فالعصمة بنص القرآن ثابتة ومصاديقها بنصّ رسوله مشخّصة وليست هي ادعاء للشيعة أمام الامويين، كما قال الكاتب.
أضف إلى ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون"(1).
نظريّة الامامة العبّاسيّة
من الاُمور المهمة التي اعتمد عليها الكاتب في نظريّة الشورى هي المعارضة العباسيّة; لانّ الامر لو كان نصّاً لما حدثت هذه المعارضة وبهذا الحجم، وسنتطرّق إلى هذه المسألة بالتفصيل، فنقول:
قبل التعرّف على أوصياء بني العبّاس لابدّ من تنقيح مسألة مهمة ترتكز عليها مسألة الوصيّة في بني العبّاس، ألا وهي تحديد شعارات الفكر العبّاسي الاوّل الذي انطلق لاستلام السلطة، فما هو الشعار المعبّر عن ذلك الفكر الذي طرحه العبّاسيون، والتفّت فصائل المقاومة حوله بمجرّد سماعه.
وبمطالعة الرواية التأريخيّة نجد أنّ أوّل شعار طرح لاستنهاض الناس ضدّ الامويين هي الدعوة للرضا من آل محمّد، وهذا الشعار كان واضح المعاني في الفكر الاسلامي، ولا يشكّ أحد أنّ آل محمّد هم ابنا علي: الحسن والحسين، وكان هذا الشعار يؤلّف الفصائل ويجمعها لتحقيق الهدف، لانّ كلمة أهل البيت هي السحر الذي يؤلّف قلوب مختلف طبقات الشعب، ويجمعهم حول الراية السوداء(2).
ولهذا يعتذر أبو مسلم الخراساني الممهّد الاوّل للدولة العباسيّة بعد القتل والتشريد لال الرسول يعتذر بقوله: (وزويت الامر عن أهله ووضعته في غير محلّه)(3).
____________
(1) ينابيع المودّة: ج 3، ص 384، باب 94.
(2) الامام الصادق والمذاهب الاربعة: جلد 1، ج 1، ص 532.
(3) تاريخ بغداد: ج 10، ص 206 ـ 207.
ولكن لو استجوبنا التاريخ، كيف ادّعى العباسيّون الوصاية من أبي هاشم. أجاب ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الاسكافي حيث قال: (لمّا مات علي أمير المؤمنين (عليه السلام) طلب محمّد بن الحنفيّة من أخويه الحسن والحسين ميراثه من العلم، فدفعا إليه صحيفة لو أطلعاه على غيرها لهلك، وكان في هذه الصحيفة ذكر لدولة بني العبّاس، فصرّح ابن الحنفيّة لعبدالله بن العباس بالامر وفصَّله له)(1).
إذن، توجد صحيفة من ميراث علي (عليه السلام) عند محمّد بن الحنفيّة، اطَّلعَ عليها عبدالله ابن العبّاس، ويبقى سؤال يقول: كيف وصلت هذه الصحيفة لبني العبّاس ليجعلوها وثيقة مهمّة من وثائق الدولة العبّاسيّة الرسميّة؟
والجواب على ذلك: أنّ هذه الصحيفة وصلت إليهم من طريق أبي هاشم عبدالله ابن محمّد بن الحنفيّة، الذي نهض بالثورة ضدّ الامويين، فلقد قيل: إنّ عبدالله هذا اجتمع مع محمّد بن علي بن عبدالله بن العبّاس ومعاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، وهؤلاء الثلاثة هم الذين حضروا وفاة أبي هاشم هذا، وأطلعهم على أهداف ثورته(2).
وبعد أن توفي أبو هاشم هذا، ادّعى كلّ من محمّد بن علي ومعاوية بن عبدالله بن جعفر الوصاية منه، وهذا الادّعاء يكشف عن اُمور:
1 ـ أنّ أبا هاشم لم يوصِ لاحد منهما، وإلاّ لما اختلفا في ذلك، وخصوصاً أنّ عبدالله بن الحارث بن نوفل كان حاضراً ذلك الاجتماع ولم يؤيّد أحداً.
____________
(1) شرح نهج البلاغة: ج 7، ص 149 ـ 150.
(2) الحياة السياسيّة للامام الرضا: ص 29.
إلى هنا تبيّن أنّ ميراث علي (عليه السلام) كان فيه صحيفة، ذكرت دولة بني العبّاس، وصرّحوا بذلك عندما قال داود بن علي وهو والي مكّة آنذاك من قبل أخيه السفّاح، قال: (إنّه والله ما كان بينكم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خليفة إلاّ علي (عليه السلام) وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي)(1)، يعني السفّاح.
إلى هنا نجد أنّ العبّاسيين ورثوا الخلافة من صحيفة لميراث علي، اطّلع عليها محمّد ابن الحنفيّة، ثمّ ولده أبو هاشم، ثمّ سرت في ولد ابن الحنفيّة، ومن ثمّ إلى العبّاسيين الذين ادّعوا الوصاية من أبي هاشم، وهذه الصحيفة وإن كانت هي إنباء عن غيب، لكن حاول العبّاسيون غش المسلمين بأنّها وصيّة جاءت من علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ولكن بقي سؤال: إذا كانت من علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهي كما تزعمون وصيّة، فلماذا سرت في بني العبّاس ولم تسرِ في ولد الحسن والحسين (عليهما السلام)؟ فلابدّ للعبّاسيين أن يجيبوا عن هذا التساؤل.
ولم يجد العبّاسيّون طريقاً لذلك إلاّ من خلال تغيير سلسلة الوصاية، وحذف اسم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وتعديل البنود، فهدّد هارون الرشيد أبا معاوية الضرير وهو أحد محدّثي المرجئة، وقال له: (هممت أنّه من يثبت خلافة علي فعلت به وفعلت)، ولم يقف العبّاسيّون عند هذا الحد، بل أسّسوا فرقة الراونديّة، أسّسها المهدي، وجعلت هذه الفرقة العبّاس هو الامام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ لعبدالله بن العبّاس ثم... حتّى يصل الامر إليه(2).
إذن، عُدِّلَ البند، وجُعِلَ مصدر السلسلة العبّاس بن عبدالمطلب; حتّى لا يطالب أبناء الحسن والحسين بالخلافة والوصيّة، ونحن هنا لا نريد من البحث أكثر من ذلك، وإلاّ فقد بقي من الكلام مزيد.
____________
(1) مروج الذهب: ج 3، ص 282; تاريخ الطبري: ج 6، ص 84; تاريخ اليعقوبي: ج 3، ص 97.
(2) فرق الشيعة: ص 62 ـ 63; تاريخ ابن خلدون: ج 3، ص 218; مروج الذهب: ج 4، ص 236.
فوقع أحمد الكاتب في شباك النص والوصيّة الذي طارده طيلة مدّة بحثه وإن حاول أن يضيف كلمة "أولويّة جدّهم العبّاس"، فهذه الكلمة لا تنفع; لاننا علمنا بأنّ السلسلة التي غيّرها العبّاسيّون كانت سلسلة وصاية ونص السابق على اللاحق، ولهذا قال أحمد الكاتب: (انسحب العبّاسيّون من الفكر الشيعي القديم)، ولو سألنا أحمد الكاتب: ما هو الفكر الشيعي القديم؟ فإنّه لن يستطيع أن يجيب بأكثر ممّا أجاب به أبو مسلم الخراساني بقوله: (وزويت الامر عن أهله ووضعته في غير محلّه)(2).
فأهله هم الحسن والحسين وأولاد الحسين (عليهم السلام)، واحداً بعد واحد، والفكر الشيعي القديم هو النص والوصيّة لهم، كما نقلته كتب الشيعة وتسالمت عليه أقطاب الفكر الشيعي كابراً عن كابر.
إذن، الامامة العبّاسيّة كانت قائمة على مسألة النص والوصيّة، وهذا يبرز لنا مدى التفكير الاسلامي بمسألة الخلافة المحمّلة بتبعات النص، ولذلك حاول العبّاسيّون استغلال ذلك.
موقف بعض الحسنيين
لقد تبيّن فيما مضى أنّ الفكر العبّاسي قائم على أساس النص والوصيّة، كما رأينا في السلسلة المدّعاة، سواء كانت من علي بن أبي طالب أو من العبّاس، المهم أنّ الفكرة واحدة، وهي ادّعاء الوصاية والنص لا الشورى والانتخاب والاولويّة، كما يحاول الكاتب إثبات ذلك، هذا بالنسبة للفكر السياسي العبّاسي.
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 42.
(2) تاريخ بغداد: ج 10، ص 206 ـ 207.
وحتّى لو كانت هناك معارضة فلا تنفع الكاتب لانّها تدعو إلى الامامة، فهذا إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي (عليهما السلام) يدعو إلى إمامة أخيه محمّد كما يقول الاشعري(3)، مع أنّ محمّداً لم يحصل على ذلك عن طريقة بيعة حتّى تفسّر الامامة بهذا الطريق، وكذلك قال السيّد الخوئي: (إنّ عبدالله بن الحسن قد نصّب نفسه للامام) كما تقدّم.
إذن، موقف بعض الحسنيين لم ينفع أحمد الكاتب أبداً وإن حاول أن يحرّف في بعض الموارد ـ كما ذكرنا سابقاً ـ أو يضع عنواناً باسم المعارضة الحسنيّة(4)، ليوهم القارئ بأنّ الامامة كانت لها معارضة شديدة.
وفي ختام هذا الكلام نقول: إنّ التاريخ قد ظلم الحسنيين في مواقفهم، وإن وقف البعض أمام الائمّة (عليهم السلام) ـ كما وقف أولاد الائمّة أمثال جعفر الكذّاب ـ ففي الحسنيين الحسن المثنّى الذي كان كما يقول المفيد: (رجلاً جليلاً، رئيساً، فاضلاً، ورعاً، كان يلي صدقات أمير المؤمنين في وقته.... ـ إلى أن قال ـ: ومضى ولم يدَّعِ الامامة ولا ادعاها له مدّع)(5). وغيره من الحسنيين الذين كانت لهم مواقف مشرّفة مع الائمّة (عليهم السلام)، وكان
____________
(1) بصائر الدرجات: ص 153.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 31.
(3) المقالات والفرق: ص 76.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 44.
(5) معجم رجال الحديث: ج 4، ص 301 ـ 302، رقم 2761.
العدو يعترف بإمامة أهل البيت (عليهم السلام)
لا توجد شهادة أوثق وأدق وأصدق من شهادة العدوّ، لانّ العدو يسعى دائماً إلى أن يجعل من يعاديه صغيراً في أعين الناس، كما اعترف المأمون بذلك عندما قال: (ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه ـ الامام الرضا ـ قليلاً قليلاً)(1).
إذن، فالعدو خير شاهد عندما يعترف لنا بإمامة أهل البيت (عليهم السلام)، ولنأتي إلى أعداء الائمّة، أمثال المنصور وابن مؤنس والرشيد والمأمون وأبي مسلم الخراساني الذين جرّدوا سيوفهم لتحجيم دور الائمّة (عليهم السلام) داخل المجتمع الاسلامي، يقول المنصور: (قتلت من ذريّة فاطمة ألفاً أو يزيدون، وتركت سيّدهم ومولاهم وإمامهم جعفر بن محمّد)(2).
فهل يحتاج هذا النص إلى شرح واستدلال على اعتقاد المنصور بأنّ الامام هو جعفر بن محمّد عند الشيعة الاماميّة؟!
أمّا ابن مؤنس فقد أطلق تلك العبارة التي بيّنت موقع الامام الرضا (عليه السلام) في قلوب المسلمين، فقال للمأمون سرّاً ـ والرضا (عليه السلام) جالس إلى جانبه ـ: (يا أمير المؤمنين هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله)(3).
وكذلك المأمون عندما أراد أن يمرّر المخطّط على الرضا (عليه السلام) ويجعله جسراً شرعيّاً لمنصبه، يقول المسعودي وابن الاثير: (إنّه صرّح بموقع الامام في قلوب الناس)(4).
والرشيد يشكو لعظيم البرامكة يحيى بن خالد غمّه وحيرته في أمر الامام موسى الكاظم (عليه السلام)، وصرّح له يحيى هذا بموقع الامام، فقال: (إنّ الكاظم أفسد علينا قلوب
____________
(1) شرح شافية أبي فراس: ص 473; دلائل الامامة: ص 198 ذكر معجزاته (عليه السلام).
(2) الادب في ضل التشيّع: ص 63. نقلاً عن شرح القصيدة الشافية: ص 161.
(3) مسند الامام الرضا: ج 1، ص 86/ باب ما وقع بينه وبين المأمون.
(4) مروج الذهب: ج 4، ص 34; الكامل لابن الاثير: ج 6، ص 326.
ولا تجد أصرح من كلام أبي مسلم الخراساني، عندما صرّح برسالته الموجهة إلى المنصور، فقال: (إنّ أخاك أمرني أن اُجرّد السيف وآخذ بالظنّة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرمات حتّم الله صونها، وسفكت دماءً فرض الله حقنها، وزويت الامر عن أهله ووضعته في غير محلّه)(2).
والمتتبع لكتب التاريخ والحديث يجد الكثير من الشطحات التي اعترف بها الاعداء بإمامة أهل البيت (عليهم السلام)، وما هي إلاّ وثيقة دامغة بحقّ كلّ من يدّعي أنّ الامامة والخلافة منصب شاغر تشغله المهاترات الكلاميّة واللغط وارتفاع الاصوات، كما عبّر بذلك عمر عن اجتماع السقيفة(3).
اتهام لا محلّ له
عاد الكاتب من جديد لاتهام الفكر الامامي بإسقاط الشورى كنظريّة سياسيّة للحكم، وقال: (يقوم الفكر الامامي بإسقاط الشورى طريقاً لاختيار الامام، ويحلّ محلّها النص...)(4).
فلم تكن هناك شورى حتّى يسقطها الفكر الامامي، بل كان الفكر الاسلامي مستسلماً لفكرة النص والوصيّة آنذاك.
فأين الشورى ممّا خرّجه الطبري، وقال: إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي: "إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا"(5)؟!
وأين الشورى وأمير المؤمنين يناشد بحديث الغدير الذي نُصِّبَ به وليّاً على
____________
(1) الغيبة للطوسي: ص 20.
(2) تاريخ بغداد: ج 10، ص 206 ـ 207; البداية والنهاية: ج 10، ص 74.
(3) فتح الباري في شرح صحيح البخاري: ج 14، ص 111، طبعة دار الفكر.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 63.
(5) تاريخ الطبري: ج 2، ص 63; الكامل في التاريخ: ج 2، ص 62 ـ 64; السيرة الحلبيّة: ج1، ص461.
فأي شورى ينادي بها أحمد الكاتب، هل هي التي وقف على رأسها صهيب الرومي فينتظر النتيجة لمدّة ثلاثة أيّام وإلاّ ضُربت أعناقهم(4)؟
هذه هي الشورى في التاريخ والفكر الاسلامي.
أمّا النص والوصيّة فتملك من الرصيد في الفكر ما لا تملكها مسألة مطلقاً، وكيف لا تملك هذا الرصيد ورسول الله يقول لعلي: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي"(5)، وكذلك يقول: "علي منّي وأنا منه، وهو ولي كلّ مؤمن بعدي"(6)، وهنّأ عمر أمير المؤمنين بقوله: (هنيئاً لك يابن أبي طالب، أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة)(7).
فلم يكن للشورى أي رصيد ـ كما وضّحنا فيما سبق ـ حتّى يسقطها الفكر الامامي، كما يقول الكاتب.
____________
(1) مسند أحمد: ج 1، ح 642 و672 و953 و964; سنن النسائي، كتاب الخصائص: ح 8542.
(2) صحيح البخاري: كتاب الاحكام، باب الاستحلاف، ح 6796.
(3) طبقات ابن سعد: ج 3، ص 248. نقلاً عن خلافة الرسول بين الشورى والنص: ص 36.
(4) الكامل في التاريخ: ج 3، ص 67.
(5) مسند أحمد: ج 1، ح 1466 و1493; صحيح البخاري: فضائل علي، ح 3503; صحيح مسلم: ح 2404; مصنف ابن أبي شيبة: ج 7، ص 496، ح 14.
(6) مسند أحمد: ج 4، ص 19426; سنن الترمذي ج 5، ح 3712.
(7) مسند أحمد: ج 4، ص 18011; تفسير الرازي: ج 12، ص 42; تذكرة الخواص: ص 36.
النتيجة النهائيّة
تعتبر الامامة السياسيّة ركيزة من مرتكزات الفكر الاسلامي الاصيل لما لها من تأكيدات حصلت عليها من القرآن والسنّة، ولذا نجد كلّ من له طموح سياسي للوصول إلى سدّة الحكم يتشبّث بتلك الركيزة، فلقد تشبّث الامويّون بها، فرفعها معاوية كشعار يقول: (الارض لله وأنا خليفة الله)، وأطلق عبدالملك بن مروان كلمته المشهورة بحقّ السلطان، حيث قال: (هو ظلّ الله في الارض).
وهذه الصفات هي صفات الامام القائم بالحقّ والمُوصى إليه، فأراد معاوية وعبدالملك وأمثالهما أن يشوّشوا الفكر الاسلامي بهذه العبارات بتحريف مصاديقها، ولكنّهم فشلوا في كسب الامّة والسيطرة على شرعيّة الحكم بلقب الوصي أو الامام.
وكذلك ادّعاها العبّاسيّون بعدما عدّلوا في حلقات الوصيّة كما اتضح سابقاً، حتّى وصل الامر إلى أن يخترعوا الفرق، كالراونديّة التي ادعت أنّ رسول الله قد قبض، وأنّ أحق الناس بالامامة بعده العبّاس بن عبدالمطلب(1). وفشل العبّاسيّون كما فشل الامويّون ـ من قبل ـ في كسب امتيازات المصطلح، وصرّح بفشلهم هذا الدكتور أحمد محمود صبحي عندما قال: (ذلك المثل الاعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين قد أصبح وهماً من الاوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف الثقفي، وعمّ الاستياء أفراد الشعب)(2).
ونستطيع أن نفهم من دراسة كلّ تلك الادّعاءات أنّ الجميع يسعى للحصول على امتياز الامامة ليكسب الشرعيّة والخلافة لعموم المسلمين، وهذا يرّجح لنا عمق هذه الفكرة في الذهن الاسلامي، بحيث لم يستطع الكاتب أن يجد طريقاً لتأويل هذا التكالب على هذا المصطلح إلاّ الانكار، فأخطأ في تشخيص الموقف عندما جعل من
____________
(1) المقالات والفرق: ص 180.
(2) نظريّة الامامة للدكتور أحمد محمود صبحي: ص 381.
الفصل السادس
افتراءات أحمد الكاتب
على أركان نظريّة
الامامة الالهيّة
نظريّة الامامة الالهيّة
تعتمد نظريّة الامامة على النص كركن رئيسي لها ثمّ العصمة لهذا الامام المنصوص عليه، وترجم الشيخ الاشعري هذا الكلام بقوله: (وإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ عليه وأشار إليه باسمه ونسبه وعيَّنه، وقلّد الاُمّة إمامته وأقامه ونصّبه لهم علماً وعقد له عليهم إمرة المؤمنين، وجعله وصيّه وخليفته ووزيره في مواطن كثيرة، وأعلمهم أنّ منزلته منه منزلة هارون من موسى، إلاّ إنّه لا نبيَّ بعده، وإذ جعله نظير نفسه في حياته وأنّه أولى بهم بعده، كما كان هو أولى بهم منهم بأنفسهم، إذ جعله في المباهلة كنفسه بقول الله تعالى (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُم)(1)، ولقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لبني وليعة: "لتنتهنّ يا بني وليعة أو لابعثنّ إليكم رجلاً كنفسي"، فمقام النبي لا يصلح من بعده إلاّ لمن هو كنفسه، والامامة من أجلّ الاُمور بعد الرسالة، إذ هي فرضٌ من أجلّ فرائض الله، وأنّه لابدّ مع ذلك من أن تكون تلك الامامة دائمة جارية في عقبه إلى يوم القيامة، تكون في ولده من ولد فاطمة بنت رسول الله، ثمّ في ولد ولده، منها يقوم مقامه أبداً رجلٌ منهم معصوم من الذنوب، طاهرٌ من العيوب، نقيٌّ، مبرأ من الافات والعاهات في الدين والنسب والمولد، يُؤمَن منه العمد والخطأ والزلل، منصوص عليه من الامام الذي قبله، مشار إليه بعينه واسمه، وأنّ الامامة جارية في عقبه على هذا السبيل، ما اتصل أمر الله ونهيه ولزم العباد التكليف)(2).
____________
(1) آل عمران: 61.
(2) المقالات والفرق: ص 17.
فأمّا مسألة النص على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيكفي حديث الغدير الذي تناقلته الالسن من مختلف المشارب والطبقات، واحتجّ به أمير المؤمنين على القوم بقوله: "اُنشدكم الله من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، لما قام وشهد"، فقام اثنا عشر بدريّاً شهدوا بذلك(1).
واحتجّ به الامام الحسن (عليه السلام) بقوله: "وقد رأوه وسمعوه حين أخذ بيد أبي بغدير خم، وقال لهم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه"(2).
وكذلك احتجّ به الحسين (عليه السلام) أمام سبعمائة رجل في الحجّ فيهم مئتا رجل من أصحاب النبي والتابعين(3)، وقال: "اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّبه يوم غدير خم فنادى له بالولاية"(4).
وأمّا فقرة: (وجعله وصيّه وخليفته ووزيره) فقد نقل الطبري في تاريخه حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا"(5).
وأمّا أنّه أولى بهم بعده، فقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو ولي كلّ مؤمن ومؤمنة بعدي"(6).
وأمّا أنّه بمنزلة هارون من موسى، فقد دلّ عليه قول الرسول: "أنت منّي بمنزلة
____________
(1) مسند أحمد: ج 1، ح 642 و672 و953 و964; سنن النسائي: الخصائص، ح 8542; البداية والنهاية: ج 5، ص 229 في نحو عشرين طريقاً.
(2) ينابيع المودّة: ج 3، ص 369، باب 90; الغدير للاميني: ج 1، ص 398.
(3) الغدير: ج 1، ص 399.
(4) سليم بن قيس الهلالي: ج 2، ص 791، ح 26.
(5) تاريخ الطبري: ج 2، ص 63; الكامل في التاريخ: ج 2، ص 62 ـ 63; السيرة الحلبيّة: ج 1، ص 461; شرح نهج البلاغة: ج 13، ص 210 و244; وصحّحه مختصر تاريخ دمشق: ج 17، ص 310 ـ 311; معالم التنزيل: ج 3، ص 400; تفسير الخازن: ج 3،ص 333.
(6) مسند أحمد: ج 4، ح 19426; سنن الترمذي: ج 5، ح 3712; مصنّف بن أبي شيبة، فضائل علي: ج 7، ص 504، ح 58; الاحسان بترتيب صحيح ابن حبّان: ج 6، ص 269، رقم 6938.
وأمّا أنّ الامامة دائمة جارية في عقبه إلى يوم القيامة تكون في ولده من ولد فاطمة، فقد دلّت عليها أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ الله اختار من صلبك يا حسين تسعة أئمّة تاسعهم قائمهم، وكلّهم في الفضل والمنزلة عند الله سواء"(2).
وكذلك قوله: "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهَّرون معصومون"(3).
وأمّا تشخيص هؤلاء التسعة الذين نصّ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلقد شخّصهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسمائهم ابتداءً بعلي، وانتهاءً بالمهدي(4).
أضف إلى ذلك، نص السابق على اللاحق، وهذا ما حفلت به كتب الشيعة الاماميّة، ولكثرة تلك النصوص عمد فقهاء الشيعة ومحدّثوهم إلى تخصيص أبواب باسم الاشارة والنص على الائمّة واحداً بعد واحد، وبمراجعة بسيطة للكافي أو غيره يجد القارئ نفسه أمام سيل من النصوص والوصايا التي دلّت على إمامة كلّ واحد من الائمّة(5).
وأمّا مسألة العصمة، فقد نصّ عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهَّرون معصومون"(6)، وغير ذلك من الاحاديث الكثيرة التي نصّت على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)، وتوزّعت هذه الاحاديث وأمثالها على حديث الثقلين(7) الذي نصّ رسول الله فيه على عدم افتراقهم عن كتاب الله
____________
(1) صحيح مسلم، فضائل علي: ح 2404; مصنّف ابن أبي شيبة، فضائل علي: ج 7، ص 496، ح 14.
(2) ينابيع المودة: ج 3، ص 395، باب 94.
(3) ينابيع المودة: ج 3، ص 384، باب 94.
(4) ينابيع المودة: ج 3، ص 281، باب 76.
(5) الكافي: أبواب الاشارة والنص على الائمّة (عليهم السلام).
(6) ينابيع المودّة: ج 3، ص 384، باب 94.
(7) سنن الترمذي: ج 5، ح 3788.
أضف إلى ذلك آية التطهير التي نصّت على عصمتهم وطهّرتهم من كلّ رجس، وتناقلت هذه الحقيقة الكتب المعتمدة في الاسلام، واختصت تلك الفضيلة بهم، كما قال الخطيب البغدادي والسيوطي(2).
إذن، كلّ تلك الفقرات كانت مستندة إلى أقوال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تناقلتها كتب التاريخ والحديث.
فنظريّة الامامة نظريّة موافقة للعقل والنقل، كما صرّح بذلك الجراجكي بقوله: (إعلم ـ أيّدك الله ـ إنّ الله جلّ اسمه قد يسّر لعلماء الشيعة من وجوه الادلّة العقليّة والسمعيّة على صحّة إمامة أهل البيت ما يثبت الحجّة على مخالفيهم، فالعقليّات دالّة على الاصل من وجوب الحاجة إلى الامام في كلّ عصر، وكونه على صفات معلومة (كالعصمة) ليتميّز بها من جميع الاُمّة ليست موجودة في غير من أشار إليه. والسمعيّات منها القرآن الدال في الجملة على إمامتهم وفضلهم على الانام)(3).
وبالاضافة إلى النص والعصمة، ظهرت عند الائمّة معاجز كثيرة وكرامات دلّت على مواقعهم عند الله تعالى.
وعندما لم يجد الكاتب أي ثغرة في نظريّة الامامة; للوثائق النبويّة على كلّ فقراتها، راح يشوّش ذهن القارئ بإضافة كلمات لا تمت إلى نظريّة الامامة بصلة، فقال: (ينتقل الفكر الامامي من القول بضرورة العصمة في الامام مطلق الامام، إلى ضرورة النص)(4).
____________
(1) الصواعق المحرقة: ج 2، ص 442.
(2) تاريخ بغداد: ج 10، ص 277; الدر المنثور: ج 6، ص 603.
(3) الاستنصار: ص 3.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 65.
النص والتعيين في الفكر الاسلامي
بعد أن دلّ القرآن الكريم على عصمة أهل البيت بنص آية التطهير، وباعتراف المفسّرين من الفريقين، نجد أنّ مفاهيم العصمة والنص والتعيين هي الركيزة الاساسيّة في الفكر الاسلامي، ولهذا حاول الامويّون سرق هذه المفاهيم وإلصاقها بهم، يقول يزيد مؤبناً أباه معاوية: (إنّ معاوية بن أبي سفيان كان عبداً من عبيد الله، أكرمه الله واستخلفه وخوّله ومكّن له.... وقد قلّدنا الله عزّ وجل ما كان إليه)(2).
فالخلافة لمعاوية من الله تعالى كما يقول يزيد، وإنّ الله قلّده إيّاها.
وبهذا نطق الوليد بن يزيد بقوله: (استخلف الله خلفاءه على منهاج نبوّته حين قبض نبيّه)(3).
وراح الحجّاج يطلق صفة العصمة على أميره عبدالملك بن مروان، حين قال له في رسالة موجّهة إليه: (لعبدالله عبدالملك أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، المؤيّد
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 50.
(2) الامامة والسياسة: ج 1، ص 174.
(3) تاريخ الطبري: ج 5، ص 529.