بينما نجد السيّد المرتضى لا يعمل بالاجتهاد بمعنى القياس، حيث يقول: (إنّ الاجتهاد ـ بالمعنى الخاص ـ والقياس لا يثمران فائدة ولا ينتجان علماً، فضلاً عن أن تكون الشريعة محفوظة بهما)(2).
أحمد الكاتب لم يفهم معنى الاجتهاد
مقابل النص ويكذب على السيّد الخميني
حاول الكاتب الكذب على السيّد الخميني (قدس سره) من خلال اتهامه بالاجتهاد بمعنى القياس، واتهامه بمسألة الاجتهاد مقابل النص(3).
ولم يستطع الكاتب أن يثبت ذلك بدليل، بل اكتفى ـ وعلى طريقته السابقة ـ بالكلام اليتيم الخالي من التوثيق.
فلقد عرّف الامام الخميني (قدس سره) الاجتهاد بأنّه: (تحصيل الحكم الشرعي المستنبط بالطرق المتعارفة لدى أصحاب الفن، أو تحصيل العذر كذلك)(4).
فالسيّد الامام لم يذكر شيئاً جديداً خلافاً لما عليه الاماميّة، بل اتبع نفس الطرق والوسائل المستخدمة لاستنباط الحكم الشرعي، وأطلق عليها ومن خلال التعريف أعلاه "الطرق المتعارفة".
وكذلك حمّل السيّد الخميني الاخباريين مسؤوليّة الفهم الخاطئ لمباني الاصوليين وقال:
(وظنّي أنّ تشديد نكير بعض أصحابنا الاخباريين على الاصوليين في تدوين
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 327.
(2) الشافي: ج 1، ص 276.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 332.
(4) الرسائل: ج 2، ص 96.
وبكلام الامام هذا برّأ نفسه والاصوليين الاماميّة من التهم الموجهة إليهم من رجل لا يحق له التحدّث عن هكذا مباحث لانّها من شأن الفقهاء.
وبعد أن وجد الكاتب أنّ الامام الخميني يصرّح بنفي القياس والاستحسان وغيرهما، كذب عليه مرّة اُخرى، فنسب إليه العمل بالاجتهاد مقابل النص(2).
وخالف الكاتب في نسبته هذه إلى السيّد الامام أبسط قضيّة اتفق عليها الفكر الشيعي، وهي حرمة الاجتهاد مقابل النص الذي عرّفها السيّد تقي الحكيم بأنّها: إعمال الرأي في التماس الحكم الشرعي مع إغفال النص القائم على خلافه(3).
وتسمية ذلك باجتهاد من قبل الاماميّة مراعاة لبعض الامور، وإلاّ أي اجتهاد هذا يضرب النص الشرعي ويأتي برأيه، وبمعنى آخر: تكذيب للشريعة، وإدخال الاهواء فيها.
فالاماميّة لم يقفوا عند حد إنكار مسألة الاجتهاد مقابل النص الذي اتهم الكاتب السيّد الخميني بها فقط، بل لم يسمّوا ذلك اجتهاداً أصلاً، إلاّ لظروف استثنائيّة حفاظاً على وحدة المسلمين، وإلاّ أي اجتهاد هذا الذي يقول: (متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما، متعة الحجّ ومتعة النساء)(4).
والسرّ الذي دعا الكاتب أن يفقد عقله في نسبة الاجتهاد مقابل النص إلى السيّد
____________
(1) الرسائل: ج 2، ص 97.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 333.
(3) مقدمة الاجتهاد والنص: ص 14.
(4) تفسير الرازي: تفسير قوله: (من تمتع بالحج إلى العمرة)، سورة البقرة.
الخلط بين الاقوال
يقول: (وقد اندسّ السبئيّة في الحركة الكيسانيّة التي انطلقت للثأر من مقتل الامام الحسين (عليه السلام) بقيادة المختار بن عبيدالله الثقفي)(1).
لقد أطلق أحمد الكاتب هذا الشعار بدون أن يسنده إلى أيّ مصدر، فلقد ذكره إنشاءً فقط، ولا يستطيع أن يذكر مصدراً لهذا الكلام; للفرق الشاسع بين الحركتين السبئيّة والكيسانيّة، ولهذا نجد بعض المستشرقين وأذنابهم عندما أرادوا أن يؤرّخوا للتشيّع قالوا: التشيّع من صنيع عبدالله بن سبأ. وآخرون قالوا: التشيّع نتيجة لحالة الندم التي عبّر عنها الشيعة بعد مقتل الحسين وقيامهم بالثورة.
ولكلّ من القولين أنصاره، ففصل هؤلاء بين السبئيّة وبين الحركة التي قام بها الشيعة بعد مقتل الحسين (عليه السلام) للثأر، والتي وصفها البعض من دون بحث وتحقيق بالكيسانيّة.
فجاء أحمد الكاتب ودمج بين الحركتين من دون بحث وتحقيق، أضف إلى ذلك أنّ أحمد الكاتب قد اعترف بأنّ عبدالله بن سبأ شخصيّة أسطوريّة، قال: (سواء كان
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 33 ـ 34.
أضف إلى ذلك أنّهم زعموا أنّ السبئيّة قائلة بالامامة السياسيّة للامام علي، ولم يُثبت لنا أحمد الكاتب أنّ السبئيّة قالت بالائمّة من ولده أم لا؟ فإذا قالت بالائمّة من ولده، أي الحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين (عليهم السلام) فلا معنى لان تندسّ مع الكيسانيّة القائلة بإمامة محمّد بن الحنفيّة لاختلاف المعتقد، وإذا لم تقل بإمامة الحسن والحسين (عليهما السلام) فعلى أحمد الكاتب أن يثبت بقاء الحركة السبئيّة المزعومة إلى وقت انطلاق الثورة على قتلة الحسين (عليه السلام) حتّى تندسّ بها، فكلّ ذلك لم يتطرّق له أحمد الكاتب لا من قريب ولا من بعيد، بل اكتفى بالكلام الانشائي فقط.
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 33 ـ 34.
الفصل الرابع
افتراءات وأكاذيب المؤلّف
على مصاديق الامامة الالهيّة
المبحث الاوّل: الامام علي (عليه السلام)
النص أم الاولويّة عند الامام علي (عليه السلام):
لم يستطع الكاتب تجاوز إحجام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن بيعة أبي بكر بعد أن اتفق الجميع على ذلك، فتراجع عن الشورى نسبيّاً وقال: (ولا شكّ أنّ تمنّع الامام علي من المسارعة إلى بيعة أبي بكر كان بسبب أنّه كان يرى نفسه أولى وأحقّ بالخلافة)(1).
إذن، تراجع الكاتب عن مسألة الشورى، لانّ الشورى لا تنظر إلى ما يعتقده الشخص بقدر نظرها إلى اجتماع الناس وعدمه، وهذا ما عليه المسلمون، ولنقف مع الكاتب قليلاً لنتعرّف على نظر الامام في مسألة الخلافة بالرجوع إلى الفكر الذي ناشد فيه المسلمين بعدما حدث في سقيفة بني ساعدة، هل كان فكراً قائماً على أساس النص، ويدّعي أنّ النص عليه من رسول الله، أم قائماً على أساس أنّ الامام يرى نفسه أولى من الجميع؟ فلنذهب إلى علي بن أبي طالب للجواب عن هذا السؤال، يقول (عليه السلام) في معرض ردّه:
"لا يقاس بآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الامّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة"(2).
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 21.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 2، ص 25.
ففي هذه الخطبة يبيّن أمير المؤمنين (عليه السلام) حقّ الائمّة من ولده، وحقّه في الخلافة بأنّها وصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنص، وليست بالاولويّة، ويتعجّب أمير المؤمنين (عليه السلام) من هذه الامّة التي أقصته لا من باب أنّه أولى بالخلافة، بل من باب أنّه وصي نبي، أقصته من منصبه ورتبته التي وضعه الله فيها، وينقل لنا تعجبه هذا بقوله: "فياعجبي! ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي"(1).
ماهو الاثر الذي تركه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويطالب به أمير المؤمنين؟ ومن هو الوصي الذي يتعجّب أمير المؤمنين من الامّة التي لم تتبعه؟
وأكثر من ذلك كلّه ندرس في فكر علي (عليه السلام) أنّ الائمّة هم من قريش بل من بني هاشم، ولا تصلح الولاة من غيرهم، فقال (عليه السلام): "أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً؟.... إنّ الائمّة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم"(2).
وراح الامام غير مرّة يطالب الاُمّة بالتعرّف على أهل البيت، ويأمرهم بالتزام سمتهم، واتباع أثرهم، فقال (عليه السلام): "انظروا أهل بيت نبيّكم، فالزموا سمتهم، واتّبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردىً، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا"(3).
فأي أولويّة هذه تجعل من المتبوع مقياساً للحقّ، سبقه ضلالة، والتأخّر عنه هلاك؟!
____________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 88، ص 143.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 144، ص 263.
(3) نهج البلاغة: الخطبة: 97، ص 181.
أي عهد هذا الذي يتكلّم عنه أمير المؤمنين ويطالب الامّة أن لا تنساه؟ إنّه عهد الامامة والخلافة، فهو بنفسه يقول: "فوالله الذي أكرمنا أهل البيت بالنبوّة والخلافة، وجعل منّا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأكرمنا بعده بأن جعلنا أئمّة للمؤمنين، لا يبلغ عنه غيرنا، ولا تصلح الامامة والخلافة إلاّ فينا"(2). ولا تتحمّل هذه الالفاظ التأويل القسري ليجرّها الكاتب إلى ما يريد.
بالاضافة إلى ذلك، ناشد أمير المؤمنين الناس يوماً، فقال لهم: "اُنشد الله من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، لما قام وشهد"، فقام اثنا عشر بدريّاً شهدوا لعلي بذلك(3).
وأخيراً ننقل فكر الامام علي (عليه السلام) من قول عمر لابن عبّاس، حيث سأله مرّة، فقال له: مازال ابن عمّك يزعم أنّ رسول الله قد نصّ عليه(4).
إذن، علي (عليه السلام) أدرى بفكره من الكاتب، وفكره قائم على أساس النص والوصيّة، لا على أساس الشورى، كما صرّح هو بذلك وأيّده عمر بن الخطّاب ـ كما بيّناه ـ.
لماذا علي (عليه السلام) في الشورى:
يقول الكاتب: (ممّا يؤكد كون نظام الشورى دستوراً كان يلتزم به الامام أمير المؤمنين.... هو دخوله في عمليّة الشورى التي أعقبت وفاة الخليفة
____________
(1) الاحتجاج: ج 1، ص 153.
(2) الاحتجاج: ج 1، ص 353.
(3) مسند أحمد: ج 1، ح 642 و672 و953; سنن النسائي: ح 8542; سنن الترمذي: ج 5، ح 3713; سنن ابن ماجه: ج 1، ح116 و121; البداية والنهاية: ج 5، ص 229 ـ 232، وج 7، ص 383 ـ 385 في نحو عشرين طريقاً.
(4) نهج البلاغة: ج 10، باب 223، ص 21.
ويلاحظ على هذا الكلام أنّ الامام علي (عليه السلام) كان يؤمن بالنص والوراثة والوصيّة، ولم يلتزم بمبدأ الشورى قط ـ كما اتضح فيما تقدّم ـ، وهذا منهج الامام في الدفاع عن حقّ أهل البيت (عليهم السلام)، فقد قال يوماً مبيّناً مواقعهم وخصائصهم: "لا يقاس بآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الاُمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة"(2).
بهذا المنهج دافع الامام عن موقع أهل البيت (عليهم السلام)، وأمّا مسألة دخوله بالشورى بعد وفاة عمر بن الخطّاب، فتتبين وتتضح من الشروط التي سنّها عمر، ومنها:
الشرط الاوّل: يدخل في هذه الشورى ستّة أشخاص، يعيّنهم عمر بن الخطاب. وتسمية الخلافة بهذا الشرط شورى من ضيق الخناق واقعاً.
الشرط الثاني: الخليفة الموعود بالخلافة يخرج من هؤلاء الستّة لا من غيرهم. فكأنّما الاُمّة الاسلاميّة كانت عبارة عن ستّة أشخاص فقط.
الشرط الثالث: ضرب أعناق اُولئك الذين يعارضون إذا اتفق أكثر الستّة على رجل واحد.
الشرط الرابع: في حالة اتفاق اثنين على رجل، واثنين على آخر، رجّحت الكفّة التي فيها عبدالرحمن بن عوف ـ أي حقّ النقض في كفّة عبدالرحمن بن عوف ـ وإن لم يسلّم الباقون ضربت أعناقهم.
الشرط الخامس: مدّة التشاور ثلاثة أيّام، وإلاّ ضربت أعناق الستّة، أي أهل الشورى جميعاً.
الشرط السادس: يتكفّل ضرب الاعناق صهيب الرومي في خمسين رجلاً
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 23.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 2، ص 25.
فياترى كيف كانت الحالة السائدة عند أهل الشورى قبل الدخول فيها؟ وهل هناك تهديدات بالقتل لمن لم يدخل في هذه الشورى؟ كلّ ذلك حكاه لنا المأمون عندما رفض الرضا (عليه السلام) ما عرضه عليه، قال: (إنّ عمر بن الخطّاب جعل الشورى في ستّة أحدهم جدّك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وشرط فيمن خالف منهم أن تضرب عنقه)(2)، وحتّى لو لم يقل المأمون ذلك فإنّ شورى محاطة بالسيوف حري بها أن تهدّد أعضاءها وتمارس بحقّهم القتل والارهاب.
هذا بالاضافة إلى أنّ الخلافة عند أمير المؤمنين أهم من حقّه المغتصب، وعدم دخوله معناه تهديد المنصب الوحيد الذي بقي بعد رسول الله تشرئب له الاعناق، يقول الامام بهذا الخصوص: "حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام، يدعون إلى محق دين محمّد، فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب"(3).
فهو (عليه السلام) ينظر إلى الاسلام أوّلاً، ثمّ إلى حقوقه ثانياً.
إذن، مسألة دخوله في الشورى واضحة المعالم لمن عرف شرائط الشورى، ومن عرف منهج الامام في التعامل مع القضايا المختلفة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وحتّى لا يضيِّع هذا المنهج حقّه المغتصب تبرّم الامام من الشورى، واستهان بها حتّى وصل به الامر إلى أن يقول: "فيالله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الاوّل منهم حتّى صرت اُقرن إلى هذه النظائر"(4).
فالامام ـ كما هو واضح ـ يغتصب نفسه اغتصاباً للدخول في الشورى المزعومة
____________
(1) التكامل في التاريخ: ج 3، ص 67.
(2) شرح شافية أبي فراس: ص 220.
(3) نهج البلاغة: ص 427.
(4) نهج البلاغة: خطبة رقم 2، ص 28 المعروفة بالشقشقيّة.
ولهذا جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) كلام عمر في أنّ علياً أحد الستّة، جعله "زعماً" وليس حقيقة، يقول (عليه السلام): "حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم، فيالله وللشورى"(1)، وإلاّ فالامام قطب الرحى، ينحدر عنه السيل، ولا يرقى إليه الطير.
إذن، دخول الامام في الشورى كان محاطاً بهذا الواقع المرير الذي كان يعيشه، ويصبّر نفسه عليه بقوله: "لا يعاب المرء بتأخير حقّه، إنّما يعاب من أخذ ما ليس له"(2). كلّ ذلك تجاهله الكاتب ورتّب على دخول الامام في الشورى بسذاجة واضحة.
المبحث الثاني: الامام الحسن (عليه السلام)
النص والوصيّة في فكر الامام الحسن (عليه السلام):
حاول أحمد الكاتب أن يعتمد على حجّة واهية اُخرى تقول: (إنّ الامام الحسين لم يعتمد في دعوة الناس لبيعته على ذكر أي نص حوله من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن أبيه)(3).
والمراجع المتأمّل لكلمات الامام الحسن (عليه السلام) يجد عكس ما يقوله هذا الرجل تماماً، ولهذا نجد الكاتب يكتفي في هذا المجال بنقل الروايات بتعبيره الخاص فقط; من دون أن يذكر لسان الرواية ليوهم القارئ بصحّة ما يقول، وإلاّ كيف لم يعتمد الامام الحسن (عليه السلام) على النص وهو القائل: "والله ما فيها وما بينها حجّة لله على خلقه غيري وغير أخي الحسين"(4).
وكيف لا يعتمد على النص، وهو يخاطب الناس بقوله: "ألا تعلمون إنني إمامكم
____________
(1)نهج البلاغة: خطبة رقم3، ص 28، وشرح النهج لابن أبي الحديد: ج 1، ص 184.
(2) شرح نهج البلاغة: ج 18، ص 390، باب 168.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 26.
(4) الارشاد: ج 2، ص 29.
وكذلك خاطب الناس بمصطلح (أهل البيت) الذي كان لا يشك أحد بأنّ مصاديق هذا المصطلح لهم امتيازات خاصّة خلَّفها لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسلوكه العملي تارة، والقولي اُخرى، فيقول الامام الحسن (عليه السلام) في هذا المضمار: "أيّها الناس، أنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن السراج المنير، وأنا الذي أرسله رحمة للعالمين... وأنا من أهل البيت".
وأشار إلى مسألة النص والخلافة بعد وفاة أبيه (عليه السلام) عندما خطب بالناس قائلاً: "إنّ الله عزّ وجلّ بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليه، بل رحمة منه، لا إلـه إلاّ هو.... ففرض عليكم الحج والعمرة وإقام الصلاة.... والولاية لنا أهل البيت، وجعلها لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرائض، ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوصياؤه كنتم حيارى لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل تدخلون داراً إلاّ من بابها"(2).
فلقد جعل الامام الحسن (عليه السلام) مسألة الولاية والخلافة مفتاحاً لشرائع دين الله، وباباً لقبول فرائضه وطاعاته، وهل يوجد أجلى وأوضح من هذا الكلام من ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ولكن إفلاس الكاتب من كلّ ما ذكره سابقاً جعله يتشبّث بأبسط الطرق لايهام القارئ وتشويش ذهنه; ليجعل منه أداة طيّعة لتصديق ما يقول، ولكن أنّى له ذلك; لانّ القارئ ليس كالكاتب يصدّق بمجرّد أن يقرأ، بل يبحث عن ذلك بحثاً يجعله مقتنعاً بما يقول ويفعل.
ولم يقف الكاتب عند هذا الحد، بل راح يبحث في الكتب السنيّة لينقل لنا قول عبدالله بن العباس: (لمّا توفي علي (عليه السلام) خرج عبدالله بن العبّاس فقال: إنّ أمير المؤمنين توفي، وقد ترك خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم، وإن كرهتم فلا أحد على أحد، فبكى الناس،
____________
(1) كمال الدين: ص 297، باب 29.
(2) ينابيع المودة: ج 3، ص 364 ـ 365، نقلها عن أمالي الطوسي: ج 2، ص 268.
واعتمد في نقل هذا النص على مصدر سنىّ، ولكن المقارن لهذا النص الوارد في ذلك المصدر مع نفس النص الوارد في الكتب الشيعيّة يجد أنّ هناك حذفاً تعرّض إليه هذا النص حتّى ينسجم مع مبادئ من نقله، فلقد نقل الشيخ المفيد في الارشاد قول ابن عبّاس: (معاشر الناس هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه، فاستجاب له الناس وقالوا: ما أحبّه إلينا وأوجب حقّه علينا. وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة)(2).
فالفقرة التي تقول: (ووصي إمامكم)، تخالف تماماً ما استشهد به الكاتب، وجعله شاهداً على فكره السياسي بأنّ الشورى هي الدستور السائد عند المسلمين، وكان يجب على الكاتب ـ لو كان موضوعيّاً ـ أن يبحث النصوص الواردة عن الطرفين ـ على أقلّ التقادير ـ وتقييمها سنداً ومتناً والحكم عليها، لا أن يكتفي بنقل نص من طرف واحد، ويستخرج لنا نظريّته السياسيّة.
أضف إلى ذلك، أنّ مسألة النص كانت تعيش مع الامام الحسن (عليه السلام) في كلّ جلساته ومحاججاته مع معاوية، فعندما يحاول معاوية أن ينال من الامام علي (عليه السلام) يتصدّى الحسن (عليه السلام) لابراز دور الامام وموقعه في الشريعة، ولقد جمعت إحدى الجلسات معاوية والحسن (عليه السلام)، فنال معاوية من الامام علي (عليه السلام)، فقام الحسن (عليه السلام) خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: "إنّه لم يبعث نبي إلاّ وجعل له وصي من أهل بيته، وإنّ عليّاً كان وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعده"(3).
فهل يحتاج المنصف بعد هذا الكلام إلى إيضاح موقف الحسن (عليه السلام) من مسألة الوصيّة والخلافة.
إلى هنا لم يستطع الكاتب أن يشوّش ذهن القارئ حول موقف الامام الحسن (عليه السلام) ودفاعه عن منصب أبيه ومنصبه في خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّه ولخبثه راح
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 26.
(2) الارشاد: ج 2، ص 8 ـ 9. نقلاً عن مقاتل الطالبيين: ص 51.
(3) بحار الانوار: ج 44، ص 90، باب سائر ما جرى بينه وبين معاوية.
ولكن خفي عليه أنّ الرجالي السنّي الشهير "الذهبي" نقل هذا النص بألفاظ اُخرى في سير أعلام النبلاء، قال: (واشترط عليه ـ اشترط الحسن على معاوية ـ أن يكون له الامر من بعده)(2).
فحاول الكاتب أن يخفي هذا البند الذي جاء به الذهبي، والذي يثبت أنّ الخلافة للحسن من بعد معاوية، وتنازل الامام هذا ليس عن موقع الامامة، بل عن موقع القيادة; للخلل الذي أصاب المسلمين آنذاك، وهذا ما صرّح به الامام عندما خطب المسلمين قائلاً: "إنّما هادنت إشفاقاً على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي"(3).
وترجم الامام ذلك بقوله: "أنا المدفوع عن حقّي"(4).
إذن، لو كانت الخلافة شورى ـ كما قال الكاتب ـ لم يجز للحسن (عليه السلام) أن يخاطب المسلمين بحفظ موقعه كإمام مفترض الطاعة من الله(5)، ولم يجز له أن يقول: "والله ما فيها وما بينها حجّة لله على خلقه غيري وغير أخي الحسين"(6).
فكل ذلك دليل على تمسّك الامام الحسن (عليه السلام) بالولاية والخلافة بالنص والتعيين، لا بالشورى والانتخاب، ولهذا قال: "إنّه لم يبعث نبي إلاّ وجعل له وصي من أهل بيته،
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 36.
(2) سير أعلام النبلاء: ج 3، ص 278.
(3) بحار الانوار: ج 44، ص 56، باب كيفيّة مصالحة الحسن لمعاوية.
(4) بحار الانوار: ج 44، ص 89، باب سائر ما جرى بينه وبين معاوية.
(5) كمال الدين: ص 297، باب 29.
(6) الارشاد: 11/ 2، ص 29.
المبحث الثالث: الامام الحسين (عليه السلام)
النص والوصيّة في فكر الامام الحسين (عليه السلام):
بعد أن لبّى الامام الحسن (عليه السلام) نداء الحق مسموماً على أيدي الطغاة، ولم يترك في حياته أي إشارة على خلاف منهج أبيه لمعاوية وأنصاره ليتمسّكوا بها من بعده، وبعد أن بيّن موقع أخيه الحسين (عليه السلام) في الامّة قائلاً: "والله ما فيها وما بينها حجّة لله على خلقه غيري وغير أخي الحسين"(2)، بعد هذا كلّه جاء الامام الحسين (عليه السلام) مدافعاً عن نظريّة النص والولاية، قائلاً: "أمّا بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا.... ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه"(3)، وقال أيضاً مخاطباً أصحاب ابن زياد: "ما بالكم تناصرون علَيَّ.... أما والله لئن قتلتموني لتقتُلنَّ حجّة الله عليكم"(4).
وبعد كلّ هذه التأكيدات من قبل أخيه الحسن ومن قِبَلِه (عليهما السلام) جاء الكاتب ليقول: (لا توجد أيّة آثار لنظريّة النص في قصّة كربلاء)(5).
ولم يعطِ الكاتب أي رواية على ذلك، بل اكتفى بذكر الكلام المتقدّم; لانّه لا يستطيع أن يحذف أو يحرّف استدلالات الامام الحسين (عليه السلام) أمثال "حجّة الله عليكم"، وغيرها العشرات من الشواهد التي حفلت بها قصّة كربلاء، متناسياً أنّ سبب وقعة كربلاء هي خلافة الحسين (عليه السلام) لاخيه الحسن (عليه السلام) في الولاية وتصدّيه لقيادة الشيعة سياسيّاً آنذاك.
____________
(1) بحار الانوار: ج 44، ص 90، باب سائر ما جرى بينه وبين معاوية.
(2) الارشاد: ج 2، ص 29.
(3) الارشاد: ج 2، ص 97.
(4) الارشاد: ج 2، ص 29.
(5) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 27.
المبحث الرابع: الامام علي بن الحسين (السجاد) (عليه السلام)
إمامة علي بن الحسين السجّاد (عليه السلام):
ولمّا لم يجد الكاتب في النصوص ما يدعم نظريّته، راح يبحث عن أفكار الامام الحسين (عليه السلام) وتأمّلاته، وكأنّ الكاتب استقرأ فكر الامام كاملاً وحصل منه على نتيجة تقول: (لم يفكّر ـ الامام الحسين ـ بنقل الامامة إلى أحد من ولده، ولم يوصِ إلى ابنه الوحيد الذي ظلّ على قيد الحياة)(3).
ويظهر أنّ الكاتب لم يطّلع، أو تجاهل ما ورد في كتب الشيعة الامامية المعتبرة أمثال الامامة والتبصرة والكافي والارشاد وغيرها حول النص على إمامة زين العابدين (عليه السلام)، وتجاهل ما فيها من التركيز على وصيّة الحسين (عليه السلام) إلى ولده علي (عليه السلام) قبل أن يتوجّه إلى العراق، بالاضافة إلى دفعه لسلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه، وغير ذلك من الشواهد والنصوص التي أدّت بعمّ الامام محمّد بن الحنفيّة أن يقول بإمامة علي بن
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 27.
(2) الارشاد: ج 2، ص 31.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 28.