الصفحة 362
طاعته، وإلاّ كان ذلك ترخيصاً في اتباع الخطأ، وهو محال على رسول الانسانيّة.

ويقول البخاري: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي: "أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى"(1).

وهل يستطيع الكاتب أو غيره أن يقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بقيّم على القرآن، فإذا كان كذلك، وعلي منه بمنزلة هارون من موسى، أفلا يكون قيّماً على القرآن بعده؟!

ويقول الترمذي: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا دار الحكمة وعلي بابها"(2).

فلماذا هذا الاستغراب وهذه الجعجعة، وهذا تراث المسلمين أعم من كونه شيعياً أو سنّياً يصرّح بهذه الحقائق لامير المؤمنين؟!

وبعد أن أفلس الكاتب من إيجاد الخدشة بعلي من هذا الجانب، راح يؤجّج نار حقده بين المسلمين بدعوى أنّ معنى علي قيّم القرآن: (عدم استطاعة المسلمين التعامل مع القرآن والاستفادة منه مباشرة)(3).

وهذا ما لم يقله علي ولا أبناؤه ولا أتباعه، ومعنى قيمومة علي أنّه (عليه السلام) عالم بجميع الاحكام دقيقها وجليلها، الظاهر منها والباطن، وكلّ ما ورد في القرآن، وصرّح بهذه الحقيقة هو بقوله: "ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إنّ ربي وهب لي لساناً طلقاً وقلباً عقولاً"(4).

وفرق واضح بين عدم استطاعة المسلمين التعامل مع القرآن، وبين علم أمير المؤمنين بالقرآن، فأراد الكاتب أن يخلط بين المعنيين ليؤجّج الفتنة.

وراح الكاتب يحرّف استدلالات الشيعة على أنّها دالّة على عدم استطاعة المسلمين التعامل مع القرآن والاستفادة منه مباشرة، وهذا تزوير منه وتحريف

____________

(1) صحيح البخاري: كتاب الفضائل، باب مناقب أمير المؤمنين، ح 3503.

(2) سنن الترمذي: ج 5، ص 596، ح 3723.

(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 60.

(4) مناقب الخوارزمي: ص 90; الطبقات الكبرى: ج 2، ص 257.


الصفحة 363
لكلمات كبار علماء التشيّع وفقهائهم.

ونذكر هنا مقالاً واحداً للمرتضى، ذكره الكاتب دليلاً على عدم استطاعة المسلمين التعامل مع القرآن مباشرة، وقول المرتضى هو:

(لابدّ من أن يكون الامام عالماً بجميع الاحكام، حتّى لا يشذّ عليه شيء منها، وإلاّ لزم ذلك أن يكون قد كلّف القيام بما لا سبيل له إليه... أمّا الذي يدلّ على وجوب كون الامام عالماً بجميع الاحكام فهو أنّه قد ثبت أنّ الامام إمام في سائر الدين، ومتولٍّ للحكم في جميعه جليله ودقيقه، ظاهره وغامضه، وليس يجوز أن لا يكون عالماً بجميع الدين والاحكام)(1).

وهذه العبارة نقلها أحمد الكاتب ليستدلّ بها على أنّ المسلمين لا يستطيعون التعامل مع القرآن مباشرة، وواضح الحقد الدفين لاثارة الفتنة بين المسلمين عند الكاتب، وهذه العبارة لا علاقة لها بما ذكر، بل تؤكّد أنّ الامام عالم بجميع الاحكام، فالذي يختلف فيه المسلمين فالمرجع لهم فيه الامام (عليه السلام)، والذي لا يختلفون فيه واضح يتعاملون به مباشرة مع القرآن وإن كان المعنى الدقيق للقرآن عند أمير المؤمنين وعترته. فلقد خلط الكاتب بين مسألتين:

الاُولى: عدم استطاعة المسلمين التعامل مع القرآن والاستفادة منه مباشرة.

الثانية: الاحاطة الكاملة بمعاني القرآن، دقيقه وجليله، ظاهره وغامضه.

أمّا بالنسبة إلى المسألة الاولى، فقول الشيعة واضح في قدرة المسلمين على التعامل مع القرآن والاستفادة منه، فالائمّة يأمرون شيعتهم بالرجوع إلى القرآن في معرفة الحديث الصحيح من غيره، يقول الصادق (عليه السلام): "كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"(2).

فكيف يأمر الامام شيعته بالرجوع إلى القرآن لمعرفة صحّة الحديث وكذبه، وكيف ينقل الشيعة ذلك في موسوعاتهم الحديثيّة المعتمدة وهم يقولون بعدم استطاعة

____________

(1) نقلها أحمد الكاتب في ص 61 عن الشافي للمرتضى: ص 14 ـ 15.

(2) الكافي: ج 1، ص 121، باب 22 الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب، ح 3.


الصفحة 364
المسلمين التعامل مع القرآن.

نعم، الاحاطة الدقيقة والكاملة بمعاني ومعارف القرآن اختصّ بها أهل البيت (عليهم السلام)، ونسبوها لانفسهم، ولم يقف أحد بوجههم ويرد ذلك عليهم، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت وأين اُنزلت وعلى من نزلت، إنّي ربّي وهب لي لساناً طلقاً وقلباً عقولاً"(1).

وعدم اعتراض أي من المسلمين عليه يثبت هذه الحقيقة، أضف إلى ذلك قوله (عليه السلام): "وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا"(2).

وكيف يفارقون القرآن وقد جعلهم الله ورسوله أحد الثقلين على لسان الصادق الامين: "إنّي تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الاخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي"(3)، واستدلال الشيعة حول الاحاطة الكاملة بالقرآن، وليس التعامل المطلق مع القرآن.

وممّا يؤكّد قول الشيعة ما نقله سعيد بن المسيّب بقوله: (كان عمر بن الخطّاب يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن)(4).

فلماذا يتعوّذ؟ ألم يكن القرآن بين يديه ويرجع إليه ويخرج ما يريد؟! ولهذا كان الامام علي (عليه السلام) يقول: "سلوني" بملء فمه، ولم يقل ذلك أحد من الصحابة، كما صرّح بهذا سعيد بن المسيّب(5).

الفاضل والمفضول أو أفضليّة الامام


ونتيجة للمؤهلات الذاتيّة والربانيّة ـ كالعصمة والعلم وغيرهما ـ يتوَّج الامام وسام الافضليّة على غيره، يقول الشيخ الطوسي: (الامام يجب أن يكون أفضل من

____________

(1) مناقب الخوارزمي: ص 90; الطبقات الكبرى: ج 2، ص 257.

(2) الكافي: ج 1، ص 247، ح 5.

(3) السنن الكبرى: ج 5، ص 45، ح 8148 (12).

(4) ينابيع المودّة: ج 2، ص 405، ح 66.

(5) ينابيع المودّة: ج 2، ص 405، ح 67.


الصفحة 365
رعيّته في الظاهر، والدليل ما تقرّر في عقول العقلاء من قبح جعل المفضول رئيساً وإماماً في شيء بعينه على الفاضل، ألاترى أنّه لا يحسن منّا أن نعقد لمن كان لا يحسن الكتابة إلاّ ما يحسنه المبتدئ المتعلّم الرياسة في الكتابة على من هو في الحذق بها والقيام بحدودها بمنزلة ابن مقلة حتّى نجعله حاكماً عليه فيها وإماماً له في جميعها، وكذلك لا يحسن أن نقدّم رئيساً في الفقه وهو لا يقوم من علوم الفقه إلاّ بما يتضمّنه بعض المختصرات على ما هو في الفقه بمنزلة أبي حنفية، وهذه الجملة لا يدخل على أحد فيها شبهة لانّها معلومة بالضرورة، ومن نازع فيها لا يحسن مكالمته)(1).

واستدلال الشيعة هذا ينبع من فيوضات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال عندما قال: "من ولّى رجلاً وهو يعلم أنّ غيره أفضل منه فقد خان الله في أرضه"(2).

وعندما خلص أحمد الكاتب إلى هذا البحث لم يستطع أن يتكلّم حرفاً واحداً عليه لما فيه من موافقته للنقل والعقل، واكتفى بنقل كلمات المفيد والطوسي في هذا الخصوص(3).

هل طفولة بعض الائمّة مشكلة واجهت الشيعة؟


ممّا لا شكّ فيه أنّ بعض الائمّة (عليهم السلام) توفّي آباؤهم وهم دون سن البلوغ، ولكن هل هذه مشكلة حقّاً أم اُريد بإثارتها بعد عشرات السنين من حياة الائمّة، التشويش على أذهان الناس، والانتقاص من مذهب التشيّع.

وقبل كلّ شيء، فالشيعة تعرض اعتقادها على القرآن الكريم لترى هل حصل هذا بنص القرآن، وأنّ الله نصّب لقيادة الناس من هو دون سن البلوغ أم لا؟

قال تعالى بحقّ يحيى (عليه السلام): (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)(4)، وقال تعالى بحقّ عيسى (عليه السلام):

____________

(1) تلخيص الشافي: ج 1، ص 205 ـ 207.

(2) الامامة وأهل البيت: ج 1، ص 68.

(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 62 ـ 63.

(4) مريم: الاية 12.


الصفحة 366
(قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللهِ آتَانِى الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً)(1).

قال الرازي في الحكم الذي اُعطي ليحيى: إنّه النبوّة(2). وذلك لانّ الله تعالى قد أحكم عقله في صباه، وأوصى إليه، ذلك لانّ الله تعالى بعث يحيى وعيسى (عليهما السلام) وهما صبيّان.

إذن، مسألة تقليد منصب النبوّة والقيادة والحكم لمن هو صبي لا ضير فيه بنص القرآن.

ولمّا كانت الامامة الالهيّة تجري مجرى النبوّة، وأنّ أمر الامامة ليس بيد أحد، بل بيد الله تعالى يضعه حيث يشاء، كما يقول أبو بصير: كنت عند الصادق (عليه السلام)، فذكروا الاوصياء وذكرت إسماعيل، فقال: "لا والله يا أبا محمّد، ما ذاك إلينا، وما هو إلاّ إلى الله عزّ وجلّ ينزل واحداً بعد واحد"(3).

ويقول الامام الصادق (عليه السلام) لاحد أصحابه: "أترون الموصي منا يوصي إلى من يريد؟ لا والله، ولكن عهدٌ من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل فرجل حتّى ينتهي الامر إلى صاحبه"(4).

إذن، وبعد ما تقدّم، فلا ضير أن يكون الجواد أو غيره من الائمّة (عليهم السلام) بأعمار معيّنة ويستلمون الحكم والقيادة للشيعة.

يقول الشيخ المفيد: (إنّ كمال العقل لا يستنكر لحجج الله تعالى مع صغر السن، قال الله سبحانه: (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً)، فخبر عن المسيح (عليه السلام) بالكلام في المهد، وقال في قصّة يحيى (عليه السلام): (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)، وقد أجمع جمهور الشيعة مع سائر من خالفهم على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عليّاً (عليه السلام) وهو صغير السن، ولم يدعِ الصبيان غيره، وباهل بالحسن والحسين (عليهما السلام) وهما طفلان، ولم يُرَ مباهل قبله ولا بعده باهل بالاطفال، وإذا كان

____________

(1) مريم: الاية 29 ـ 30.

(2) تفسير الفخر الرازي: ج 21، ص 164.

(3) الكافي: ج 1، ص 337، ح 1.

(4) الكافي: ج 1، ص 337، ح 2.


الصفحة 367
الامر على ما ذكرناه من تخصيص الله تعالى حججه على ما شرحناه، بطل ما تعلّق به هؤلاء القوم)(1).

وقال أيضاً: (أجمع أهل التفسير إلاّ من شذّ منهم في قوله: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبِل فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبِر فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، أنّه كان طفلاً صغيراً في المهد أنطقه الله تعالى حتّى برّأ يوسف (عليه السلام) من الفحشاء وأزال عنه التهمة)(2).

إذن، مسألة تصدّي من هو دون سن البلوغ أمرٌ واقعٌ ولا مانع منه لحجج الله تعالى أبداً.

وبعد الفراغ من جواب القرآن على ذلك، نأتي إلى قرناء القرآن، الذين لم يفارقوا القرآن، ولن يفارقهم حتّى يردوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحوض بنصّ الصادق الامين (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول صفوان بن يحيى: عندما أشار الامام الرضا (عليه السلام) إلى الجواد (عليه السلام) ونصّبه ودلّ عليه، وهو ابن ثلاث سنين، قلت للامام: جعلت فداك، هذا ابن ثلاث سنين، فقال: "وما يضرّه من ذلك، فقد قام عيسى بالحجّة وهو ابن ثلاث سنين"(3).

وقد قيل للجواد: إنّ الناس ينكرون عليك حداثة سنّك، فقال: "وما ينكرون من ذلك وقد قال الله تعالى لنبيّه: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِى)، فوالله ما اتبعه حينئذ إلاّ علي وله تسع سنين، وأنا ابن تسع سنين"(4).

فقد اتفق القرآن وقرناؤه على ردّ تلك الشبهات، فكلّ ذلك أهمله الكاتب ولم يُشِر إليه، ولم يناقشه بكلمة واحدة.

ثمّ رد الشيخ المفيد الشبهة التي طُعِّمت بالاية: (وَاْبَتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ

____________

(1) الفصول المختارة: ص 316.

(2) الفصول المختارة: ص 275.

(3) الكافي: ج 1، ص 382، ح 10.

(4) الكافي: ج 1، ص 447، ح 8.


الصفحة 368
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)(1)، فقال: هذا كلام يوهم الضعفة ويوقع الشبهة لمن لا بصيرة له، ويروع بظاهره قبل الفحص عن معناه، والعلم بباطنه وحجيّة القول فيه.

إنّ الاية التي اعتمدها هؤلاء القوم في هذا الباب، خاصّة وليست بعامّة، بدلالة توجب خصوصها، وتدلّ على بطلان الاعتقاد لعمومها، وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى قد قطع العذر في كمال من أوجب له الامامة، ودلّ على عصمته من نصّبه للرئاسة، وقد وضّح بالبرهان القياسي، والدليل السمعي، إمامة هذين الامامين فأوجب ذلك خروجهما من جملة الايتام الذين توجه نحوهم الكلام)(2).

وراح يسوق الايات التي خصصت بدليل العقل والنقل والاجماع، فقال:

(كما أوجب العقل خصوص قوله تعالى: (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ)، وقام الدليل على عدم العموم في قوله تعالى: (وَأُوْتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَىْء)، (وَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْء)، وكما خصّ الاجماع قوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاث وَرُباع) فأفرد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بغير هذا الحكم ممن انتظمه الخطاب)(3).

فأبطل الشيخ المفيد عمدة الاستدلال على الشيعة بالقرآن الكريم، حيث أورد عليهم آيات تدلّ في ظاهرها على العموم، ولكن خصّصت تارة بالدليل العقلي، واُخرى بالدليل الشرعي، وثالثة بالاجماع، فهذا لم يذكره الكاتب، بل ذكر فقط قول الشيخ المفيد:

(إنّ الخصوص قد يقع في القول ولا يصحّ وقوعه في عموم العقل، والعقل موجب لعموم الائمّة بالكمال والعصمة، فإذا دلّ الدليل على إمامة هذين النفسين ـ الجواد والهادي ـ وجب خصوص الاية فيمن عداهما بلا ارتياب)(4).

____________

(1) النساء: الاية 6.

(2) الفصول المختارة: ص 149 ـ 150.

(3) الفصول المختارة: ص 150 ـ 151.

(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 113 ـ 114.


الصفحة 369
وجعل هذا الكلام من مبتدعات الشيخ المفيد، ولم ينقل رد الشيخ المتقدّم، والسرّ في عدم نقله لكلام الشيخ كاملاً، هو إيقاع السامع في فخ نصبه الكاتب له، بأنّ نظريّة الامامة من صنع المتكلّمين، ولهذا ذكر ردّ المفيد العقلي، ولم يذكر النصوص التي استدلّ بها المفيد، وأهمل كلّ ردود الشيعة على هذه الشبهة بطريقها النقلي والعقلي.

وراح الكاتب يتهم الشيخ المفيد بعدم مراجعة التاريخ(1)، وخالف باتهامه هذا واقع الشيخ المفيد الذي ألّف في التاريخ عدّة مؤلّفات، مثل الارشاد، والجمل، والتواريخ الشرعيّة، والمعراج، إضافة إلى مؤلّفاته الحديثيّة والكلاميّة، وقد اتفق علماء الرجال السنّة والشيعة ـ عدا أحمد الكاتب ـ على تضلّع الشيخ المفيد بالتاريخ، ووصفوه بأنّه صاحب التصانيف الكثيرة، ومن أراد فليرجع إلى أي كتاب رجالي ليعرف مكانة الشيخ المفيد في التاريخ الاسلامي(2).

وأشكل الكاتب على كلام الشيخ (والعقل موجب لعموم الائمّة بالكمال والعصمة)، وذلك بنفي موضوع العصمة والامامة بدون ذكر مصدر لكلامه هذا، بل وضعه في خانة الاعلام الخالي من التوثيق. والشيعة لا يؤثّر عليها من يطلق الشعارات، فلقد تعوّدت على هذا التيّار من قديم الزمان، لانّ التهمة من هذا التيّار مصداق لقول الشاعر: وإذا أتتك مذمّة من ناقص واستعار الكاتب إشكال الشيعة على السنّة، بأنّ أخبار الاحاد لا تخصّص القرآن في مسألة (يُوصِيكُمْ اللهُ فِى أَوْلاَدَكُمْ لِلذَّكَرِ مَثْلُ حَظِّ الاُْنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فأشكل الشيعة على السنّة، لماذا أخرجتم ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عموم هذه الاية بخبر واحد ينقضه القرآن ويردّه اتفاق آل محمّد(3).

____________

(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 114.

(2) تاريخ الاسلام: وفيات سنة 413، ص 332; العبر: ج 2، ص 225; دول الاسلام: ج 1، ص216; مرآة الجنان: ج 3، ص 22.

(3) الفصول المختارة: ص 153.


الصفحة 370
استعار أحمد الكاتب هذا الاشكال من الشيعة ليشكل عليهم بأنّ أخبار الاحاد لا تخصّص القرآن، ومن قال لك بأنّ أخبار الاحاد تخصّص القرآن؟ فالشيعة لا تستدلّ بأخبار الاحاد، ولا بالادلّة العقليّة والفلسفيّة الظنيّة، بل تستدلّ وكما يقول الشيخ المفيد: (بدليل العقل وبرهان القياس وتواتر الاخبار)(1)، وما قاله الكاتب بأنّ الخبر الضعيف لا يخصّص القرآن تتمسّك به الشيعة على خصومهم، وتعلّمه الكاتب منهم، وأشكل به عليهم.

____________

(1) الفصول المختارة: ص 153.


الصفحة 371


الفصل السابع
حديث الخلفاء اثنا عشر





الصفحة 372

الصفحة 373

حديث الخلفاء اثنا عشر كلّهم من قريش


أكّدت النظريّة الاماميّة الاثنا عشريّة هذا الحديث الذي نقلته كتب المسلمين، وتسالموا عليه، وجعلت هذا النقل حجّة عليهم، وطالبتهم بإعطاء مصداق حقيقي لهذا الحديث.

ولم يجهد الكاتب نفسه بإعطاء مصداق لذلك، بل نفى هذه النظريّة من الاساس، وقال: (إنّ الاحاديث السنيّة بالذات لا تحصرهم في اثني عشر)(1).

وعلى الباحث أن يستقرئ التاريخ في إثبات قضيّة ونفيها، فلو استنطقنا التاريخ حول هذه المسألة لوجدنا البخاري يقول في صحيحه بسنده إلى جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي إنّه قال: كلّهم من قريش"(2).

وقال مسلم في صحيحه، بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: "لا يزال الاسلام عزيزاً إلى اثنى عشر خليفة"، ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلت: لاي ما قال؟ فقال: "كلّهم من قريش"(3).

وكذلك نقل مسلم الحديث بلفظ قريب، وبسند آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يزال هذا الامر عزيزاً إلى اثنى عشر خليفة... كلّهم من قريش"(4).

____________

(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 206.

(2) صحيح البخاري: كتاب الاحكام، باب الاستخلاف، ح 6796.

(3) صحيح مسلم: ح 1821، كتاب الامارة.

(4) المصدر السابق.


الصفحة 374
ونقله أيضاً بسند ثالث وبلفظ: "لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة ويكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش"(1).

وروى الترمذي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يكون من بعدي اثنا عشر أميراً... كلّهم من قريش"(2).

وتسالم الفريقان على هذه النظريّة الاثني عشريّة التي نطق بها لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وإليك جملة من المصادر التي نقلت هذا الحديث:

1 ـ صحيح البخاري: ج 4، ص 164، كتاب الاحكام، باب الاستحلاف.

2 ـ صحيح مسلم: ج 12، ص 202 وج 13، ص 319، دار الكتب العلميّة بيروت.

3 ـ سنن الترمذي: ج 4، ص 501.

4 ـ سنن أبي داود: ج 4، ص 106، رقم 4279 ـ 4281.

5 ـ مسند أحمد: ج 5، ح 90 و93 و97 و100 و106 و107.

6 ـ المعجم الكبير للطبراني: ج 2، ص 238، رقم 1996.

7 ـ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 618.

8 ـ حلية الاولياء: ج 4، ص 333.

9 ـ البداية والنهاية: ج 1، ص 153.

10 ـ الحاوي للفتاوي: ج 2، ص 85.

11 ـ مشكاة المصابيح للتبريزي: ج 3، ص 327، رقم 5983.

12 ـ السلسلة الصحيحة للانباري: حديث رقم 376.

13 ـ كنز العمّال: ج 12، ص 32، ح 33848 و33858 و33861.

14 ـ فرائد السمطين: ج 2، ص 145، ح 42.

____________

(1) صحيح مسلم: ح 1821، كتاب الامارة.

(2) سنن الترمذي: ج 4، ص 434، ح 2223.


الصفحة 375
15 ـ ينابيع المودّة: ج 3، ص 104، باب 707.

16 ـ صحيح مسلم بشرح النووي: ج 12، ص 201.

17 ـ شرح ابن الجوزية لسنن أبي داود: ج 11، ص 363، رقم 4259.

18 ـ عون المعبود، شرح سنن أبي داود: ج 11، ص 362، ح 4259.

19 ـ فتح الباري: ج 13، ص 211.

كلّ هذه المصادر وغيرها خرّجت ولادة النظريّة الاثني عشريّة من لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن كتب الفكر الاسلامي المعتمدة، ومن أراد أن يستوعب هذا الحديث بكلّ أبعاده، فليراجع إحقاق الحقّ(1)، حيث استعرض المؤلّف ما ورد في كتب العامّة لهذا الحديث، ثمّ ذكر الصحابة الراوين له، فكلّ ذلك أنكره أحمد الكاتب وجعل ميلاد النظريّة الاثنا عشريّة في القرن الرابع.

مصاديق حديث "الخلفاء اثنا عشر"


ولو سألنا الفكر الاسلامي عن مصاديق هذا الحديث، انشعب القوم إلى قسمين:

القسم الاوّل: تخبّط في طرح مصداق حقيقي لهذا الحديث، بحيث انتهى إلى عدّ يزيد بن معاوية من مصاديقه.

قال ابن كثير: الخلفاء الاربعة ـ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ وعمر بن عبدالعزيز وبعض بني العبّاس، واستظهر أنّ المهدي منهم(2).

وجعل ابن القيّم الجوزيّة معاوية ويزيد ابنه من مصاديق اُولئك الخلفاء(3).

وقال القاضي الدمشقي: (الخلفاء الاربعة، ومعاوية، ويزيد بن معاوية، وعبدالملك ابن مروان وأولاده الاربعة ـ الوليد وسليمان ويزيد وهشام ـ وعمر بن عبدالعزيز).

فلقد عدّ يزيد منهم، متناسياً أنّ الحديث يحمل صفات خاصّة لتلك المصاديق،

____________

(1) إحقاق الحقّ: ج 13، ص 1 ـ 48.

(2) تفسير ابن كثير: ج 2، ص 24، تفسير الاية 12 من سورة المائدة.

(3) عون المعبود شرح سنن أبي داود: ج 11، ص 244، شرح حديث 4271.


الصفحة 376
منها أنّ الدين لا يقوم إلاّ بهم، وهم القيّمون على دين الله، أمّا يزيد فهو شارب للخمور بالاتفاق، يقول عنه سعيد بن المسيّب: (كانت سنوات يزيد شؤماً، في السنة الاولى قتل الحسين بن علي وأهل بيت رسول الله، وفي الثانية استبيحت حرم رسول الله وانتهكت حرمة المدينة، وفي الثالثة سفكت الدماء في حرم الله وحرقت الكعبة)(1).

وأخيراً أجمل الرأي السنّي في إعطاء مصداق لهذا الحديث السيوطي، بفشل هذه النظريّة في تحديد معنى محدّد لذلك الحديث، فقال: (لم يقع إلى الان وجود اثني عشر)(2).

وأشار الدكتور أحمد محمود صبحي إلى ذلك، أي باعترافه بعجز النظريّة السنيّة عن إعطاء نظريّة سياسيّة متماسكة، فقال: (أما من الناحية الفكريّة فلم يقدّم أهل السنّة نظريّة متماسكة في السياسة)(3).

إذن، حديث الخلفاء اثنا عشر، مجرّد ألفاظ لا يمثّله مصداق على أساس النظرة السنيّة له.

القسم الثاني: أعطى مصاديق واضحة لحديث الخلفاء اثنا عشر، وهم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ولم يحتج هذا القسم إلى عناء البحث والتحقيق لاثبات ذلك، لانّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أشار إليهم في أحاديث عديدة، منها ما نقله الترمذي وأحمد بن حنبل وابن حجر والحاكم النيسابوري وغيرهم، حيث نقلوا حديث الثقلين الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الاخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي.... لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض"(4).

وهذا الحديث المتسالم عليه، قد ترجم مصاديق "الخلفاء اثنا عشر" لما في ذلك

____________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 240.

(2) الحاوي للفتاوي: ج 2، ص 85.

(3) الزيديّة: ص 35 ـ 37.

(4) سنن الترمذي: ج 5، ص 662، ح 3786; الصواعق المحرقة: ج 2، ص 653; المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 160 ـ 161، ح 4711.


الصفحة 377
الحديث من صفات لا تجتمع بأيٍّ كان إلاّ أن يكون قريناً للقرآن، ومن تلك الصفات: "لايزال الاسلام عزيزاً"، "لايزال الدين قائماً"، "لايزال هذا الامر عزيزاً"، "يكون لهذه الامّة اثنا عشر قيماً"، فعزّة الدين وقيمومته اقترنت باُولئك الاثني عشر الذين ذكرهم الحديث.

ونقل أيضاً هذا الاتجاه أحاديث عن رسول الله تشخّص مصاديق ذلك الحديث فنقل الكليني حديث اللوح بسند صحيح(1)، والذي قال فيه جابر بن عبدالله الانصاري: دخلت على فاطمة (عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الاوصياء، فعددت اثني عشر اسماً، آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمّد، وأربعة منهم علي صلوات الله عليهم(2).

وذكر الكليني بسنده عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، عن أبي جعفر قال: "أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه الحسن بن علي... حتّى ذكر الائمّة الاثني عشر جميعاً"(3).

وروى الكليني والصدوق بسند صحيح(4) النص على الائمّة من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ابتداءً بعلي وانتهاءً بالمهدي المنتظر.

ونقل هذه الحقيقة الشيخ الصدوق في كمال الدين أيضاً(5)، والقندوزي الحنفي في ينابيع المودّة(6)، ونقلها الخزّاز في كفاية الاثر(7).

نقل الصدوق بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "الائمّة بعدي اثنا عشر، أوّلهم علي ابن أبي طالب، وآخرهم القائم، فهم خلفائي وأوصيائي وأوليائي، وحجج الله على اُمّتي بعدي، المقرّ بهم مؤمن، والمنكر لهم كافر"(8).

____________

(1) المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي: ص 87.

(2) الكافي: ج 1، ص 598، باب 126، ح 9.

(3) الكافي: ج 1، ص 591، باب 126، ح 1.

(4) المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي: ص 91.

(5) كمال الدين: 294، باب 28، ح 4.

(6) ينابيع المودّة: ج 3، ص 384، باب 94.

(7) كفاية الاثر: ص 10 ـ 22.

(8) من لا يحضره الفقيه: ج 4، ص 132، باب الوصيّة من لدن آدم، ح 5.