الصفحة 254
بأخبار الثقات ثقة عن ثقة، بأنّ العسكري (عليه السلام) أخبر بوجود ولد له، وأنّه الخليفة من بعده على منصب الامامة والقيادة.

يقول ثقة الاسلام الشيخ الكليني: عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لابي محمّد (عليه السلام) جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: "سل"، قلت: يا سيّدي، هل لك ولد؟ فقال: "نعم".

وسند هذا الحديث لا مجال لانكاره مطلقاً لانّ الكليني هو ثقة الاسلام، وهو غني عن التعريف.

ومحمّد بن يحيى العطّار، يقول النجاشي بحقّه: (شيخ أصحابنا في زمانه، ثقة، عين، كثير الحديث)(1).

ويقول الطوسي مترجماً له: (قمي كثير الرواية)(2). ونقل الحلّي ما قاله النجاشي بحقّ الرجل(3).

وأمّا أحمد بن إسحاق فهو مشترك بين الرازي والاشعري، كما يقول السيّد الخوئي(4).

أمّا الاشعري: يقول النجاشي بحقّه: (كان خاصّة أبي محمّد (عليه السلام))(5).

وقال الطوسي بحقّه: (قمّي ثقة)(6). وقال الحلّي: (ثقة... شيخ القميين، رأى صاحب الزمان)(7). وقال المامقاني مترجماً له: (ثقة)(8).

____________

(1) رجال النجاشي: ص 353، رقم 946.

(2) رجال الطوسي: ص 439، رقم 6274، من لم يرو عن واحد من الائمّة (عليهم السلام).

(3) خلاصة الاقوال، القسم الاوّل: ص 260، رقم 908.

(4) معجم رجال الحديث: ج 2، ص 43.

(5) رجال النجاشي: ص 91، رقم 225.

(6) رجال الطوسي: ص 397، رقم 5817، من أصحاب العسكري.

(7) خلاصة الاقوال: ص 63، رقم 73.

(8) تنقيح المقال: ج 1، ص 8، رقم 294.


الصفحة 255
هذا بالنسبة للاشعري، أمّا الرازي فهو ثقة كما يقول الطوسي(1)، ووثّقه الحلّي وقال: (أورد الكشي ما يدل على اختصاصه بالجهة المقدّسة)(2). وقال المامقاني بحقّه: (ثقة)(3).

فسواء كان الرازي أو الاشعري، فكلاهما ثقتان مصرّح بوثاقتهما وجلالتهما عند علماء الرجال.

وأمّا الرجل الرابع الذي نقل الرواية عن العسكري مباشرة، وهو أبو هاشم الجعفري داود بن القاسم، فيقول النجاشي بحقّه: (كان عظيم المنزلة عند الائمّة (عليهم السلام)، شريف القدر، ثقة)(4).

وعدّه الطوسي ثقة جليل القدر(5). وقال الحلّي بحقّه: (ثقة، جليل القدر، عظيم المنزلة عند الائمّة (عليهم السلام)، وكان شريفاً عندهم، له موقع وجليل عندهم)(6).

فهذه كلمات أساطين فن الرجال بحقّ من نقل رواية تدلّ على وجود ولد للعسكري (عليه السلام)، وهو الخلف من بعده، كلّها تنكّر لها الكاتب ولم يشر إليها، لانّها لا تتحمل التأويل والكذب حتّى يشير إليها ويحرّف المراد منها.

إذن، بهذا الخبر الصحيح وبأمثاله المتوارث كابراً عن كابر، أثبت الشيعة إمامة المنتظر الغائب، أضف إلى ذلك، إخبار العسكري لمحمّد بن علي بن بلال بالخلف من بعده.

يقول ثقة الاسلام الكليني: عن علي بن محمّد (الثقة)(7) (وقال بحقّه الحلّي: ثقة،

____________

(1) رجال الطوسي: ص 383، رقم 5643، أصحاب علي بن محمّد أبي الحسن الثالث.

(2) خلاصة الاقوال: ص 62، ح 71.

(3) تنقيح المقال: ج 1، ص 8، رقم 293.

(4) رجال النجاشي: ص 156، رقم 411.

(5) رجال الطوسي: ص 375، رقم 5553، أصحاب محمّد بن علي الثاني (عليه السلام).

(6) خلاصة الاقوال: ص 142، رقم 390.

(7) معجم رجال الحديث: ج 12، ص 127، رقم 8384.


الصفحة 256
فاضل، فقيه، أديب)(1)، عن محمّد بن علي بن بلال (الذي وثّقه الطوسي(2)، والحلي(3)، والخوئي)(4)، قال: خرج إليَّ من أبي محمّد قبل مضيّه بسنتين يخبرني بالخلف من بعده، ثمّ خرج إليَّ من قبل مضيّه بثلاث أيّام يخبرني بالخلف من بعده(5).

كل تلك التوثيقات الرجاليّة والتصريحات من قبل العسكري (عليه السلام) بوجود ولد له أنكرها الكاتب وأهملها ولم يشر إليها.

أضف إلى ذلك، إخبار العسكري عمراً الاهوازي بالخلف من بعده، وقال له: "هذا صاحبكم من بعدي"(6).

وأفرد ثقة الاسلام الكليني باباً لاخبارات العسكري (عليه السلام) بإمامة ولده الحجّة المنتظر سماها "باب الاشارة والنص إلى صاحب الدار"(7).

فياترى لماذا تجاهل الكاتب هذا التراث الروائي الصحيح المنقول من ثقة إلى ثقة؟ ولماذا أهمله من دون أن يشير إليه؟ ولماذا بحث عن روايات حرّفها وأوّلها قسريّاً للاستدلال على مطلوبه؟ كلّ ذلك يجعلنا نقف موقف التشكيك من نوايا مبيّتة لهذا الرجل ليس للشيعة فحسب، بل للاسلام كله.

الوضع السياسي عشيّة الغيبة وغداتها


عوّدنا الكاتب أن يطلاق الشعارات الاعلاميّة الفارغة عند البحث في أي نقطة من النقاط الحسّاسة والمهمّة في موضوع الامامة أو الغيبة، فرفع هنا شعار التعاطف

____________

(1) خلاصة الاقوال: ص 187، رقم 559.

(2) رجال الطوسي: ص 401، رقم 5888، أصحاب الحسن بن علي العسكري (عليه السلام).

(3) خلاصة الاقوال: القسم الاوّل، ص 242، رقم 825.

(4) معجم رجال الحديث: ج 16، ص 311.

(5) الكافي: ج 1، ص 389، ح 1.

(6) الكافي: ج 1، ص 389، ح 3.

(7) الكافي: ج 1، باب 76 الاشارة والنص إلى صاحب الدار.


الصفحة 257
العبّاسي مع البيت العلوي، ووضع لذلك عنواناً بارزاً في كتابه(1)، وخالف بشعاره هذا الذي لم يذكر له أي مصدر، أقوال المؤرّخين ومرويّاتهم عن تلك الفترة، وجعل الكاتب من عصر العسكري عصر الازدهار الذي عاشه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام). ولفرض منهجيّة البحث هنا، نحن نثبت للكاتب ثمانية بحوث من خلالها يستطيع القارئ أن يطّلع على التعاطف الذي زعمه الكاتب بين العبّاسيون والبيت العلوي، وبالخصوص مع الهادي والعسكري والحجّة المنتظر (عج).

البحث الاوّل: قائمة بأسماء المقتولين في أيّام العسكري من العلويين.

البحث الثاني: قائمة بأسماء العلويين الذي قتلوا في أيّام العسكري بالسجون.

البحث الثالث: موقف العسكري من خلفاء عصره (المعتز والمهتدي والمعتمد).

البحث الرابع: قطع الرؤوس وحملها للخلفاء أيّام العسكري.

البحث الخامس: منهج العسكري في التحرّك السياسي.

البحث السادس: المؤرّخين والصراع العبّاسي العلوي.

البحث السابع: وصف شعري لظلم العبّاسيين للبيت العلوي.

وبعدما يكمل القارئ هذه البحوث الثمانية يستطيع أن يفهم التعاطف العبّاسي العلوي الذي زعمه الكاتب.

____________

(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 252.


الصفحة 258

البحث الاوّل
قائمة بأسماء المقتولين في أيّام العسكري من العلويين فقط


لقد قفز الكاتب على كلّ الحقائق التأريخيّة عندما نسب للعبّاسيين كلمة التعاطف التي أراد منها نتيجة تقول لا داعي للغيبة مادام العبّاسيين يسعون إلى كسب خواطر العلويين وموادعتهم من خلال مشاعر الحب التي يكنّونها إليهم، ونحن هنا سنبرز (مشاعر الحبّ) التي قال بها الكاتب من خلال قائمة بأسماء العلويين الذين قتلوا أيّام العسكري فقط، وإلاّ فإنّ عدد العلويين الذين قتلوا زمن الدولة العباسيّة لا تسعه مجلّدات وهم:

1 ـ أحمد بن عبدالله بن موسى بن محمّد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن ابن علي (عليه السلام).

2 ـ جعفر بن محمّد بن جعفر بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين (عليه السلام).

3 ـ يحيى بن علي بن عبدالرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد.

4 ـ محمّد بن الحسن بن إبراهيم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي.

5 ـ جعفر بن إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي.

6 ـ موسى بن عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وقال الاصفهاني بحقّه: كان رجلاً صالحاً راوياً للحديث... دسّ السم إليه سعيد الحاجب فقتله، وأخذ رأسه وحمله إلى المهتدي في المحرّم سنة 256(1).

7 ـ محمّد بن عبدالله بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمّد بن عبدالله بن أبي الكرام بن محمّد بن علي بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب.

8 ـ أحمد بن محمّد بن عبدالله بن إبراهيم بن الحسن بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

9 ـ عبيدالله بن علي بن عيسى بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين.

10 ـ علي بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن عبيدالله بن الحسين بن علي، اُغتيل هذا غدراً.

11 ـ محمّد بن أحمد بن محمّد بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين.

____________

(1) مقاتل الطالبيين: ص 531.


الصفحة 259
12 ـ حمزة بن الحسن بن محمّد بن جعفر بن القاسم بن إسحاق بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب. قُتِل ومُثِّل به، كما يقول المؤرّخ السنّي الاصفهاني.

13 ـ حمزة بن عيسى بن محمّد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

14 ـ محمّد وإبراهيم ابنا الحسن بن عبيدالله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

15 ـ الحسن بن محمّد بن زيد بن عيسى بن زيد بن الحسين.

16 ـ إسماعيل بن عبدالله بن الحسين بن عبدالله بن إسماعيل بن عبدالله بن جعفر ابن أبي طالب.

17 ـ الحسين بن إبراهيم بن علي بن عبدالرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وهذا غيضٌ من فيض من اُولئك الذين لم تنقل لنا أخبارهم، ودوّن ذلك المؤرّخ ا الاصفهاني في كتابه مقاتل الطالبيين(1)، ولا طريق لاحمد الكاتب لاثبات التعاطف العبّاسي العلوي إلاّ من خلال إنكار هذه الاسماء والشخصيّات التاريخيّة، ووضعها في خانة الاسطورة ليتخلّص من شبحها في بحثه.

البحث الثاني
قائمة بأسماء العلويين الذين قتلوا في أيّام العسكري (عليه السلام) بالسجون


وإذا استطاع الكاتب أن ينكر تلك القائمة التي حوت أسماء العلويين الذين قتلوا في المواجهات تارة، والغدر والاغتيال اُخرى، فعليه أن يعد العدّة لانكار هذه القائمة الجديدة لاُولئك الشرفاء الذين أبوا الموادعة مع الظالمين وترك أئمتهم، فسجنوا وماتوا صبراً في السجون، وهذه القائمة أيضاً خاصّة بزمان العسكري (عليه السلام)، الذي ادّعى فيه الكاتب الحب والتعاطف العبّاسي للعلويين بشعارات فارغة، وأمّا القائمة فهي:

____________

(1) مقاتل الطالبيين: ص 525 ـ 539.


الصفحة 260
1 ـ الحسن بن محمّد بن جعفر بن عبدالله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، واُمّه اُمّ عبدالله بنت عبدالله بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فهو علوي الاب والام.

2 ـ عيسى بن إسماعيل، وهو من أحفاد عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، حبس بالكوفة ومات هناك.

3 ـ أحمد بن محمّد بن يحيى بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، حبسه الحرث بن أسد عامل أبي الساج في دار مروان، فمات بالحبس.

4 ـ علي بن موسى، من أحفاد الحسن (عليه السلام).

5 ـ محمّد بن الحسين بن عبدالرحمن، من أحفاد الامام الحسن (عليه السلام).

6 ـ علي بن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر.

7 ـ إبراهيم بن موسى، من أحفاد الحسن، حبسه محمّد بن أحمد عامل المهتدي على المدينة فمات في حبسه.

8 ـ عبدالله بن محمّد بن يوسف، من أحفاد الحسن، توفّي في حبسه.

9 ـ موسى بن موسى بن محمّد بن سليمان، من أحفاد الحسن الزكي، توفي بالسجن.

10 ـ محمّد بن الحسين بن محمّد، من أحفاد الحسن.

11 ـ محمّد بن أحمد بن عيسى، من أحفاد زيد بن علي.

12 ـ ابنه أحمد بن محمّد بن أحمد بن عيسى، من أحفاد زيد.

13 ـ محمّد بن عبدالله، من أحفاد الحسن.

هذا ما جادت به قريحة المؤرّخ الاصفهاني في كتابه المعروف مقاتل الطالبيين(1)، وإلاّ فإنّ الاعداد كثيرة جدّاً، لانّ الحروب كانت دمويّة، والمواجهة علنيّة بين أفراد البيت العلوي والعبّاسيين، وكانت تزف إلى السجون جماعات جماعات، منهم من يُعلم قتله ومنهم من يغيَّب ولم يعلم حاله.

وأخيراً ننقل كلمة للمهتدي ـ الخليفة المعاصر للعسكري ـ تثبت وحشيّة هؤلاء،

____________

(1) مقاتل الطالبيين: ص 434 ـ 456.


الصفحة 261
حيث قال متهدّداً العلويين: والله لاجلينهم عن جديد الارض(1).

وبعد ذلك كلّه، هل يوجد من يشكّ في أنّ الكاتب كان كاذباً في عبارته الاعلاميّة الخالية من التوثيق بأنّ هناك تعاطفاً من قبل العبّاسيين تجاه العلويين، والتي اعتمد عليها في ادعاء عدم وجود سبب للغيبة.

البحث الثالث
موقف العسكري من خلفاء عصره (المعتز والمهتدي والمعتمد)


بعد أن أثبتنا للقارئ قائمة بأسماء المقتولين، وقائمة بأسماء الموتى في السجون من العلويين زمن العسكري (عليه السلام)، نأتي إلى سياسة التوتر الشديدة بين العسكري (عليه السلام) وخلفاء عصره.

من المعروف تاريخيّاً أنّ العسكري (عليه السلام) عاصر المعتز العبّاسي والمهتدي العبّاسي والمعتمد العبّاسي.

أمّا بالنسبة إلى المعتز العبّاسي ـ الذي قتل أخاه المستعين بمعونة الاتراك وحُمل رأسه إليه وهو يلعب بالشطرنج ـ فقد تعرّض للعسكري أكثر من مرّة لما يراه من العسكري بأنّه العدوّ اللدود له، فأمر بحبسه ـ كما يقول الكليني ـ وصيّر أمره في الحبس إلى أشرّ خلق الله كما اعترف صالح بن وهب بذلك(2).

ولم يكتفِ المعتز بحبس العسكري عند أحد من أشراره، بل حبسه مرّة اُخرى عند علي بن اُوتامش الذي كان يظهر العداوة لاهل البيت، وعلى وصف الشيخ المفيد: كان شديد العداوة لال محمّد(3).

ولمّا أحسّ المعتز بأنّ وسائل الحبس غير كافية لمواجهة العسكري (عليه السلام)، عزم على قتله، وهذا ما طالعنا به الاربلي عندما قال: لما أمر المعتز سعيد الحاجب بحمل الامام

____________

(1) الكافي: ج 1، ص 576، باب 124، ح 16.

(2) الكافي: ج 1، ص 578، باب 124، ح 23.

(3) الارشاد: ج 2، ص 329.


الصفحة 262
أبي محمّد إلى الكوفة، كتب إليه أبو الهيثم: جعلت فداك، بلغنا خبر أقلقنا؟

فأجابه الامام: "بعد ثلاثة يأتيكم الفرج، فقُتِل المعتز يوم الثالث"(1).

ويقول ابن شهر آشوب: (إنّ المعتز تقدّم إلى سعيد الحاجب: أن أخرج أبا محمّد إلى الكوفة ثمّ اضرب عنقه في الطريق)(2).

فهذا هو موقف الخليفة المعاصر للعسكري والذي حاول بمختلف الوسائل القضاء على العسكري (عليه السلام)، ولكن خيّب الله مسعاه.

وأمّا المهتدي الذي عاصره العسكري (عليه السلام) أيضاً، فلقد قال متوعّداً العلويين ومهدّداً لهم: (والله لاجلينهم عن جديد الارض)(3).

وهذا التهديد الذي انتهى بقتل العشرات منهم، وزجّ الاخرين في السجون وموتهم فيها ـ كما اتضح من البحث الاوّل والثاني ـ خُتم بحبس الامام العسكري، حيث نقل الطوسي عن أبي هاشم قوله: كنت محبوساً مع أبي محمّد (عليه السلام) في حبس المهتدي بن الواثق(4).

فهذا حال الخليفة الثاني المعاصر للعسكري.

وأمّا الثالث، وهو المعتمد، فقد سعى لقتل الامام (عليه السلام) حينما حبسه وسلّمه إلى يحيى ابن قتيبة الذي كان يضيّق عليه حبسه، كما قال ابن شهرآشوب(5).

ولم يكتفِ المعتمد بحبس الامام وإيداعه في ظلمات السجون، بل راح حتّى في تلك الظلمات يتجسّس عليه، فعندما حبسه في سجن علي بن جرين مع أخيه جعفر، كان المعتمد يسأل علي بن جرين عن أخبار العسكري في كلّ وقت، فحتّى في ظلمات السجون لم يتركوا الائمّة وشأنهم، بل كانوا يتابعونهم ويتابعون تحرّكاتهم، ولعلّ هذه

____________

(1) كشف الغمّة: ج 3، ص 212.

(2) مناقب آل أبي طالب: ج 4، ص 464.

(3) الكافي: ج 1، ص 576، باب 124، ح 16.

(4) الغيبة للطوسي: ص 134.

(5) مناقب آل أبي طالب: ج 4، ص 462.


الصفحة 263
المتابعة توهّم منها أحمد الكاتب، وجعلها عنواناً للتعاطف العبّاسي العلوي.

البحث الرابع
قطع الرؤوس وحملها للخلفاء أيّام العسكري


هذه الطريقة التي ورثها العبّاسيون من الامويين، عندما مثّلوا بجثّة سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين، وحملوا رأسه ورؤوس اخوانه وأصحابه إلى عاصمة الامويين دمشق مستهينين بكل القيم والمعايير الانسانيّة، فضلاً عن الاسلاميّة، ومروّعين الاطفال والنساء ومهددين المناطق الاسلاميّة، والفعلة الخسيسة هذه ورثها العباسيّون من أسلافهم الامويين، ولا نريد أن نستعرض الحالات التي قُطِعت فيها الرؤوس وحملت إلى ملوك بني العبّاس على طول الحقبة الزمنيّة المشؤومة التي حكموا فيها المسلمين إلاّ بقدر الحاجة، وإعلام أحمد الكاتب بأنّ التعاطف العبّاسي مع العلويين كان حلماً يراه، وأراد أن يثبته في كتابه، ولم تقتصر وحشيّة العبّاسيين في هذا العمل على البيت العلوي، بل تعدّت حتّى إلى العبّاسيين أنفسهم، حيث قام المعتز العبّاسي المعاصر للعسكري (عليه السلام) بقطع رأس أخيه المستعين وحمله بواسطة الاتراك إلى عاصمة الدولة العبّاسيّة إلى المعتز الذي كان مشغولاً بلعب الشطرنج حينها.

ونفس الفعلة فعلها المعتمد ـ الذي عاصر العسكري ـ مع العلويين، فقد عمد ـ بعد أن شرّدهم وطاردهم وقتل من قتل منهم وحبس من حبس ـ إلى قطع رؤوسهم والطواف بها في البلدان الاسلاميّة ليشهّر بهم، فلقد قتل المعتمد أحمد بن محمّد بن عبدالله بن إبراهيم، وهو من البيت العلوي الطاهر، وقطع رأسه، وحُمل إلى المسلمين(1)، كدليل للتعاطف العبّاسي مع العلويين الذي قال به أحمد الكاتب.

والذي يطالع التاريخ يجد أنّ هذه الوسيلة، وهي قطع الرؤوس وحملها إلى الخلفاء، كانت ميزة الحكومات مع العلويين، سار الامويّون عليها وورثها العباسيّون، وقتلوا

____________

(1) راجع مقاتل الطالبيين: ص 536.


الصفحة 264
وقطّعوا رؤوس بني فاطمة وحملوها ليطوفوا بها، ومن ثمّ صلبها ونشرها على الطرق والممرات العامّة لتكون عبرة لكلّ من يحاول التدخّل في السياسة، كلّ هذا تجاهله الكاتب، وشوّش ذهن القارئ بأنّ هناك تعاطفاً مزعوماً بين العبّاسيين والعلويين.

البحث الخامس
منهج العسكري (عليه السلام) في التحرّك السياسي


تقول الروايات: إنّ العسكري كان على اتصال دائم بأصحابه، لموقعه القيادي الذي شغله بعد أبيه الهادي (عليه السلام)، ونقف هنا لنتعرّف على طريق الاتصال هذا.

هل هو الطريق العلني الواضح، وأمام أعين الناس ـ بناءً على التعاطف العبّاسي العلوي المزعوم من قبل الكاتب ـ أم هناك طريق آخر غير ذلك فرضته الظروف والاحوال على تحرّكات الامام؟ فالتاريخ ـ وليس العبارات الاعلاميّة ـ هو الذي يحدّد هذا الطريق أو ذاك!

ونستطيع أن نعرف واسطة الاتصال من خلال وصف العسكري (عليه السلام) لعصره، قال (عليه السلام): "اللهمّ وقد شملنا زيغ الفتن واستولت غشوة الحيرة، وقارعنا الذل والصِّغار، وحكم علينا غير المأمونين في دينك، وابتزّ اُمورنا معادن الابن ممن عطّل حكمك وسعى في إتلاف عبادك وإفساد بلادك... ثمّ قال: واشتريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والارملة، وحكم في ابشار أهل الذمة وولي القيام باُمورهم فاسق كلّ قبيلة، فلا ذائد يذودهم عن هلكه، ولا راع ينظر إليهم بعين الرحمة، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرّى من مسغبة، فهم اُولوا ضرع بدار مضيعة، واُسراء مسكنة، وخلفاء كأبه وذلّة"(1).

بهذه الكلمات التي لا تحتاج إلى شرح لفهم معناها، يتلاشى العصر الذهبي الذي رسمه الكاتب للعسكري، وجعل أبرز سماته التعاطف بين بني العبّاس والعلويين، وعلى أساس ذلك تحرّك العسكري للاتصال بأصحابه وخلّص شيعته، فلم يكن اتصالاً

____________

(1) مهج الدعوات: ص 86.


الصفحة 265
علنيّاً.

نقل ابن شهرآشوب عن داود بن الاسود قوله: (دفع إليَّ العسكري عصا وقال لي اعطها للعمري، وفي الطريق انكسرت العصا، فإذا في وسطها كتاب)، ويقول ابن الاسود: لمّا رجعت قال لي الامام بعدما أخبرني بما حدث لي في الطريق: "وإذا سمعت لنا شاتماً فامضِ لسبيلك، وإيّاك أن تجاوب من شيعتنا أو تُعرِّفه من أنت، فإننا ببلد سوء ومصر سوء، وامضِ في طريقك، فإنّ أخبارك وأحوالك ترد إلينا، فاعلم ذلك"(1).

فبينما يضع العسكري كتابه في وسط عصا، يقول الكاتب لا داعي لغيبة الامام الحجّة، لعدم الخوف، وبينما يصف العسكري بلده بأنّه بلد سوء ومصر سوء، يقول الكاتب بأنّ الحياة كانت تملاها العاطفة بين بني العبّاس والعلويين.

إذن، تحرّك العسكري كان بأقصى درجات السريّة، بحيث وصل الامر إلى تحذير داود بن الاسود في نهاية الخبر: بأنّ ما يفعله يعلم به العسكري، حتّى يكون هذا الرجل أميناً في تصرّفاته تحسّباً لمواقف السلطة الغاشمة.

ولم يقف العسكري على هذا المنهج فحسب، بل أوصى أصحابه بقوله: "ألا لا يسلّمنّ عليَّ أحدٌ، ولا يشير إليَّ بيده، ولا يومئ، فإنّكم لا تؤمنون على أنفسكم"(2).

ورسم لهم طريقاً للاتصال، ألا وهو التجمّع في أحد البيوت في عتمة الظلمات، يقول السيّد المرتضى واصفاً ذلك الزمان:

كان أبو محمّد يبعث إلى أصحابه وشيعته: "صيروا إلى موضع كذا وكذا وإلى دار فلان بن فلان العشاء العتمة في ليلة كذا، فإنّكم تجدوني هناك"(3).

ويقول محمّد بن عبدالعزيز البلخي: (كنت واقفاً عندما مرّ العسكري بباب العامّة بسرّ مَن رأى، فقال في نفسه: تراني إن صحت يا أيّها الناس هذا حجّة الله عليكم فاعرفوه يقتلونني).

____________

(1) مناقب ابن شهرآشوب: ج 4، ص 460 ـ 461.

(2) البحار: ج 50، ص 269.

(3) عيون المعجزات من دلائل المولى أبي محمّد الحسن الاخير (عليه السلام) وبراهينه: ص 140.


الصفحة 266
يقول هذا الرجل: فلمّا دنا منّي العسكري ونظرت إليه... فقال لي: "أما إنّك لو أذعت لهلكت"، وقال: "إنّما هو الكتمان أو القتل، فأبقوا على أنفسكم"(1).

كلّ ذلك أدّى بأصحاب العسكري أن لا يصرّحوا حتّى باسمه عندما ينقلون رواية عنه لتوصياته (عليه السلام) بذلك.

يقول الاردبيلي: (وكلّما ورد عن الرجل فالظاهر أنّه العسكري (عليه السلام))(2).

فهذه هي توصيات الامام لشيعته، وهذه هي استجابات الشيعة لتلك التوصيات، والتي حدّثنا عنها التاريخ، وهذا عصر العسكري المليء بالظلم والانحراف وسيطرة الذين لا يؤتمن عليهم في الدين والدنيا على مقاليد الحكم آنذاك. ولهذا العصر قلّد الكاتب وسام التعاطف.

البحث السادس
المؤرّخون والصراع العبّاسي العلوي


خلّف ذلك الصراع الدموي عشرات الالاف من القتلى ومثلهم من الايتام والارامل، وعلى مدى سنين وسنين طال فيها الحكم العبّاسي، يقول الخوارزمي متحدّثاً عن السفّاح:

(وسلَّط عليهم ـ على العلويين ـ أبا مجرم لا أبا مسلم يقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ويطلبهم في كلّ سهل وجبل).

ويقول الخطيب البغدادي وابن كثير: (إنّ أبا مسلم هذا اعترف بذلك حينما قال: اُمرت أن اُجرّد السيف وآخذ بالظنّة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكت حرمات حتَّم الله صونها، وسفكت دماءً فرض الله حقنها، وزويت الامر عن أهله، ووضعته في غير محلّه)(3). ولكن جاء هذا الاعتراف عندما ضُرِبت مصالح هذا المجرم

____________

(1) إثبات الوصيّة: ص 251.

(2) جامع الرواة: ج 2، ص 461 ـ 462.

(3) تاريخ بغداد: ج 7، ص 20.