الجواب: الطريق إلى ذلك المعجزة على يده)(1).
وكلام الشيخ المفيد هذا لا يعني عدم وجود نص على الامام المهدي فلجأ إلى المعجز، ولهذا قال قبل هذا الكلام: (فإن قيل: ما الدليل على إمامة كلّ واحد من هؤلاء المذكورين؟
الجواب: الدليل على ذلك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ عليهم نصّاً متواتراً بالخلافة...
فإن قيل: ما الطريق إلى معرفته (الامام الحجّة) حين ظهوره بعد استتاره؟
الجواب: الطريق إلى ذلك المعجزة على يده)(2).
وهذا يدل على أنّ النص عليهم ثابت بالتواتر، وأنّ المعجز لمعرفة الامام المهدي لطول غيبته على الناس، فاختلط على أحمد الكاتب الامر، وقال: إنّ المعجز هو طريق الاماميّة بعد فقدان النصوص.
وراح الكاتب يفتّش التاريخ عن شواهد لذلك، فلم يجد، فلجأ إلى علم الغيب وقال: (إنّ هشام بن الحكم قد بنى قوله بإمامة الصادق على دعوى علم الامام بالغيب)(3).
وسرّ كلامه هذا، أنّه اعتمد على مناظرة واحدة لهشام بن الحكم، استدعى الامر أن يستدلّ هشام في بعض فروعها بعلم الامام بالغيب، ولكن نسي أنّ هشام بن الحكم له كتاب حول النص على الائمّة سمّاه (الوصيّة والردّ على منكريها)، كما ذكر ذلك السيّد الخوئي(4)، فكلام أحمد الكاتب أنّ هشام بن الحكم بنى على الغيب في
____________
(1) النكت الاعتقاديّة: ص 43 ـ 45.
(2) النكت الاعتقاديّة: ص 43 ـ 45.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 69.
(4) معجم رجال الحديث: ج 19، ص 271، رقم 13329.
ولو سألنا أحمد الكاتب: من هم المتكلّمون الاوائل للشيعة؟ لاجاب: أنّ منهم محمّد بن خليل المعروف بالسكّاك، صاحب هشام بن الحكم، وكان متكلّماً على حدّ قول أحمد الكاتب(3)، وذكر أحمد الكاتب نفسه أنّ له كتاباً أسماه (الامامة والرد على من أبى وجوب الامامة بالنص)(4)، وصرّح بهذا الكتاب لهذا المتكلّم الامامي كلّ من العلاّمة الحلّي، والشيخ المفيد، والصدوق، والكشّي والطوسي(5)، فلعلّ أحمد الكاتب نسى كلامه في (ص 51) واتهم المتكلّمين الاوائل للشيعة في (ص 69) وقال: (بل إنّ أمر النص لم يكن معتمداً عند المتكلّمين الاوائل).
وكذلك من المتكلّمين الاوائل هشام بن الحكم، وهو أيضاً له كتاب حول مسألة النص على الائمّة سمّاه (الوصيّة والردّ على منكريها) كما يقول السيّد الخوئي(6).
فكلام الكاتب قائم على أساس الكذب والافتراء.
وبعد عجزه التام وتخبّطه في طرح المواضيع راح يتهم السجّاد (عليه السلام) بعدم النص عليه، مع أنّ الثابت تاريخيّاً أنّ السجّاد (عليه السلام) نصّ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما صرّح بذلك الكليني والطوسي(7)، أضف إلى ذلك قول السجّاد نفسه: "ثمّ انتهى الامر إلينا".
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 69.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 69.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 51
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 52.
(5) رجال النجاشي: ص 328، رقم 889; الفهرست للطوسي: ص 207، رقم 595.
(6) معجم رجال الحديث: ج 19، ص 271، رقم 13329.
(7) الكافي: ج 1، ص 594 ـ 595، ح 4; الغيبة للطوسي: ص 91.
وبهذا يتضح أنّ بحث الكاتب قائم على الشعارات الفارغة والتحريف والتزوير والقطع الذي يقوم به للحقائق، والكذب والافتراء الذي طال حتّى الائمّة (عليهم السلام).
الامامة في ولد الحسين (عليه السلام)
لقد اتفقت الكتب الشيعيّة وبعض الكتب السنيّة الحديثيّة على أنّ الامامة سارية في ولد الحسين (عليه السلام)، وأشار إلى تلك الحقيقة المقدسي الشافعي، والقندوزي الحنفي، والخوارزمي، والحموئنيي الشافعي، وغيرهم من أهل السنّة، وكذلك الكليني والصدوق وغيرهم من علماء الشيعة ومحدّثيهم.
وتناقلت هذه الحقيقة ألسن الصحابة والفقهاء والمؤلّفين من لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ومن بعده من ولده.
فقد نقل الخوارزمي هذه الحقيقة عن سلمان الفارسي والحسين بن علي، كما قال القندوزي في ينابيعه، عن الحسين (عليه السلام): "دخلت على جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجلسني على فخذه، وقال لي: إنّ الله اختار من صلبك يا حسين تسعة أئمّة تاسعهم قائمهم، وكلّهم في الفضل والمنزلة عند الله سواء"(2).
واتفق سلمان مع الحسين في نقله هذا بقوله: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا الحسين على فخذه وهو يقبّل عينيه ويلثم فاه وهو يقول: "أنت سيّد، ابن سيّد، ابن إمام، أبو أئمّة، أنت حجّة، ابن حجّة، أبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم"(3).
وانضمّ ابن عبّاس إلى نقل هذه الحقيقة، كما يقول الحموئيني الشافعي، الذي نقل عن ابن عبّاس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون".
____________
(1) كمال الدين: ص 299، باب 31، ح 2.
(2) ينابيع المودّة: ج 3، ص 395، باب 94.
(3) الخصال: ج 2، ص 595، ح 38، أبواب الاثني عشر; كمال الدين: 250، باب 24، ح 9.
وهذه الحقيقة حملتها إلينا الاسانيد الصحيحة التي تجاهلها الكاتب، ونذكر هنا سنداً واحداً من الكافي كدليل على ذلك:
سند الحديث: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سعيد بن غزوان، عن أبي بصير.
أمّا علي بن إبراهيم فهو ثقة في الحديث ثبت معتمد صحيح المذهب كما يقول الحلّي(2). وأمّا أبيه إبراهيم بن هاشم القمّي من الذين اتفق الاصحاب على وثاقته(3). وأما ابن أبي عمير فهو جليل القدر عظيم المنزلة عندنا وعند المخالفين(4)، وأمّا سعيد ابن غزوان فقال عنه النجاشي: ثقة.
وأمّا أبو بصير الذي قال عنه ابن الغضائري: عندي ثقة. كما يقول السيّد الخوئي.
أضف إلى ذلك العشرات من الاحاديث التي نُقلت عن رسول الله(5) وعن أمير المؤمنين(6)، والتي آمن بها الصحابة، أمثال جابر بن عبدالله(7) وسلمان الفارسي(8)، وغيرهم، أكدت هذه الحقيقة أنّ الائمّة (عليهم السلام) من ولد الحسين (عليه السلام).
وسأل أبو هريرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله عزّ وجلّ: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي
____________
(1) اُصول الكافي: ج 1، ص 599، باب 126، ح 15.
(2) خلاصة الاقوال: ص 187، ر 556.
(3) فلاح السائل: ص 284.
(4) خلاصة الاقوال: ص 239.
(5) ينابيع المودّة: ج 3، ص 395، باب 94، ح 45.
(6) الكافي: ج 1، ص 525، باب 126.
(7) كمال الدين: ص 293، ح 3.
(8) الخصال: ج 2، ص 955، ح 38، باب الاثني عشر.
وصرّح بذلك علي بن الحسين بقوله: "فينا نزلت (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)والامامة في عقب الحسين بن علي بن أبي طالب إلى يوم القيامة"(2).
أضف إلى ذلك أنّ ابن أبي الحديد ذكر أنّ المهدي من ولد الحسين (عليه السلام) (3).
وكذلك قال المقدسي الشافعي، عندما روى عن علي (عليه السلام) قوله في المهدي: "من ولد الحسين، ألا فمن تولّى غيره لعنه الله"(4).
ولم يذكر الكاتب أي مناقشة لاسانيد ومتون هذه الاحاديث تحت عنوان الوراثة العموديّة، واكتفى بالقول بأنّ الاماميّة استدلّوا على ذلك بآية (أُولُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِى كِتَابِ اللهِ)(5)، ولم يذكر المستدلّ بهذه الاية، ولكن نقل الصدوق أنّ الباقر وولده الصادق استدلاّ بهذه الاية في إمامة علي بن الحسين(6)، من جملة الاستدلالات على إمامة زين العابدين (عليه السلام)، وذكر الشيخ الصدوق روايات الاستدلال بأسانيد صحيحة، تركها أحمد الكاتب خوفاً من صحّتها، وإليك الاسانيد:
السند الاوّل: قال الصدوق: وعنه ـ أي عن سعد بن عبدالله ـ عن أحمد وعبدالله ابني محمّد بن عيسى، عن أبيهما، عن عبدالله بن المغيرة، عن عبدالله بن مسكان، عن عبدالرحيم القصير، ثمّ ذكر الاستدلال.
فأمّا سعد بن عبدالله الاشعري، فيقول الحلّي بحقّه: (جليل القدر، واسع الاخبار،
____________
(1) كفاية الاثر: ص 86.
(2) كمال الدين: ص 303، ح 8.
(3) شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 281 ـ 282، شرح الخطبة رقم 16.
(4) عقد الدرر: ص 132، باب 4، فصل 2.
(5) الانفال: آية 75.
(6) الامامة والتبصرة من الحيرة: ص 47 ـ 49.
وأمّا أحمد بن محمّد بن عيسى بن عبدالله، فهو شيخ قم ووجهها وفقيهها من غير مدافع(2). وذكر أخاه عبدالله السيّد الخوئي في معجمه(3)، وحسّنه المامقاني(4).
وأمّا محمّد بن عيسى بن عبدالله، فهو شيخ القميّين باعتراف الحلّي(5)، ووثقه المامقاني في تنقيحه(6).
وأمّا عبدالله بن المغيرة، فهو ثقة ثقة لا يعدل به أحد من جلالته ودينه وورعه(7).
وأمّا عبدالله بن مسكان، فهو ثقة عين عند النجاشي(8). وعبدالرحيم القصير حسّنه المامقاني في نتايجه(9).
فتجاهل أحمد الكاتب هذا السند لما في رجاله من مدح وإطراء من قبل علماء الرجال.
وأمّا السند الثاني: سعد بن عبدالله بن أبي خلف الاشعري، عن محمود بن عيسى ابن عبيد، عن حمّاد بن عيسى، عن عبدالاعلى بن أيمن، عن الصادق (عليه السلام).
فأمّا سعد، فقد تقدّم في السند الاوّل، وأمّا محمّد بن عيسى بن عبيد، فيقول النجاشي بحقّه: (جليل في أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرواية، حسن التصانيف)(10)،
____________
(1) خلاصة الاقوال: ص 156، رقم 453.
(2) خلاصة الاقوال: ص 61، رقم 67.
(3) معجم رجال الحديث: ج 10، ص 311 ـ 312، رقم 7128.
(4) تنقيح المقال: ج 1، ص 22، ر 1426.
(5) خلاصة الاقوال: ص 257، رقم 881.
(6) تنقيح المقال: ج 1، ص 143، رقم 11211.
(7) خلاصة الاقوال: ص 199، رقم 619.
(8) رجال النجاشي: ص 214، رقم 559.
(9) تنقيح المقال: ج 1، ص 86، رقم 6575.
(10) رجال النجاشي: ص 333، رقم 896.
وأمّا حمّاد بن عيسى، فقد عبّر عنه الكشّي بقوله: (أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، وأقرّوا له بالفقه)(2)، وقال النجاشي بحقّه: (ثقة في حديثه صدوقاً)(3).
وأمّا عبدالاعلى بن أعين، فيقول الشيخ المفيد عنه: (هو من فقهاء أصحاب الصادقين (عليهما السلام) والاعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والاحكام الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذم واحد منهم)(4).
فهذه الاسانيد التي استدلّت بها الشيعة على إمامة زين العابدين بآية: (أُولُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِى كِتَابِ اللهِ)(5)، والتي استغرب الكاتب من الاستدلال بها واستهزأ به(6).
واستدلالات الشيعة لم تقتصر على ذلك فقط، بل وردت روايات كثيرة تناقلتها كتب الشيعة بالقبول والتسليم لما تحمل من صحّة في مضمونها وسندها.
كلّ ذلك أهمله الكاتب، وأطلق شعارات بعبارات إعلاميّة لا تنطلي على الباحثين والمحقّقين للموضوع.
استمرار الامامة إلى يوم القيامة
يقول الترمذي وأحمد بن حنبل بسنديهما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض
____________
(1) خلاصة الاقوال: ص 241 ـ 242، رقم 821.
(2) خلاصة الاقوال: ص 124 ـ 125، ر 323.
(3) رجال النجاشي: ص 142، رقم 370.
(4) معجم رجال الحديث: ج 9، ص 254، رقم 6221.
(5) الانفال: آية 75.
(6) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 72.
وهذا الكلام له دلالات ودلالات، منها أنّ العترة معصومة من الخطأ والزلل، لانّها لا تفترق عن القرآن، فمن جوّز عليهم الخطأ جوّز على القرآن الخطأ والاشتباه. ومنها أنّهم مع القرآن إلى يوم الورود، وهذه الحقيقة اعترف بها ابن حجر وقال: (وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك)(2).
وهذا ما يؤكّد استمرار الامامة فيهم إلى يوم القيامة، وبهذه الحقيقة نطق الباقر (عليه السلام) بقوله في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الاَْمْرِ مِنْكُمْ)(3)، قال: "إنّهم الائمّة من ولد علي وفاطمة إلى أن تقوم الساعة"(4).
وكذلك قال الرضا (عليه السلام): "إنّ الائمّة من ولد علي وفاطمة إلى أن تقوم الساعة"(5).
بالاضافة إلى العشرات من أمثال هذه الاحاديث التي ملات كتب الشيعة، واتفقت عليها الاماميّة.
فلا طريق للكاتب في إنكار استمرار الامامة إلى يوم القيامة، إلاّ إنكار هذه الاحاديث وما قبلها كحديث الثقلين، ولكنّ أنّى له ذلك وقد تسالم على حديث الثقلين مسلم والترمذي وأحمد واليعقوبي(6) وغيرهم.
____________
(1) سنن الترمذي: ج 5، ص 3788; مسند أحمد: ج 3، ص 17.
(2) الصواعق المحرقة: ج 2، ص 442.
(3) النساء: آية 59.
(4) كمال الدين: ص 213، ح 6.
(5) مسند الرضا: ج 1، ص 108، ح 61.
(6) صحيح مسلم: ج 4، رقم 2408; سنن الترمذي: ج 5، رقم 3788; مسند أحمد: ج 3، ح 10747; تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 102.
هل معرفة الامام عند عموم الشيعة؟
الذي يظهر من بعض الروايات أنّ الموقف يحتّم على الامام كتمان أمره ولو استلزم ذلك عدم معرفة الشيعة به، وهذا ما صرّح به الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) عندما سأله أحد أصحابه، قال له: جُعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضلاّل ـ أي لا يعرفونك ـ فألقي إليه وأدعهم إليك، فقد أخذت عليَّ بالكتمان، قال (عليه السلام): "من آنست منهم رشداً فألقِ عليه وخذ عليه بالكتمان، فإن أذاعوا فهو الذبح، فإن أذاعوا فهو الذبح"(1).
والجوّ الحاكم في هذه الرواية هو جوّ الارهاب السائد في عصر الامام موسى بن جعفر، وصرّح الكليني واصفاً هذا الارهاب (إنّ أبا جعفر المنصور كان له بالمدينة جواسيس ينظرون إلى من اتفقت شيعة جعفر (عليه السلام) فيضربون عنقه)(2).
فالامام في الرواية أعلاه قسّم شيعته إلى قسمين:
الاوّل: من آنست منه رشداً.
الثاني: من لم تؤنس منهم رشداً.
أمّا القسم الاوّل، فاُولئك صرّح لهم الائمة بهويّة الامام اللاحق، وبعض الاُمور الاُخرى التي يتحمّلونها بأمانة من دون شكّ، وكلّ الروايات التي تنصّ على الائمة والصحيحة تدلّ على أنّ ذلك الرجل الذي تحمّل هذا النص هو من اُولئك الذين آنس منهم رشداً، ولهذا نجد أنّ الائمّة يصرّحون بهويّة الامام اللاحق للبعض، مثل قول الباقر (عليه السلام) لاصحابه: "هذا خير البريّة"، وأشار إلى الصادق (عليه السلام) (3).
وهذا القسم كان يعرف الامام جيّداً، ولكن في بعض الحالات يشتبه عليه بداية إمامة اللاحق بعد وفاة السابق، وسبب هذا الاشتباه بُعدُه عن محل إقامة الامام السابق الذي تُوفّي، وهذا ما نصّ عليه الصادق (عليه السلام) عندما سأله أحد أصحابه: أفيسع
____________
(1) معجم رجال الحديث: ج 19، ص 299 ـ 300.
(2) الكافي: ج 1، ص 413، ح 7.
(3) الكافي: ج 1، ص 367، باب 7، ح 5.
إذن، القسم الاوّل يعرفون الامام جيّداً، وعدم معرفتهم في بعض الحالات ليس بالامام كما اشتبه أحمد الكاتب، بل ببداية إمامته، كما نصّ الصادق على ذلك.
وأمّا القسم الثاني (من لم تؤنس منهم رشداً)، فهم عوام الشيعة، فاُولئك لا يستبعد منهم حتّى عدم معرفتهم بالامام، فضلاً عن بداية إمامته، لما يلزم من معرفتهم محذور ذبح الامام، كما نصّ على ذلك موسى بن جعفر (عليه السلام) (2)، فهم يعرفون الامام من الشيوع العام، من دون امتلاك النص الصريح، لانّ معنى هذا الامتلاك تعريض الامام للخطر، وهذا ما صرّح به الصادق (عليه السلام) لعبد الاعلى عندما تكلّم الامام عن صفات صاحب الامر، فسأله عبد الاعلى: هل هذه الصفات مستورة مخافة السلطان؟ قال: "لا يكون في ستر إلاّ وله حجّة ظاهرة، إنّ أبي استودعني ما هناك فلمّا حضرته الوفاة قال: ادعُ لي شهوداً، فدعوت أربعة من قريش فيهم نافع مولى عبدالله بن عمر، قال: اكتب، هذا ما أوصى به يعقوب بنيه: (يَا بَنِىَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، وأوصى محمّد بن علي إلى جعفر بن محمّد، وأمره أن يكفّنه في بُرده الذي كان يصلّي فيه الجمعة، وأن يعممه بعمامته وأن يربع قبره ويرفعه أربع أصابع، ثمّ يخلّي عنه، فقال: اطووه، ثمّ قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت بعدما انصرفوا: ما كان في هذا يا أبتِ أن يُشهد عليه؟ فقال: إنّي كرهت أن تغلب، وأن يقال أنّه لم يوصَ، فأردت أن تكون لك الحجّة، فهو الذي إذا قدم الرجل البلد قال من وصي فلان، قيل: فلان"(3).
فالباقر (عليه السلام) وبتصريح الصادق (عليه السلام) يوضح إمامة ولده باُمور عامّة ـ أي بمجرّد الوصيّة ـ خشيةً عليه، ولكن هذا البيان ليس للجميع على حدٍّ سواء، بل للخاصّة
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 442، باب 89، ح 3.
(2) معجم رجال الحديث: ج 19، ص 299 ـ 300.
(3) الكافي: ج 1، ص 440، باب 89، ح 2.
ولم يستطع أحمد الكاتب أن يميّز بين هذين القسمين من الشيعة، كما ميّزت رواية موسى بن جعفر بينهم، فاتهم عامّة الشيعة بالجهل بالامام اللاحق، ووضع ذلك تحت عنوان (ماذا يفعل الشيعة عند الجهل بالامام؟)(2) وراح تحت هذا العنوان ينقل روايات لا علاقة لها بجهل الشيعة للامام، من قبيل قول الراوي للامام: إن أصبحت وأمسيت لا أرى إماماً أأتم به ما أصنع؟ قال الامام: "فأحبّ من تحبّ وابغض من تبغض حتّى يظهره الله عزّ وجلّ".
وهذه الرواية لا علاقة لها بجهل الشيعة بالامامة، بل هي ناظرة إلى زمن الغيبة، أي غيبة الامام الثاني عشر، وكلمة (لا أرى) واضح معناها أي (لا اُشاهد)، وليس معناها (لا أعرف)، كما حمل ذلك الكاتب، ولهذا أجابه الامام: فأحبّ من كنت تحبّ وابغض من كنت تبغض، وقرينة "حتّى يظهره الله عزّ وجلّ" واضحة لا تحتاج إلى بيان بأنّ الرواية ناظرة إلى الغيبة، ولهذا نقل الشيخ الصدوق هذه الرواية في كمال الدين تحت باب إخبارات الصادق (عليه السلام) عن الغيبة، أي غيبة الامام الثاني عشر(3)، وكذلك وضعها الكليني في باب الغيبة(4).
فالرواية بعيدة كلّ البعد عمّا اعتقده الكاتب من جهل السائل بالامام، وعمّم ذلك وقال بجهل الشيعة بالامام.
ولمّا لم يجد الكاتب ما يسند كلامه راح يزوّر الروايات، ويحذف منها بعض الكلمات ليستقيم المعنى على ما يريد، فلقد زوّر كلام الصادق (عليه السلام) عندما نقل الكلام من كمال الدين، يقول أحمد الكاتب: (يقول الصادق: "كيف أنتم إذا بقيتم دهراً من عمركم لا تعرفون الامام"؟ قيل: فإذا كان ذلك فكيف نصنع؟... قال: "تمسّكوا بالاوّل
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 367، باب 7، ح 5.
(2) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 74.
(3) كمال الدين: ص 314، باب إخبارات الصادق عن الغيبة.
(4) الكافي: ج 1، ص 396، باب 31 في الغيبة.
فحذف الكاتب كلمة من هذه الرواية، وهي أنّ الامام لم يقل: (تمسّكوا بالاوّل)، بل قال: "تمسّكوا بالامر الاوّل"، أي تمسّكوا بما جاءكم من أهل البيت حول هذا الموضوع ـ موضوع الامامة ـ وأنّ هناك اثني عشر إماماً، الثاني عشر هو الذي لا تعرفونه، أي لا تتصلون به مباشرة، فأراد الكاتب من حذفه كلمة "الامر" أن يشوّش ذهن القارئ بأنّ الامام يوصي بالتمسّك بالامام الاوّل عند الجهل بالامام اللاحق ـ الثاني ـ ولكن عندما اُضيفت كلمة "الامر"، صار واضحاً بأنّ الامام يأمرهم بالتمسّك باثني عشر إماماً وإن غاب الثاني عشر(2).
أضف إلى ذلك، أنّ الرواية ناظرة إلى زمن الغيبة، ولا علاقة لها بجهل الشيعة بالامام اللاحق بعد فقد السابق، فالرواية ناظرة إلى غيبة الثاني عشر المشخّص عند الشيعة نسبه، فلا يجهلونه، ولكن لا يرونه حتّى يأخذون معالم دينهم كما تعوّدوه من الائمّة السابقين، فأمرهم الصادق (عليه السلام) أن يتمسّكوا باُمور دينهم التي حصلوا عليها من الائمّة السابقين، والتي في طليعتها إمامة الثاني عشر حتّى يظهره الله تعالى.
وراح الكاتب يسوق أحاديث وروايات لا علاقة لها بجهل الشيعة للامام مطلقاً، بل هي روايات خاصّة بالغيبة، ووضعها العلماء في أبواب الغيبة، فلعلّ الكاتب غفل عن ذلك.
ضرورة وجود العالم الربّاني المفسّر للقرآن
استغرب أحمد الكاتب تحت هذا العنوان قول الشيعة بأنّ عليّاً قيّم القرآن، كما جاء في رواية الكافي، وشهد بذلك منصور بن حازم، فقال: (فأشهد أنّ عليّاً كان قيّم القرآن)(3)، فاستغرب الكاتب ذلك، ورفض هذا المنصب لعلي (عليه السلام) بين طيّات بحثه، فلنترك استدلالات الشيعة وأحاديثهم في هذا الخصوص، ولنأتِ إلى العامّة لنرى هل
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 74.
(2) كمال الدين: ص 327، ح 39، باب 33.
(3) الكافي: ج 1، ص 245، باب 8.
يقول النسائي: (لمّا رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حجّة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحاف فَقُممن، ثمّ قال: "كأنّي دعيت فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الاخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض"(1).
وكلمة "لن يفترقا" تدل على أنّ كلّ ما عند أهل البيت هو القرآن بعينه، وإلاّ لجاز الكذب على رسول الله وحاشاه من ذلك، ومصاديق أهل البيت أوضح من أن نقيم الاستدلال عليها، أضف إلى ذلك أنّ عليّاً (عليه السلام) نفسه نطق بهذه الحقيقة وقال:
"إنّ الله تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجّته في أرضه، وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا"(2).
ولا نجد في التاريخ كلّه أنّ رجلاً وقف بوجه علي وأبنائه وردّ كلامهم، ألا يكون ذلك دليلاً على أنّه قيّم للقرآن؟ فلماذا لا يكون قيّماً للقرآن وهو القائل:
"ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت وأين اُنزلت وعلى من نزلت، إنّ ربي وهب لي لساناً طلقاً وقلباً عقولاً"(3).
وقال ابن ماجه عن ابن جنادة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "علي منّي وأنا منه، ولا يؤدّي عنّي إلاّ علي"(4).
والمورد لا يخصّص الوارد، فعلي يؤدّي كلّ ما أدّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقرآن صلب الشريعة التي أدّاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس، ولا يؤدّي للناس بعد رسول الله بنص الحديث إلاّ علي (عليه السلام). ومن زاوية اُخرى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤدّي القرآن بلا خطأ أو اشتباه، ومن غير المعقول أن ينصب للناس من يخطئ ويشتبه، ويدعوهم إلى
____________
(1) السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 45، ح 8148.
(2) الكافي: ج 1، ص 247، ح 5.
(3) مناقب الخوارزمي: ص 90; الطبقات الكبرى: ج 2، ص 257.
(4) سنن ابن ماجه: ج 1، ح 119، باب الفضائل.