الصفحة 267
من قبل المنصور.

وما زلنا مع السفّاح وظلمه، حيث يقول أحمد أمين: (كانت حياته حياة سفك للدماء وقضاء على المعارضين)(1). واعترف الجنرال جلوب بذلك في كتابه إمبراطوريّة العرب(2).

وبعد أن زالت هذه الغمّة، جاء المنصور الذي افتتح دولته بقتل أخيه السفّاح للسيطرة على مقاليد السلطة، وقتل عمّه عبدالله بن علي وأبا مسلم مؤسس الدولة العبّاسيّة.

يقول المسعودي: (إنّ السرّ في تسمية نفسه بالمنصور، لانّه انتصر على العلويين)(3).

واعترف بعظمة لسانه عندما قال: (قتلت من ذريّة فاطمة ألفاً أو يزيدون، وتركت سيّدهم ومولاهم وإمامهم جعفر بن محمّد)(4).

يقول الطبري: (إنّه ترك خزانة فيها رؤوس من العلويين، وقد علّق في كلّ رأس ورقة كتب فيها ما يستدلّ على اسمه واسم أبيه ومنهم شيوخ وشبّان وأطفال)(5).

وعندما لامه عمّه عبدالصمد بن علي على هذا الاسراف في القتل، قال له: (آل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ونحن بين قوم رأونا بالامس سوقة واليوم خلفاء، فليس نتعهد هيبتنا إلاّ بنسيان العفو واستعمال القوّة)(6).

يقول السيوطي: (قتل خلقاً كثيراً حتّى استقام ملكه)(7).

____________

(1) ضحى الاسلام: ج 1، ص 105.

(2) امبراطوريّة العرب: ص 420 ـ 499.

(3) التنبيه والاشراف: ص 295.

(4) الادب في ظل التشيّع: ص 63.

(5) النزاع والتخاصم للمقريزي: ص 63.

(6) تاريخ الخلفاء: ص 323.

(7) تاريخ الخلفاء: ص 315.


الصفحة 268
وتوعّد الامام الصادق بالقتل، يقول ابن شهر آشوب: (إنّ المنصور هذا قال للصادق (عليه السلام): لاقتلنّك ولاقتلنّ أهلك حتّى لا اُبقي على الارض منكم قامة سوط)(1).

فهذا الرجل الذي توغّل في سفك دماء العلويين هو وعمّاله، يقول المسعودي الذي نقل كلام المسيب ابن زهرة عندما قال له المنصور:

(إنّي أرى أنّ الحجّاج أنصح لبني مروان، فأجابه المسيب: يا أمير المؤمنين، ما سبقنا الحجّاج إلى أمر فتخلّفنا عنه، والله ما خلق الله على جديد الارض خلقاً أعزّ علينا من نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أمرتنا بقتل أولاده فأطعناك)(2).

فهم يتسابقون على قتل أولاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طاعة للعبّاسيين، الذي يقول الكاتب إنّهم يتعاطفون مع العلويين.

وجاء من بعده المهدي الذي أضاف وسيلة جديدة للمحاربة والنزاع، وهي خلق الفرق وبأسماء أصحاب الائمّة، حتّى يشوّه سمعتهم عند الناس، فاخترع فرقة الزراريّة نسبة إلى زرارة، واُخرى الجواليقيّة(3).

واتهم الشيعة وأصحاب الائمّة بالزندقة لكي يسوّغ لنفسه قتلهم وتشريدهم ومطاردتهم، يقول عبدالرحمن بدوي: (إنّ الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة)(4).

وجاء بعد المهدي الهادي ابنه، يقول اليعقوبي عنه: (أخاف الطالبيين خوفاً شديداً، وألحّ في طلبهم وقطع أرزاقهم وعطياتهم، وكتب إلى الافاق يطلبهم)(5).

ويكفيك واقعة فخ التي روّعت المسلمين عموماً، ولم يكتفِ هؤلاء بالقتل والتشريد، بل كانوا يعمدون إلى قطع الرؤوس وحملها لارهاب الناس، وجاء بعده

____________

(1) مناقب ابن شهرآشوب: ج 3، ص 251; بحار الانوار: ج 47، ص 178.

(2) مروج الذهب: ج 3، ص 328.

(3) تنقيح المقال: ج 3، ص 296; قاموس الرجال: ج 9، ص 324.

(4) من تاريخ الالحاد في الاسلام: ص 37.

(5) تاريخ اليعقوبي: ج 3، ص 148.


الصفحة 269
الرشيد ليعلن الحرب الشعواء على آل أبي طالب وشجرة النبوّة، وعلى حدّ تعبير الخوارزمي: (حصد شجرة النبوّة واقتلع غرس الامامة).

ويقول الفخري في الاداب السلطانيّة: (كان يقتل أولاد بيت الرسول من غير جرم).

واعترف هو بنفسه على جرمه بحقّ آل أبي طالب، ونقل اعترافه أبو الفرج الاصفهاني في الاغاني، حيث قال على لسان الرشيد: (حتام أصبر على آل بني أبي طالب، والله لاقتلنّهم ولاقتلنّ شيعتهم ولافعلنّ وأفعلنّ).

ونفّذ هذا المخطّط الارهابي بقتل أولاد فاطمة وشيعتهم، كما يقول ابن عبد ربّه(1).

وعندما أرسل الجلودي لحرب محمّد بن جعفر بن محمّد، أمره أن يغير على دور آل أبي طالب في المدينة ويسلب ما على نساءهم من ثياب وحلي، ولا يدع على واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً(2).

ولم يرق له أن يرى أحداً من الطالبيين في بغداد، يقول الطبري وابن الاثير: (أمر بإخراج الطالبيين جميعاً من بغداد إلى المدينة كرهاً لهم)(3).

ولم يكتفِ هذا بالقتل والتشريد والمطاردة للاحياء حتّى عطف حقده على الاموات وهدم قبر الحسين، وحرث أرض كربلاء على يد عامله هناك.

وختم ملف الاجرام والعداء لال أبي طالب بقتل الامام الكاظم (عليه السلام) في قعر السجون المظلمة، واعترف بذلك جلّ المؤرخين المنصفين، ولم يشكّك به إلاّ أحمد الكاتب، ليبرّئ الرشيد من إجرامه، حتّى تستقيم نظريّته.

ونحن لا نريد في بحثنا هذا أن نستقرئ مواقف ملوك بني العبّاس: السفّاح، المنصور، المهدي، الهادي، الرشيد، الامين، المأمون، المعتصم، الواثق، المتوكّل، المنتصر، المستعين، المعتز، المهتدي، المعتمد، المعتضد، المكتفي، المقتدر، القاهر، الراضي، المتقي،

____________

(1) العقد الفريد: ج 2، ص 180.

(2) أعيان الشيعة: ج 1، ص 29; عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 479.

(3) تاريخ الطبري: ج 8، ص 235; الكامل لابن الاثير: ج 5، ص 85.


الصفحة 270
المطيع، إلاّ بقدر إعلام القارئ بأنّ هذا التعاطف ـ المزعوم ـ خيال وليس حقيقة، فتاريخهم كان صفحة سوداء ملوّثة بدماء عترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصمة عار على جبين الانسانيّة بمواقفهم من آل أبي طالب، ومطاردتهم وتشريدهم وقتلهم ومحاصرتهم اقتصاديّاً وسيّاسيّاً واجتماعيّاً، حيث وصل الامر إلى العلويّات، كما يقول الاصفهاني: (كن يتداولن الثوب الواحد من أجل الصلاة)(1).

وسار هؤلاء جميعهم بسياسة واحدة مع العلويين، يقول بندها الاساسي: من كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة فاقبل قوله بدون بيّنة، ولا تسمع لطالبي بيّنة أو قولاً.

هذا هو البند الاساسي للدولة العبّاسيّة الذي عمل به وكتبه المنتصر إلى عمّاله(2).

واستمرّ هذا الارهاب الذي لا مثيل له في التاريخ، والذي أدّى في بعض الحالات إلى إبادة مناطق كاملة، كما حدث في الموصل(3).

ولاقى أئمّة أهل البيت وشيعتهم أقسى أنواع السياسات الظالمة والجائرة من بني العبّاس، بحيث أصبح ذلك الظلم اُنشودة الشعراء، حيث يقول أحدهم:


تالله ما فعلت اُميّة فيهممعشار ما فعلت بنو العبّاس

وقال أبو عطاء أفلح بن يسار السندي المتوفى (سنة 180 هـ) وهو ممّن عاصر الدولتين الامويّة والعبّاسيّة، قال في زمن السفّاح:


ياليت جور بني مروان دام لناوليت عدل بني العبّاس في النار(4)

ولقد تكلّمنا سابقاً في مواقف المعتز والمهتدي والمعتمد الذين حاصروا العسكري (عليه السلام)، وذكرنا ما لاقاه منهم، فلا نعيد.

حتّى المستشرقون اقرّوا بهذا الظلم، الذي سمّاه أحمد الكاتب تعاطفاً.

____________

(1) مقاتل الطالبيين: ص 477.

(2) الخطط للمقريزي: ج 4، ص 153.

(3) النزاع والتخاصم للمقريزي: ص 99.

(4) المحاسن والمساوئ: ص 246; الشعر والشعراء: ص 484.


الصفحة 271
يقول فان فلوتن: ولا غرو، فإنّ العلويين لم يلقوا من الاضطهاد مثل ما لقوا في عهد الاوّلين من خلفاء بني العبّاس(1).

وقد وصل هذا الظلم إلى حدّ أنّ ابراهيم بن هرمة المعاصر للمنصور دخل إلى المدينة وأتاه رجل من العلويين فسلّم عليه، فقال له إبراهيم: (تنحّ عنّي ولا تشط بدمي)(2).

وأخيراً ننقل كلمات الخضري والشبراوي حول هذه العصور المظلمة، يقول الخضري حول الوضع العبّاسي مع البيت العلوي: (فكان نصيب آل علي في خلافة بني هاشم أشدّ وأقسى ممّا لاقوه في عهد خصومهم من بني اُميّة، فقُتِلوا وشُرِّدُوا كلّ مشرّد، وخصوصاً في زمن المنصور والرشيد والمتوكّل من بني العبّاس، وكان اتهام شخص في هذه الدولة بالميل إلى واحد من بني علي كافياً لاتلاف نفسه ومصادرة أمواله، وقد حصل فعلاً لبعض الوزراء وغيرهم)(3).

ويقول الشبراوي: (وخلف العسكري بعده ولده، وهو الثاني عشر من الائمّة أبو القاسم محمّد (عليه السلام)، وكان أبوه قد أخفاه حين ولد، وستر أمره لصعوبة الوقت وخوفه من الخلفاء، فإنّهم كانوا في الوقت يتطلّبون الهاشميين ويقصدونهم بالحبس والقتل ويريدون إعدامهم)(4).

وما نقلناه غيض من فيض من الاعترافات التي ملات كتب التاريخ والحديث، والتي تحدّثت عن الظلم العبّاسي للبيت العلوي، والتي تجاوزها الكاتب بهدوء من دون إشارة، ووضع لها عنواناً بارزاً في كتابه، مجرّداً من الوثائق، أسماه: (تعاطف الخلفاء العبّاسيين مع العلويين)(5).

____________

(1) السيادة العربيّة والشيعة والاسرائيليّات: ص 134.

(2) تاريخ بغداد: ج 6، ص 127.

(3) محاضرات تاريخ الامم الاسلاميّة: ج 1، ص 161.

(4) الاتحاف بحب الاشراف: ص 179.

(5) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 252.


الصفحة 272

البحث السابع
وصف شعري لظلم العبّاسيين للبيت العلوي


لكلّ حالة من حالات المجتمع أدبها الخاص، فبينما وُصِف الظلم العبّاسي من قبل المؤرّخ والمحدّث وغيرهم، ساهم الشاعر في ذلك الوصف وأخرجه، بحلّة جديدة، تضيف وصمة عار اُخرى على جبين العبّاسيين ومن حاول تبرئتهم.

وفي هذه الوقفة القصيرة نقف مع الشعراء لوصف تلك الحالة، يقول أحدهم:


تالله ما فعلت اُميّة فيهممعشار ما فعلت بنو العبّاس

وقال أبو عطاء أفلح بن يسار السندي المتوفى (سنة 180 هـ) وهو ممّن عاصر الدولتين الامويّة والعبّاسيّة، حيث عاصر خلاصة الظلم الاموي، وأوج الظلم العبّاسي، قال في شعره:


ياليت جور بني مروان دام لناوليت عدل بني العبّاس في النار(1)

ويقول منصور بن الزبرقان النمري المتوفى في خلافة الرشيد:


آل النبي ومن يحبّهميتضامنون مخافة القتل
أمِنَ النصارى واليهود وهممن اُمّة التوحيد في أزل(2)

ولقد وقعت هذه الابيات كالصاعقة على الرشيد، ممّا أدّى به إلى إصدار أوامره بأن ينبش قبر هذا الشاعر وتحرق عظامه(3).

ويقول أبو حنيفة أو الطغراثي ـ على اختلاف النسبة ـ في جملة أبيات له:


ومتى تولّى آل أحمد مسلمقتلوه أو وصموه بالالحاد

ويقول إبراهيم بن عبدالله بن الحسن واصفاً آل الرسول في ذلك العهد:

____________

(1) المحاسن والمساوئ: ص 246; الشعر والشعراء: ج 2، ص 767.

(2) الازل: الضيق والشدّة.

(3) زهرة الادب: ج 3، ص 705.


الصفحة 273

أصبح آل الرسول أحمد في الناس كذي عرة به جرب

ويقول دعبل الخزاعي:


وليس حي من الاحياء نعلمهمن ذى بيان ولا بكر ولا مضر
إلاّ وهم شركاء في دمائهمكما تشارك أيسار على جزر
قتلاً وأسراً وتحريقاً ومنهبةفعل الغزاة بأهل الروم والخزر
أرى اُميّة معذورين إن فعلواولا أرى لبني العبّاس من عذر

ويقول علي بن العبّاس، الشاعر المعروف بابن الرومي مولى المعتصم:


بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكملبلواكم عما قيل مفرج
أكلُّ أوان للنبي محمّدقتيل زكي بالدماء مضرّج

وخاطب بني العبّاس قائلاً:


أفي الحقّ أن يمسوا خماصاً وأنتميكاد أخوكم بطنة يتبعج
وتمشون مختالين في حجراتكمثقال الخطى أكفالكم تترجرج
وليدهم بادي البطون ووليدكممن الريف ريان العظام خدلّج
ولم تقنعوا حتّى استثارت قبورهمكلابكم فيها بهيم وديزجُ

ولقد ذكر سماحة العلاّمة جعفر مرتضى العاملي جانباً مهمّاً من ظلم العبّاسيين ووحشيّتهم، لا يستغني القارئ عن معرفته.

ويقول الشاعر الشيعي البسامي:


تالله إن كانت اُميّة قد أتتقتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثلههذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوافي قتله فتتبعوه رميما

ويقول عيسى بن زيد:


إلى الله أشكو ما نلاقينقتَّل ظلماً جهرة ونخافُ
ويسعد قوم بحبّهم لناونشقى بهم والامر فيه خلافُ

ولقد دُفن الشاعر سديف حيّاً من قبل عبدالصمد بن علي عامل المنصور لانّه قال:


الصفحة 274

إنّا لنأمل أن ترتد اُلفتنابعد التباعد والشحناء والاحن
وتنقضي دولة أحكام قادتهافينا كأحكام قوم عابدي وثن(1)

وقال أحمد بن أبي نعيم الذي نفاه المأمون بسبب هذا البيت:


ما أحسب الجور ينقضي وعلى الـاُمّة وال من آل عبّاس(2)

وأخيراً نختم هذا الفصل بمقتطفات من قصيدة أبي فراس الحمداني (المتوفى 357 هـ)، فقال في قصيدته المعروفة بالشافية:


يا للرجال أما لله منتصرمن الطغاة، أما للدين منتقم
بنو علي رعايا في ديارهموالامر تملكه النسوان والخدم

ثمّ قال:


لا يطغين بني العبّاس ملكهمبنو علي مواليهم وإن رغموا
أتفخرون عليهم لا أبا لكمحتّى كأنّ رسول الله جدّكم
وما توازن يوماً بينكم شرفولا تساوت لكم في موطن قدم
ولا لكم مثلهم في المجد متصلولا لجدّكم مسعاة جدّهم
ولا لعرقكم من عرقهم شبهولا نثيلتكم من اُمهم اُمم

ثمّ أضاف:


كم غدرة لكم في الدين واضحةوكم دم لرسول الله عندكم
أأنتم آله فيما ترون وفيأظفاركم من بنيه الطاهرين دم
هيهات لا قربت قربى ولا رحميوماً إذا أقصت الاخلاق والشيم
كانت مودّة سلمان لهم رحماًولم تكن بين نوح وابنه رحم

بعد كلّ هذا الظلم الذي عبّر عنه الشعراء المعاصرون له، والذين تحمّلوا بسبب شعرهم أشدّ أنواع القتل والتعذيب، فحفظوا لنا وصفاً أميناً لخلفاء بني العبّاس، جاء أحمد الكاتب وفي القرن العشرين ليصف لنا اُولئك الخلفاء بالعطف والرحمة على

____________

(1) العمدة لابن رشيق: ج 1، ص 75; العقد الفريد: ج 5، ص 87.

(2) وفيات الاعيان: ج 6، ص 153.