فهذه المفاهيم كانت متداولة في الفكر الاسلامي آنذاك، ولكن حُرّفت مصاديقها الاساسيّة وهم أهل البيت (عليهم السلام)، يقول ابن عباس: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون")(2).
وكذلك عن أبي هريرة: (سأل رسول الله عن قول الله عزّ وجلّ: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِه)، قال: "جعل الامامة في عقب الحسين يخرج من صلبه تسعة من الائمّة، ومنهم مهدي هذه الامّة"(3).
وأكّد هذه المفاهيم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "إنّما الطاعة لله عزّ وجلّ ولرسوله، ولولاة الامر، وإنّما أمر بطاعة اُولي الامر لانّهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصية"(4).
وأكّد السجّاد هذه الحقيقة بقوله: "الامام منّا لا يكون إلاّ معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلق لتعرف"(5).
وصرّح الصادق (عليه السلام) بذلك فقال: "الانبياء وأوصياؤهم لا ذنوب لهم لانّهم معصومون مطهّرون"(6).
وهذه المفاهيم من صلب الفكر الاسلامي، وغالط الكاتب هنا عندما جعلها من مبتدعات القرن الثاني وقال: (هذه المفاهيم التي كانت تتبلور في مطلع القرن الثاني الهجري)(7).
____________
(1) العقد الفريد: ج 5، ص 25.
(2) ينابيع المودّة: ج 3، ص 384، باب 94.
(3) كفاية الاثر: ص 86.
(4) بحار الانوار: ج 25، ص 200.
(5) معاني الاخبار: ص 132.
(6) بحار الانوار: ج 25، ص 199.
(7) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 51.
ولكي يدعم الكاتب موقفه استعرض كلمات هشام بن الحكم حول الامامة والعصمة، ومناظراته، وأراد من هذا الاستعراض أن يجعل من هشام بن الحكم هو المخترع لتلك المفاهيم، ولكن اشتبه على الكاتب، وخلط بين أمرين:
الاوّل: موقع هذه المفاهيم من الفكر الاسلامي.
الثاني: الاستدلال عليها.
أمّا الامر الاوّل، فإنّ هذه المفاهيم كانت مرافقة لرسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لانّها المكملة لها، ونطق بها رسول الانسانيّة، وصرّح بها الائمّة، وقال بها الصحابة، وسرقها الامويّون، ثمّ العباسيّون، ولكن في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تحتج هذه المفاهيم إلى استدلال ونظر، بل كانت واضحة للعيان.
وأمّا الامر الثاني، فإنّه وبعدما حدث للامّة ما حدث من نهب التراث وتزوير الحقائق، ورفع العصا أمام المعارضين، بعد كلّ ذلك احتاجت هذه المفاهيم إلى من يفتق الكلام بها ويستدل عليها، وكان هشام بن الحكم أهلاً لذلك، فقد قال العلاّمة الحلي مترجماً لهشام: (فتق الكلام في الامامة وهذّب المذهب بالنظر)(1).
إذ الاحداث الساخنة وما يرافقها من سياسات جعلت كلّ واحد يجرّ النار إلى قرصه فاحتاجت تلك المفاهيم إلى من يفتق الكلام فيها، ويستدلّ عليها، ويبرهنها، فانبرى لذلك العمل التلميذ البارع الوفي للائمّة هشام بن الحكم.
فخلط أحمد الكاتب بين الامرين، فجعل هذه المفاهيم من مخترعات هشام بن الحكم.
____________
(1) خلاصة الاقوال: ص 288 ـ 289، رقم 1061.
العـصـمـة
وحاول الكاتب أن ينفذ إلى نظريّة الامامة من زاوية العصمة ليطلق شعاره بأنّ أهل البيت لم يكونوا يؤمنون بهذا المبدأ من قبل(1). وقبل التعرّف على موقف أهل البيت (عليهم السلام) لابدّ أوّلاً من التعرّف على موقف القرآن منها، وموقف الفكر الاسلامي من هذا المصطلح، ثمّ نتعرّف على موقف أهل البيت (عليهم السلام) من هذا الركن الاساسي لنظريّة الامامة، ثمّ الحكم النهائي بناءً على ذلك.
العصمة في ضوء القرآن
قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(2)، استدلّت الشيعة على عصمة أئمتهم بهذه الاية، وذلك من خلال هذه المقدمات:
إنّما: أقوى أدوات الحصر والتوكيد على الاطلاق، وهذا ما نطق به النحاة.
يريد: الارادة هنا حسب ما قسّموها قسمان: تكوينية وتشريعيّة.
يقول علي المشكيني في اصطلاحات الاُصول: (تنقسم الارادة إلى:
تكوينيّة:
وهي إرادة الشخص صدور الفعل عنه بنفسه من دون تخلّل إرادة غيره في صدوره، كما في إرادة الله تعالى خلق العالم، وإيجاد الارض والسماء، وكإرادتك أكلك وشربك وصلاتك وصيامك، ويسمّى هذا القسم بالارادة التكوينيّة.
تشريعيّة:
هي إرادة الشخص صدور الفعل من غيره بإرادته واختياره، كما في إرادة الله تعالى صدور العبادات والواجبات من عباده باختيارهم وإرادتهم، لا مجرّد حصولها بأعضائهم، وصدورها بأبدانهم بدون تخلّل القصد منهم، وكما في إرادتك صدور الفعل من ابنك وخادمك بلا إجبار منك وإلجاء، ويسمّى هذا بالارادة
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 80.
(2) الاحزاب: الاية 33.
وتفسير الاية بالارادة التشريعيّة، وكما يقول السيّد محمّد تقي الحكيم، يتنافى مع نص الاية بالحصر المستفاد من كلمة (إنّما)، إذ لا خصوصيّة لاهل البيت في تشريع الاحكام لهم، وليست لهم أحكام مستقلّة عن أحكام بقيّة المكلّفين، والغاية من تشريعه للاحكام إذهاب الرجس عن الجميع، لا عن خصوص أهل البيت، على أنّ حملها على الارادة التشريعيّة يتنافى مع اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهل البيت، وتطبيق الاية عليهم بالخصوص(2).
أمّا من هم أهل البيت المقصودون في الاية؟ تقول عائشة: خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غداة، وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله، ثمّ قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(3).
وأمّا من ناحية السند، يقول الحاكم النيسابوري: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)(4).
وتقول اُمّ سلمة: في بيتي نزلت هذه الاية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)، قالت: فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (رضوان الله عليهم) وقال: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي".
وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه)(5).
وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتينا كلّ غداة فيقول: الصلاة رحمكم الله الصلاة، (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
____________
(1) اصطلاحات الاُصول: ص 29.
(2) الاصول العامّة للفقه المقارن: ص 150.
(3) صحيح مسلم: ح 2424.
(4) المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 59، ح 4707.
(5) المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 158 ـ 159، ح 4705.
فالمراد من أهل البيت هم: علي وفاطمة والحسن والحسين، وبهذا قال أبو سعيد الخدري(2) وجابر بن عبدالله الانصاري(3) وواثلة بن الاسقع(4) وأنس بن مالك(5)وسعد بن أبي وقّاص(6) وعبدالله بن عبّاس(7) وأبو الحمراء خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (8).
وأمّا المقصود من إزالة الرجس، يقول الطباطبائي: (إزالة كلّ هيئة خبيثة في النفس تخطئ حقّ الاعتقاد والعمل، فتنطبق على العصمة الالهيّة التي هي صور علميّة نفسانيّة تحفظ الانسان من باطل الاعتقاد وسيئ العمل)(9).
وبهذا استدلّت الشيعة على عصمة أهل البيت في هذه الاية، وللاسف لم نجد الكاتب يتطرّق لا من قريب ولا من بعيد لهذا الاستدلال، وناقش الشيعة أي دعوى خلاف ذلك بالادلّة العلميّة، مستقبلين آراء الطرف الاخر بروح الحريّة في الطرح، والانصياع للعلم والبحث العلمي.
أضف إلى ذلك، استدلال الشيعة بآيات اُخر، مثل: (قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلَّنَاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِىَ الظَّالِمِينَ)(10)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَ لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ عِبَادِنَا
____________
(1) أمالي المفيد: ص 318، المجلس 38، ح 4.
(2) الدر المنثور: ج 6، ص 604.
(3) شواهد التنزيل: ج 2، ص 29.
(4) المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 159، ح 4706.
(5) مسند أحمد: ج 3، ح 13317; سنن الترمذي: ج 5، ص 31.
(6) المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 159، ح 4708; خصائص النسائي: ص 48.
(7) مسند أحمد: ج 1، ح 3052.
(8) الدر المنثور: ج 6، ص 603.
(9) الميزان: ج 16، ص 317 ـ 318.
(10) البقرة: الاية 124.
هذا بالنسبة للنقل القرآني، أمّا العقل فلقد استدلّ على هذا المورد السيّد المرتضى والعلاّمة الحلّي وغيرهما(2). ومن أراد فليرجع إلى مصادرهم المشار إليها.
العصمة في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أمّا بالنسبة لموقف أهل البيت (عليهم السلام) من العصمة، فلقد طالعتنا كتب الحديث بالكثير من الروايات التي صرّحوا فيها بلفظ العصمة، ونسبوها إلى أنفسهم:
1 ـ موقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من العصمة:
صرّح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعصمته وعصمة ذريّته وولده، فعن ابن عبّاس، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون"(3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متحدّثاً عن الخلفاء من بعده علي وأبنائه: "فإنّهم خيرة الله عزّ وجلّ وصفوته، وهم المعصومون من كلّ ذنب وخطيئة"(4).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين الذي أخرجه مسلم والترمذي وأحمد بن حنبل والبزّار والحاكم وابن كثير(5)، وغيرهم كثير جدّاً ـ ليس محلّ بحثه هنا ـ وبألفاظ مختلفة بلسان: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب الله
____________
(1) يوسف: الاية 24.
(2) الذخيرة: ص 430; الباب الحادي عشر: ص 41 ـ 42.
(3) كمال الدين: ص 266، ح 28; عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 64، ح 30.
(4) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 62، ح 211.
(5) صحيح مسلم: ح 2408; سنن الترمذي: ج 5، ح 3788; مسند أحمد: ج 5، ح 12068; البحر الزخار المعروف بمسند البزّار: ج 3، ص 89، ح 864; المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 160 ـ 161، ح 4711; البداية والنهاية: ج 5، ص 228; تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 102.
يقول ابن حجر: (ومرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر السنة، وفي بعض تلك الطرق أنّه قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة، وفي اُخرى أنّه قاله بالمدينة في مرضه، وقد امتلات الحجرة بأصحابه، وفي اُخرى أنّه قال ذلك بغدير خم، وفي اُخرى أنّه قال ذلك لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف.
ثمّ قال: ولا تنافي، إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة)(1).
وأمّا دلالة الحديث على عصمة أهل البيت:
أ ـ لاقترانهم بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتصريحه بعدم افتراقهم عنه، ومن البديهي أنّ صدور أيّة مخالفة للشريعة سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة تعتبر افتراقاً عن القرآن في هذا الحال، وإن لم يتحقّق انطباق عنوان المعصية عليها أحياناً، كما في الغافل والساهي، والمدار في صدق عنوان الافتراق عنه عدم مصاحبته لعدم التقييد بأحكامه، وإن كان معذوراً في افتراقه عنه، والحديث صريح في عدم افتراقهما حتّى يردا الحوض.
ب ـ ولانّه اعتبر التمسّك بهم عاصماً عن الضلالة دائماً وأبداً، كما هو مقتضى ما تفيده كلمة (لن) التأبيديّة.
جـ ـ على أنّ تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب وصدور الذنب منهم تجويز للكذب على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أخبر عن الله عزّ وجلّ بعدم وقوع افتراقهما، وتجويز الكذب عليه متعمّداً في مقام التبليغ والاخبار عن الله في الاحكام وما يرجع إليها من موضوعاتها وعللها مناف لافتراض العصمة في التبليغ، وهي ممّا أجمعت عليها كلمة المسلمين على الاطلاق، حتّى نفاة العصمة عنه بقول مطلق.
يقول الشوكاني بعد استعراضه لمختلف مبانيهم في عصمة الانبياء: (وهكذا وقع الاجماع على عصمتهم بعد النبوّة من تعمّد الكذب في الاحكام الشرعيّة لدلالة
____________
(1) الصواعق المحرقة: ج 2، ص 440.
ولا إشكال أنّ الغلط لا يتأتّى في هذا الحديث، لاصرار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تبليغه في أكثر من موضع، وإلزام الناس بمؤدّاه، والغلط لا يتكرّر عادة، على أنّ الادلّة العقليّة على عصمة النبي ـ والتي سبقت الاشارة إليها من استحالة الخطأ عليه في مقام التبليغ، وكلّما يصدر عنه تبليغ، كما يأتي ـ تكفي في دفع شبهة القاضي أبي بكر، وتمنع من احتمال الخطأ في دعواه عدم الافتراق(1).
هذه سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في طرح مسألة العصمة للاُمّة، وللاسف لم نجد الكاتب تطرّق إليها أيضاً.
2 ـ العصمة في حديث علي (عليه السلام) وأبنائه (عليهم السلام):
وأمّا موقف علي (عليه السلام) وأبنائه (عليهم السلام) من مصطلح العصمة، فيقول الكليني: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "إنّ الله تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا، وجعلنا شهداء على خلقه وحجّة في أرضه، وجعلنا مع القرآن، وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا"(2).
وقال الصدوق، عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): "أمّا الطاعة لله عزّ وجلّ ولرسوله ولولاة الامر، وإنّما أمر بطاعة اُولي الامر لانّهم معصومون مطهَّرون لا يأمرون بمعصية"(3).
ونقل ابن أبي الحديد في شرحه عن أمير المؤمنين قوله: "وإنّما ينبغي لاهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية"(4).
واستدلّ الامام الحسن (عليه السلام) على عصمته بآية التطهير.
يقول الحاكم: قال الحسن (عليه السلام): "وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس
____________
(1) الاصول العامّة للفقه المقارن: ص 167.
(2) الكافي: ج 1، ص 147، باب الائمّة شهداء لله على خلقه، ح 5.
(3) علل الشرائع: ج 1، ص 149 ـ 150.
(4) شرح نهج البلاغة: ج 9، ص 59، الخطبة 140.
وقال الامام زين العابدين (عليه السلام): "الامام منّا لا يكون إلاّ معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، ولذلك لا يكون إلاّ منصوصاً"(2).
وقال أيضاً في دعائه بعرفة: "وأسألك بحقّ نبيّك محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأتوسّل إليك بالائمّة الذين اخترتهم لسرّك، وعصمتهم عن معاصيك"(3).
وقال الامام الصادق (عليه السلام): "المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله"(4). وقد عدّ الامام الصادق (عليه السلام) عشر خصال للامام، منها العصمة، بل أوّلها(5).
وتحدّث الامام الصادق (عليه السلام) عن الانبياء وأوصيائهم فقال: "الانبياء وأوصياؤهم لا ذنوب لهم لانّهم معصومون مطهَّرون".
وتحدّث الامام الرضا (عليه السلام) عن العصمة والمعصوم، فقال: "الامام المطهّر من الذنوب والمبرّأ من العيوب.... فهو معصوم مؤيّد..."(6).
ونقول مرّة اُخرى للاسف، إنّ الكاتب لم يتطرّق إلى ذلك أيضاً.
وعبّر الائمّة عن العصمة بألفاظ اُخرى، وهذا منهج آخر للائمّة في التعبير عن الامام المعصوم، يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم وإمامة المسلمين البخيل ولا الجاهل... ولا الجافي... والحائف للدول... ولا المرتشي ولا المعطّل للسنة..."(7).
وقال الامام (عليه السلام): "أيّها الناس، إنّ أحقّ الناس بهذا الامر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر
____________
(1) المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 172.
(2) معاني الاخبار: ص 132، باب معنى العصمة، ح 1.
(3) مصباح المتهجد وسلاح المتعبّد: ص 636.
(4) معاني الاخبار: ص 132، باب معنى العصمة، ح 2.
(5) الخصال: ج 2، ص 498، باب العشرة، ح 5.
(6) الكافي: ج1، ص258، باب نادر في فضل الامام وصفاته; عيون أخبار الرضا: ج2، ص197، ح1.
(7) نهج البلاغة: ص 247 ـ 248، خطبة رقم 131.
وكذلك قال الامام الحسين (عليه السلام) مخاطباً أهل الكوفة: "فلعمري، ما الامام إلاّ العامل بالكتاب، الحابس نفسه على الله، القائم بالقسط، والدائن بدين الله"(2).
وقال الامام الباقر (عليه السلام) متحدّثاً على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حول شروط الحاكم، قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تصلح اُمّتي إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على مَن يلي حتّى يكون له كالوالد الرحيم"(3).
فهذه الحدود التي وضعها أئمّة أهل البيت، مثل "أعلمهم بأمر الله، الحابس نفسه على الله، ورع يحتجزه..."، وما إلى ذلك ممّا ذكره الائمّة، فهي أسوار تحيط بالامام وتجعله معصوماً من كلّ الذنوب والمعاصي، هذه الاسوار أوقعت الكاتب في فخّ عندما نظر إليها، وبحث عن كلمة العصمة فيها فلم يجدها(4)، قال: إنّ الائمّة لا يؤمنون بالعصمة، حاذفاً الاحاديث التي نقلناها أوّلاً وفيها ألفاظ العصمة.
فللائمّة منهجان لطرح مفهوم العصمة خلط الكاتب بينهما:
المنهج الاوّل: التصريح بلفظ المعصوم والعصمة في أحاديثهم.
المنهج الثاني: ذكر الحدود التي تحيط بالامام وتجعله معصوماً من دون أن يذكروا لفظ العصمة.
وطالعتنا السنّة المطهَّرة والكتب الحديثيّة بكلا المنهجين، فحذف الكاتب المنهج الاوّل ولم يشر إليه، واستدلّ بالمنهج الثاني على عدم عصمة أهل البيت مغالطاً ومشوّشاً لاذهان القرّاء، ولكن عندما أحسّ في نفسه أنّ المطالع النبه لا تنطلي عليه هكذا أباطيل، راح يفتّش عن الطرق التي اتبعها الائمّة (عليهم السلام) في تربية الناس وتعليمهم،
____________
(1) نهج البلاغة: ص 329 ـ 330، خطبة رقم 173.
(2) الارشاد: ج 2، ص 39.
(3) الكافي: ج 1، ص 470، باب 104.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 80 ـ 85.
وبهذا الحديث نفى الكاتب العصمة عن الامام علي (عليه السلام) (1)، متناسياً دور الامام في الاُمّة، ذلك الدور الذي يقوم على التربية والتعليم، وإلاّ إذا كان الامر كما يقول الكاتب يكون الامام علي (عليه السلام) مرتكباً كلّ الذنوب بلا استثناء ـ وحاشاه ـ لانّه الذي يقول: "اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء..."(2)، وراح الامام يعدّد الذنوب التي يجب التعوّذ والاستغفار منها معلّماً البشريّة طريقة الكلام مع الله عزّ وجلّ، ويربّيهم على السير في هذه الحياة تجنّباً لكلّ تلك الذنوب، فإذا لم يحمل كلام الامام على تعليم الامّة وتربيتها ـ وهكذا سار أصحاب الائمّة على هذا المنهاج ـ فتحلّ الكارثة بالاسلام، لانّ الامام علي (عليه السلام) معروف عند الخاصّة والعامّة ـ من مهده إلى لحده ـ، وكيف لا تحدث الكارثة بالاسلام إذا حملنا ذلك على ما حمله الكاتب، وهذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "إنّه ليغاف على قلبي، وإنّي لاستغفر بالنهار سبعين مرّة".
وكذلك أبو الحسن موسى (عليه السلام) يقول: "ربّي عصيتك بلساني، ولو شئت وعزّتك لاخرستني، وعصيتك ببصري، ولو شئت وعزّتك لاكممتني، وعصيتك بسمعي ولو شئت وعزّتك لاصممتني، وعصيتك بيدي..."، إلخ.
ثمّ راح الكاتب يتكئ بعد أن تكسّر كلّ ما اعتمد عليه، على أحاديث لا سند لها ولا قيمة علميّة فيها، وأسانيد تحمل بين طيّاتها المهمل والمجهول.
ومن مصاديق ذلك، ما ذكر من احتجاج الزهراء (عليها السلام) على علي (عليه السلام) في أمر المزرعة التي باعها وأنفق أموالها، واستدلّ باحتجاج الزهراء (عليها السلام) على نفي عصمة الامام(3)، ولم يذكر الكاتب سند هذه الرواية الذي توزّع بين المهمل وبين الضعيف، أمثال
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 81.
(2) دعاء كميل.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 82.
فهذا سند الرواية التي نفت العصمة عن علي (عليه السلام)، والتي اعتمد عليها الكاتب.
ثمّ راح يضعّف الرواية التي تحدّثت عن العصمة من خلال سندها فقال: (الريان بن الصلت ضعيف)(2). مع أنّ النجاشي قال عنه: (ثقة صدوق)(3)، وقال الطوسي: (ثقة)(4).
أمّا ما ذكره من المهملين في الرواية فهم من مشايخ الصدوق الذي ترضّى عنهم، كما يقول السيّد الخوئي، ولم يميّز المهمل عند القدماء وهو ما عنونه الرجاليّون ولم يضعّفوه... وكان ابن داود يعنون المهمل كالممدوح، وكان القدماء يعملون بالمهمل كالممدوح(5).
ثمّ راح يعتمد على علي بن محمّد بن الجهم ـ الذي كان يلعن أباه لانّه سمّاه عليّاً، كما حدّثنا التاريخ بذلك(6) ـ لنفي موضوع العصمة، لانّ الاخير نقل رواية ظاهرها يدلّ على أنّ الامام الرضا تحدّث عن عصمة الانبياء، ولم يتحدّث عن عصمة الائمّة، وهذا الاستدلال مثل الذي قبله، لانّ الامام سُئل عن عصمة الانبياء أوّلاً، ولم يُسأل عن عصمة الائمّة حتّى يتحدّث عنها في هذا الحديث، أضف إلى ذلك أنّه تحدّث الامام الرضا نفسه عن العصمة قائلاً: "الامام المطهّر من الذنوب والمبرّأ من العيوب... فهو معصوم مؤيّد..."(7).
____________
(1) تهذيب الكمال: ج 18، ص 373، ر 3546.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 85.
(3) رجال النجاشي: ص 165، رقم 437.
(4) رجال الطوسي: 415.
(5) كليّات علم الرجال: ص 120 ـ 123.
(6) معجم رجال الحديث: ج 11، ص 297، رقم 7970.
(7) الكافي: ج1، ص258، باب نادر في فضل الامام وصفاته; عيون أخبار الرضا: ج2، ص197، ح1.
معرفة الامام بالنص عليه
لقد حفلت كتب الشيعة بالنصوص المتواترة والكثيرة، والتي دلّت على قيادة أهل البيت للمجتمع الاسلامي، وجاءت هذه النصوص من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم واحداً بعد الاخر في أحاديث كثيرة، عبّر عنها الشيخ المفيد بالمتواترة بقوله: (فإن قيل: ما الدليل على إمامة كلّ واحد من هؤلاء المذكورين؟
الجواب: الدليل على ذلك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ عليهم نصّاً متواتراً بالخلافة، مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ابني هذا الحسين إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمّة تسعة، تاسعهم قائمهم، يملا الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً")(2).
ونقلت كتب الحديث الشيعيّة المعتبرة إمامة اُولئك بالنص المتواتر، وخصّصت لذلك أبواباً خاصّة تحت اسم الاشارة والنص على إمامة كلّ واحد من الائمّة(3)، وهذا جلي لكلّ من راجع كتب الحديث المعتبرة لديهم، ولكن للاسف غشّ أحمد الكاتب القارئ عندما قال: (تعترف نظريّة الامامة بعدم وجود النص على عدد من الائمّة)(4).
وبعد أن علم الكاتب أنّ هذا الكلام لا ينطلي على العقول المتحرّرة والنيّرة والمطالِعة والباحثة عن الحقيقة، راح يبحث عن نظريّة المعاجز ليفنّد نظريّة الامامة من خلالها، وقال: (إنّ لجوء الامامة للمعاجز نتيجة عدم النصوص على الائمّة)، وهذا
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 83.
(2) النكت الاعتقاديّة: ص 43 ـ 45.
(3) الكافي: أبواب الاشارة والنص على الائمّة (عليهم السلام).
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 68.