ونحن هنا نستجيب لهذه الدعوة من الكاتب، لننظر سويّة في أحاديث الامام الصادق (عليه السلام)، ولنعرف قبل تأويل الكلام:
أوّلاً: موقف الامام الصادق من مسألة الامامة.
ثانياً: هل توجد نصوص دلّت على إمامة إسماعيل بن الامام الصادق؟
ثالثاً: هل توجد نصوص دلّت على إمامة موسى بن جعفر.
رابعاً: ما معنى قول الصادق (عليه السلام): "ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني"؟
أوّلاً: موقف الامام الصادق (عليه السلام) من مسألة الامامة:
سار الصادق (عليه السلام) في مسألة طرح الامامة على منوال أبيه الباقر (عليه السلام)، لتشابه الظروف التي عاشها الباقر وولده الصادق (عليهما السلام)، ففي تلك الحقبة الزمنيّة صار تحدّي الامامة من قبل الملوك والحكّام بواسطة اُناس مرقوا عن الدين، فباعوا دينهم بدنيا غيرهم، وطبّل البعض لامامة زيد بن علي، ليعوّم مسألة الامامة، مستغلاًّ الظروف التي سادت ذلك العصر، وخروج زيد بن علي على حكّام الجور.
فانبرى الباقر ومن بعده الصادق لهذه الحركات المشبوهة، فكما أثبت الباقر (عليه السلام) أنّ الارض لا تبقى يوماً واحداً بغير حجّة لله على الناس(2)، أثبت ولده الصادق (عليه السلام) هذه الحقيقة بقوله: "لو لم يبقى في الارض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة"(3).
ثمّ تخطّى الصادق (عليه السلام) هذه المرحلة، وأثبت للناس مكانة هذا الحجّة، ومصير
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 117.
(2) نظريّة الامامة والسياسة: ص 358.
(3) الكافي: ج 1، ص 179، ح 1.
ولكن وإلى هذا الحد بقي عدد هؤلاء الحجج غير معروف ومن أي نسب هم؟ ونقل الصادق (عليه السلام) حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لعلي: "يا علي هم اثنا عشر أوّلهم أنت وآخرهم قائمهم"(2).
ونقل أيضاً حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "الائمّة بعدي اثنا عشر، أوّلهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم هم خلفائي وأوليائي وأوصيائي وحجج الله على اُمّتي بعدي، المعترف بهم مؤمن والمنكر لهم كافر"(3).
ولم يقف الامام الصادق (عليه السلام) في طرحه لموضوع الامامة عند هذا الحد، لانّ ما طرحه قد يؤوَّل ويحرّف، فراح يضيّق الدائرة على المتصيّدين بالماء العكر، ويحدّد صفات الامام وشرائطه فقال: "الله تبارك وتعالى نصّب الامام علماً لخلقه، وجعله حجّة على أهل مواده وعالمه وألبسه الله تاج الوقار وغشّاه من نور الجبّار.... فهو عالم بما يرد عليه من ملتبسات الدجى ومعميات السنن ومشبهات الفتن، فلم يزل الله يختارهم لخلقه من ولد الحسين.... فالامام هو المنتجب المرتضى والهادي المنتجى والقائم المرتجى"(4).
ثمّ ذكر عشرة صفات للامام منها: العصمة والنصوص، وأن يكون أعلم الناس وأتقاهم لله، وأعلمهم بكتاب الله، وأن يكون صاحب الوصيّة الظاهرة، ويكون له المعجز والدليل، وتنام عينه ولا ينام قلبه، ولا يكون له فيء، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه(5).
وقال الصادق (عليه السلام) متحدّثاً عن الامام قائلاً: "المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم
____________
(1) الغيبة للنعماني: ص 129، ح 6، عنه البحار: ج 23، ص 78.
(2) الامالي للصدوق: ص 728، ح 998.
(3) كمال الدين: ص 247، ح 4; عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 62 ـ 63، ح 28.
(4) الكافي: ج 1، ص 261 ـ 262، ح 2.
(5) الخصال: ج 2، ص 498، ح 5، باب العشرة.
وقال أيضاً: "هو المعتصم بحبل الله وحبلُ الله هو القرآن، لا يفترقان إلى يوم القيامة، والامام يهدي إلى القرآن، والقرآن يهدي إلى الامام"(2).
وأشار (عليه السلام) في حديثه هذا إلى حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي تسالم عليه الشيعة والسنّة "لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض".
وأخيراً، أوضح الامام (عليه السلام) بأنّ المسألة ليست راجعة إليهم يضعون الامر فيمن يشاؤون، فقال: "أترون الامر إلينا نضعه حيث نشاء؟ كلا والله، إنّه لعهد معهود من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى رجل فرجل، حيث ينتهي إلى صاحبه"(3).
وأكّد في حديثه الاخير على حديث اللوح وغيره من الاحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبيان عدد وأسماء الائمّة من بعده.
وراح الصادق (عليه السلام) يبيّن لاصحابه وخوّاصه جزاء من يدّعي الامامة، فقال: "من ادّعى الامامة وليس من أهلها فهو كافر"(4).
وجعله مفترياً على الله ورسوله، فقال: "من ادّعى الامامة وليس بإمام، فقد افترى على الله وعلى رسوله وعلينا"(5).
وجعل مثواهم جهنّم خالدين فيها، فقال: (يَوْمَ الْقِيَامَة تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهم مُسْوَدَّة أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوَى لِلْمُتَكَبِّرِينَ)(6).
ثمّ جعل الناس كلّهم محتاجين إلى الامام، والامام مستغن عنهم، فقال: "حاجة
____________
(1) معاني الاخبار: ص 132، ح 2.
(2) معاني الاخبار: ص 132، ح 1.
(3) كمال الدين: ص 213 ـ 214، ح 9; بصائر الدرجات: ص 471، ح 3.
(4) الكافي: ج 1، ص 434، ح 2.
(5) ثواب الاعمال: ص 254، ح 2.
(6) غيبة النعماني: ص 111، ح 1.
فهذا هو التراث الحديثي الذي دعا أحمد الكاتب المتكلّمين إلى النظر فيه قبل تأويل "مابدا لله في شيء"، وهذه الحقائق التاريخيّة، فهل يستجيب الكاتب لها؟
إذن، نظرة الامام الصادق إلى الامامة هو عهد معهود من الله إلى نبيّه، وبلّغه رسوله إلى علي وبعض الصحابة، أمثال جابر الذي نقل حديث اللوح، وسلمان وغيرهما، فهذه النظرة هي المقدّمة الاولى التي دعانا الكاتب إلى سبرها لفهم كلام الامام الصادق (عليه السلام): "ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني".
ثانياً: هل توجد نصوص دلّت على إمامة إسماعيل؟:
تحدّى الشيخ الصدوق قبل مئات السنين، اُولئك النفر اليسير الذين قالوا بإمامة إسماعيل، تحدّاهم في أن يأتوا برواية واحدة تدل على مدّعاهم، فقال:
(بِمَ قلتم إنّ جعفر بن محمّد (عليه السلام) نصّ على إسماعيل بالامامة؟ وما ذلك الخبر؟ ومن رواه؟ ومن تلقّاه بالقبول؟ فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، وإنّما هذه حكاية ولّدها قوم قالوا بإمامة إسماعيل، ليس لها أصل)(2).
وكذلك تحدّى الشيخ المفيد، فقال:
(إنّه ليس أحد من أصحابنا يعترف بأنّ أبا عبدالله (عليه السلام) نصّ على ابنه إسماعيل، ولا روى راو ذلك في شاذ من الاخبار، ولا في معروف منها)(3).
وهكذا تحدّى علماء الشيعة ومفكّروهم بعدم وجود أي نص في ذلك، ولو كان شاذّاً وغير معروف على إمامة إسماعيل.
والمتتبع لما نقله التاريخ، وكتّاب الفرق والملل عنهم، يجد أنّهم تمسّكوا بالود والحبّ الذي يكنّه الامام الصادق (عليه السلام) لولده إسماعيل، أضف إلى ذلك أنّه أكبر ولده، وما ذنب
____________
(1) غيبة النعماني: ص 242، ح 40.
(2) كمال الدين: ص 75.
(3) الفصول المختارة: ج 2، ص 308 ـ 309.
(كان الناس في حياة إسماعيل يظنّون أنّ أبا عبدالله (عليه السلام) ينصّ عليه، لانّه أكبر ولده، وبما كانوا يرونه من تعظيمه، فلمّا مات إسماعيل زالت ظنونهم وعلموا أنّ الامامة في غيره)(1).
وهذه هي المقدّمة الثانية لفهم كلام الامام الصادق المتقدّم.
ثالثاً: هل توجد نصوص دلّت على إمامة موسى بن جعفر؟:
لقد حفلت كتب الاماميّة بالنصوص الدالّة على إمامة موسى بن جعفر، وعلى حد تعبير الشيخ المفيد: (فمن روى صريح النص بالامامة من أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) على ابنه أبي الحسن موسى (عليه السلام) من شيوخ أصحاب أبي عبدالله وخاصّته وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحين)(2).
فلقد روى الكليني والمفيد وابن الصبّاغ والعلاّمة والمجلسي عن الفيض بن المختار، قال: قلت لابي عبدالله (عليه السلام) خذ بيدي من النار، من لنا بعدك؟ قال: فدخل أبو إبراهيم ـ وهو يومئذ غلام ـ فقال: "هذا صاحبكم فتمسّك به"(3).
وروى المفيد والطبرسي وغيرهم، أنّ أبو عبدالله قال بحق موسى بن جعفر: (وهو القائم مقامي والحجّة لله تعالى على كافّة خلقه من بعدي)(4).
فلم يترك الصادق (عليه السلام) أصحابه بدون إمام، فلقد شخّصه لهم باسمه وعلاماته، وحفلت كتب الشيعة بعشرات النصوص الدالّة على إمامة موسى بن جعفر من قبل والده الصادق (عليهما السلام)، ولم يكتفِ الاصحاب بمعرفة الامام بعد الصادق (عليه السلام)، بل راحوا
____________
(1) المصدر السابق.
(2) الارشاد: ج 2، ص 216.
(3) الكافي: ج 1، ص 368، ح 1; الفصول المهمة: ص 231; الارشاد: ج 2، ص 217; بحار الانوار: ج48، ص 18، ح 18.
(4) إعلام الورى: ج 2، ص 7; الارشاد: ج 2، ص 220.
والمطالع لكتب الشيعة حول هذا الموضوع يجد قولنا نزراً يسيراً ممّا نقلوه ودوّنوه عن أئمّتهم (عليهم السلام).
وهذه هي المقدّمة الثالثة التي دعا الكاتب المتكلّمين إليها لفهم معنى قول الصادق (عليه السلام): "ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني".
رابعاً: ما معنى قول الصادق (عليه السلام):
(ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني)
بعد تلك المقدمات الثلاثة التي أكّدت أنّ الامام الصادق (عليه السلام) ينظر إلى الامامة إلى أنّها عهد من الله تعالى، ليس لاحد يضعه حيث يشاء، وبعدما نفى إمامة إسماعيل لاصحابه(2)، وبعد تنصيبه لولده موسى بن جعفر (عليه السلام) لموقع الامامة، بعد كلّ تلك المقدّمات التي حفلت كل واحدة منها بعشرات الاحاديث من قبل الامام، نستطيع أن نفهم قول الامام الصادق (عليه السلام): "ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني".
قال الشيخ الصدوق: (فأمّا قوله "ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني" يعني ما ظهر لله أمر كما ظهر له في إسماعيل ابني، إذ اخترمه ليُعلم بذلك أنّه ليس بإمام بعدي)(3).
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 369، ب 37.
(2) الكافي: ج 1، ص 337، ح 1.
(3) كمال الدين: ص 75.
وقال ابن الاثير معلّقاً على هذه العبارة في الحديث الذي جاء في صحيح البخاري: وفي حديث الاقرع والابرص والاعمى: بدا لله عزّ وجلّ أن يبتليهم(2).
فهذا المعنى وهذه الكلمة "ما بدا لله" لم تأت عند الشيعة فقط، بل جاءت عند السنّة أيضاً، وفي صحيح البخاري بالمعنى الصحيح الذي يمكن نسبته إلى الله تعالى، وليس كما ذهب إليه الكاتب وغيره.
أضف إلى ذلك، أنّ الشيخ المفيد جعل كلام الصادق (عليه السلام) كلاماً أجنبياً عن الامامة، فقال في تفسير الكلمة: (يعني ما ظهر لله تعالى فعل في أحد من أهل البيت (عليهم السلام) ما ظهر له في إسماعيل; ذلك أنّه كان الخوف عليه من القتل مستنداً، والظنّ به غالباً، فصرف الله عنه ذلك بدعاء الصادق (عليه السلام) ومناجاته لله فيه، وبهذا جاء الخبر عن علي ابن موسى الرضا (عليه السلام)، وليس الخبر كما ظنّه قوم من الشيعة في أنّ النص كان قد استقرّ في إسماعيل، فقبضه الله إليه وجعل الامامة بعده في موسى (عليه السلام)، فقد جاءت الرواية بضد ذلك عن أئمّة آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فروي أنّهم قالوا: "مهما بدا لله في شيء فإنّه لا يبدو له في نقل نبي عن نبوّته ولا إمام عن إمامته ولا مؤمن قد أخذ عهده بالايمان عن إيمانه")(3).
ونظر كلّ من الصدوق والمفيد إلى كلام الصادق (عليه السلام)، وأعطى تفسيره بناءً على ذلك التراث الذي دعا الكاتب المفكّرين اللجوء إليه قبل فهم قول الصادق المتقدّم، وسواء حمل كلام الصادق (عليه السلام) على فهم الشيخ الصدوق أو فهم المفيد لا يدل كلا الفهمين على ما ادّعاه الكاتب.
____________
(1) صحيح البخاري: كتاب الانبياء، باب ماذكر في بني إسرائيل، ح 3277.
(2) النهاية في غريب الحديث: ج 1، ص 109.
(3) المسائل الحكبريّة: ص 100، مسألة 37.
المبحث السابع: الامام الكاظم (عليه السلام)
إمامة موسى الكاظم (عليه السلام):
بعد النصوص الكثيرة التي اتفق على نقلها علماء الشيعة أمثال الصدوق والكليني والطوسي والمفيد وغيرهم، وبعد الاجماع الذي قال به النوبختي على إمامة موسى بن جعفر عندما قال: (فاجتمعوا ـ أصحاب أبي عبدالله الصادق ـ جميعاً على إمامة موسى بن جعفر)(1)، بعد كلّ ذلك، احتلّ الامام موسى الكاظم (عليه السلام) موقعه القيادي والتوجيهي للشيعة، وليس كما ذهب الكاتب إلى أنّ الامام الكاظم احتلّ مقامه القيادي بعد وفاة أخيه عبدالله الافطح، لانّ أصحاب الصادق (عليه السلام) ـ وكما يقول النوبختي ـ أنكروا إمامة عبدالله وخطّأوه في فعله وجلوسه مجلس أبيه وادعائه الامامة، وكان فيهم من وجوه أصحاب أبي عبدالله (عليه السلام) (2).
وعندما علم الكاتب بتلك النصوص الدالّة على إمامة موسى الكاظم (عليه السلام)، وقول النوبختي وغيره، راح يكذّب على الشيخ الصدوق، فقطع جزءاً من كلامه، واستدلّ به على عدم وجود نص على الامام الكاظم، وعدم عصمته، ونسب هذا التزوير للشيخ الصدوق، فقال: (يقول الشيخ الصدوق في معرض الاستدلال على إمامة الكاظم: إنّ الامام إذا كان ظاهراً واختلفت إليه شيعته ظهر علمه... وظهر من فضله في نفسه ما هو بين عند الخاصّة والعامّة، وهذه هي أمارات الامامة...)(3).
وأراد الكاتب من نقل هذا النص للصدوق القول: إنّ الامام موسى الكاظم يتمتع بمواصفات ليس بحاجة بعدها إلى النص أو العصمة.
وعوّدنا الكاتب على ذلك، فقد اقتطع صدر الكلام للشيخ الصدوق الذي صرّح بنصوص الامامة إلى الكاظم من قبل أبيه الصادق، وقال: (أوصى بالامامة إلى
____________
(1) فرق الشيعة: ص 89.
(2) فرق الشيعة: ص 89.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 90 ـ 91.
وعندما سبر تلك النصوص واطّلع على أقوال علماء الشيعة، ومنهم الصدوق الذي قال: (إنّ لنا أخبار وحملة آثار... نقلوا عن جعفر بن محمّد (عليه السلام) من علم الحلال والحرام... وحكوا مع نقل ذلك عن أسلافهم أنّ أبا عبدالله (عليه السلام) أوصى بالامامة إلى موسى (عليه السلام)...)(4)، ـ بعد أن علم بكلّ ذلك ـ عرف أن كلمة (لم تكن حاسمة) لا معنى لها، فرمى كلّ تلك النصوص بالوضع والتزوير والتحريف، فقال: (إنّ تلك النصوص لم تكن حاسمة في معركة الامامة، أو بالاحرى لم تكن موجودة في البداية)(5).
ولكن لم يناقش لا سنداً ولا متناً حتّى حديثاً واحداً من تلك الاحاديث التي قال عنها الشيخ الصدوق: (وردت إلينا من حملة الاثار، اُولئك الذين نقلوا إلينا الحلال والحرام).
وبعد الافلاس التام راح يتشبّث بالثورات التي قامت آنذاك، وجعلها علامة على نفي إمامة موسى الكاظم (عليه السلام)، ومن تلك الثورات ثورة شهيد فخ الحسين بن روح، ولكنّه نسي أنّ الحسين هذا لم يدَّعِ الامامة لنفسه، بل دعا إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورفض أي بيعة له إلاّ على هذا الشرط، فقال لاصحابه: (اُبايعكم على كتاب الله وسنّة رسول الله، وعلى أن يُطاع الله ولا يعصى، وأدعوكم إلى الرضا من آل
____________
(1) كمال الدين: ص 106.
(2) كمال الدين: ص 22.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 91.
(4) كمال الدين: ص 106.
(5) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 91.
ثمّ راح يكذّب على المؤرّخين عندما قال نقلاً عن مقاتل الطالبيين: إنّ عامّة الشيعة في عهد الكاظم انصرفوا إلى عيسى بن زيد بن علي وبايعوه سرّاً بالامامة.
ونحن ندعو كلّ أصحاب الفكر ليرجعوا إلى مقاتل الطالبيين(3) ليروا كذب الكاتب بأنفسهم.
موقف زرارة من إمامة الامام الكاظم (عليه السلام):
لقد أثارت الزيديّة أمام الاثني عشريّة شبهة تقول: إنّ زرارة مات ولم يعرف إمام زمانه، وأرسل ابنه عبيدالله إلى المدينة ليتعرّف على ذلك، ومات زرارة قبل عودة عبيدالله، ووضع زرارة المصحف على صدره وقال: اللهمّ إنّ إمامي من أثبت هذا المصحف إمامته من ولد جعفر بن محمّد (عليه السلام).
وكرّر أحمد الكاتب ـ كالببغاء ـ هذه الشبهة من لسان الزيديّة، وتجاهل كلّ الردود عليها من ذلك الزمان إلى يومنا هذا، ونحن هنا نبتعد عن البحث السندي لهذه الشبهة، ومتن الحديث الذي لا يدلّ على ما أراده، ونسلّم جدلاً بما يقول ليتبيّن الامر فيما بعد، وندرس ذلك في اتجاهات:
الاوّل: لماذا لم يخبر زرارة بعض الشيعة بالامام الذين طلبوا منه معرفة اسمه بعد وفاة الصادق (عليه السلام)، وأرسل ابنه عبيدالله ليتحسّس الخبر.
الثاني: هل روى زرارة خبراً ينافي هذه الشبهة.
الثالث: موقع زرارة عند أهل البيت (عليهم السلام).
أمّا الامر الاوّل: فقد أجاب عنه الامام الرضا بعد حفنة من السنين، وبعد وفاة
____________
(1) مقاتل الطالبيين: ص 378.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 92.
(3) مقاتل الطالبيين: ص 342.
وهذه الرواية بهذا السند المعتبر ـ كما عرفت حال رجاله ـ تؤكّد أنّ زرارة كان يعرف إمامه بعد الصادق (عليه السلام) جيّداً، ولكن كان يكتم ذلك، وعندما طُولِب بإظهار الامر وضع المصحف على صدره وقال: قوله المتقدّم.
ويبرز هنا سؤال، هل فعلاً كان زمن زرارة والوضع السياسي يتطلّب هذا التكتم على الامام موسى بن جعفر أم لا؟
أجاب عن هذا السؤال الكليني في الكافي عندما أثبت أنّ أبا جعفر المنصور بثّ
____________
(1) كمال الدين: ص 344، ذيل الحديث 6، باب 34 ما أخبر به الكاظم من وقوع الغيبة.
(2) رجال النجاشي: ص 260، رقم 680.
(3) رجال النجاشي: ص 333، رقم 896.
(4) رجال الكشي: الاحاديث: 1009، 1053، 1135، 1136.
(5) كمال الدين: ص 81.
وأجاب عن هذا السؤال موقف المنصور من الشيعة، عندما قال: قتلت من ذريّة فاطمة ألفاً أو يزيدون، وتركت إمامهم وسيّدهم جعفر بن محمّد.
وأجاب عنه أيضاً قول الصادق (عليه السلام) لزرارة عندما سأله عن التقيّة، قال له: إنّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر لصدقكم الناس علينا، ولكن أقل لبقائنا وبقائكم(2).
وأجاب عنه أيضاً الامام الكاظم لاصحابه الذين سألوا في أن يذيعوا أمره، قال: "لا تُذِع فإن أذعت فهو الذبح".
وأجابت عنه أيضاً وصيّة الامام الصادق (عليه السلام)، يقول أيّوب النحوي: بعث إليَّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل فأتيته، فدخلت عليه وهو جالس على كرسي، وبين يديه شمعة، وفي يده كتاب، فقال لي: هذا كتاب محمّد بن سليمان (من المدينة) يخبرنا أنّ جعفر بن محمّد قد مات... ثمّ قال لي: اكتب إن كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدّمه واضرب عنقه، قال: فرجع الجواب: إنّه قد أوصى إلى خمسة، أحدهم أبو جعفر المنصور. فقال المنصور: ليس إلى قتل هؤلاء سبيل(3).
هذه وصيّة الامام الصادق (عليه السلام)، يوصي فيها إلى خمسة منهم الامام الكاظم، ومنهم أبو جعفر المنصور، فهل توجد ترجمة لهذه الوصيّة غير الوضع السياسي المتربّص بالامام بعد الصادق (عليه السلام)، وكيف بهذا الوضع يُطالَب زرارة باعلان إمامة الكاظم من دون أن يستشيره في الامر، ولمّا لم يرجع الجواب كتم زرارة الامر تحسّباً لهذه الاوضاع.
وأمّا الامر الثاني: فإنّ زرارة روى عن الصادق (عليه السلام) خبراً ينافي عدم معرفته
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 351، ح 7.
(2) الكافي: ج 1، ص 65، ح 5.
(3) الكافي: ج 1، ص 370 ـ 371، ح 13 و14.
فهل من المعقول يسمع مثل زرارة الذي يقول عنه الصادق له ولاصحابه: "والله إنّهم أحب الناس إليَّ أحياءً وأمواتاً"(2)، ولم يسأل عن الامام الذي بعده.
واعلم أنّ هدف هذه التهمة التي أثارها الزيديّة وردّدها أحمد الكاتب(3)، ليس النيل من زرارة فقط، بل الهدف بالدرجة الاولى ضرب الامام الصادق (عليه السلام)، الذي لا تؤمن به الزيديّة من خلال ضرب أعوانه وأنصاره المقرّبين إليه، لانّ الامام الصادق يقول على لسان جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهليّة"(4)، فتكون موتة زرارة على قولهم ـ مع مدح الامام الصادق له وقربه منه ـ موتة جاهليّة، فالامامة ليست عند الصادق (عليه السلام)، بل عندنا نحن الزيديّة.
وأمّا الامر الثالث: فإنّ رجال الشيعة وعلماءها أثبتوا وبطرق مختلفة جلالة وعظمة بيت زرارة وعلمهم بالامامة بشكل قاطع لا يقبل الشكّ، يقول الحسين بن روح متحدّثاً عن بيت زرارة: (أهل بيت جليل عظيم القدر في هذا الامر)(5)، ويريد بالامر الامامة، وبعد أن علم الكاتب أنّ الطعن في بيت زرارة وشخص زرارة ليس كافياً للتشويش والتدليس، قال: (إنّ أقطاب الاماميّة لم يكونوا يعرفون بأي نص حول الكاظم)(6)، فهنا لم يكتفِ بزرارة، بل شمل الامر أقطاب الاماميّة.
فكيف لا يعرفون النص، وقد روى الكليني (16) حديثاً للنص على الامام
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 432، ح 1.
(2) كمال الدين: ص 82.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 88.
(4) الكافي: ج 1، ص 438، ح 2.
(5) الغيبة للطوسي: ص 184.
(6) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 90.
وكيف لا تعرف الاقطاب النص على موسى الكاظم (عليه السلام)، وهذا الفيض بن المختار قال: قلت لابي عبدالله (عليه السلام): خذ بيدي من النار، من لنا بعدك؟ فدخل أبو إبراهيم الكاظم (عليه السلام) وهو يومئذ غلام، فقال: "هذا صاحبكم فتمسّك به"(2).
وكيف لا تعرف الشيعة الامام الكاظم (عليه السلام)، والصادق (عليه السلام) يوصي أحد أصحابه بأن يوضّح لاصحابه الثقات أمر الكاظم (عليه السلام) (3). أضف إلى ذلك، قول الصادق لاصحابه: "هذا صاحبكم فتمسكوا به"، كما يقول المفيد والكليني وابن الصبّاغ(4).
ولم يكتفِ الامام (عليه السلام) بذلك، بل أوضح إلى سليمان بن خالد أمر الكاظم (عليه السلام) بقوله: "عليكم بهذا بعدي، فهو والله صاحبكم بعدي"(5).
وبعد أن سُدّت الابواب بوجه الكاتب، راح يحرّف ويزوّر ويقطع الحديث، فلقد استدلّ بصدر حديث يقول: إنّ هشام بن سالم وأصحابه ذهبوا إلى المدينة يسألون عن الامام. وسلّم الكاتب بهذا المقطع، ولكن تجاهل ذيل الرواية وهو دخولهم على الكاظم (عليه السلام) وتصريحهم بأنّه الهدى إلى الله(6)، والامام من بعد أبيه.
أكاذيب أحمد الكاتب حول إمامة الكاظم (عليه السلام)
الكذبة الاولى:
قال: (لم يكن الامام موسى الكاظم يدعو إلى نفسه)(7).
ولا أدري ماذا يفسّر كلام الامام موسى بن جعفر (عليهما السلام) إلى هشام بن سالم، عندما
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 368 ـ 372، باب 71.
(2) الكافي: ج 1، ص 368، ح 1.
(3) الارشاد: ج 2، ص 216 ـ 217.
(4) الكافي: ج 1، ص 368، ح 1; الارشاد: ج 2، ص 217; الفصول المهمة: ص 231.
(5) الكافي: ج 1، ص 371، ح 12; الارشاد: ج 2، ص 219.
(6) الكافي: ج 1، ص 412 ـ 413، ح 7.
(7) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 92.