أضف إلى ذلك، هناك أبواب خاصّة في كتب الشيعة سمّيت باسم (الاشارة والنص على علي بن الحسين)(2).
كلّ ذلك نبذه الكاتب وراء ظهره، وأطلق عبارته المتقدمة بدون دراية ورواية ولا تفكير ومطالعة.
ثمّ لجأ إلى التزوير والتقطيع بعدما وجد (عليه السلام) وصية لولده علي، فقال: (إنّها وصيّة عاديّة جدّاً، تتعلّق باُموره الخاصّة، ولا تتحدّث أبداً عن موضوع الامامة والخلافة)(3).
وهذه الوصيّة (العاديّة جدّاً)! يقول الراوي فيها: (فيها جميع ما يحتاج إليه ولد آدم إلى أن تفنى الدنيا)(4).
فهل توجد وصيّة عاديّة وشخصيّة جدّاً، فيها جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة.
فأحمد الكاتب لم ينقل هذا المقطع تزويراً منه للحقائق، وتحريفاً لنصوص الروايات.
إلى هنا تبيّن أنّ الكاتب اتبع كلّ أنواع التزوير والقطع والتحريف، لكنه لم يستطع أن ينفي إمامة الحسين (عليه السلام)، ومن بعده إمامة ولده الامام زين العابدين (عليه السلام)، ووصيّة الامام الحسين (عليه السلام) إليه.
النص والوصيّة في فكر الامام زين العابدين (عليه السلام):
لقد أوضح الامام زين العابدين (عليه السلام) نظريّة النص والخلافة والامامة الالهيّة بقوله: "إنّ اُولي الامر الذين
____________
(1) الامامة والتبصرة: ص 60 ـ 61; بصائر الدرجات: ص 502; الكافي: ج 1، ص 409; إعلام الورى: ج1، ص 482; الاحتجاج: ج 2، ص 147 ـ 148.
(2) الكافي: ج 1، ص 364، باب 68، باب الاشارة والنص على علي بن الحسين.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 28.
(4) بصائر الدرجات: ص 148/ 9.
ولامَ الامام زين العابدين الناس على تقصيرهم بحق أهل البيت، وعلى تأويلهم القرآن بآرائهم، فأدّى بهم الامر في نهاية المطاف إلى الاختلاف والفرقة، ولم يبقَ شخص موثوق به يمكن الرجوع إليه والركون إلى قوله، ولو أنّهم تمسّكوا بأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحق أهل البيت وساروا على طريق الامامة الالهيّة لما حدث كلّ ذلك، فقال (عليه السلام):
"وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن، فقالوا بآرائهم.... فإلى من يفزع خلف هذه الامّة وقد درست أعلام هذه الملّة، ودانت الامّة بالفرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً، والله تعالى يقول: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ)، فمن الموثوق به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكم؟ إلاّ أعدال الكتاب وأبناء أئمّة الهدى ومصابيح الدجى، الذين احتجّ الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجّة، هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً"(2).
فيؤكد الامام (عليه السلام) على الامّة موقع هؤلاء الحجج، وقرناء الكتاب، وأبناء الائمّة.
وبعد كلام الامام هذا ومنهجه في التعامل مع أهم قضيّة من قضايا المسلمين، يقول أحمد الكاتب: (إنّ الامام زين العابدين لم يدَّعِ الامامة ولم يتصدّ لها)(3).
فهذه أقوال الامام زين العابدين (عليه السلام) التي تكشف زيف ادعاء الكاتب وتزويره وتحريفه.
أحمد الكاتب يتهم الامام السجّاد (عليه السلام):
لقد اتهم الكاتب الامام زين العابدين
____________
(1) كمال الدين: ص 299 ـ 300.
(2) الصواعق المحرقة: ج 2، ص 443 ـ 444، تفسير الاية (واعتصموا بحبل الله جميعاً).
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 29.
ويكفي لرد هذه التهمة ما قاله العالم السنّي الشهير "الذهبي" بحقّ الامام زين العابدين، فقد قال: (فقد كان ـ زين العابدين ـ أهلاً للامامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألّهه وكمال عقله)(2).
أضف إلى ذلك، أنّ الانعزال المقصود هنا; إمّا اجتماعيّاً، أو سياسيّاً. أمّا الاوّل فقد خالفه التاريخ المنقول عن زين العابدين، يقول أبو حمزة الثمالي: (كان زين العابدين يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة)(3). ويقول شيبة بن نعاقة: (لمّا مات عليّ وجدوه يعول مائة أهل بيت)(4).
فكيف بحال المنعزل أن يتبع هؤلاء؟! ونحن نجد اليوم من يتصدّى للمواقع، ومن يدّعي ألقاباً كثيرة، نجده غافلاً عمّا يدور حوله، فثمّ من يدّعي أنّه أبو الايتام وصاحب نظريّة الدفاع عن حقوق الانسان، بينما نجد في الواقع أنّ الناس تتضوّرون من حوله جوعاً ولا يعلم بهم.
إذن، الانعزال الاجتماعي لا ينسجم مع التاريخ الذي وصف لنا مواقف الامام زين العابدين.
أمّا إذا كان المقصود منه سياسيّاً، فهو لا ينسجم أيضاً مع أقوال الامام (عليه السلام) في الدفاع عن الحقّ المغتصب، وعن بيان دور الائمّة في المجتمع، فهو الذي يقول: "وأبناء أئمّة الهدى، ومصابيح الدجى الذين احتجّ الله بهم على عباده، ولم يدع الخلف سدى من غير حجّة"، وراح الامام يحدّد اُصولهم وفروعهم حيث يقول: "هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 29.
(2) سير أعلام النبلاء: ج 4، ص 398/ 157.
(3) تاريخ دمشق: ح 41، ص 383; حلية الاولياء: ج 3، ص 135 ـ 136.
(4) طبقات ابن سعد: ج 5، ص 172/ 755.
وأخيراً لجأ إلى ما عوّدنا عليه من التزوير والقطع، فراح يجرّد الحقائق التاريخيّة عمّا يحيط بها، وينقلها للقارئ ليشوّش ذهنه، فيقول في هذا المضمار: (وقد بايع الامام علي بن الحسين يزيد بن معاوية بعد واقعة الحرّة)(2).
ولم ينقل ما أحاط بهذه الواقعة من اُمور وتهديدات، ونحن هنا ننقل إليك كامل الظروف التي أحاطت ذلك الموقف:
يقول الكليني في روضته: (ثمّ أرسل ـ يزيد ـ إلى علي بن الحسين (عليهما السلام)، فقال له مثل مقالته للقرشيين، فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام): "أرأيت إن لم أقر لك أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالامس"؟ فقال له يزيد ـ لعنه الله ـ: بلى. فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام): "قد أقررت لك بما سألت، أنا عبدٌ مكره، فإن شئت فأمسك، وإن شئت فبع"، فقال له يزيد ـ لعنه الله ـ: أولى لك، حقنت دمك، ولم ينقصك ذلك من شرفك)(3).
فهذه الرواية التاريخيّة التي استند إليها أحمد الكاتب وتبجّح بها من غير أن ينقلها للقارئ كما هي، لا تحتاج إلى تعليق، فالامام مكره مهدّد بهدر الدم، غير قادر على دفع ما يواجهه، ولا يحق لاحمد الكاتب أن يستند إلى هذه الرواية ليجعل الاعتزال هو العنوان لزين العابدين، وإلاّ لما اضطرّ يزيد أن يهدّد الامام بهذا الاُسلوب، فكان عليه أن يبحث عن رواية في ظرف طبيعي، وليس تحت التهديد والوعيد، هذا كلّه إذا سلّمنا بصحّة صدور البيعة من الامام (عليه السلام) ليزيد.
موقف ابن الحنفيّة من علي بن الحسين (عليهما السلام):
كان موقف ابن الحنفيّة من زين العابدين واضحاً لا ريب فيه، وطالعتنا الرواية التاريخيّة بذلك، فقد ذكر جعفر بن محمّد بن نما في كتابه (أنّه اجتمع جماعة قالوا لعبدالرحمن بن شريح: إنّ المختار يريد
____________
(1) الصواعق المحرقة: ج 2، ص 443 ـ 444، في تفسير الاية (واعتصموا بحبل الله جميعاً).
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 29.
(3) روضة الكافي: ص 160، حديث علي بن الحسين مع يزيد.
فأعطى زين العابدين (عليه السلام) الخطوط العريضة لمحمّد بن الحنفيّة وأتباعه بقوله: "لو أنّ عبداً زنجيّاً يتعصّب لنا أهل البيت وجب على الناس مؤازرته"، وفهم محمّد وأصحابه من هذا الضوء الاخضر الالتفاف حول أي ثورة تدعو للاطاحة بالواقع القائم، أضف إلى ذلك اعتراف محمّد بن الحنفيّة وأصحابه بإمامة زين العابدين (عليه السلام)، وذلك عندما قال لهم: (قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم علي بن الحسين).
فهذا الموقف لابن الحنفيّة واضح وجلي، لا يستطيع أحمد الكاتب ولا غيره أن يدغدغ فيه، ولقد تسالم عليه علماء الشيعة، فهذا الشيخ المفيد يقول: (محمّد بن الحنفيّة لم يدّع قط الامامة لنفسه، ولا دعا أحداً إلى اعتقاد ذلك فيه، وقد كان سُئل عن ظهور المختار وادعائه عليه أنّه أمره بالخروج والطلب بثأر الحسين (عليه السلام) وأنّه أمره أن يدعو الناس إلى امامته عن ذلك وصحّته فأنكره، وقال لهم: والله ما أمرته بذلك، لكنني لا اُبالي أن يأخذ بثأرنا كلّ أحد، وما يسوءني أن يكون المختار هو الذي يطلب بدمائنا، فنصر بعض الشيعة المختار بناءً على الطلب بدم الحسين، ولم ينصروه على القول بإمامة أبي القاسم)(2).
____________
(1) البحار: ج45، ص365، ح2، الطبعة الحديثة; معجم رجال الحديث: ج18، ص100 ـ 101.
(2) الفصول المختارة، المفيد: ج 2، ص 300 ـ 301.
وقد صرّح ابن الحنفيّة ثانياً إلى أبي خالد الكابلي، بأنّ الامام هو علي بن الحسين (عليهما السلام) عندما سأله قائلا: (جعلت فداك، إنّ لي حرمة ومودّة وانقطاعاً، فأسألك بحرمة رسول الله وأمير المؤمنين، إلاّ أخبرتني أنت الامام الذي فرض الله طاعته على خلقه؟ قال: فقال: يا أبا خالد حلّفتني بالعظيم، الامام علي بن الحسين (عليهما السلام) عليَّ وعليك وعلى كلّ مسلم...)(2).
لقد طالعتنا هذه الرواية بأمرين:
الاوّل: أنّ الامامة هي الفكر السائد لدى الناس، ومن يمثّله يحمل امتياز الطاعة المفروضة.
الثاني: أنّ الامام هو علي بن الحسين (عليهما السلام).
ولهذا وغيره قال المسعودي: (لم تكن إمامة محمّد بن الحنفيّة إلاّ بعد أن أبى علي بن الحسين (عليهما السلام))، والامامة التي يقصدها المسعودي هنا ليس الامامة الالهيّة، بل قيادة المسلمين الذين أرادوا الطلب بثأر الحسين (عليه السلام).
المبحث الخامس: الامام الباقر (عليه السلام)
الامامة الالهيّة عند الامام الباقر (عليه السلام):
اعتمد الامام الباقر (عليه السلام) في طرح إمامته على ثلاثة محاور:
المحور الاوّل: النص.
المحور الثاني: العلم ووراثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
المحور الثالث: امتلاكه سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
____________
(1) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 101 ـ 102.
(2) معجم رجال الحديث: ج 14، ص 131.
فلقد صرّح الامام الباقر (عليه السلام) بأنّ الامام منصوب من الله بالنص بقوله: "وأنّه منصوب من الله"، وجعل اتّباع الامام من اُمهات المسائل في الشريعة الاسلاميّة، وإلاّ كانت النتيجة الحتميّة لكدحه ميتة الجاهليّة.
أمّا بالنسبة إلى المحور الثاني، وهو العلم ووراثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلقد ركّز الامام الباقر (عليه السلام) ذلك في أذهان الناس، وراح يصرّح به ويطرحه كمسألة من مسائل الامامة الالهيّة، يقول أبو بصير: قلت يوماً للباقر (عليه السلام): أنتم ورثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: "نعم"، قلت: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وارث الانبياء جميعهم؟ قال: "وارث علومهم"، قلت: وأنتم ورثتم جميع علوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: "نعم".... إلخ(2).
فكيف لا يكون وارث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنص والتعيين؟!
أمّا المحور الثالث، وهو امتلاك سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول الباقر (عليه السلام): "إنّ السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل، كان حيثما دار فثمَّ الملك، وحيث مادار السلاح فثمّ العلم"(3).
إذن، نظريّة الامام الباقر (عليه السلام) تركّزت على هذه المحاور الثلاثة في طرح الامامة
____________
(1) الامامة وأهل البيت: ج 3، ص 23.
(2) نور الابصار: ص 220.
(3) بصائر الدرجات: ص 176 ـ 177، ح 5.
وقال أيضاً مفسّراً لقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الاَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نَعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ)، قال: "إيّانا عنى أن يؤدّي الاوّل منّا إلى الامام الذي يكون من بعده الكتب والسلاح(2).
فلقد طرح الباقر (عليه السلام) الامامة ومحاورها الثلاثة بدون أي منازع أو منافس له، لارتكازه في طرحه على ركن أساسي من أركان الامامة، ألا وهو البيت الحسيني، فلقد روى الصدوق عن سلمان الفارسي قوله: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإذا الحسين ابن علي على فخذه وهو يقبّل عينه ويلثم فاه، ويقول: "أنت سيّد ابن سيّد، أنت إمام ابن إمام أبو أئمّة تسعة، أنت حجّة الله ابن حجّته، وأبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم"(3).
أضف إلى ذلك طائفة من الروايات أكدت أنّ الامامة للبيت الفاطمي الحسيني، ومن ادّعى خلاف ذلك فهو مفتر على الله، ومن هذه الروايات ما نقله علي الهلالي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: "يا فاطمة إنّا أهل بيت اُعطينا ستّ خصال لم يعطها أحد من الاوّلين، ولا يدركها أحد من الاخرين غيرنا أهل البيت ـ إلى أن قال ـ: ومنّا مهدي هذه الامّة الذي يصلّي عيسى خلفه... ـ ثمّ ضرب على منكب الحسين (عليه السلام) وقال ـ: من هذا مهدي هذه الامّة"(4).
وكذلك قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ الله اختار من صلبك يا حسين تسعة أئمّة، تاسعهم
____________
(1) بصائر الدرجات: ص 474، ح 4.
(2) بصائر الدرجات: ص 475 ـ 476، ح 4.
(3) اكمال الدين: ص250، ح9; عيون أخبار الرضا: ج2، ص56، ح17; الخصال: ج2، ص559، ح38.
(4) أخرج الدار قطني، كما في البيان في أخبار صاحب الزمان للكنجي الشافعي: ص 117، باب9; والفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ص 295 ـ 296، فصل 120; فضائل الصحابة للسمعاني، على ما في ينابيع المودّة: ج 3، ص 394، باب 94، ح 43.
فهذه الركيزة الاساسيّة وهي البيت العلوي الفاطمي الحسيني هي التي يرتكز عليها الائمّة، والتي جاءت على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتناقلتها كتب الحديث والرواية، فلقد نقلها الصدوق والكليني والقندوزي الحنفي والمقدسي الشافعي(2)، وغيرهم، ومن الائمّة الباقر (عليه السلام) الذي هو الوريث لذلك البيت الحسيني، فبعد كلّ هذه الحقائق جاء أحمد الكاتب ليقول: (وقد خاض الباقر معركة مريرة لانتزاع قيادة الشيعة من ابن عمّه أبي هاشم وأتباعه وتثبيتها للفرع الفاطمي والبيت الحسيني)(3).
فبعدما تقدّم تبيّن أنّ الباقر كان هو الوريث الوحيد للبيت العلوي الفاطمي الحسيني، وهذا يعني أنّه يحصل على امتياز خاص لامامة الناس بنصوص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي أثبتت أنّ الامامة والقيادة في البيت الحسيني. ولا يحتاج إلى خوض معركة جعجع سلاحها الكاتب بالالفاظ فقط; لانّ أحاديث الامامة في البيت الحسيني أكثر من أن تحصى، اتفقت جميعها على حقيقة تقول على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ الله اختار من صلبك يا حسين تسعة أئمّة تاسعهم قائمهم..."، إلخ(4).
وعندما اصطدم أحمد الكاتب بهذه الطوائف الكثيرة من الروايات التي تثبت الخلافة للبيت الحسيني من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاد وقال: (الامام الباقر يعتبر نفسه أولى من الجميع)(5).
وهذا ممّا لا غبار عليه حتّى يقرّره أحمد الكاتب، فهو أولى من الجميع لامور كثيرة جدّاً، منها:
____________
(1) ينابيع المودّة: ج 3، ص 395، باب 94، ح 45.
(2) الخصال: ج 2، ص 559، ح 38، أبواب الاثني عشر; اكمال الدين: ص 250، ح 9، باب 24; الكافي: ج 1، ص 599، ح 15، باب 126; عقد الدرر: ص 132، باب 4، فصل 2.
(3) أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي: ص 35.
(4) ينابيع المودّة: ج 3، ص 395، باب 94، ح 45.
(5) أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي: ص 35.
2 ـ امتلاكه سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
3 ـ وراثة العلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
4 ـ وريث البيت العلوي الفاطمي الحسيني.
5 ـ ما يمتاز به الباقر (عليه السلام) من مؤهلات ذاتيّة.
كلّ ذلك جعله أولى من الجميع في إمامة وقيادة المسلمين.
إفتراء الكاتب على إمامة الباقر (عليه السلام):
أشكل أحمد الكاتب على نظريّة النص والوصيّة، وقال: (فإنّ نظريّة الامام الباقر السياسيّة كانت تقوم بصورة رئيسيّة على أعمدة العلم وامتلاك سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحق وراثة المظلوم، أكثر ممّا كانت تقوم على النص الصريح والوصيّة الواضحة، حيث لم تكن نظريّة الامامة قد تبلورت لدى الشيعة في بداية القرن الثاني الهجري إلى مرحلة الارتكاز على موضوع النص والوصيّة).
وحمل هذا الاشكال بين مفرداته محورين:
المحور الاوّل: أنّ الامام الباقر (عليه السلام) اعتمد بصورة رئيسيّة في طرح إمامته على أعمدة العلم وامتلاك سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
المحور الثاني: نظريّة الامامة تبلورت في بداية القرن الثاني الهجري.
أمّا بالنسبة للمحور الاوّل فإنّ المطالع للرواية التاريخيّة والحديثيّة يجد خلاف ذلك تماماً، لانّ الامام الباقر (عليه السلام) يقول: "من عَبَدَ الله عبادة اهتمام وتعب ولم يعتقد بإمام عادل، وأنّه منصوب من الله..."، إلخ(1). فهذا يخالف كلام الكاتب بالمرّة.
وقد جعل الامام الباقر (عليه السلام) الولاية لهم ممّا أنزله الله إليهم، فقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالاِْنْجِيلَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) قال: "الولاية"(2).
ولماذا لا يعتمد الباقر (عليه السلام) على النص، وقد ورد عليه النص بالامامة عن النبي أوّلاً،
____________
(1) الامامة وأهل البيت: ج 3، ص 23.
(2) الكافي: ج 1، ص 477، باب نكت ونتف من التنزيل في الولاية.
فكل هذه الركائز التي رفدت الباقر (عليه السلام) وجعلته إماماً للشيعة أنكرها أحمد الكاتب، وقال: (إنّ نظريّة الامام الباقر السياسيّة لم تقم على النص والوصيّة).
أمّا المحور الثاني، وهو ما افتراه الكاتب بأنّ نظريّة الامامة تبلورت في بداية القرن الثاني الهجري، فبالاضافة إلى ما ورد من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حول مسألة النص على أمير المؤمنين، وقد نقلنا ذلك فيما تقدّم، احتجّ أمير المؤمنين بالنص والوصيّة له، فقام مخاطباً المسلمين: "اُنشد الله من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، لما قام وشهد".
وشهد بالامامة والنص والوصيّة للامام علي (عليه السلام) اثنا عشر بدريّاً، قالوا: نشهد أنّا سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول ذلك يوم غدير خم.
وتسالم على هذا المناشدة اُمّهات الكتب السنيّة من الصحاح وغيرها ومؤلّفيها، أمثال أحمد بن حنبل والنسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم(2)، وقد نقل ابن كثير أسانيد هذه المناشدة(3).
واحتجّ أيضاً من بعده ولده الحسن (عليه السلام) بقوله: "أنا ابن النبي وأنا ابن الوصي"(4).
واحتجّ الحسين (عليه السلام) من بعد أخيه الحسن (عليه السلام) بالنص والوصيّة السياسيّة بقوله: "ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه".
فلا أعلم كيف يحتجّ علي وولداه الحسن والحسين (عليهم السلام) على الاُمّة بالنص والوصيّة السياسيّة، والكاتب يقول: (لقد تبلورت هذه النظريّة في القرن الثاني)؟!
ثمّ بعد أن فشل الكاتب في إيجاد منفذ له في نظريّة الامام الباقر (عليه السلام) السياسيّة، راح
____________
(1) الارشاد: ج 2، ص 160.
(2) مسند أحمد: ج 1، ح 642 و672 و953 و964; سنن النسائي: كتاب الخصائص، ح 8542; الترمذي: ج 5، ح 3713; ابن ماجة: ج 1، ح 116 و121.
(3) البداية والنهاية: ج 5، ص 228 ـ 231.
(4) ذخائر العقبى: ص 239.
وأراد من هذا الكلام القول بأنّ نظريّة الامامة لم تكن نظريّة معروفة، ولكن أنّى له هذا؟ فقد ردّه زيد بن علي نفسه عندما قال: (جعفر إمامنا في الحلال والحرام)(2).
فلقد اعترف زيد بالامامة في هذه الوثيقة وغيرها من الوثائق التي ملات كتب الحديث الشيعيّة، وأنّها في جعفر الصادق بعد والده الباقر، وقد برّأ الامام الصادق (عليه السلام) زيداً ممّا ينسب إليه من البعض بقوله: "فإنّ زيد كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، إنّه دعاكم إلى الرضا من آل محمّد (عليهم السلام)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه"(3).
إذن، لم ينفع أحمد الكاتب ذلك الفريق الذي التفّ حول زيد بن علي; لعلم ذلك الفريق وعلم زيد نفسه وتصريحه بإمامة جعفر (عليه السلام).
وبعد أن عجز الكاتب عن إيجاد أي منفذ في البيت العلوي، راح يتبع اُولئك المنحرفين ـ بعد وفاة الباقر (عليه السلام) ـ الذين انحرفوا عن خط أهل البيت، فقال: (وذهب فريق آخر بقيادة المغيرة بن سعيد إلى القول بإمامة محمّد بن عبدالله بن الحسن). ومن المعلوم أنّ هذا الرجل ذهب إلى هذا القول قبل وفاة الامام الباقر (عليه السلام)، ولكنّه لم يظهر ذلك إلاّ بعد وفاة الامام، على زعم أنّه نبي في نهاية المطاف(4).
فأراد الكاتب أن يقول بعد هذا الكلام: إنّ نظريّة الامامة غير واضحة، وإلاّ لما تفرّقوا. وهذا كلام خال من الموضوعيّة; لانّ اُولئك الذين ذهبوا مع زيد كانوا عالمين بإمامة جعفر الصادق (عليه السلام)، كما هو واضح ـ وذكرناه سابقاً ـ، وبتصريح قائدهم زيد ابن علي، وأمّا المغيرة بن سعيد فقد قال بإمامة عبدالله بن الحسن قبل وفاة الباقر (عليه السلام)،
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 38.
(2) رجال الكشي: ترجمة سليمان بن خالد، ص 361، رقم 668.
(3) روضة الكافي: ص 180، ح 381; معجم رجال الحديث: ج 7، ص 346.
(4) فرق الشيعة: ص 75.
إذن، أفلس الكاتب من أي وثيقة تنفعه، لا من البيت العلوي ـ أي من الباقر وزيد ـ ولا من أعدائهم، أمثال المغيرة وغيره.
المبحث السادس: الامام الصادق (عليه السلام)
أكاذيب أحمد الكاتب حول إمامة الصادق (عليه السلام):
سار الامام الصادق (عليه السلام) على ما سار عليه آباؤه في طرحه لمسألة الامامة والنص والوصيّة، وتحرّك بنفس الاتجاه الذي تحرّكوا فيه لتركيز هذه النظريّة في الفكر الاسلامي.
فقد تحدّث الصادق (عليه السلام) عن الامامة بالنص والوصيّة، وقال لعبدالاعلى: "فَذَّكر ما أنزل الله في علي، وما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حسن وحسين (عليهما السلام)، وما خصّ الله به عليّاً (عليه السلام)، وما قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من وصيّته إليه ونصّه إيّاه.... ووصيّته إلى الحسن..."(3).
وجعل الامام الصادق مسألة النص من اُمّهات مسائل الامامة والخلافة، وقيادة دفّة المجتمع الاسلامي، ونقل حديث اللوح الذي كان بيد اُمّه فاطمة (عليها السلام)، الذي رآه جابر بن عبدالله الانصاري، والذي فيه السلسلة الذهبيّة للائمّة (عليهم السلام) واحداً بعد واحد،
____________
(1) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 278، رقم 12558.
(2) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 275، رقم 12558.
(3) الكافي: ج 1، ص 441، باب ما يجب على الناس عند مضي الامام، ح 2.
وانطلق الامام الصادق (عليه السلام) ليركز نظريّة فرض الطاعة التي هي من رواشح الامامة قائلاً: "نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلاّ معرفتنا، ولا يُعذر الناس بجهالتنا"(2).
وتحرّك (عليه السلام) باتجاه آخر لتركيز هذه النظريّة عن طريق العلم ووراثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: "وإنّا ورثنا محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّ عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى (عليهما السلام)"(3).
إلى غير ذلك من الطرق والوسائل التي اتبعها الامام الصادق (عليه السلام) في تأصيل نظريّة النص والولاية في أذهان المسلمين.
أضف إلى ذلك، النصوص الكثيرة التي وردت بحقّ الصادق (عليه السلام) من أبيه الباقر (عليه السلام)، والتي توّجت الصادق (عليه السلام) إماماً للمسلمين، ومن هذه النصوص التي حفلت بها كتب الشيعة، أنّ الباقر (عليه السلام) نظر يوماً إلى أبي عبدالله (عليه السلام) يمشي، فقال: "ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله عزّ وجلّ: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)"(4).
وكذلك نقل أبو عبدالله الصادق (عليه السلام) قول الوصيّة من أبيه إليه(5)، وكذلك قول الامام الباقر (عليه السلام) إلى الصادق (عليه السلام) ـ عندما أقبل إليه ـ: "هذا خير البريّة"(6).
ونُقلت أحاديث النص على الصادق (عليه السلام) في كتب الشيعة المختصّة بهذا المجال(7).
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 593، باب ما جاء في الاثني عشر (عليهما السلام).
(2) الكافي: ج 1، ص 243، باب فرض طاعة الائمّة.
(3) الكافي: ج 1، ص 283، باب أنّ الائمّة ورثوا علم النبي وجميع الانبياء والاوصياء.
(4) الكافي: ج 1، ص 366، باب الاشارة والنص على أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام).
(5) المصدر السابق.
(6) المصدر السابق.
(7) أبواب الاشارة والنص على الائمّة (عليهم السلام) في الكافي وغيره.