الصفحة 227
سأله عن الامام، وأنّ قسماً من الشيعة لا يعرفون الامام، فقال له: "لا إلى المرجئة، ولا إلى القدريّة، ولا إلى الزيديّة، ولا إلى المعتزلة، والا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ"(1).

ولا يستطيع الكاتب ردّ هذه الرواية، لانّه استدلّ بصدرها في (ص 90)، حيث ورد في الصدر أنّ مجموعة من الشيعة كانوا لا يعرفون الامام فتحيّروا إلى أين يذهبون إلى المرجئة، أم إلى القدريّة، أم الزيديّة، أم المعتزلة، أم الخوارج، فرأى الكاتب أنّ هذا الكلام بنفعه ليقول: إنّ الشيعة لا يعرفون الامام، فاستدلّ بصدرها(2)، وقطع كلام الامام، وهنا قال: لم يكن الامام يدعو إلى نفسه، فلا عذر للكاتب في رد الرواية أبداً.

الكذبة الثانية:

قال: (لم يكن يوجد عليه أي نص خاص من الله أو من أبيه).

والمطالع لكتب الشيعة المختصّة بهذا المجال يجد أنّهم أفردوا أبواباً خاصّة للنصوص على أئمّتهم، فهذا الكليني أفرد باباً خاصّاً نقل فيه (16) حديثاً، كلّها تدلّ على إمامة الكاظم (عليه السلام) بنص أبيه وأجداده، وسمّى ذلك الباب: (الاشارة والنص على إمامة الامام الكاظم)(3).

أضف إلى ذلك، اعترافات علماء الشيعة بورود النصوص على إمامة الكاظم (عليه السلام) من أبيه، يقول الشيخ الصدوق: "إنّ أبا عبدالله (جعفر الصادق) أوصى بالامامة إلى موسى"(4).

واعترف علي بن جعفر، أخو الامام الكاظم (عليه السلام) بإمامة أخيه، حيث قال: كنت عند أخي موسى بن جعفر، وكان والله حجّة بعد أبي صلوات الله عليه(5).

وبعد هذا الكذب الصريح، راح يستهزئ بحدوث الكرامات لاُولئك الائمّة (عليهم السلام)،

____________

(1) الكافي: ج 1، ص 412 ـ 413، ح 7.

(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 90.

(3) الكافي: ج 1، ص 368 ـ 372/ باب الاشارة والنص على أبي الحسن موسى، الاحاديث 1 ـ 16.

(4) كمال الدين: ص 106.

(5) الغيبة للطوسي: ص 28.


الصفحة 228
اُولئك الذين شهدت سيرتهم الذاتيّة بتقواهم ووروعهم وقربهم من الله، وكما حدّث به كلّ علماء الرجال من السنّة والشيعة، فلقد حدثت الكرامات لاُناس لم يكونوا بدرجتهم من الايمان والورع والتقوى، فكيف بالائمّة، ومن راجع كتاب كرامات الاولياء(1) يجد وضوح هذا الكلام.

المبحث الثامن: الامام الرضا (عليه السلام)


أكاذيب أحمد الكاتب حول إمامة الرضا (عليه السلام):

الكذبة الاولى:

قال: (غموض النص على إمامة علي بن موسى الرضا)(2).

لقد روى الكليني في الكافي (16) حديثاً حول إمامة الرضا (عليه السلام)، بعدد أحاديث إمامة الكاظم (عليه السلام)، وأفرد لها باباً أسماه: الاشارة والنص على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، وكذلك الشيخ المفيد في الارشاد، واختلفت ألسن تلك الاحاديث اختلافاً لفظيّاً، واتفقت على إمامة الرضا (عليه السلام) من بعد أبيه الكاظم (عليه السلام)، فمن تلك الالفاظ: (هذا صاحبكم بعدي)، (اشهدوا أنّ ابني هذا وصيي والقيّم بأمري وخليفتي من بعدي)، (وقال له سائل: أخبرني من الامام بعدك، فقال: ابني فلان، يعني الحسن الرضا)، وغير ذلك من الاحاديث الكثيرة التي رواها خاصّة الامام الكاظم وثقاته، وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته، مثل داود بن كثير الرقّي، ومحمّد بن إسحاق بن عمّار، وعلي بن يقطين، ونعيم القابوسي وغيرهم، كما يقول الشيخ المفيد والكليني(3).

الكذبة الثانية:

قال: (إنّ زوجة الكاظم الاثيرة اُم أحمد لم تعرف إمامة الرضا)(4).

____________

(1) جامع كرامات الاولياء: ج 1 وج 2.

(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 94.

(3) الارشاد: ج 2، ص 248، ح 11; الكافي: ج 1، ص 372 ـ 380، باب الاشارة والنص على الامام الرضا (عليه السلام).

(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 94.


الصفحة 229
واعتمد الكاتب في هذا الكلام على رواية أشار لها في الهامش، ولم ينقلها بالنص، لانّ الرواية ليس فيها ما يدّعيه، وسننقلها حتّى يتبيّن ذلك:

عن مسافر، قال: أمر أبو إبراهيم (عليه السلام) حين اُخرج به أبا الحسن أن ينام على بابه في كل ليلة... فلمّا كان ليلة من الليالي أبطأ عنه، وفُرِش له، فلم يأت كما كان، فاستوحش العيال وذُعروا، ودَخَلَنا أمر عظيم من إبطائه، فلمّا كان من الغد أتى الدار ودخل على العيال وقصد إلى اُمّ أحمد، فقال لها: هاتِ التي أودعك أبي، فصرخت ولطمت وجهها وشقّت جيبها، وقالت: مات والله سيّدي.... فأخرجت له سفطاً وألفي دينار وأربعة آلاف دينار، فدفعت ذلك أجمع إليه دون غيره، وقالت: إنّه قال لي فيما بيني وبينه وكانت أثيرة عنده: احتفظي بهذه الوديعة عندك لا تطلعي عليها أحداً حتّى أموت، فإذا مضيت فمن أتاك من ولدي فطلبها منك فادفعيها إليه واعلمي أنّي مت....(1).

فالرواية كما هو واضح لا علاقة لها بتشخيص الامام، بل ناظرة إلى الوقت الذي تعلم فيه زوجة الامام بوفاته، فلعلّ تلك المرأة كانت تعلم بإمامة الرضا، وتجهل أمر زوجها، هل هو حي أم لا؟ وعندما طلب منها الرضا الوديعة علمت بوفاته.

أضف إلى ذلك، أنّ الرواية تحمل أمراً أنكره الكاتب، وهو أنّ الامام لا يغسله إلاّ إمام، فهي تشير إلى غياب الامام الرضا (عليه السلام) ليلة كاملة لا يعرفون مكانه، ولا يستطيع الكاتب أن ينكر الرواية، لانّه قد استفاد منها استفادة خاطئة.

ثمّ أضاف إلى كذبه: (إنّ الشيعة بايعت أحمد ابن الامام الكاظم بالامامة، وأخذ البيعة منهم)، مع أنّ الشيخ المفيد يقول: إنّ أحمد كان كريماً جليلاً ورعاً، وكان أبو الحسن يحبّه ويقدّمه، وكذلك قال السيّد الخوئي(2). وتفرّد الكاتب بنسبة البيعة إليه.

الكذبة الثالثة:

قال: (تشبّث الاماميّون في عمليّة إثبات الامامة للرضا بوصيّة الامام الكاظم إليه... ولكن الوصيّة كانت غامضة أيضاً)(3).

____________

(1) الكافي: ج 1، ص 444، في أنّ الامام متى يعلم أنّ الامر قد صار إليه.

(2) الارشاد: ج 2، ص 244; معجم رجال الحديث: ج 2، ص 345، رقم 982.

(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 94.


الصفحة 230
ويرد على ذلك أنّ الاماميّة لديها من النصوص الكثيرة جدّاً غير الوصيّة تدلّ على إمامة الرضا من قبل أبيه وأجداده، نقلها الكليني والمفيد والطوسي وغيرهم، أضف إلى ذلك أنّ الوصيّة لم تكن غامضة كما يدّعي الكاتب، فقد جعلت تلك الوصيّة الامام الرضا هو المحور في كلّ شيء، وأنّ بقيّة أبناء الامام كما عبّرت الوصيّة التي وردت على لسان الكاظم: "لا أمر لهم معه"، وجاء فيها: "أي شخص يمنع الرضا من هذه الوصيّة فهو برئ من الله ورسوله، وأي سلطان أو أحد من الناس كفه (الرضا) عن شيء أو أحال بينه وبين شيء ممّا ذكرت، فهو من الله ومن رسوله برئ، والله ورسوله منه براء، وعليه لعنة الله وغضبه ولعنة اللاعنين والملائكة المقرّبين والنبيين والمرسلين وجماعة المؤمنين"(1).

فأي أمر تحمل هذه الوصيّة كي يسوّرها الكاظم (عليه السلام) بهذه الاسوار التي تُخرِج الانسان من الاسلام رأساً؟

ولهذا السبب اعترف القاضي أبو عمران الطلحي قاضي المدينة بمكانة علي بن موسى الرضا، فقال: ما أحد أعرف بالولد من والده، والله ما كان أبوك عندنا بمستخفّ في عقله ولا ضعيف في رأيه(2).

وتقول الرواية: عندما فضّ الخاتم العبّاس بن موسى وجدوا فيه إخراجهم (أي جميع ولد الامام موسى بن جعفر إلاّ على بن موس الرضا) وإقرار علي لها وحده، وإدخاله إيّاهم في ولاية علي إن أحبّوا أو كرهوا، وإخراجهم من حدّ الصدقة وغيرها، وكان فتحه عليهم بلاء وفضيحة وذلّة، ولعلي (عليه السلام) خيرة، كما تقول الرواية.

إمامة الرضا (عليه السلام) وموقف الشيعة:

لقد طرح الكاظم (عليه السلام) إمامة ولده الرضا لشيعته في حياته، فتارة ينص عليه بالامامة من بعده، يقول الشيخ الكليني بسنده عن داود الرقي، قال: قلت لابي إبراهيم (عليه السلام) جُعِلت فداك انّي قد كبر سنّي فخذ بيدي من

____________

(1) الكافي: ج 1، ص 378، باب الاشارة والنص على أبي الحسن الرضا.

(2) المصدر السابق.


الصفحة 231
النار، فأشار إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: "هذا صاحبكم من بعدي"(1)، وكذلك عندما سألوه عن الخلف من بعده، قال: "هذا أبو الحسن الرضا"(2).

ونقل الكليني (16) حديثاً حول إمامة الرضا (عليه السلام) (3)، وكذلك المفيد، وأفرد علماء الشيعة لمراسيم تنصيب الامام علي الرضا (عليه السلام) وتقليده الامامة أبواباً خاصّة سمّيت باسم الاشارة والنص على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، كلّ هذا لم يلتفت إليه الكاتب ولم يناقشه بكلمة واحدة، وأطلق عبارة إعلاميّة تقول بغموض النص على إمامة الرضا (عليه السلام) (4).

ولم يشهد الشيعة وحدهم بإمامة الرضا (عليه السلام)، بل شهد أعداء الشيعة وأعداء الامام الرضا أيضاً بذلك، فقام عامل المأمون خطيباً عندما أرسل إليه المأمون رسالة قال فيها: اخطب الناس وادعهم إلى بيعة الرضا، فلنر ماذا قال هذا الرجل في خطبته، هل دعا الناس بأمر المأمون، وأنّهم يجب عليهم الطاعة، أم دعاهم إلى ما في نفوسهم ومكنون ضميرهم؟ فقال عبدالجبّار بن سعد المساحقي عامل المأمون:

(أيّها الناس; هذا الامر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب).


ستة آباؤهم ما هممن أفضل من يشرب صوب الغمام(5)

ولا تحتاج هذه الخطبة إلى شرح يبيّن موقع الرضا في النفوس، والعجيب من الكاتب أن يقول: (ولم يظهر عليهم أي ميل خاص لامامة علي بن موسى الرضا)(6).

____________

(1) الكافي: ج 1، ص 372، ح 3.

(2) الكافي: ج 1، ص 373، ح 5.

(3) الكافي: ج 1، باب الاشارة والنص على أبي الحسن الرضا (عليه السلام).

(4) أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي: ص 95.

(5) العقد الفريد: ج 5، ص 101 ـ 102.

(6) أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي: ص 95.


الصفحة 232
أيُّ ميل أكثر من هذا الذي تحدّث عنه عامل المأمون عدوّ الرضا (عليه السلام)، وهذا العامل يعرف الناس وميولهم لانّه كان والياً عليهم.

وبعد أن يئِس الكاتب من كلامه المتقدّم التجأ إلى قادة البيت العلوي ليجعل منهم قادة للزعامة الشيعيّة، فقال:

(ونتيجة لغموض النص حول الامام الرضا..... فقد برز عدد من الزعماء العلويين الاخرين كقادة للحركة الشيعيّة المعارضة، كعلي بن عبيدالله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبدالله بن موسى، ومحمّد بن إبراهيم (ابن طبا) بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب)(1).

ولنبحث معاً في مواقف هؤلاء، هل هم حقّاً كانوا يجهلون موقع الرضا (عليه السلام)، كما يقول الكاتب أم لا؟

أمّا بالنسبة إلى علي بن عبيدالله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، هذا الرجل كما يقول الكليني يعرف مقام الامام الرضا جيّداً، وصرّح بذلك عندما قال: (أشتهي أن أدخل على أبي الحسن (عليه السلام) اُسلِّم عليه، فقال له أحدهم: فما يمنعك من ذلك؟ قال: الاجلال والهيبة له، وأتقي عليه).

وشهد الامام الرضا (عليه السلام) له ولزوجته بأنّه على علم تام بالامامة، فقال (عليه السلام) لسليمان ابن جعفر عندما حدّثه عنه قال له: "يا سليمان إنّ علي بن عبيدالله وامرأته وبنيه من أهل الجنّة، من عرف هذا الامر من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) لم يكن كالناس"(2).

ولا يستطيع الكاتب أن يرمي هذه الرواية بضعف السند أو ما شابه ذلك، لانّ السيّد الخوئي بعد تحقيق لها قال: هذه الرواية صحيحة(3).

إذن، فقد نسب الكاتب الكذب حتّى إلى الامام الرضا (عليه السلام)، لانّ الامام أقرّ بولاية الرجل وأنكر الكاتب ذلك.

____________

(1) أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي: ص 95.

(2) الكافي: ج 1، ص 439، باب فيمن عرف الحقّ من أهل البيت ومن أنكره، كتاب الحجّة.

(3) معجم رجال الحديث: ج 12، ص 89.


الصفحة 233
وأمّا عبدالله بن موسى، والذي جعله الكاتب طامعاً في منصب الامامة، يقول السيّد الخوئي بحقّه: (إنّه لم يتصدَّ لهذا الموقع أبداً)(1)، وكذلك ابن طبا، فهؤلاء لم يتصدّوا لموقع الامامة، بل تصدّوا لموقع قيادة المعارضة، وهذا التصدّي لم يكن بعيداً عن أنظار الامام الرضا (عليه السلام) الذي صرّح لسليمان بن جعفر بأنّ علي بن عبيدالله بن الحسن يعرف هذا الامر.

وكيف يجهل هؤلاء الامام الرضا، ويعرفه عدوّه، فقد دخل ابن مؤنس يوماً على المأمون ورأى الامام جالساً إلى جنبه، فقال للمأمون: يا أمير المؤمنين هذا الذي بجنبك والله صنمٌ يُعبد من دون الله(2).

وكذب ابن مؤنس، فهو إمام يطاع، مفروض الطاعة من الله، ولكنّه أراد أن يثير حفيظة المأمون بهذا الكلام.

وكيف يجهل هؤلاء الامام الرضا، وقد جعل الامام طاعته مفروضة من الله، كطاعة علي بن أبي طالب عندما سأله رجل، قال له: طاعتك مفروضة، فقال: "نعم"، قال: مثل طاعة علي بن أبي طالب، قال: "نعم"(3).

وهل هناك تأويل يتفضل به الكاتب علينا لقول الرضا (عليه السلام)، وهو يمرّ بنيسابور: "لا إلـه إلاّ الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي". ولكن لم يتركها على حالها، بل قال: "بشروطها وأنا من شروطها"(4).

ولا يستطيع الكاتب أن ينكر هذا الحديث، لانّ السند فيه هو السلسلة الذهبيّة الذي يقول عنه أحمد بن حنبل: لو قُرِئ هذا الاسناد على مجنون لبرئ من جنّه(5).

ويقول المأمون العدوّ اللدود للامام: (هذا خير أهل الارض وأعلمهم وأعبدهم).

____________

(1) معجم رجال الحديث: ج 10، ص 352 ـ 353.

(2) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 161; مسند الامام الرضا: ج 1، ص 86، باب ما وقع بينه وبين المأمون.

(3) الكافي: ج 1، ص 243، ح 8; الاختصاص: ص 278; مسند الامام الرضا: ج 1، ص 103.

(4) أمالي الصدوق: ص 306، ح 349.

(5) مناقب آل أبي طالب: ج 4، ص 341 ـ 342.


الصفحة 234
وننقل للكاتب الذي جهل موقع الرضا بالاُمّة، ننقل له كلمة للدكتور الشبيبي حيث يقول: (وجاء الرضا ليكون مطمح أنظار الطوائف الاسلاميّة كلّها)(1).

فلاحظ كيف خالف الكاتب أبسط وأجلى حقيقة في الفكر الاسلامي، ولهذه المكانة العظيمة في المجتمع الاسلامي وقف كلّ الثوّار، وكلّ الاحرار أمام الرضا (عليه السلام) وقفة المطيعين، ولم يحدّثنا التاريخ ـ كما يقول السيّد مرتضى العاملي ـ عن حدوث أي ثورة علويّة ضد المأمون بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبدالرحمن بن أحمد في اليمن، وكان سببها ـ باتفاق المؤرّخين ـ هو فقط ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرّد الوعد بتلبية مطالبه، والسرّ في عدم القيام بالثورات هو أنّ الكلّ قادة وسوقة ينظرون إلى الرضا (عليه السلام) إماماً من أئمّة الله تعالى(2).

وعدم حصول ثورة بعد البيعة نقطة تستوقف الباحث، فلعلّ كلّ الثورات التي حدثت من العلويين والشيعة كانت بإيعاز من الائمّة، وهذا ما ترجمه المأمون برسالته إلى عبدالله بن موسى، حيث قال: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا)(3).

أحمد الكاتب يبرّئ ساحة المأمون:

لم يكتفِ الكاتب بالتجرّي على الائمّة (عليهم السلام)، بل راح يبرّئ ساحة أعدائهم، فهو يقول: (إنّ المأمون قد عاهد الله أن يضع الخلافة في أفضل العلويين)(4).

إذن، المسألة أنّ المأمون قد عاهد الله، ولم يكن هناك تخطيط مسبق، فلنستنطق التاريخ عن هذه الحقيقة بهذه الاسئلة:

هل كان فعلاً عهد من المأمون إلى الله في تحويل الخلافة؟

____________

(1) الصلة بن التصوّف والتشيّع: ص 32.

(2) الحياة السياسيّة للامام الرضا (عليه السلام): ص 226.

(3) المصدر نفسه.

(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 97.


الصفحة 235
وهل قَبِلَ الامام هذه الخلافة برحابة صدر لانّها عهد من قبل المأمون لله تعالى؟

أمّا بالنسبة للسؤال الاوّل فيجيبنا عنه المأمون نفسه، عندما قال له الريان: إنّ الناس يقولون: إنّ البيعة للامام كانت من تدبير الفضل بن سهل، قال المأمون.... ويحك يا ريّان أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة وقد اسقامت له الرعيّة والقوّاد، واستوت له الخلافة، فيقول له ادفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟ أيجوز هذا في العقل(1).

فهل يحتاج كلام المأمون إلى توضيح؟ إذن، مكانة الامامة والطاعة المفروضة من الله للائمّة حتّمت على المأمون أن يغيّر أساليب التصفية الجسديّة إلى سياسة الاحتواء، حتّى يحفظ للعبّاسيين حكمهم ودولتهم، وصرّح المأمون بقوله للعبّاسيين عندما احتجّوا على ولاية العهد هذه، فقال: (فإن تزعموا أنّي أردت أن يؤول إليهم ـ للعلويين ـ عافية ومنفعة، فإنّي في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم ولابنائكم من بعدكم)(2).

إذن، ولاية العهد في ظلّ سياسة الاحتواء هذه هي لتركيز السلطة والسيطرة عليها بسياسة جديدة، ولكن يقظة وحذر الامام قلبت على المأمون موازينه، حيث صرّح أبو الصلت أنّ هذه الولاية رفعت الامام وازداد بها فضلاً عند الناس ومحلاًّ في نفوسهم، فلم يتقبّل ذلك المأمون وعاد إلى سياسة آبائه; التصفية الجسديّة(3).

وأمّا السؤال الثاني: هل قبل الامام الخلافة برحابة صدر؟ كي يوضح لنا أنّ الامر هو عهد من المأمون إلى الله في تحويل الخلافة، كما يقول الكاتب أم لا؟

لقد طالعنا التاريخ بجواب لهذه المسألة:

يقول ابن كثير والقندوزي الحنفي والصدوق والمفيد والكليني: إنّ المأمون قال

____________

(1) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 163، ح 22; مسند الامام الرضا: ج 1، ص 75، باب ما وقع بينه وبين المأمون.

(2) الحياة السياسيّة للامام الرضا (عليه السلام): ص 207.

(3) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 264.


الصفحة 236
للرضا (عليه السلام).... فإنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك واُبايعك.

قال الامام: "إن كانت هذه الخلافة لك فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك".

قال المأمون: لابدّ لك من قبول هذا الامر.

قال الامام: "لست أفعل ذلك طائعاً أبداً"(1).

فالكلام المنمّق للمأمون الذي جعله الكاتب دليلاً له، ارتطم بحنكة الامام السياسيّة وتدبيره، وسرعان ما رجع إلى حقيقته (لابدّ لك من قبول هذا الامر).

وقد صرّح الامام بكراهيّته لهذا الامر، فقال: "قد علم الله كراهيّتي"(2).

ولماذا لا يكره ذلك وهو مجبور على قبوله وإلاّ القتل، وتحدّث الامام عن ذلك فقال: "خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل فاخترت القبول على القتل... ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إجبار وإكراه"(3).

ووصف الامام (عليه السلام) قبوله الولاية بقبول جدّه علي (عليه السلام) بالشورى التي خلّفها عمر ابن الخطّاب، فقال لاحدهم عندما استنكر ذلك، قال له: ما حمل جدّي على الدخول في الشورى(4).

ولم يقف الكاتب عند اتهام الامام وتبرئة ساحة المأمون، بل راح يمدح المأمون، فقال: (وقد أعاد المأمون الفكر العبّاسي السياسي إلى الجناح العلوي الفاطمي، وأعلن أنّ الحقّ الاساسي في الخلافة للعلويين بناء على حقّ الامام في خلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم))(5).

وأتصوّر أنّ الكاتب عندما بحث هذا لم يكن بوعيه التام، لانّه لو طالع مطالعة سريعة للتاريخ، لوجد أنّ المأمون يصرّح وبعبارة لا تقبل التأويل مجيباً الريّان: ويحك

____________

(1) البداية والنهاية: ج 10، ص 273; علل الشرائع: ج 1، ص 236; الارشاد: ص 310.

(2) الامالي للصدوق: ص 757/ 1022; بحار الا نوار: ج 49، ص 130.

(3) الامالي للصدوق: ص 757/ 1022; علل الشرائع: ج 1، ص 239.

(4) معادن الحكمة: ج 2، ص 192; عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 152.

(5) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 97.


الصفحة 237
يا ريّان أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة وقد استقامت له الرعيّة والقوّاد، واستوت له الخلافة، فيقول له ادفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟ أيجوز هذا في العقل(1).

ونترك الاجابة لاحمد الكاتب فقد يجوّز عقله ذلك!!

النتيجة المتوقعة:

بعد أن فشل المأمون في سياسة الاحتواء لكي يركّز قيادة العبّاسيين ويدعمها باستغلال الرضا (عليه السلام)، بعد هذا الفشل الذي تحدّث عنه أبو الصلت وقال: إنّ المأمون كان يكرمه ويحبّه لمعرفته وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنّه راغب في الدين، فلمّا لم يظهر منه إلاّ ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاًّ في نفوسهم انقلب عليه(2).

يقول ابن حجر وابن الصبّاغ وغيرهم: (إنّ المأمون سمّ الامام الرضا (عليه السلام))(3).

وتكتم أحمد الكاتب على هذه الجريمة لشكّه في عمليّة السم هذه، ولم يشر إليها، ولكي نثبت للكاتب أنّ الذي دسّ السمّ هو المأمون، حتّى يقطع في ذلك، لانّ دينه منعه من اتهام المأمون، ولم يمنعه من التزوير والتحريف، نقول:

إنّ هذه الحقيقة تتبيّن من خلال ما دار في أذهان اُولئك الذين عاشوا ذلك العصر، فهم أدرى بمن فعل هذه الفعلة، فالناس قالوا: إنّ المأمون هو الذي سمّ الرضا، وهذا ما نستكشفه من كلام المأمون للرضا عندما قال للامام قبل موته: (وما أدري أيّ المصيبتين عليَّ أعظم، فقدي إيّاك أو تهمة الناس لي أنّي اغتلتك وقتلتك)(4).

____________

(1) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 163، ح 22; مسند الامام الرضا: ج 1، ص 75، باب ما وقع بينه وبين المأمون.

(2) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 263.

(3) الصواعق المحرقة: ج 2، ص 593; الفصول المهمة: ص 262; إثبات الوصيّة: ص 216; التنثية والاشراق: ص 302; مروج الذهب: ج 4، ص 35.

(4) مقاتل الطالبيين: ص 460; عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 269، ح 1.


الصفحة 238
فالناس كانوا على علم بالقاتل والفاعل لهذه الفعلة الخسيسة التي ورثها العبّاسيون من الامويّين، وبالخصوص من معاوية.

وما إن توفي الرضا (عليه السلام)، ومرّت فترة لم تكن طويلة حتّى برز ما أضمره المأمون سنين وسنين، حيث أمر عامله على مصر بأن (يغسل المنابر التي دعي عليها لعلي بن موسى فغسلت)(1).

وبعد كلّ هذه الحقائق الجليّة جاء الكاتب ليبرر شرعيّة خلافة المأمون بكلّ ما في جعبته، ولكن أبى الصبح إلاّ أن يسفر عن وجهه.

جنايات المؤرّخين بحقّ الرضا (عليه السلام):

عندما يحاول بعض الناس الالتفاف على قضيّة من القضايا، يذكر لها أسباب فيها نوع خفاء، حتّى تنطلي على الناس، بحيث لا يستطيع أحد أن يكشفها، بينما نجد بعض المؤرّخين عندما يصلون إلى أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) يتوسّلون باُمور لا يعقلها الطفل الصغير فضلاً عن القارئ المتأمّل.

ونحن هنا أمام حادثة سم الامام الرضا (عليه السلام)، فلقد جنى الطبري وابن الاثير وأبو الفداء وغيرهم على أنفسهم وعلى عقولهم قبل جنايتهم على الحقيقة، عندما قالوا في قضيّة موت الرضا (عليه السلام): (إنّه أكل عنباً فأكثر منه فمات)(2).

إمام من أئمّة المسلمين، وولي العهد، يكثر من أكل العنب فيكون سبباً في موته، ولا أدري أيوجد مصدِّق لذلك أم لا؟!

هذه الاُمور تدعونا للتوقّف أمام كلّ ما نقله هؤلاء في كتبهم، والبحث عن مقاصدهم، قبل النظر في سطورهم وأوراقهم. ولم يصدّق البعض هذه الاُكذوبة، وفكّر بمحاولة جديدة للالتفاف على المسألة، فقال: إنّ موت الامام كان فجأة(3).

وهذا على الاقل، أهون من السابق، ونسب فريق آخر السم إلى (القيل) ليقلّل منها

____________

(1) الولاة والقضاة للكندي: ص 170.

(2) الطبري: ج 7، ص 150; الكامل في التاريخ: ج 6، ص 35; تاريخ أبي الفداء: ج 2، ص 23، وغيرهم.

(3) تاريخ ابن خلدون: ج 3، ص 313.


الصفحة 239
ويضعّفها، أمثال اليعقوبي.

وصرّحت بعض الكتب، كالصواعق المحرقة والفصول المهمة وإثبات الوصيّة والتنبيه والاشراف ومروج الذهب وغيرها، بأنّ المأمون قد سمّ الرضا (عليه السلام) (1).

المأمون يعرف الامامة والكاتب يجهلها:

لقد نوّه الامام للمأمون بإمامته، وذلك من خلال قوله له: "وما زادني هذا الامر الذي دخلتُ فيه في النعمة عندي شيئاً، ولقد كنت في المدينة وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب، ولقد كنت أركب حماري وأمر في سكك المدينة وما بها أعزّ منّي"(2).

واعترف المأمون بالامامة ووجوب نصب الامام من قبل الله كالنبي، فقال بأنّ الامام حجّة الله على خلقه ومعدن العلم ومفترض الطاعة(3).

وهذه المعرفة لم تقتصر على المأمون فقط، بل كان عمّاله أيضاً، يرون هذا كما نقل عن عبدالجبّار بن سعيد المساحفي، وكذلك الفضل بن سهل(4).

كلّ ذلك أنكره أحمد الكاتب وأهمله ولم يشر إليه.

أحمد الكاتب ينكر إمامة الرضا (عليه السلام):

لقد ذكر الكاتب حديثاً واحداً عن يزيد ابن سليط حول إمامة الرضا (عليه السلام)، وقال: (هو أبرز ما في تلك النصوص)(5).

ثمّ قال: (إنّ هذه الرواية الاخيرة هي أكثر الروايات الواردة بشأن إمامة الرضا صراحة

____________

(1) الصواعق المحرقة: ج 2، ص 593; الفصول المهمة: ص 262; إثبات الوصيّة: ص 216; التنبيه والاشراف: ص 203; مروج الذهب: ج 4، ص 35.

(2) الكافي: ج 8، ص 151، ب 8، ح 151.

(3) الحياة السياسيّة للامام الرضا (عليه السلام): ص 333.

(4) رسالة الفضل للامام، الحياة السياسيّة للامام الرضا (عليه السلام): ص 445 ـ 446.

(5) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 99.