الصفحة 289
(وفيها ـ حوادث سنة 260 ـ توفي الشريف العسكري أبو محمّد الحسن بن علي ابن محمّد بن علي بن موسى الرضا بن جعفر الصادق، أحد الائمّة الاثني عشريّة على اعتقاد الاماميّة، وهو والد المنتظر عندهم، صاحب السرداب، ويعرف بالعسكري، وأبوه أيضاً يعرف بهذه النسبة)(1).

ويقول أحمد بن حجر (المتوفى سنة 974 هـ):

(ولم يخلف ـ العسكري ـ غير ولده أبي القاسم محمّد الحجّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن أتاه الله فيها الحكمة، ويسمّى القائم المنتظر...)، إلخ(2).

وقال أحمد بن يوسف أبو العبّاس القرماني الحنفي (المتوفى سنة 1019 هـ):

(وكان عمره ـ الحجّة ـ عند وفاة أبيه خمس سنين، أتاه الله فيها الحكمة، كما أوتيها يحيى (عليه السلام) صبّياً)(3).

وقال سليمان بن إيراهيم المعروف بالقندوزي الحنفي (المتوفى سنة 1270):

(فالخبر المعلوم المحقّق عند الثقات، أنّ ولادة القائم (عليه السلام) كانت ليلة الخامس عشر من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين في بلدة سامرّاء)(4).

وقال الشبلنجي (المتوفى سنة 1308):

(وهو آخر الائمّة الاثني عشر على ما ذهب إليه الاماميّة.... إلى أن قال: ولد محمّد ابن الحسن الخالص سنة خمس وخمسين ومئتين)(5).

ويقول الزرگلي الوهابي (المتوفى سنة 1396 هـ): (محمّد بن الحسن العسكري الخالص بن علي الهادي، أبو القاسم، آخر الائمّة الاثني عشر عند الاماميّة، ولد في سامرّاء ومات أبوه وله من العمر نحو خمس سنين، وقيل في تاريخ مولده ليلة النصف

____________

(1) مرآة الجنان: ج 2، ص 127، حوادث سنة 260.

(2) الصواعق المحرقة: ج 2، ص 601، الباب الحادي عشر.

(3) أخبار الدول وآثار الاُول: ج 1، فصل 11، ص 353 ـ 354.

(4) ينابيع المودّة: ج 3، ص 306، آخر باب 79.

(5) نور الابصار: ص 257.


الصفحة 290
من شعبان سنة 255هـ وفي تاريخ غيبته سنة 265هـ)(1).

ويقول عبدالوهاب بن أحمد بن علي الشعراني:

(يترقّب خروج المهدي (عج)، وهو من أولاد الحسن العسكري، ومولده ليلة النصف من شعبان سنة 255)(2).

واعترف بهذه الحقيقة العلاّمة الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي النيسابوري الشافعي (ت 458 هـ) في كتابه "شعب الايمان"، والعلاّمة عبدالله بن أحمد بن محمّد بن الخشّاب (ت 567 هـ) في كتابه "تاريخ مواليد الائمّة ووفياتهم"، والشيخ محمّد بن طلحة الحلبي الشافعي (ت 652 هـ) في كتابه "مطالب السؤول"، والمؤرّخ الشهير شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت الحموي (ت 626 هـ) في كتابه "معجم البلدان"، والشيخ فريد الدين العطّار (ت 627 هـ) في كتابه "مظهر الصفات"، والشيخ محي الدين أبو عبدالله محمّد بن علي بن محمّد المعروف بابن الحاتمي الطائي الاندلسي (ت 638 هـ) في كتابه "الفتوحات"، والشيخ جلال الدين محمّد البلخي الرومي المعروف بالمولوي (ت 672 هـ) في ديوانه الكبير، والشيخ صلاح الدين الصفدي (ت 764 هـ) في كتابه شرح الدائرة، وغير هؤلاء، وأحصاهم الشيخ نجم الدين جعفر بن محمّد العسكري في كتابه "المهدي الموعود المنتظر" عند علماء أهل السنّة والاماميّة، وأوصلهم إلى (40 عالماً) من أصحاب الكتب، وأضاف الشيخ لطف الله الصافي (26 عالماً) آخر من أصحاب الكتب، فبلغ عددهم (66 عالماً) من علماء السنّة اعترفوا بولادة الامام المهدي ابن الحسن العسكري (عليه السلام). وهذا غيضٌ من فيض من الاعترافات الكثيرة جدّاً بولادة الامام الثاني عشر، وأنّه ابن الحسن العسكري.

كلّ هذا تجاهله أحمد الكاتب ولم يناقشه بكلمة واحدة.

أحمد الكاتب ينكر ما أثبته علماء الانساب:

لا يحق لاي أحد أن يدلو دلوه في

____________

(1) الاعلام: ج 6، ص 80.

(2) اليواقيت والجواهر: ج 2، ص 562، المبحث الخامس والستون.


الصفحة 291
أي مكان وفي أي زمان، إلاّ أن يكون ذا خبرة كافية في المورد المطروح للنقاش، وفي موارد ولادة الرجال وعدمها ـ وخصوصاً إذا طالت المدّة ـ يترك الامر إلى علماء الانساب المشتغلين بهذا الفن لكي يثبتوا الحقيقة أو ينفوها.

وعلماء الانساب ابتداءً من زمن الغيبة الصغرى، وحتّى عام 1246 هـ قالوا بوجود ولد للعسكري (عليه السلام) وهو المهدي المنتظر.

يقول النسّابة سهل بن عبدالله بن داود بن سليمان البخاري الذي عاصر الغيبة الصغرى: (وولد علي بن محمّد التقي (عليه السلام) الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) من اُم ولد نوبيّة تدعى ريحانة، وولد سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقبض سنة ستين ومائتين بسامرّاء وهو ابن تسع وعشرين سنة، وولد علي بن محمّد التقي (عليه السلام) جعفر، وهو الذي تسمّيه الاماميّة جعفر الكذّاب، وإنّما تسمّيه الاماميّة بذلك لادعائه ميراث أخيه الحسن (عليه السلام) دون ابنه القائم الحجّة (عج) لا طعناً في نسبه)(1).

ويقول السيّد العمري ـ وهو نسّابة مشهور في القرن الخامس الهجري ـ:

(ومات أبو محمّد (عليه السلام) وولده من نرجس معلوم عند خاصّة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والاخبار التي سمعناها بذلك، وامتحن المؤمنون بل كافّة الناس بغيبته، وشره جعفر بن علي إلى مال أخيه وحاله، فدفع أن يكون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة على قبض جواري أخيه)(2).

وقال الفخر الرازي الشافعي ـ نسّابة القرن الخامس ـ المتوفّي سنة 606:

(أمّا الحسن العسكري الامام (عليه السلام) فله ابنان وبنتان، أمّا الابنان فأحدهما صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) والثاني موسى، درج في حياة أبيه)(3).

ويقول نسّابة القرن السادس المروزي الازورقاني: (إنّ جعفر كان كذّاباً ووصفه

____________

(1) أبي نصر البخاري، سر السلسلة العلويّة: ص 39 ـ 40.

(2) المجدي في أنساب الطالبيين: ص 130.

(3) الفخر الرازي، الشجرة المباركة في أنساب الطالبيّة: ص 78 ـ 79.


الصفحة 292
بذلك لانّه أنكر ولادة الامام المهدي (عج))(1).

ويقول النسّابة جمال الدين أحمد المعروف بابن عِنَبة، والمتوفى سنة 828 هـ:

(أمّا علي الهادي فيلقّب العسكري لمقامه بسرّ من رأى، وكانت تسمّى العسكر، واُمّه اُم ولد، وكان في غاية الفضل ونهاية النبل، أشخصه المتوكّل إلى سرّ من رأى فأقام بها إلى أن توفّي، وأعقب من رجلين، هما:

الامام أبو محمّد الحسن العسكري (عليه السلام)، وكان من الزهد والعلم على أمر عظيم، وهو والد الامام محمّد المهدي)(2).

وذكر النسّابة أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني الزيدي، وهو نسّابة معروف في القرن الحادي عشر، ذكر المهدي المنتظر بأنّه من أبناء العسكري واسمه محمّد(3).

ويقول محمّد أمين السويدي (المتوفى سنة 1246):

(محمّد المهدي، وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، وكان مربوع القامة حسن الوجه والشعر، أقنى الانف، صحيح الجبهة)(4).

وأخير يقول محمّد ويس الحيدري السوري: (فالحسن العسكري أعقب محمّد المهدي صاحب السرداب)(5).

وقال على هامش هذه العبارة: (ولد في النصف من شعبان سنة 255 هـ، واُمّه نرجس)(6).

فهذه هي اعترافات علماء الفن بولادة الثاني عشر، الغائب المنتظر، فلا يحق لاحد

____________

(1) الفخري في أنساب الطالبيين: ص 8.

(2) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: ص 180.

(3) روضة الالباب لمعرفة الانساب: ص 105.

(4) سبائك الذهب: ص 78.

(5) الدرر البهيّة في الانساب الحيدريّة والاويسيّة: ص 73، طبع حلب ـ سوريا 1405 هــ.

(6) هامش الدرر البهيّة: ص 73 ـ 74.


الصفحة 293
أن ينقض كلام هؤلاء، وخصوصاً من لا خبرة له ولا علم ولا دراية بعلم الانساب لا من قريب ولا من بعيد كأحمد الكاتب.

حديث الغيبتين:

دوّن الفقهاء والمحدّثون الثقات في موسوعاتهم الحديثيّة هذا الحديث ابتداءً من عصر الغيبة وإلى يومنا هذا، فلقد نقل ذلك الكليني والطوسي والنعماني والطبري والمجلسي وغيرهم.

يقول ثقة الاسلام الكليني: عن عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "للقائم غيبتان يشهد في أحدهما المواسم يرى الناس ولا يرونه"(1).

وقال أيضاً: عن إسحاق بن عمّار قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): "للقائم غيبتان، إحداهما قصيرة، والاخرى طويلة، الغيبة الاولى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة شيعته، والاخرى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة مواليه"(2).

وفي الحديث الثالث شرح الامام حال الناس في هاتين الغيبتين وموقفهم منها، يقول الشيخ الكليني بسنده عن أبي عبدالله (عليه السلام): "لصاحب هذا الامر غيبتان، إحداهما يرجع منها إلى أهله، والاخرى يقال هلك في أي واد سلك"، قلت: كيف نصنع إذا كان كذلك؟ قال: "إذا ادّعاها مدّع فاسألوه عن أشياء يجيب فيها مثله"(3).

وتحدّث الشيخ الطوسي عن حديث الغيبتين، ونقلها في موسوعته (الغيبة)، يقول الشيخ الطوسي بسنده عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: "إنّ لصاحب هذا الامر غيبتين إحداهما أطول من الاخرى، حتّى يقال: مات، وبعض يقول: قُتل، فلا يبقى على أمره إلاّ نفر يسير من أصحابه، ولا يطّلع أحد على موضعه وأمره ولا خبره إلاّ المولى الذي يلي أمره".

وعلّق الشيخ الطوسي على هذا الحديث فقال: (فهذا الخبر صريح فيما نذهب إليه في صاحبنا لانّ له غيبتين:

____________

(1) الكافي: ج 1، ص 400، كتاب الحجّة، باب الغيبة، ح 12.

(2) الكافي: ج 1، ص 401، كتاب الحجّة، باب الغيبة، ح 19.

(3) الكافي: ج 1، ص 401، كتاب الحجّة، باب الغيبة، ح 20.


الصفحة 294
الاولى: كان يعرف فيها أخباره ومكاتباته.

والثانية: أطول، انقطع ذلك فيها، وليس يطّلع عليه أحد إلاّ من يختصّه، وليس كذلك لابي الحسن موسى (عليه السلام))(1).

واستقرأ الشيخ الطوسي أحاديث الغيبتين وما حملت من ألفاظ دلّت على أنّ للمهدي غيبتين.

فقد نُقل عن أبي عبدالله (عليه السلام) مخاطباً حازم بن حبيب: "يا حازم، إنّ لصاحب هذا الامر غيبتين يظهر في الثانية، إن جاءك من يقول إنّه نفض يده من تراب قبره فلا تصدّقه"(2).

ونقل الشيخ الطوسي حديث آخر لابي عبدالله (عليه السلام) حيث قال: "أما إنّ لصاحب هذا الامر فيه غيبتين، واحدة قصيرة والاخرى طويلة"(3).

ونقل الشيخ أيضاً عن أبي عبدالله (عليه السلام) قوله: "إنّ لصاحب هذا الامر غيبتين، إحداهما تطول حتّى يقول بعضهم مات، ويقول بعضهم قتل، ويقول بعضهم ذهب، حتّى لا يبقى على أمره من أصحابه إلاّ نفر يسير لا يطلع موضعه أحد من ولده ولا غيره إلاّ المولى الذي يلي أمره"(4).

ونقل الشيخ النعماني في كتابه الغيبة فقال: عن إسحاق بن عمّار الصيرفي، قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: "للقائم غيبتان إحداهما طويلة والاخرى قصيرة، فالاولى يعلم بمكانه فيها خاصّة من شيعته، والاخرى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة مواليه في دينه"(5).

____________

(1) الغيبة للطوسي: ص 41.

(2) الغيبة للطوسي: ص 261.

(3) الغيبة للطوسي: ص 103.

(4) الغيبة للطوسي: ص 102.

(5) الغيبة للنعماني: ص 170، باب 10، ح 1.


الصفحة 295
ونقل عن الامام الباقر (عليه السلام) قوله: "إنّ لصاحب هذا الامر غيبتين...."، إلخ(1).

ويقول النعماني متحدّثاً عن الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ للقائم غيبتين يقال له في إحداهما هلك، ولا يدرى في أي واد سلك"(2).

ولقد نقل النعماني مجموعة من الاحاديث التي تدلّ على أنّ للامام الحجّة غيبتين، إحداهما طويلة والاخرى قصيرة(3).

ونقل الطبري في دلائل الامامة عن هشام بن الحكم قال: لصاحب هذا الامر غيبتان، إحداهما أطول من الاخرى(4).

فهذه هي أحاديث الغيبتين وغيرها، نقلت من الائمّة المعصومين (عليهم السلام)، ونقلها الكليني المعاصر للغيبة، والطوسي والنعماني والطبري، ونقلها من أصحاب الامام الباقر (عليه السلام): إبراهيم بن عمر اليماني، ومحمّد بن مسلم الثقفي وغيرهم، ومن أصحاب الصادق (عليه السلام): إسحاق بن عمّار الصيرفي، وحازم بن حبيب وعبيد بن زرارة، والمفضّل ابن عمر، وزرارة بن أعين، وهشام بن الحكم، وعبدالاعلى مولى آل سام.

كلّ هؤلاء تسالموا على نقل حقيقة حديث الغيبتين الذي أنكره أحمد الكاتب(5)، ولم يكتفِ بالانكار، بل كذب على القارئ بأنّ هذا الحديث أوّل من نقله هو النعماني، فقال:

(إنّ الاستشهاد بالغيبتين قد ابتدأه النعماني في منتصف القرن الرابع الهجري، بعد انتهاء عهد النوّاب الخاصّين، ولم يشر إليه من سبقه من المؤلّفين حول الغيبة الذين اكتفوا بالاشارة إلى الغيبة الواحدة)(6).

____________

(1) الغيبة للنعماني: ص 171، باب 10، ح 3.

(2) الغيبة للنعماني: ص 173، باب 10، ح 8.

(3) الغيبة للنعماني: ص 171 و172 و175، باب 10، ح 5 و6 و15.

(4) دلائل الامامة: ص 293، باب ما ورد من الاخبار في وجوب الغيبة.

(5) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 199.

(6) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 199.


الصفحة 296
فلا أدري، هل يعلم الكاتب بأنّ سنة وفاة الكليني (329 هـ) معاصرة للغيبة الصغرى، والذي استشهد بحديث الغيبتين كما بينّاه أم لا؟

التوقيعات الصادرة من امام العصر والزمان:

غُيِّب الامام المهدي كما تغيّب الغيوم الشمس، وتحقّق الحاجز المصرّح به والمعلوم عند المسلمين بينهم وبين إمامهم، ولكن بقي هناك بصيص أمل للاتصال والمتابعة عبر قناة النوّاب الاربعة الذي اعترف به الكاتب بنفسه عندما قال بحقّهم: (اتفقت عامّة الاثني عشريّة على الاخذ من النوّاب الاربعة وميّزوهم عن غيرهم)(1).

ومرّر الامام المغيّب عبر هؤلاء الثقات توجيهاته إلى الامّة وتوصياته، يقول الشيخ الكليني: عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ فورد في التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عج) ـ ذلك الخط الذي يقول عنه أحد أصحاب الائمّة هو نفس الخط الذي كان يخرج عن العسكري(2) ـ، وأجاب الامام المهدي عن مسائل إسحاق بن يعقوب، وكذلك أجاب عن الكثير من المسائل التي رفعها إليه الاصحاب عن طريق النوّاب، وقد بلغت التواقيع عند الشيخ الصدوق وحده ثلاثة وأربعين توقيعاً، ووضع لها باباً خاصاً سمّاه ذكر التوقيعات الواردة عن القائم، ولم يناقش الكاتب لا أسانيد هذه التوقيعات ولا متونها، واكتفى بوصفها بأنّها إشاعات، ولكن من أين هذه الاشاعات، هل من رجال أسانيد هذه المتون الثقات؟ أم من النوّاب الاربعة المتفق على جلالتهم وقدرهم؟ كلّ ذلك أهمله الكاتب، ولم يحمل طرف المسؤوليّة عن تلك الاشاعات.

الاختلاف في اسم اُمّ الامام وولادته:

من عجيب الادلّة التي اعتمدها الكاتب على عدم وجود الامام المهدي، هو الاختلاف الحاصل كما يراه في اسم أمّ الامام، أو

____________

(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 229 ـ 230.

(2) الغيبة للطوسي: ص 216.


الصفحة 297
الاختلاف في سنة ولادته(1)، وما شابه ذلك، وهذا من استدلالات الفريق الذي يتعلّق بالقشّة لاثبات مدّعاه.

ولو سلّمنا للكاتب، ولم نتبّع ما اشتهر من الروايات وتظافر بأنّ اسم اُمّ الامام هو (نرجس)، وأنّ سنة ولادته هي (255 هـ) في النصف من شعبان، والذي اعترف به ابن خلكان في وفيات الاعيان(2)، وغيره ـ كما تقدّم ـ.

فلو تركنا كلّ ذلك، وسلّمنا للكاتب أنّه يوجد اختلاف تاريخي في اسم اُمّ الامام وسنة ولادته، فهل هذا يدل على عدم وجوده؟

فإن كان ذلك، فعليه أن يلتزم بكلّ لوازم كلامه هذا، عليه أن يلتزم بعدم وجود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لانّهم اختلفوا في ولادته، هل هو يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الاوّل، أو بعد ثمان ليال خلون من شهر ربيع الاوّل، وكذلك اختلف السنّة والشيعة حول وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وعليه أيضاً أن يلتزم بعدم وجود الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيّدة نساء العالمين، لانّ السنّة أنفسهم اختلفوا في زمن ولادتها، ولم يكن الاختلاف بالايام أو بالاشهر، بل فاق ذلك بكثير.

وعليه أن يلتزم بعدم وجود أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، لانّهم اختلفوا في ولادته، فهل ولد يوم 13 رجب أم يوم 23 رجب. وعليه أن يلتزم بعدم وجود الحسن السبط، لانّهم اختلفوا في ولادته، هل كانت يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان سنة (2 هـ) أم سنة (3 هـ). وعليه أن يلتزم بعدم وجود الحسين (عليه السلام)، فإنّهم اختلفوا في ولادته. وعليه أن يلتزم بعدم وجود الامام الكاظم (عليه السلام) لانّهم اختلفوا في اسم أمّه، هل هي حميدة وهو المشهور، أو نباتة(3).

ولو استقرأنا التاريخ على مبنى أحمد الكاتب، وهو الاختلاف في اسم الامّ أو ولادة

____________

(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 210 ـ 211.

(2) وفيات الاعيان: ج 4، ص 176، ح 562.

(3) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: ص 177.


الصفحة 298
الشخص، وجعلنا ذلك دليلاً لعدم وجود الشخص، فلا يبقى لنا من أئمّة المسلمين وعظماء الاسلام أحد(1).

____________

(1) دفاع عن الكافي: ج 1، ص 531.


الصفحة 299


الفصل الخامس
نظريّة الشورى في مواجهة
التحديّات





الصفحة 300

الصفحة 301

سند الشورى الوثائقي


يقول عمر بن الخطّاب: (لا يفترن امرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألا إنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرّها! فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرةً أن يُقتلا)(1).

طالعتنا كتب الحديث والتاريخ بهذا السند الوثائقي الذي يعبّر عن مسألتين مهمتين:

الاُولى: أنّ بيعة أبي بكر لم تكن عن مشورة، كما قال الداوودي في معنى فلتة: (يعني من غير مشورة)(2).

الثانية: لم تكن الشورى نظريّة سياسيّة مطروحة آنذاك كما يدلّ عليه قول عمر في بيعة أبي بكر: (فلتة... ولكن وقى الله شرّها)، ولم تكن معروفة عند عمر بن الخطّاب الذي خالفها بتصريحاته مراراً وتكراراً، يقول ابن الاثير وأحمد بن حنبل وابن الجوزي والذهبي: إنّ عمر قال: (لو كان أبو عبيدة حيّاً لوليته)(3)، وقال أيضاً: (لو كان معاذ بن جبل حيّاً لوليته)(4)، وقال: (لو كان سالم حيّاً ما جعلتها شورى)(5).

____________

(1) صحيح البخاري: كتاب المارقين من أهل الردّة والكفر، باب رجم الحبلى من الزنا، ح 6442; مسند أحمد: ج1، ص ح 393; سيرة ابن هشام: ج 4، ص 308 ـ 309; تاريخ الطبري: ج 2، ص 446.

(2) فتح الباري: ج 14، ص 117، طبعة دار الفكر.

(3) الكامل في التاريخ: ج 3، ص 65; صفة الصفوة: ج 1، ص 367; سير أعلام النبلاء: ج 1، ص 10; مسند أحمد: ج 1، ص 18، رقم 109.

(4) صفة الصفوة: ج 1، ص 367.

(5) طبقات ابن سعد: ج 3، ص 248.


الصفحة 302
إذن، إذا كانت الشورى كنظرة سياسيّة غائبة فضلاً عن كونها نظريّة سياسيّة، فلماذا طرحها عمر للساحة؟ ولماذا أكّدها وشدّد عليها بقوله: (فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعة تغرّةً أن يُقتلا)، كلّ ذلك يبين لنا أنّ الخليفة الثاني كان يعيش أزمة، وكان خائفاً من شيء يدور خلف الكواليس، فما هو هذا الشيء الذي سبَّب أرق الخليفة الثاني في مسألة الخلافة ياترى؟

أجاب على ذلك ابن حجر العسقلاني عندما ذكر أنّ عبدالرحمن بن عوف جاء إلى ابن عباس في موسم الحجّ، وكان يتعلّم عنده القرآن، فقال له: (لو سمعت ما قاله أمير المؤمنين ـ يعني عمر بن الخطّاب ـ إذ بلغه أنّ فلاناً قال: لو قد مات عمر لبايعت فلاناً، فما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة(1). فهمَّ عمر أن يخطب الناس ردّاً على هذا القول، فنهيته لاجتماع الناس كلّهم في الحجّ، وقلت له: إذا عدت المدينة فقل هناك ما تريد، فإنّه أبعد عن إثارة الشغب.... فلمّا رجعوا من الحجّ إلى المدينة، قام عمر في خطبته فقال: لا يفترنّ امرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة، وتمت، ألا إنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرّها! فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّةً أن يُقتلا)(2).

إذن، هذا الكلام الاخير الذي تناقلته كتب الحديث والتاريخ السنيّة، والذي سنّ فيه الخليفة الثاني مبدأ الشورى كنظرية سياسيّة، كان ردّاً على فلان الذي قال: (لو مات عمر لبايعت فلاناً)(3).

وهنا يبرز سؤال، من هو فلان القائل؟ ومن هو فلان الذي إذا مات عمر يبايعه القائل؟

أمّا القائل: (لو مات عمر لبايعت فلاناً)، فقد صرّح به ابن حجر العسقلاني بقوله:

____________

(1) فتح الباري: ج 14، ص 109، باب 31; ارشاد الساري: ج 14، ص 339، كتاب الحدود، باب 30.

(2) صحيح البخاري: كتاب المحاربين من أهل الردّة والكفر، باب رجم الحبلى من الزنا، ح 6442; مسند أحمد: ج 1، ص 56، ح 393; سيرة ابن هشام: ج 4، ص 308 ـ 309; تاريخ الطبري: ج 2، ص 446.

(3) إرشاد الساري: ج 14، ص 339، كتاب الحدود، باب 30.


الصفحة 303
(وجدت في الانساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام بن يوسف عن معمّر، عن الزهري، بالاسناد المذكور في الاصل، ولفظه: قال عمر بلغني أنّ الزبير قال: لو مات عمر...)(1).

وأمّا السؤال الاخر، وهو من هذا الذي يبايعه الزبير؟ هل هو من أمثال سالم ومعاذ وأبي عبيدة، الذين صرّح عمر بأنّهم لو كانوا أحياءً لولاّهم منصب الخلافة، أم رجل آخر ليس من أمثال هؤلاء؟

الجواب على ذلك: لو كان هذا الرجل من أمثال هؤلاء، لما لجأ الخليفة الثاني إلى سنّ الشورى كطريق جديد للخلافة; لانّ عمر بنفسه صرّح: (لو كان أبو عبيدة أو سالم أو معاذ أحياء لوليتهم).

إذن، الرجل له منهج غير منهج هؤلاء، وغير منهج الخليفة الثاني، ولحد الان لم نتعرّف على اسمه ونسبه، والبعض أطلق المسألة باسم فلان واكتفى، ولم يحاول، أو لم يرغب في أن يتعرّف عليه، ولكن ابن حجر العسقلاني صرّح بهذه الحقيقة المرّة على البعض، بأنّ ذلك الرجل الذي كان الزبير يريد مبايعته بعد موت عمر هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإليك كلام ابن حجر:

(وجدت في الانساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام بن يوسف عن معمّر، عن الزهري، بالاسناد المذكور في الاصل، ولفظه: قال عمر بلغني أنّ الزبير قال: لو مات عمر لبايعنا عليّاً)(2).

فتحصّل من كلّ ذلك: طرح الشورى بديلاً للنص لايقاف الزبير عمّا ينويه في مسألة الخلافة، وأخذت هذه النظرة منذ ذلك الوقت تدبّ في جسم الاُمّة الاسلاميّة سنين وسنين، ولكنّها فشلت; لانّها لم تكن مرتكزة على أصل في الاسلام، وصرّح بفشلها الدكتور أحمد محمود صبحي بقوله: (أمّا من الناحية الفكريّة فلم يقدّم أهل السنّة نظريّة متماسكة في السياسة تحدّد مفاهيم البيعة والشورى وأهل الحِلّ والعقد،

____________

(1) المصدر نفسه.

(2) ارشاد الساري: ج 14، ص 339، كتاب الحدود، باب رقم 30.


الصفحة 304
فضلاً عن هوّة ساحقة بين النظريّة والتطبيق، أو بين ما هو شرعي وبين ما يجري في الواقع)(1).

إذن، سند الشورى الوثائقي هو الخوف من وصول علي (عليه السلام) إلى سدّة الحكم ـ وهو الذي أراده الكاتب ـ أن يكون تشريعاً للاُمّة لقبول نظريّة الشورى ورفض الامامة الالهيّة.

إفلاس الشورى من الوثائق


بعد أن أفلست الشورى ـ كنظريّة سياسيّة للحكم ـ من أي مستند وثائقي، لا من منشئها وهو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث قال: (لو كان سالم حيّاً ما جعلتها شورى)(2)، ولا من الفكر السائد عند الصحابة آنذاك، حيث يقول عثمان بن عفّان لعبدالله بن عبّاس: (ولقد علمت إنّ الامر لكم، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوكم دونه)(3).

بحيث وصل الامر بالصحابة أن يراجعوا عمر بن الخطّاب ويسألوه على أن ينصّ على من يخلفه(4); نتيجة للعقيدة الراسخة لديهم حول مسألة الخلافة بالنص لا بالشورى.

فبعد كلّ هذا الوضوح الذي لم يستطع أحمد الكاتب إخفاءه، راح يبحث عن عبدالله بن سبأ ليعلّق هذه النظريّة التي آمن بها الصحابة عليه، ويخرج بنتيجة تقول: (إنّ نظريّة النص نظريّة دخيلة على المجتمع الاسلامي)، ولكن عندما سمع بأنّ السيّد العسكري(5) قد شمّر سواعده في البحث عن هذا الرجل، وأثبت للعالم بأنّ هذا

____________

(1) الزيديّة: ص 31 ـ 32.

(2) خلافة الرسول بين الشورى والنص: ص 36، نقلاً عن طبقات ابن سعد: ج 3، ص 248.

(3) شرح نهج البلاغة: ج 9، ص 9.

(4) الكامل في التاريخ: ج 3، ص 65.

(5) عبدالله بن سبأ وأساطير اُخرى: ج 1 وج 2.