوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(1)، فلابد أن نطرح كلّ خبر ناف ما دلّت عليه هذه الادلّة القاطعة إن كان غير محتمل للتأويل فحمله بالتأويل على ما يوافقها ويطابقها إذا ساغ ذلك فيه)(2).
وأكثر من ذلك ذهب السيّد المرتضى إلى أنّ النص على أمير المؤمنين ثابت بطريقين:
الاوّل: الفعل، ويدخل فيه القول.
الثاني: القول دون الفعل.
وذكر أمثلة لذلك، ولو كان الكاتب موضوعياً في طرحه، لا يريد أن يستغفل القارئ، لا أقل يذكر عبارة السيّد المرتضى التي يقول فيها: (الذي نذهب إليه أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالامامة بعده، ودلّ على وجوب فرض طاعته ولزومها لكلّ مكلّف، وينقسم النص عندنا في الاصل إلى قسمين:
أحدهما: يرجع إلى الفعل، ويدخل فيه القول.
الاخر: إلى القول دون الفعل.
فأمّا النص بالفعل والقول فهو ما دلّت عليه أفعاله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقواله المبيّنة لامير المؤمنين (عليه السلام) من جميع الامّة، الدالّة على استحقاقه من التعظيم والاجلال،
____________
(1) المائدة: 55.
(2) المرتضى، الشافي: ج 3، ص 99.
وأمّا النص بالقول دون الفعل، فينقسم إلى قسمين:
أحدهما: ما علم سامعوه من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مراده منه باضطرار وإن كان الان نعلم ثبوته والمراد منه استدلالاً، وهو النص الذي في ظاهره ولفظه الصريح بالامامة والخلافة، ويسمّيه أصحابنا النص الجليّ، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "سلّموا على علي بإمرة المؤمنين"، و"هذا خليفتي فيكم من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا".
والقسم الاخر: لا نقطع على أنّ سامعيه من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) علموا النص بالامامة منه اضطراراً، ولا يمتنع عندنا أن يكونوا علموه استدلالاً من حيث اعتبار دلالة اللفظة وما يحسن أن يكون المراد، أو لا يحسن، وأمّا نحن فلا نعلم ثبوته والمراد به إلاّ استدلالاً، كقوله: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي" و"من كنت مولاه فعلي مولاه"، وهذا الضرب من النص هو الذي يسميه أصحابنا بالنص الخفي(2).
فحرّف الكاتب معنى الخفي عند السيد المرتضى وكذب عليه بأنّ حديث الغدير غير واضح الدلالة، على الرغم من عدم قطع السيّد المرتضى في هذا القسم الاخير،
____________
(1) المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 142 ـ 143، ح 4651; تاريخ بغداد: ج 3، ص 390.
(2) الشافي: ج 2، ص 65 ـ 68.
فكيف تنسب جهالات الكاتب للسيّد المرتضى وهو يصرّح بقوله: (قد دللنا على ثبوت النص على أمير المؤمنين بأخبار مجمع على صحّتها، متفق عليها، وإن كان الاختلاف واقعاً في تأويلها، وبيّنا أنّها تفيد النص عليه بغير احتمال ولا إشكال، كقوله: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى" و"من كنت مولاه فعلي مولاه")(1).
إذ دلالة حديث الغدير عند السيّد المرتضى لم تكن خفيّة، بل واضحة ناصعة بالبرهان والاستدلال، ومن خلال ذلك بان مراد السيّد المرتضى الذي حرّف معناه الكاتب بقوله: (إنّا لا ندّعي علم الضرورة في النص لا لانفسنا ولا على مخالفينا، وما نعرف أحداً من أصحابنا صرّح بادعاء ذلك).
فالسيّد المرتضى جعل لاُولئك الذين سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طريقين للنص على أمير المؤمنين (عليه السلام): طريق الفعل ويدخل فيه القول، وطريق القول دون الفعل، فلا عذر لهم أبداً في ترك أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد ذكّرهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: "الله الله، لا تنسوا عهد نبيّكم إليكم في أمري"(2). وكذّب الكاتب على السيّد المرتضى مرّة اُخرى عندما قال: (ويعتبر كتاب السيّد المرتضى "الذريعة إلى اُصول الشريعة" أوّل كتاب اُصولي شيعي يعتبر مبدأ القياس والاجتهاد)(3).
ويكفي في تكذيب كلامه هذا، كلام السيّد المرتضى في الذريعة نفسها، حيث نفى القياس بعنوان (فصل: في نفي ورود العبادة بالقياس)، قال: (ويمكننا أن نستدلّ على نفي العبادة بالقياس أيضاً بإجماع الاماميّة على نفيه وإبطاله في الشريعة، وقد بيّنا أنّ في
____________
(1) الشافي: ج 3، ص 99.
(2) الاحتجاج: ج 1، ص 183.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 327.
وقال أيضاً: (فأمّا نسخ القياس والنسخُ به فمبني على أنّ القياس دليل في الشريعة على الاحكام وسندل على بطلان ذلك...)(2).
فإلى أي حد يصل أحمد الكاتب في تضليل وتشويش الرأي العام حول فقهاء الاماميّة وعلمائها، فكم هو الفرق بين اعتبار الذريعة مبنيّة على القياس، وبين كلام صاحب الذريعة الذي ينقل إجماع الاماميّة على نفي القياس.
أضف إلى ذلك، إنّ السيّد حمل حملة شديدة على القياس والاجتهاد المرادف له، فقال: (إنّ الاجتهاد والقياس لا يثمران فائدة ولا ينتجان علماً، فضلاً عن أن تكون الشريعة محفوظة بهما)(3).
____________
(1) الذريعة في اُصول الشريعة: القسم الثاني، ص 697.
(2) الذريعة في اُصول الشريعة: القسم الاوّل، ص 459.
(3) الشافي: ج 1، ص 276.
الفصل الثالث
الخلط المفضوح
عدم التمييز بين الحسن المثنّى والحسن المثلّث
ونتيجة لعدم إعطاء البحث حقّه، والتسرّع في الاحكام لمجرّد وجود ما يلائم الفكر الذي يراد دعمه، لم يميّز الكاتب بين الحسن المثنّى والحسن المثلّث، فقد قال:
(وقد قيل للحسن بن الحسن بن علي الذي كان كبير الطالبيين في عهده، وكان وصي أبيه وولي صدقة جدّه: ألم يقل رسول الله: "من كنت مولاه فعلي مولاه"؟ فقال: بلى، ولكن والله لم يعنِ رسول الله بذلك الامامة والسلطان، ولو أراد ذلك لافصح لهم به)(1).
وعلينا أن نعرف مَنْ هذا الحسن بن الحسن بن علي، وهنا نطرح هذه الاسئلة:
1 ـ هل ورد في الرواية الاسم بالكامل، أي (الحسن بن الحسن بن علي) أم ورد في الرواية فقط (الحسن بن الحسن) وأضاف الكاتب كلمة (علي)؟
2 ـ هل هذا هو الحسن المثنّى الذي كان يلي صدقات جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما يقول أحمد الكاتب، كما في النص أعلاه، أم هو الحسن المثلّث الذي يقول عنه الامام الصادق (عليه السلام): "لو توفّي الحسن بن الحسن ـ أي المثلّث كما يقول السيّد الخوئي ـ على الزنا والربا وشرب الخمر كان خيراً له ممّا توفّي عليه"(2).
أمّا بالنسبة للسؤال الاوّل، فلم يرد في الرواية أنّه (الحسن بن الحسن بن علي)، بل أضاف أحمد الكاتب كلمة (علي) ليوهم القارئ بأنّ المقصود من هذا هو الحسن المثنّى، وليس المثلّث، وإليك نص السند الذي روى منه أحمد الكاتب في تهذيب ابن
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 31.
(2) معجم رجال الحديث: ج 4، ص 300 ـ 301، رقم 2760.
فهذا هو سند الرواية، فلم يُذكر فيه أنّ الحسن هذا هو الحسن بن الحسن بن علي، بل ذكر فقط الحسن بن الحسن، فلماذا أضاف أحمد الكاتب (علي)؟ لا نعرف له وجهاً إلاّ أنّه أراد أن يوهم القارئ، ويشوّش ذهنه بأنّ الحسن هذا هو الحسن المثنّى، إذن سند الرواية خال من كلمة الامام علي (عليه السلام).
وأمّا بالنسبة للسؤال االثاني: إنّ الحسن هذا هل هو المثنّى ـ أي الحسن بن الحسن ابن علي ـ، أم هو الحسن المثلّث الذي هو الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي؟
الجواب على هذا السؤال يتوقّف على معرفة الشخص الذي روى الخبر عن الحسن بن الحسن; لانّ سند الرواية لم يحدّد من هو هذا الحسن، وبمراجعة بسيطة لكتب الرجال السنيّة نجد أنّ فضيل بن مرزوق الذي روى هذا الخبر لم يروِ عن الحسن المثنّى مطلقاً، بل روى عن الحسن المثلّث، ومن أراد ذلك فليرجع إلى تهذيب الكمال للمزّي ليطّلع على الحقيقة(2).
إذن، بقرينة الراوي عن الحسن نعرف أنّ الحسن هذا هو الحسن المثلّث وليس الحسن المثنّى.
ما الفرق بين الحسن المثنّى أم الحسن المثلّث؟
الجواب: إنّ أحمد الكاتب نسب الكلام المتقدّم إلى الحسن المثنّى، الذي كان يلي صدقات جدّه، والذي يقول عنه الشيخ المفيد: (إنّه كان جليلاً رئيساً فاضلاً ورعاً، كان يلي صدقات أمير المؤمنين (عليه السلام) في وقته.... ـ إلى أن قال ـ: ومضى الحسن بن الحسن ـ المثنّى ـ ولم يدّعِ الامامة ولا ادعاها له مدّع)(3).
ولم يجعل أحمد الكاتب قائل هذا الكلام الحسن المثلّث، الذي كانت له مواقف
____________
(1) تهذيب تاريخ دمشق: ج 4، ص 169، طبعة احياء التراث العربي.
(2) تهذيب الكمال: ج 23، ص 306، رقم 4769، ترجمة فضيل بن مرزوق.
(3) مجمع رجال الحديث: ج 4، ص 301 ـ 302، رقم 2761.
فرجل مذموم بهذا الشكل من قبل الامام الصادق (عليه السلام) لحري به أن ينكر الامامة لحسده، ولهذا يتأسّف الامام الصادق (عليه السلام) على ما مات عليه من إنكار الامر، أي الامامة.
عدم التمييز بين موقع العقل والنقل في الاستدلال
يقول: (ونظراً لضعف النصوص التي يرويها الاماميّة حول النص بالخلافة على أهل البيت، فقد اعتمد المتكلّمون الاوائل بالدرجة الاُولى على العقل في تسنيد نظريّتهم)(2).
وهذه النتيجة التي ارتجل بها الكاتب لم تسبقها دراسة لاسانيد ونصوص الروايات التي تقول بالنص والخلافة لاهل البيت، أضف إلى ذلك أنّه خلط بين موقع العقل وموقع النقل، فهو لم يميّز كما ميّز المتكلّمون الشيعة بين الموقعين في الاستدلال.
وحل هذا الخلط هو أنّ دور العقل هو إثبات أصل ووجوب الحاجة إلى الامام، أمّا موقع النص فهو إثبات هذا الامام، وهذا الامام، أي مصاديق الامامة، يقول الشيخ الجراجكي: (اعلم ـ أيّدك الله ـ إنّ الله جلّ اسمه قد يسّر لعلماء الشيعة من وجوه الادلّة العقليّة والسمعيّة على صحّة إمامة أهل البيت ما يثبت الحجّة على مخالفيهم.
فالعقليّات دالّة على الاصل من وجوب الحاجة إلى الامام في كلّ عصر وكونه على صفات معلومة كالعصمة مثلاً، ليتميّز بها عن جميع الاُمّة، ليست موجودة في غير من أشار إليه. والسمعيّات، منها القرآن الدالّ في الجملة على إمامتهم وفضلهم على الانام)(3).
____________
(1) معجم رجال الحديث: ج 4، ص 299 ـ 301، رقم 2760.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 67 ـ 68.
(3) الاستنصار: ص 3.
وغير ذلك من كلمات متكلّمي الاماميّة الذين أعطوا للعقل دوراً في مسألة وجوب الحاجة إلى الامام وإن كانت هناك نصوص تدلّ على ذلك أيضاً.
وكذلك قال المرتضى حول وجوب النص على الامام: (اعلم أنّ كلامنا في وجوب النص، وأنّه لابدّ منه، ولا يقوم غيره في الامامة مقامه تقدم).
وقال: (العصمة والفضل في الثواب والعلم على جميع الاُمّة; لانّه لا شبهة في أنّ هذه الصفات لا تستدرك بالاختيار ولا يوقف عليها إلاّ بالنص).
فخلط أحمد الكاتب بين موقع العقل وموقع النقل، وحمّل الشيعة أخطاءه الناجمة عن سوء فهمه.
معاني الاجتهاد وخلط الكاتب فيها
خلط الكاتب بين معاني الاجتهاد، حيث يوجد معنيان، أحدهما حرّمه الائمّة واستمرّ تحريمه عند فقهائهم، وهو المعنى الخاص، ومعنى جائز يستعمل بين علماء الاماميّة، وأدّى خلط الكاتب في المعنيين إلى إثارة الشهبات على الشيعة من قبله، وربط ذلك بمسألة الامام المهدي (عج)، وسنقف على مداخل البحث حول الاجتهاد ومعانيه، ونميّز المحرّم من المحلّل حتّى يتضح للكاتب ولغيره معنى الاجتهاد الذي تقول به الشيعة.
الاجتهاد في اللغة هو بذل الوسع في طلب الامر(2).
وأمّا في الاصطلاح عند الفقهاء والاصوليين فله معنيان:
1 ـ معنى خاص. 2 ـ معنى عام.
المعنى الخاص: هو المعنى المرادف للقياس عند البعض، وللقياس والاستحسان
____________
(1) الثقلان، عدّة رسائل: ص 180.
(2) لسان العرب: ج 2، ص 397، مادّة جهد.
يقول الشافعي: (فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ قلت: هما اسمان بمعنى واحد)(1).
أمّا مصطفى عبدالرزّاق، فقد عدّ القياس والاستنباط والاستحسان معاني مرادفة للاجتهاد، فقال: (فالرأي الذي نتحدّث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط الاحكام الشرعيّة، وهو مرادنا بالاجتهاد والقياس، وهو أيضاً مرادف للاستحسان والاستنباط)(2).
وظلّ هذا المعنى مرافقاً لكلمة الاجتهاد عند السنّة، الامر الذي دعا أئمّة أهل البيت وفقهاء الشيعة إلى رفض هذا المعنى، وكان في طليعة الرافضين جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، فقال لابي حنيفة القائل بهذه المباني المرادفة للاجتهاد: "أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا"؟ وعندما قاس الامر أبو حنيفة في عقله وجد قتل النفس أعظم، فقال: قتل النفس.
فسأله الامام: "فإنّ الله قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة"!
ثمّ سأله أيّهما أعظم الصلاة أم الصوم؟
فقاس أبو حنيفة فوجد الصلاة يوميّة والصوم شهر واحد في السنة، فقال: الصلاة.
فردّ عليه الامام (عليه السلام): "فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة"؟
ثمّ قال له الامام: "اتقِ الله ولا تقس الدين برأيك"(3).
وتابع فقهاء الاماميّة أئمتهم في هذا الرفض، فألّفوا الكتب في ذلك، فصنّف عبدالله ابن عبدالرحمن الزبيري كتاباً أسماه "الاستفادة في الطعون على الاوائل والرد على أصحاب الاجتهاد والقياس"(4).
____________
(1) الرسالة للشافعي: ص 477.
(2) تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلاميّة: 138 كما في مقدمة النص والاجتهاد.
(3) حلية الاولياء: ج 3، ص 196 ـ 197.
(4) رجال النجاشي: ترجمة عبدالله بن عبدالرحمن الزبيري، ص 220، رقم 575.
وصنّف الشيخ المفيد كتاباً ردّ فيه على ابن الجنيد أسماه "النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي"(2).
وتركت تصانيف ابن الجنيد; لما نسب إليه من العمل بالاجتهاد بهذه المعاني المرفوضة عند الشيعة، كما قال الشيخ الطوسي في الفهرست(3).
فهذا المعنى مرفوض عند الشيعة وأئمتهم من ذلك الزمان إلى يومنا هذا.
أمّا المعنى العام للاجتهاد، فلقد تحدّث عنه الغزالي (المتوفى سنة 505 هـ)، فقال: (الاجتهاد عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الافعال...، ولكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة)(4).
وقال الامدي: (استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الاحكام الشرعيّة على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه)(5).
وقال محمّد الخضري بيك: (بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي ممّا اعتبره الشارع دليلاً)(6).
وقال المحقّق الحلي (المتوفى سنة 676 هـ): (الاجتهاد في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الاحكام الشرعيّة، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الاحكام الشرعيّة، من أدلّة الشرع اجتهاداً لانّه يبتني على اعتبارات نظريّة ليست مستفادة من ظواهر
____________
(1) رجال النجاشي: ترجمة علي بن أحمد الكوفي، ص 265 ـ 266، رقم 691.
(2) رجال النجاشي: ترجمة الشيخ المفيد، ص 399، رقم 1067.
(3) فهرست الطوسي: ص 209، رقم 601.
(4) المستصفى: ج 2، ص 350.
(5) الاحكام في اُصول الاحكام: ج 4، ص 396.
(6) تاريخ التشريع الاسلامي: ص 87.
وفَصَل المحقّق الحلّي الاجتهاد عن القياس فقال: (على هذا يلزم أن يكون الاماميّة من أهل الاجتهاد؟ قلنا: الامر كذلك، لكن فيه إيهام من حيث أنّ القياس من جملة الاجتهاد، فإذا استثني القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الاحكام بالطرق النظريّة التي ليس أحدها القياس)(1).
وقال السيّد الخوئي في تعريفه للاجتهاد: (بذل الوسع لتحصيل الحجّة على الواقع أو على الوظيفة العمليّة الظاهرية).
فقالت الشيعة بهذا المعنى من الاجتهاد، ورفضوا المعنى الاوّل، فخلط الكاتب بين المعنيين، ولم يستطع التمييز بينهما، فحمّل الشيعة ما لم يقولوه، حمّلهم تبعات استنتاجه الخاطئ وعدم تمييزه بين المعنى الخاص للاجتهاد ومعناه العام.
وبقي هنا سؤال: لماذا لجأ السنّة إلى الاجتهاد بهذه المعاني: القياس، الاستحسان، المصالح المرسلة؟
السرّ في ذلك هو نقص النصوص اللفظيّة لتغطية وقائع الحياة، لانّهم وقفوا بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عدم استمرار الامامة، ولهذا يقول ميمون بن مهران:
(وكان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك الامر سنّة قضى بها، فإن أعياه خرج، فسأل المسلمين، فقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع اليهم النفر كلّهم يذكر فيه قضايا، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبيّنا، فإن أعياه أن يجد فيه سنّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به)(2).
وقال عمر بن الخطّاب لاحد عمّاله: (فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه
____________
(1) معارج الاصول: ص 117.
(2) دائرة المعارف، الانصاف في بيان سبب الاختلاف: ج 3، ص 212.
وكلام أبي بكر أكثر احتياطاً من كلام عمر، لانّه لم يجعل الامر لرأي واحد، بل جعله لاراء متعدّدة لعلها تنمّ عن تصرّف معيّن زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعن ابن مسعود قال: (من عرض له منكم قضاء فليقضي بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فليقضي بما قضى فيه نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقضِ فيه نبيّه، ولم يقضِ به الصالحون فليجتهد برأيه)(2).
أضف إلى ذلك الاجتهادات المقابلة للنصوص الذي تبرّع بالقيام بها مجموعة من الصحابة، أعطت الضوء الاخضر لمن يأتي بعدهم أن يجتهد بقياسه واستحسانه ومصالحه في الدين.
أمّا الاماميّة الاثني عشريّة فقد آمنوا باستمرار الرسالة وحملها من قِبل خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي خصّهم بما تحتاج إليه الامّة، فقاموا بتغطية المستجدّات الزمانيّة والمكانيّة بالنصوص المودعة عندهم من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولقد تخرّج في زمن الصادق (عليه السلام) وحده أربعة آلاف من طلبة العلم، منهم أصحاب المذاهب الاربعة، واعترف اُولئك بفضل حضور حلقة درس الصادق (عليه السلام) كما روي عن أبي حنيفة قوله: (لولا السنتان لهلك النعمان)(3)، تلك السنتان التي قضاها تحت منبر الصادق (عليه السلام)، فهذه الجامعة النصوصيّة المستمدة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أغنت الاماميّة عن دخول صراع مع المستجدّات، ووضعت في تلك الفترة التي عاش الائمّة فيها القواعدَ الاصوليّة والفقهيّة التي مهدت للغيبة، يقول محمّد علي الانصاري متحدّثاً عن تلك الفترة:
(وضعت نواة القواعد العامّة للفقه الجعفري، ونقلت إلينا بشكل روايات، ثمّ وضعت على طاولة البحث العلمي، فكانت نتيجة ذلك بروز القواعد الاصوليّة
____________
(1) المصدر السابق.
(2) تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلاميّة: ص 177، كما في مقدّمة النص والاجتهاد.
(3) التحفة الاثنى عشريّة: ص 8.
ومن خلال هذه القواعد المنبثة في نصوص الروايات، قضى أئمّة الشيعة على أكبر مشكلة تواجه فقهاء هذه الطائفة بعد الغيبة، وبهذه القواعد أرسى المذهب الشيعي اُصوله المحمديّة، فهرع العلماء في عصر الغيبة لتلك السفرة، فألّفوا كتباً في جمعها ليدور رحى الاجتهاد حولها، فألّف السيّد المرتضى (المتوفى سنة 436 هـ) كتاب "الذريعة إلى اُصول الشريعة" بحث فيه عن القواعد الاصوليّة.
يقول الانصاري محمّد علي: (إنّ الكتب الفقهيّة كانت على شكل كتب روائيّة، ثمّ أخذت تتسع شيئاً فشيئاً، فظهرت بشكل كتب فقهيّة مبوّبة واستدلاليّة مبنيّة على القواعد العامّة، ومن كان لهم الاثر الكبير في هذه المحاولة الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد المتوفى (سنة 413 هـ) وتلميذه الشريف السيّد المرتضى علم الهدى المتوفى (سنة 436 هـ)، وكان أكثرهم جهداً في هذه العمليّة شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي المتوفى (سنة 460 هـ)، فقد ألّف عدّة كتب فقهيّة وروائيّة واُصوليّة، منها الخلاف والنهاية والمبسوط في الفقه، والتهذيب والاستبصار في الحديث، والعدّة في الاصول)(2).
وحمل الشيخ الطوسي على اُولئك الذين يتهمون التشيّع بقلّة فروعه لعدم استخدامه القياس والاجتهاد بالمعنى الخاص المتقدّم، فقال:
(أمّا بعد، فإنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الاماميّة ويستنزرونه وينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل، ويقولون: إنّهم أهل حشو ومناقضة، وإنّ من ينفي القياس والاجتهاد لا
____________
(1) مقدمة تاريخ حصر الاجتهاد: ص 41 ـ 42.
(2) مقدمة تاريخ حصر الاجتهاد: ص 43 ـ 44.
ثمّ قال: (وأمّا ما كثّروا به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلاّ وله مدخل في اُصولنا ومخرج على مذاهبنا، لا على وجه القياس، بل على طريقة توجب علماً يجب العمل عليها ويسوغ الوصول إليها من البناء على الاصل وبراءة الذمّة وغير ذلك)(1).
والغريب هنا أنّ التشيّع سابقاً كان يُتهم بعدم العمل بالقياس، واليوم يتهمه الكاتب بالعمل بالقياس لجهله حتّى بشبهات أسلافه على الاماميّة.
فالاجتهاد بالمعنى الخاص لا رصيد له عند التشيّع لا ماضياً ولا حاضراً، والاجتهاد بالمعنى العام الذي يدور حول تلك القواعد الاصوليّة والفقهيّة المبثوثة بالروايات عليه المعوّل، وإليه المفزع لتحصيل الحجّة على الواقع أو على الوظيفة الفعليّة، كما يقول السيّد الخوئي(2).
وخاب مسعى أحمد الكاتب عندما ظنّ بوجود ثغرة في الفكر الشيعي، وأراد أن ينفذ منها، فعاد خائباً، ولكن هل يعود بدون تخليط وكذب وافتراء أم لا؟
فهو على عادته السابقة، وكما في كلّ مورد يفشل في الحصول على مؤيّد له، راح ينسب القول بالقياس إلى الشيخ المفيد، بينما نجد المفيد ألّف كتباً للرد على ابن الجنيد الذي يقول بالقياس حسب ما نسب إليه.
أمّا اجتهاد الشيخ المفيد فهو بذل الجهد والوسع في الكتاب والسنّة.
ثمّ كذب الكاتب على السيّد المرتضى عندما نسب إليه القول ببطلان الاجتهاد(3)،
____________
(1) المبسوط: ج 1، ص 1.
(2) الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد: ص 9.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 279.