فأوّل الكاتب الرواية وحمّلها تحميلاً قسريّاً، بالرغم من هجومه على بعض مَنْ يؤولون الاحاديث، ونحن نتجنّب البحث فيها، ونذكر للقارئ عدّة روايات اُخرى نصّاً وتصريحاً على إمامة الرضا (عليه السلام)، جهلها الكاتب ولم يلتفت إليها، لما فيها من الوضوح والصراحة، بل كذب على القارئ بأنّه لا يوجد أبرز من تلك الرواية التي ذكرها، وإليك بعض ما ورد في كتب الشيعة حول إمامة الرضا (عليه السلام):
يقول الكليني بسنده إلى داود الرقي، قال: قلت لابي إبراهيم (عليه السلام): جعلت فداك، إنّي قد كبر سنّي فخذ بيدي من النار، قال: فأشار إلى ابنه أبي الحسن (عليه السلام) فقال: "هذا صاحبكم من بعدي"(2).
ويقول المخزومي: بعث إلينا أبو الحسن موسى (عليه السلام) فجمعنا ثمّ قال لنا: "أتدرون لِمَ دعوتكم"؟ فقلنا: لا. فقال: "اشهدوا أنّ ابني هذا وصيّي والقيّم بأمري وخليفتي من بعدي"(3).
ويقول داود بن سليمان: قلت لابي إبراهيم (عليه السلام): إنّي أخاف أن يحدث حدث ولا ألقاك، فأخبرني من الامام بعدك؟ فقال: "ابني فلان" ـ يعني أبا الحسن (عليه السلام) ـ(4).
ويقول الصدوق: بسنده إلى محمّد بن إسماعيل بن الفضل الهاشمي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وقد اشتكى شكاية شديدة، فقلت له: إن كان ما أسأل الله أن لا يريناه فإلى من؟ قال: "إلى علي ابني، وكتابه كتابي، وهو وصيي وخليفتي من بعدي"(5).
وقد نقل الشيخ الصدوق أحاديث وروايات في النص على الامام الرضا (عليه السلام)،
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 99.
(2) الكافي: ج 1، ص 372، باب الاشارة على أبي الحسن الرضا (عليه السلام).
(3) الكافي: ج 1، ص 373، باب الاشارة على أبي الحسن الرضا (عليه السلام).
(4) الكافي: ج 1، ص 374، باب الاشارة على أبي الحسن الرضا (عليه السلام).
(5) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 31، ح 1.
أضف إلى ذلك، أنّ الكاتب قد كذب على الامام الرضا (عليه السلام) أيضاً، لانّه شكّك بإمامته، بينما نجد أنّ الامام نفسه صرّح بذلك كما طالعتنا الرواية التأريخيّة التي تقول: إنّ النجاشي الاسدي سأل الامام أنت صاحب هذا الامر؟ فأجابه الامام: "إي والله على الانس والجنّ"(1).
وسأله أحدهم: طاعتك مفروضة؟ فأجابه الامام: "نعم"، فقال له: مثل طاعة علي ابن أبي طالب؟ فقال له: "نعم".
ولم يكتفِ الكاتب بذلك، بل صرّح بأنّ الامام الكاظم (عليه السلام) كان يجهل إمامة الرضا (عليه السلام) (2).
وخالف بهذا ما نقله علماء الشيعة قاطبة من نص الكاظم (عليه السلام) على الرضا (عليه السلام) في موارد كثيرة جدّاً.
المبحث التاسع: الامام الجواد (عليه السلام)
أكاذيب الكاتب حول إمامة الجواد (عليه السلام):
ولمّا يئس الكاتب من صغر عمر الجواد (عليه السلام) لِما ظهر منه من علم الامامة، راح يتهم الجواد (عليه السلام) بعدم النص عليه(3).
ونحن هنا نكتفي بالجواب على هذا الكذب الصريح بقول الشيخ المفيد، حيث قال:
(فممن روى النص عن أبي الحسن الرضا على ابنه أبي جعفر (عليهما السلام) بالامامة علي بن جعفر بن محمّد الصادق، وصفوان بن يحيى، ومعمّر بن خلاّد، والحسين بن يسار، وابن
____________
(1) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 35، ح 10.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 100.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 104.
ومن أراد أن يطّلع على مرويّات هؤلاء بالنص على إمامة الجواد (عليه السلام) فليرجع إلى كتب الحديث المعتبرة عند الاماميّة، أمثال الكافي وغيره.
ويكفينا هنا قول رجل من البيت العلوي وهو علي بن جعفر، حيث قال للجواد (عليه السلام): (أشهد أنّك إمامي عند الله). وفي رواية: (أشهد أنّك إمامٌ عند الله)(2).
ومن شدّة تعظيم علي بن جعفر للجواد (عليه السلام) وتكريمه له، وبّخه أصحابه على ذلك، بأنّك شيخ كبير، وهذا صبي، فأجابهم:
(اسكتوا، إذا كان الله عزّ وجلّ ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهّل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أنكر فضله؟ نعوذ بالله ممّا تقولون، بل أنا له عبد)(3).
فهل يشهد علي بن جعفر بهذا المقام وبهذه العبوديّة ولم يعرف الامامة؟ لكنّ الكاتب شاهد النصوص الصريحة لامامة الجواد، وشاهد اعترافات أصحابه بإمامته التجأ إلى اتهام الامام الجواد (عليه السلام) بتهمة جديدة، حيث يقول: إنّ الامام الجواد لم يدَّعِ الامامة لنفسه، فقال: (عدم ادعاء الامام الجواد نفسه بالامامة)(4).
وخالف بهذا الكلام الرواية التاريخيّة التي تقول إنّ الامام كان يدعو إلى نفسه، وكان يستند إلى كتاب الله بقوله: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِى)(5)، وكان يردّ على اُولئك الذين أنكروا إمامته لصغر سنّه بهذه الاية، ويفسّرها لهم فقال: "فوالله ما اتبعه حينئذ إلاّ علي وله تسع سنين وأنا ابن تسع
____________
(1) الارشاد: ج 2، ص 274 ـ 275.
(2) الكافي: ج 1، ص 384، ب 73.
(3) الكافي: ج 1، ص 383، باب 73.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 104 ـ 105.
(5) يوسف: الاية 108.
فالامام يدعو الناس إلى إمامته ويرد مقالة المنحرفين والمموّلين من قبل المأمون وغيره من العبّاسيين.
الحالة الخاصّة للجواد التي أنكرها الكاتب:
أراد العبّاسيّون بقيادة المأمون أن يوقعوا بالامام الجواد من خلال مناظرة عقدوها له مع قاضي القضاة يحيى بن أكثم، حتّى يكشفوا للناس بأنّ الامامة والعصمة مصطلحات لا واقع لها في الخارج، وخصوصاً أنّ صغر السن للامام الجواد شجّعهم على ذلك.
فجاء يحيى بن أكثم قاضي القضاة مستعدّاً للمنازلة، مستهزئاً بالطرف المقابل لصغر سنّه، متوقعاً فوزه بالجولة الاولى وإنهاء مسألة الامامة والعصمة في الواقع الاسلامي، والغاءها من أذهان الناس، فابتدر يحيى بن أكثم بالسؤال عن محرم قتل صيداً:
أجابه الامام (عليه السلام) مستفسراً عن سؤاله بشقوق يجهلها السائل، فقال له:
"هل قتل في حل أو حرم؟ عالماً كان أو جاهلاً؟ عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدياً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها؟ من صغار الطير أو من كباره؟ مصّراً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان القتل أو في النهار؟ في عمرة كان ذلك أو في حج"؟(2).
وراح الامام ينهل من علم الامامة ويشقّق المسألة، فتحيّر ابن أكثم بجواب هذه الشقوق واُلقم حجراً، عند ذلك انبرى المأمون ليتستر على هذه الفضيحة الجديدة لهم بقوله: (إنّ أهل هذا البيت خصّوا من دون الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال.... أفلا تعلمون أنّ الله قد خصّ هؤلاء القوم وأنّهم ذريّة بعضهم من بعض، يجري لاخرهم ما يجري لاوّلهم)، قالوا: صدقت(3).
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 447، ح 8.
(2) الشيعة في الميزان: ص 243 ـ 244.
(3) الشيعة في الميزان: ص 244.
وأكّد المسعودي ذلك بقوله: (إنّ أصحاب الرضا (عليه السلام) سألوا الجواد فأجابهم بإجابات والده، فاعترفوا له بالامامة)(1).
ومن المعلوم أنّ الرضا (عليه السلام) قد توفّي والجواد له من العمر تسع سنين، ولهذا اعترف المأمون بسر اختياره للجواد زوجاً لابنته، قال: (وقد اخترت محمّد بن علي الجواد لتفوّقه على كافة أهل الفضل والعلم مع صغر سنّه، وسيظهر لكم وتعلمون أنّ الرأي ما رأيت.
قالوا: إنّه صغير السن ولا معرفة له ولا فقه.
قال: ويحكم، أنا أعرف به منكم إنّه من أهل بيت علّمهم الله ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والادب على الرعايا، وإن شئتم فامتحنوه حتّى يتبيّن لكم ذلك)(2).
كل هذه الاقوال، وهذا الواقع التاريخي، أهمله الكاتب ولم يشر إليه، ولم يكتفِ بإهمال الواقع التاريخي الذي يثبت حالة خاصّة للجواد (عليه السلام) باعتراف العباسيين والمأمون نفسه، بل أنكر النص على ولده الهادي، متناسياً ما نقلته كتب الشيعة عليه من قبل أبيه الجواد، منها قول الجواد لاسماعيل بن مهران: "الامر من بعدي إلى ابني علي"(3).
أضف إلى ذلك، عشرات الاحاديث التي حفلت بها كتب الشيعة على إمامة الهادي (عليه السلام)، والتي أفردوا لها أبواباً خاصّة سمّيت أبواب الاشارة والنص على الامام الهادي(4).
ولم يقف الكاتب عند هذا الحد، بل زوّر وصيّة الجواد للهادي، حيث قال: (إنّ
____________
(1) إثبات الوصيّة: ص 216 ـ 228.
(2) الشيعة في الميزان: ص 243 ـ 244.
(3) الكافي: ج 1، ص 384، باب 74.
(4) الكافي: ج 1، ص 384، باب 74.
بينما نص الوصيّة يقول: إنّه ـ الجواد (عليه السلام) ـ أوصى إلى علي ابنه بنفسه وإخوانه... وجعل عبدالله بن المساور قائماً على تركته من الضياع والاموال والنفقات(2).
إذن، عبدالله بن المساور لم يكن وصيّاً على الهادي، كما زوّر ذلك الكاتب، بل هو قائم على الاموال والتركات، وهذه استجابة من الجواد (عليه السلام) لسنّة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا ضير فيها أبداً.
المبحث العاشر: الامام الهادي (عليه السلام)
افتراءات الكاتب حول إمامة الهادي (عليه السلام):
لم يتطرّق الكاتب إلى النصوص التي دلّت على إمامة الهادي (عليه السلام)، والتي حفلت بها كتب الشيعة الاماميّة، ولكنّه لم يترك إمامة الهادي (عليه السلام) تمرّ عليه بدون تزوير وتحريف للحقائق، فبينما يقول النوبختي:
(نزل أصحاب محمّد بن علي (عليهما السلام) الذين ثبتوا على إمامته إلى القول بإمامة ابنه ووصيّه علي بن محمّد (عليهم السلام)، فلم يزالوا على ذلك سوى نفر منهم يسير عدلوا عنه إلى القول بإمامة أخيه موسى بن محمّد، ثمّ لم يلبثوا على ذلك إلاّ قليلاً حتّى رجعوا إلى إمامة علي بن محمّد، ورفضوا إمامة موسى بن محمّد)(3).
وهذا النص من مؤرّخ مثل النوبختي يكذّب كلّ ما ادعاه الكاتب حول إمامة الامام الهادي (عليه السلام)، وأنّ الشيعة وقعوا في حيرة وغموض حول إمامة الهادي(4)، فكيف وقع الشيعة بالغموض والحيرة وعامّة الناس تنظر إلى الهادي (عليه السلام) أنّه الامام المبرَّز من البيت العلوي؟ يقول يحيى بن هرثمة الذي أرسله المتوكّل للقبض على
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 114.
(2) الكافي: ج 1، ص 386.
(3) فرق الشيعة: ص 100 ـ 101.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 105.
ولهذا المقام الرفيع الذي يحتلّه الهادي (عليه السلام)، لم يثق المتوكّل بأي شخص من العرب لالقاء القبض عليه، فأوكل أمره إلى الاتراك فهاجموا داره ليلاً في سامرّاء(2).
وقد اعترف الدكتور محمّد بيومي مهران بهذه المكانة السامية بقوله: (لمقام علي الهادي في المدينة وميل الناس إليه خاف ـ المتوكل ـ منه)(3).
وهذا المقام كان للامام الهادي (عليه السلام) في أيّام حياته، وليس كما يقول الكاتب: إنّ الشيعة ابتدعوها ـ أي الامامة ـ بعد قرون من زمان الائمّة. فهذا أحد الاشخاص يقول: أنا واقف على باب المتوكّل أنتظر الدخول حتّى نُودي بإحضار علي الهادي، فقلت: من هذا؟ فقالوا لي: رجل علوي تقول الرافضة بإمامته يريد المتوكّل قتله.
ولمّا يئس الكاتب من إيجاد فجوة في إمامة الهادي، سواء كانت في النصوص التي دلّت على إمامته، أو بالرأي العام الذي كان ينظر للهادي بأنّه إمام، راح يبحث عن طريق المعاجز وعلم الامام بالغيب الذي اختصّ الله به رسوله، وعلّمه الرسول للائمّة (عليهم السلام) واحداً واحداً، واستغرب الكاتب استغراباً شديداً من حصول بعض الكرامات للامام الهادي، متناسياً أنّ هذه الكرامات نُسبت لائمّة أهل البيت من قِبل السيوطي وابن الساعي والاصفهاني وغيرهم، فضلاً عن علماء الشيعة ومؤلّفيها.
يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً:
وعلى نفس الطريقة التي دعا الكاتب المتكلّمين إليها، وهي البحث عن تراث أهل البيت، لمعرفة هذه الرواية قبل اللجوء إلى تأويلها، ونحن كما فعلنا مع كلمة الامام الصادق "بدا لله في إسماعيل" نفعل هنا حيث نقوم بدراسة موضوعيّة لتراث الامام الهادي (عليه السلام) حتّى نستطيع أن نفهم
____________
(1) الامامة وأهل البيت: ج 3، ص 188.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
المحور الاوّل: موقف الامام الهادي (عليه السلام) من الامامة.
المحور الثاني: هل توجد أحاديث تصرّح بإمامة محمّد بن الهادي؟ لانّ الرواية تقول عن علي بن جعفر، قال: كنت حاضراً أبا الحسن (عليه السلام) لمّا توفي ابنه محمّد، فقال للحسن: يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً.
المحور الثالث: هل توجد نصوص على إمامة العسكري (عليه السلام)؟
المحور الرابع: ما معنى كلمة الهادي (عليه السلام) للعسكري: "يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً".
وبعد دراسة التراث الشيعي حول هذه المحاور تتضح بشكل جلي كلمة الامام الهادي (عليه السلام) لابنه العسكري (عليه السلام).
المحور الاوّل
موقف الامام الهادي (عليه السلام) من الامامة:
بنفس الخط سار الهادي (عليه السلام) في طرحه لنظريّة الامامة الالهيّة المتبناة من قبل البيت العلوي، والمستلهمة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد جعل معرفة الائمّة والسير خلفهم، هو دين الله الذي ارتضاه لعباده(1).
فارتواء الناس من هذا المنهل هو الدين الصادق عند الهادي (عليه السلام)، وما عداه فليس بشيء، بل ليس من الله تعالى، وبادر الاصحاب إلى عرض دينهم وعقائدهم على إمامهم الهادي، فأقبل عبدالعظيم الحسني ليعرض معتقداته عليه، ويحصل على الامضاء الشرعي فقال له:
(إنّ الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء، خارج عن الحدّين حد الابطال وحدّ التشبيه...)، وهكذا راح السيّد عبدالعظيم الحسني يعرض معتقداته ـ إلى أن قال: ـ (وإنّ الامام والخليفة وولي الامر بعده ـ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أمير المؤمنين علي بن
____________
(1) مسند الامام الهادي: ص 145 ـ 146، رقم 83.
ولنستمع إلى إمضاء الامام الهادي (عليه السلام) إلى هذا التقرير الذي يحمل معتقدات رجل من المسلمين، قال له: "يا أبا القاسم، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه"(1).
ويكشف هذا الامضاء عن التبنّي الكامل والمطلق للامامة الالهيّة من قبل الامام الهادي (عليه السلام)، وتأصيل هذا الفهم لدين الله في نفوس أصحابه يعبّر عن الخطّ الفكري الذي انتهجه الامام في حياته، ولم يكتفِ الامام باعتراف عبدالعظيم الذي أوقف الامامة الالهيّة عند الهادي، بل قال: "ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده"؟
فأعطى الامام الهادي (عليه السلام) المصداق الحقيقي لحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي اتفقت السنّة والشيعة عليه "الخلفاء اثناء عشر"، وهذا خير دليل على علمهم بما يقع من اُمور في المستقبل، ولهذا تعجّب الرجل من كلام الامام هذا، وراح يسأله عمّا يحدث وما الخبر، فقال: وكيف ذلك يا مولاي؟
فأجابه الامام: "لانّه لا يُرى شخصه، ولا يحل ذكره باسمه حتّى يخرج فيملا الارض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً".
ولم يكتفِ الامام الهادي (عليه السلام) بهذا الطرح فقط، بل أصرّ على أنّ الامامة جارية فيه عندما كتبت له الشيعة يسألونه عن الامر من بعده، فكتب إليهم (عليه السلام): "الامر لي مادمت حيّاً(2) وإذا حدث حدث فالامر إلى من أنا أنصبه.
إنّ الامام بعدي الحسن ابني، وبعد الحسن ابنه القائم، الذي يملا الارض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً".
إذن، المقدّمة الاولى هي أنّ الامام الهادي (عليه السلام) كان على علم تام وتبنّ مطلق لمسألة
____________
(1) مسند الامام الهادي (عليه السلام): ص 146.
(2) مسند الامام الهادي: ص 148، رقم 89.
المحور الثاني
هل هناك نصوص على إمامة محمّد ابن الامام الهادي؟:
من خلال تصريح النوبختي يستطيع القارئ معرفة وجود نصوص حول محمّد ابن الامام الهادي أم لا؟ يقول النوبختي: (إنّ سائر أصحاب الامام علي بن محمّد الهادي قالوا بإمامة الحسن بن علي (عليه السلام)، وثبّتوا له الامامة بوصيّة أبيه)(2).
إذن، سائر أصحاب الامام توجّهوا إلى الحسن (عليه السلام)، ولم يقل أحد من أصحابه بأنّ الامامة في محمّد، وبقي متمسّكاً بهذا القول، أضف إلى ذلك أنّه لا يوجد نص واحد على إمامة محمّد ابن الامام الهادي، بل يوجد نهي من الامام الهادي (عليه السلام) لاصحابه عندما توهّموا أنّ الامام هو محمّد لكبر سنّه.
يقول الكليني بسنده إلى النوفلي، الذي قال: قلت يوماً للهادي (عليه السلام) عندما مرّ بنا السيّد محمّد ابن الامام الهادي، قال له: جعلت فداك هذا صاحبنا بعدك، فقال: "لا"(3).
إذن، توجد توصية من الامام الهادي إلى أصحابه في مسألة ولده محمّد، والسر الوحيد الذي حدا بالبعض للتمسّك بمحمّد ابن الامام هو كبر سنّه، ولكنّ عندما توفّي ظهر لهم خلاف ما ذهبوا إليه.
أضف إلى ذلك، أنّه قبل مئات السنين تحدّى علماء الشيعة كلّ أعدائهم بأن يأتوا بنص واحد على إمامة محمّد بن الهادي (عليه السلام)، كما فعل الشيخ المفيد، ولكن لم يجد
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 106.
(2) فرق الشيعة: ص 104.
(3) الكافي: ج 1، ص 386، باب 75، ح 2.
المحور الثالث
هل توجد نصوص على إمامة العسكري؟:
لقد نصّ الامام الهادي (عليه السلام) بعشرات الاحاديث على إمامة الحسن العسكري (عليه السلام)، وتناقل الكليني والمفيد والطوسي وغيرهم هذه الحقيقة، وأفردوا أبواباً خاصّة بذلك، ووضع الكليني باباً خاصّاً نقل فيه أحاديث النص على العسكري.
يقول الكليني بسنده عن النوفلي، قال: كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) في صحن داره، فمرّ محمّد ابنه، فقلت له: جعلت فداك هذا صاحبنا بعدك؟ فقال: "لا، صاحبكم بعدي الحسن"(2).
ووصف الامام الهادي (عليه السلام) لاصحابه أنّ الامر بعده إلى الاكبر من ولده، ولكنّهم لم يلتفتوا إلى أنّ الاكبر من ولده بعد حياته وليس في حياته، بقرينة أنّ الامر بعده ـ أي بعد حياته ـ فتمسّكوا بمحمّد الذي كان أكبر ولده في حياته، ولكن بعد وفاة محمّد في حياة أبيه أصبح العسكري هو الاكبر في ولد الهادي.
وجعل له علامة، بأنّه الذي يصلّي عليه بعد مماته. ويقول عبدالله بن محمّد الاصفهاني: (لمّا مات الهادي (عليه السلام)، خرج العسكري أبو محمّد، فصلّى عليه)(3).
ثمّ أخذ الامام يصف ابنه العسكري لاصحابه فقال: "أبو محمّد ابني أنصح آل محمّد غريزة، وأوثقهم حجّة، وهو الاكبر من ولدي، وهو الخلف، وإليه ينتهي عُرى الامامة وأحكامها"(4).
وأحال الامام الهادي أصحابه من بعده إلى الحسن، ووصفه بأنّ عنده ما يحتاج
____________
(1) الفصول المختارة: ج 2، ص 317.
(2) الكافي: ج 1، ص 386، ح 2.
(3) الكافي: ج 1، ص 386، ح 3.
(4) الكافي: ج 1، ص 388، ح 11.
ونتيجة لكلّ هذه التأكيدات التفّ سائر أصحاب الهادي حول العسكري، كما يقول النوبختي: (إنّ سائر أصحاب الامام علي بن محمّد الهادي قالوا بإمامة الحسن بن علي (عليه السلام) وثبّتوا له الامامة بوصيّة أبيه)(2).
فهذه هي المقدّمة الثالثة التي نستطيع أن نفهم بها كلام الامام الهادي للعسكري: "يا بني أحدث لله شكراً، فقد أحدث فيك أمراً".
المحور الرابع
ما معنى "أحدث لله شكراً"؟:
فبعد تلك المحاور الثلاثة التي أثبتنا فيها أنّ الامام الهادي (عليه السلام) كان يتبنّى خط الامامة الالهيّة، وكان يعرّف أصحابه بالائمّة من بعده، وبعد نفيه إمامة محمّد ابنه، وإثبات النصوص الكثيرة على إمامة العسكري، بعد كلّ ذلك نستطيع أن نفهم معنى كلمة الهادي (عليه السلام) للامام العسكري (عليه السلام): "يا بني أحدث لله شكراً، فقد أحدث فيك أمراً".
فلقد فهم بعض أصحاب الامام، أنّ الامامة في محمّد، ونشأ فهمهم الخاطئ هذا ممّا روي عن أحدهم أنّه دخل على الامام الهادي وسأله عن الخلف من بعده؟ فأجابه بأنّه في الكبير من ولدي، وكان الكبير هو السيّد محمّد(3).
وتوهّم اُولئك بأنّ الامام ينصب محمّداً في حياته، ولكن الامام ناظر إلى أنّ الامر من بعده، وليس في حياته، وإلاّ لا معنى للامر في حياته لمحمّد، والامام حي يرزق، ولما توفّي محمّد في حياة أبيه بقي الحسن أكبر ولده من بعده، فأمره أن يشكر الله بأن أظهر الامر بعد خفائه على الناس.
____________
(1) المصدر السابق.
(2) فرق الشيعة: ص 104.
(3) الكافي: ج 1، ص 387، ح 6.
ففسر الامام الهادي (عليه السلام) لابي هاشم البداء بمعنى الكشف، أي كشف الله إمامة العسكري بعد أن اُخفيت على الناس، كما اُخفيت إمامة الكاظم نتيجة الفهم الخاطئ للاحاديث، وكشفها الله بوفاة إسماعيل.
فالناس كانوا يظنّون بإمامة محمّد بعد وفاة أبيه، ولكنّ محمّداً توفي في حياة أبيه، فانكشف زيف ما توهّموه، وأنّ الامر للحسن وليس لمحمّد.
يقول الشيخ الطوسي: (بدا لله في محمّد كما بدا له في إسماعيل، معناه: ظهر من الله وأمره... أن الامر في محمّد من حيث كان الاكبر، كما كان يظنّ جماعة أنّ الامر في إسماعيل بن جعفر دون موسى (عليه السلام)، فلمّا مات محمّد ظهر من أمر الله فيه، وأنّه لم ينّصبه إماماً كما ظهر في إسماعيل مثل ذلك، لا أنّه كان ينصّ عليه ثمّ بدا له في النص على غيره، فإنّ ذلك لا يجوز على الله تعالى العالم بالعواقب(2).
إذن، بعد تلك المقدمات الاربع، وهي تبنّي الامام الهادي لخط الامامة، كما اتضح فيما تقدّم، وبعد عدم وجود أي نص على إمامة محمّد، بل شهادة الامام الهادي (عليه السلام) بأنّه ليس بإمام، وبعد النصوص الكثيرة على إمامة الحسن العسكري في حياة محمّد أخيه، بعد كلّ ذلك يتضح قول الامام: "يا بني أحدث لله شكراً، فقد أحدث فيك أمراً"، بأنّ الله أظهر أمر الحسن (عليه السلام) بعدما خفي على البعض، لوجود محمّد في الحياة.
الحياة الشخصيّة لجعفر الكذّاب
لقد تشبّث الكاتب بمواقف جعفر هذا في أكثر من مرّة، وجعل من مواقفه دليلاً
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 388، ح 10.
(2) الغيبة للطوسي: ص 121.
لقد اتفق الكليني والمفيد والطوسي والطبرسي على أنّ جعفر هذا مُعلن الفسوق فاجر شرّيب للخمور.... خفيف قليل في نفسه(1).
وقال بحقّه أبو الاديان الذي اعتمد الكاتب على تلك الرواية في (ص 191) وضعّفها في (ص 224) قال: إن يكن هذا إماماً فقد بطلت الامامة، لانّي كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور(2).
ولقد اُلّفت كتب للرد على جعفر الكذّاب هذا وأنصاره، منها ما الّفه سعد بن عبدالله العتبي كتاباً للرد عليه(3).
بالاضافة إلى ذلك كلّه توسّله بالحكّام والوزراء كي يجعلوا له منصب أخيه، وردّوه بأنّ منصب أخيه من الله، فإذا أعطاه الله لك فلن يضرّك ما عملنا، كما حدّث بذلك جعفر بن خاقان الوزير للوالي آنذاك.
فكلّ هذه الحقائق تنكَّر لها الكاتب، ولم يشر إليها، وجعل من جعفر هذا ركناً ركيناً لنظريّته، لانّه لم يجد من الثقات والصالحين من أصحاب الامام الهادي وغيرهم من يسعفه فيما يقول.
المبحث الحادي عشر: الامام العسكري (عليه السلام)
هل أخبر العسكري بوجود خلف له؟:
أنكر الكاتب حقيقة ناصعة نُقلت إلينا
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 571، باب 124، ح 1; كمال الدين: ص 51 المقدمة; الارشاد: ج2، ص 323; إعلام الورى بأعلام الهدى: ج 2، ص 148.
(2) كمال الدين: ص 432، باب 43 من شاهد القائم.
(3) قاموس الرجال: ج 2، ص 395 ـ 396.