ونقل المفيد بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "وإنّ لذلك ولاة من بعدي، علي بن أبي طالب، وأحد عشر من ولده"(2).
وكذلك نقل المفيد قول الامام علي بسنده: "أنا وأحد عشر من صلبي أئمّة محدّثون"(3).
واستجاد العلاّمة الحلّي من كتاب الارشاد هذا المعنى، فنقل في كتابه المستجاد من الارشاد قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا وأحد عشر من صلبي أئمّة محدّثون"(4).
فبعد أن اتفق السنّة والشيعة على حديث "الخلفاء اثنا عشر"، أنكرها الكاتب بلا بحث ولا تحقيق، فقال:
(دليل الاثني عشريّة دليل متأخّر، بدأ المتكلّمون يستخدمونه بعد أكثر من نصف قرن من الحيرة، أي في القرن الرابع الهجري)(5).
بينما شاهدنا أنّ دليل الاثني عشريّة اتفق على نقله السنّة والشيعة، وأنّ تسمية الخلفاء اثنا عشر من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقلها الكليني المعاصر للغيبة الصغرى، واستدلّ به المفيد وغيره من أقطاب الفكر الشيعي، وليس دليلاً متأخّراً كما يقول الكاتب الذي عوّدنا على شعاراته الاعلاميّة الخالية من التوثيق.
أضف إلى ذلك السيرة الشخصيّة لحياة اُولئك البررة، والتي نقلها علماء الرجال من السنّة والشيعة، تؤكّد بأنّهم الاجدر في تمثيل مصداق الحديث الذي أنكره الكاتب وجعله من مبتدعات القرن الرابع الهجري.
____________
(1) الغيبة للنعماني، ص 66 ـ 67، باب 4، ح 6.
(2) الارشاد: ج 2، ص 345 ـ 346.
(3) الارشاد: ج 2، ص 346.
(4) المستجاد من الارشاد: ص 258.
(5) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 200.
(إنّ هذا الحديث ليس انعكاساً لواقع، وإنّما هو تعبير عن حقيقة ربانيّة نطق بها من لا ينطق عن الهوى، فقال: "إنّ الخلفاء بعدي اثنا عشر"، وجاء الواقع الامامي الاثنا عشري ابتداءً من الامام علي وانتهاءً بالمهدي ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف)(1).
مع أنّ أصل الحديث، وكما ثبت بالتحقيق ليس "كلّهم من قريش"، بل "كلّهم من بني هاشم"، يقول القندوزي الحنفي: (عن جابر بن سمرة، قال: كنت مع أبي عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعته يقول: "بعدي اثنا عشر خليفة"، ثمّ أخفى صوته، فقلت لابي: مالذي أخفى صوته؟ قال: قال: "كلّهم من بني هاشم". وعن سمّاك بن حرب مثل ذلك(2).
وبعد أن علم أحمد الكاتب بمصادر حديث "الاثني عشر"، وعلم بمصاديق ذلك الحديث، وأنّ كلامه لا ينطلي على القارئ، أراد أن يلتف على تلك المصاديق باتهام سليم بن قيس الهلالي بهذا الطرح، حتّى يضعّف كتاب سليم، ويقضي على تلك المصاديق المطروحة، ولكن الكاتب أخطأ في ذلك، لانّ نظريّة الاثني عشريّة قام عليها الفكر الاسلامي ـ أعم من كونه شيعي أو سنّي ـ وتحديد مصاديق تلك النظريّة جاء إلينا من غير طريق سليم ـ كما سيتضّح في البحث اللاّحق.
النص على الاثني عشر إماماً من غير طريق سليم
عندما عجز الكاتب من إيجاد أي ثغرة في نظريّة الامامة الاثني عشريّة، راح يفتّش عن اُصولها، وجعل الركن الاساسي لهذه النظريّة كتاب سليم بن قيس الهلالي (الثقة)، ومن ثمّ راح يبحث عن المضعّفين لكتاب سليم(3)، ولكنّه لم يستقرئ التاريخ جيّداً، ولا التاريخ الروائي حول هذه النظريّة، ولو سلّمنا ـ جدلاً ـ بضعف كتاب سليم،
____________
(1) بحث حول المهدي: ص 67.
(2) ينابيع المودّة: ج 3، ص 290، ح 4.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 204 ـ 205.
1 ـ مختصر إثبات الرجعة للفضل بن شاذان:
قال محمّد بن إسماعيل: ثمّ قال حمّاد بن عيسى: قد ذكرت هذا الحديث ـ حديث التشخيص ـ على الائمّة بالاسماء عند مولاي أبي عبدالله (عليه السلام)، فبكى وقال: "صدق سليم، فقد روى لي هذا الحديث أبي عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، قال: سمعت هذا الحديث من أمير المؤمنين"(1).
فهذا طريق آخر غير طريق سليم، لم يتوصّل إليه الكاتب، وبعبارة أدق: أهمله، حتّى يشوّش ذهن القارئ.
2 ـ ذكر الطبرسي في الاحتجاج هذا الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) برواية مسعدة ابن صدقة(2).
3 ـ ذكر هذا الحديث ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن أبان، عن الامام الباقر (عليه السلام) (3).
4 ـ إعلام الورى(4).
5 ـ تفسير العيّاشي(5).
6 ـ تذكرة الخواص، عن الشعبي، عمّن سمع عليّاً(6).
فهذه المصادر وغيرها نقلت حديث الائمّة اثنا عشر وأسماءهم من غير طريق سليم.
____________
(1) مختصر إثبات الرجعة; ص 1، ونقلته عن مجلّة تراثنا عدد 10، تحقيق مختصر إثبات الرجعة.
(2) الاحتجاج: ج 1، ص 626.
(3) كتاب سليم بن قيس: ج 3، ص 974.
(4) اعلام الورى: ص 275.
(5) تفسير العيّاشي: ج 1، ص 246.
(6) تذكرة الخواص: ص 142.
أضف إلى ذلك ما نقله الكليني في النص على الائمّة الاثني عشر من قبل الصادق (عليه السلام)، ولم يكن في الطريق سليم بن قيس(2).
ونقل هذه الحقيقة البرقي في محاسنه، فأتى على الائمّة واحداً واحداً على لسان الامام أمير المؤمنين، ولم يكن سليم في طريقه(3).
ونقل ذلك الشيخ الطوسي في (غيبته).
ولقد كتم أبو سلمة حديث الاوصياء والخلفاء وأسماءهم، بناءً على وصيّة من عائشة، وكشف ذلك لامير المؤمنين بعد وفاتها عندما طالبه بذلك، كما روى ذلك الخزّاز(4). كلّ هذه الحقائق مرّ عليها الكاتب من دون التفات.
هل توجد روايات تقول: الائمّة ثلاثة عشر؟
انتقد الكاتب علماء الشيعة بأنّهم لم يبحثوا المسائل بحثاً علميّاً، واتهم البعض بأنّهم بعيدون عن الواقع، وكان هو بانتقاده أولى عندما بنى نظريّته على أغلاط النسّاخ، والتأويلات القسريّة للاحاديث، وراح يتتبع عثرات النسّاخ ويدوّنها ويعتمد عليها من دون أي مطالعة لما كتبه العلماء بحقّها، وأخذ يطلق الشعارات الاعلاميّة بناءً على
____________
(1) الاصول الستة عشر: ص 15، أصل عبّاد العصفري.
(2) الكافي: ج 1، ص 244 ـ 245، كتاب الحجّة، باب فرض طاعة الائمّة، ح 15.
(3) المحاسن للبرقي: ج 2، ص 59 ـ 60/ 1170.
(4) كفاية الاثر: ص 189 ـ 190، باب ما روي عن عائشة من النصوص.
ونسب تلك الروايات إلى ثقة الاسلام الكليني الذي دوّن أبواباً كثيرة في كتابه لاثبات إمامة الاثني عشر، فلكي نوقف القارئ والكاتب على هذه الروايات سنعرضها ليتبين زيف هذه الدعوى.
الرواية الاُولى: رواها الكليني بسنده إلى أبي سعيد العصفري، عن عمرو بن ثابت، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّي واثنا عشر من ولدي، وأنت يا علي زر الارض، يعني أوتادها وحبالها"(2).
وكما هو واضح فإنّ الكليني رواها عن أبي سعيد العصفري، وهذا الرجل له أصل من الاصول، كما صرّح بذلك صاحب الذريعة، وبمراجعة ذلك الاصل نجد الرواية بنفسها موجودة، ولكن بهذا الشكل:
عن عمرو، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّي وأحد عشر من ولدي وأنت ياعلي زر هذه الارض ـ يعني أوتادها وحبالها أوتد الله الارض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاحد عشر من ولدي ساخت الارض بأهلها"(3).
فهذه الرواية الاُولى من أصلها الذي اعتمد عليه الكليني وليس فيها ما يشير إليه الكاتب، وما وقع في الكافي هو من أغلاط النسّاخ.
الرواية الثانية: أيضاً رواها الكليني، عن أبي سعيد العصفري، عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من ولدي اثنا عشر نقباء نجباء مفهمون، آخرهم القائم بالحق يملاها عدلاً كما ملئت جوراً"(4).
ومادام أصل العصفري بأيدينا، بحثنا عن الحقيقة هناك، فوجدنا الرواية بالاصل تقول:
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 204.
(2) الكافي: ج 1، ص 599، ح 17، باب 126.
(3) الاُصول الستة عشر: أصل عباد العصفري، ص 16.
(4) الكافي: ج 1، ص 600، باب 126، ح 18.
فهي تدل على إمامة اثني عشر وليس ثلاثة عشر.
الرواية الثالثة: رواها الكليني، محمّد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، عن جابر، قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الاوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمّد وثلاثة منهم علي(2).
وبمراجعة بسيطة إلى ما نقله الصدوق في كمال الدين وتحت عنوان خبر اللوح، حيث ذكر عدّة طرق لهذا الخبر، وبمراجعة لسند نفس الرواية نجد أنّ الاختلاف يزول، يقول الشيخ الصدوق: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، قال: حدّثنا أبي، عن محمّد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر.
وحدّثنا الحسين بن أحمد بن إدريس، قال: حدّثنا أبي عن أحمد بن محمّد بن عيسى، وإبراهيم بن هاشم، جميعاً عن الحسن بن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، عن جابر قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الاوصياء فعددت اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمّد وأربعة منهم علي(3).
فالالفاظ الزائدة في رواية الكافي المشوّشة لمعنى الرواية هي:
1 ـ من ولدها.
2 ـ وثلاثة منهم علي.
ولا توجد هذه الالفاظ عند الشيخ الصدوق، وقد نقل ذلك بسندين كلاهما ينتهي إلى الحسن بن محبوب، ويتفقان مع الكليني في النقل بهذا الرجل، كما في المخطّط أدناه:
____________
(1) الاُصول الستة عشر: أصل عباد العصفري، ص 15.
(2) الكافي: ج 1، ص 598، باب 126، ح 9.
(3) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 52، ح 7; كمال الدين: 294، باب 28، ح 4.
إذن، طريق الصدوق وطريق الكليني واحد إلى ابن محبوب، وما نقله الصدوق هو الادق، وأمّا ما نقله النسّاخ لكتاب الكافي فقد أضافوا إليه.
وقد نقل الشيخ الصدوق طرقاً عديدة لخبر اللوح وصلت إليه، ومن أراد المزيد فليراجع.
الرواية الرابعة: رواها الكليني عن ابن سماعة، عن علي بن الحسين بن رباط، عن ابن اُذينة، عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: "الاثنا عشر الامام من آل محمّد، كلّهم محدّث من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ولد علي، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي هما الوالدان"(1).
نقل المفيد هذه الرواية من الكافي بهذا الشكل:
____________
(1) الكافي: ج 1، ص 596 ـ 597، باب 126، ح 7.
ونقلها الشيخ الصدوق عن الكليني أيضاً، فقال: "اثنا عشر إماماً من آل محمّد، كلّهم محدّثون بعد رسول الله، وعلي بن أبي طالب منهم"(2).
ومن الواضح أنّ الشيخ المفيد والصدوق نقلا الرواية من الكافي من دون ذلك الاشتباه الذي وقع فيه النسّاخ بعد المفيد والصدوق.
فمثل هذه الروايات اعتمدها الكاتب وجعلها ركناً لنفي نظريّة الامامة الاثني عشريّة.
ولو سلّمنا بوجود هذه الروايات في المرتبة الثانية، فهل تقف أمام التراث الامامي القائم على أنّ الائمّة اثنا عشر؟ ولماذا لا يبحثها الكاتب سنديّاً؟ أضف إلى ذلك، وعلى حد تعبير السيّد العسكري الذي أخضع هذه الروايات للمنهج العلمي الذي اعتمدنا عليه، قال:
(إنّ فقهاء مدرستهم ـ مدرسة أهل البيت ـ لم يسموا أي جامع من جوامع الحديث لديهم بالصحيح كما فعلته مدرسة الخلفاء، حيث سمّت بعض جوامع الحديث لديهم بالصحاح، ولم يحجروا بذلك على العقول، ولم يوصدوا باب البحث العلمي في عصر من العصور، وإنّما يعرضون كلّ حديث في جوامعهم على قواعد دراية الحديث لانّ رواة تلك الاحاديث غير معصومين عن الخطأ والنسيان اللذين يعرضان على كلّ بشر لم يعصمه الله...)، إلخ(3).
إذن، ما اعتمد عليه الكاتب كان من أغلاط النسّاخ، وكان علماء الشيعة ملتفتين إلى ذلك قبل ولادة أحمد الكاتب، وأخضعوه للبحث العلمي، وهو ما لم يذكره الكاتب حتّى بالاشارة.
____________
(1) الارشاد: ج 2، ص 347.
(2) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 60، ح 25; الخصال: ج 2، ص 566، باب الاثني عشر، ح 49.
(3) معالم المدرستين: ج 3، ص 327.
الفصل الثامن
التسرّع في الاحكام من دون
بحث ودراية
ثورة التوّابين ومشكلة القيادة
يقول الكاتب: (نتيجة للفراغ القيادي فقد انتخب الشيعة في الكوفة بعد مقتل الحسين سليمان بن صرد الخزاعي زعيماً لهم)(1).
وأراد الكاتب من هذا الكلام أن يوجد سنداً يدعم مقولته السابقة باعتزال الامام زين العابدين، ولكن المتتبع للاحداث وبنظرة شموليّة لذلك الوضع، يجد أنّ سليمان بن صرد الخزاعي من الذين كاتبوا الحسين ليبايعوه، ولكنّه عجز عن نصرته ودعمه، وبعدما قتل الحسين تولّدت لدى الشيعة ردّة فعل عنيفة جدّاً، هزّت ضمائرهم، وأخذوا يلومون أنفسهم في عدم نصرة الامام (عليه السلام).
أضف إلى ذلك أنّ يزيد وبعد مقتل الحسين لم يترك حرمة إلاّ وانتهكها، فأخذ الشعور بالندم يدبّ في ضمير الاُمّة الاسلاميّة، وأحسّت أنّها مقصرة بحق أئمّتها وقادتها، وأرادت أن تعبّر عن تقصيرها ذلك، وتعيد زمام المبادرة بالقيام بعمل معيّن، ولا يوجد عمل ينقذهم إلاّ الثورة على الواقع الفاسد الذي يعيشونه، ولكن من يقودهم لذلك العمل؟
علي بن الحسين بالامس القريب كان مع أبيه، ويصكّ مسامعه استنهاض أبيه لهم بدون إجابة، وعلى رغم هذا الشعور فقد كتب سليمان بن صرد إلى علي بن الحسين ليبايع له، ويقول بإمامته ويظهر دعوته(2)، فأبى الامام (عليه السلام) ; لما يحمل من نظرة شموليّة
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 29.
(2) مروج الذهب: ج 3، ص 83.
وما كتابة سليمان إلى محمّد بن الحنفيّة إلاّ خير شاهد على المركز الذي يحتلّه بيت علي بن أبي طالب في فكر الاُمّة، ولم يتصدَّ ابن الحنفيّة للامر، بل لجأ إلى زين العابدين فأذن له الامام في ذلك، وخرج محمّد بن الحنفيّة وأنصاره من الامام وهم يقولون: (أذِنَ لنا زين العابدين)(2). وقامت الثورة، وسميت بثورة التوّابين، لانّهم قالوا: (ما لنا من توبة ممّا فعلنا إلاّ أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه)(3).
إذن، ما استفاده الكاتب من هذا الموقف ليس إلاّ تحريفاً لنصوص الادلّة، أضف إلى ذلك ما قاله المسعودي: (لم تكن إمامة محمّد بن الحنفيّة إلاّ بعد أن أبى علي بن الحسين (عليهما السلام) قبول كتاب سليمان بن صرد الخزاعي، وبعد الالحاح المستمر رفض الامام، فتوجّه سليمان إلى محمّد بن الحنفيّة ليكتب له ويمدّه بالشرعيّة)(4).
عقيدة المختار بن أبي عبيدة الثقفي
بعد أن خرج المختار للطلب بدم الحسين رافعاً هذا الشعار، وبعد أن كتب إلى زين العابدين(5) ليمدّه بالشرعيّة السياسيّة كما يقول المسعودي، بعد كلّ ذلك نجد أنّ بعض التهم قد اُلصقت بالمختار، أمثال ادعائه النبوّة ونزول الوحي عليه(6).
تلك الشعارات، وهذه التهم تدعو الباحث إلى التأمّل، فكيف يطلب إمداده بالشرعيّة
____________
(1) نفس المصدر السابق.
(2) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 100 ـ 101، ر 12156.
(3) تاريخ بغداد: ج 1، ص 216.
(4) المسعودي، مروج الذهب: ج 3، ص 87 بتصرّف.
(5) مروج الذهب: ج 3، ص 87.
(6) الفرق بين الفرق للبغدادي: ص 33.
وبمطالعة النشاط السياسي لتلك الفترة المربكة في حياة الاُمّة الاسلاميّة نجد ثلاث أحزاب سياسيّة يحاول كلّ منها الاطاحة بالاخر:
الاوّل: التجمعات الشيعيّة.
الثاني: الدولة الامويّة.
الثالث: حركة ابن الزبير وأنصاره.
ومن الواضح جدّاً أنّ التهم التي اُلصقت بالمختار كانت بعد وفاته، أمثال أنّه زعيم الحركة الكيسانيّة; لانّه من المعلوم أنّ هذه الحركة ولدت بعد وفاة محمّد بن الحنفيّة، والمختار توفّى قبل محمّد بن الحنفيّة(1).
إذ كيف يكون زعيماً لحركة لم تولد بعد؟! إذ كلّ ما اُلصق بالمختار كان بعد وفاته، وهذا واضح لا يختلف عليه اثنان، ولا يتناطح عليه عنزان، ويؤيّد ذلك شكوى الحكم بن المختار بعد وفاة أبيه إلى الامام الصادق (عليه السلام) من تلك التهم التي اُلصقت بأبيه(2).
ولكن نتساءل: من ألصق هذه التهم بالمختار؟
وبعودة إلى النشاطات السياسيّة التي تمارس في تلك الفترة نجد أنّ الدولة الامويّة التي كانت إحدى التيّارات السياسيّة العاملة آنذاك، والتي ثار المختار عليها وانتزع الحكم منها في بعض المناطق، نجدها جنّدت مرتزقيها للنيل من هذه الشخصيّة التي جرّعتها المنون، وأفضل وسيلة للنيل من الرجل في أي مجتمع من المجتمعات رميه بعقائد تخالف عقائد المجتمع السائدة، وبما أنّ المجتمع كان إسلاميّاً، رموه بادّعاء النبوّة ونزول الوحي عليه(3).
____________
(1) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 101.
(2) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 95
(3) الفرق بين الفرق: ص 33.
أضف إلى ذلك، النشاط السياسي الفعّال الذي قام به ابن الزبير ضد هذه الشخصيّة الاسلاميّة التي انتزعت الحكم من الزبيريين، حتّى قاتل المختار مصعب بن الزبير، الذي سيطر الاخير على الحكم، ولقد ترجم الزبيريّون هذا الموقف ضدّ المختار عندما بعث ابن الزبير أخاه عروة إلى محمّد بن الحنفيّة يقول له: (إنّي غير تاركك أبداً حتّى تبايعني أو اُعيدك في الحبس، وقد قتل الله الكذّاب الذي كنت تدّعي نصرته)(1).
فتحجيم شخصيّة المختار وتأطيرها بإطار ضيّق إجتمع عليه المتضادّان، الدولة الامويّة والزبيريّون، ورموه بالتهم والاباطيل، وحاولوا إخفاء حقيقة ثورته; لانّ في حقيقة ثورته الاعتراف بإمامة زين العابدين عندما كتب إليه، كما يقول المسعودي، وهذا الاعتراف يدين كلا الطرفين، يدين الدولة الامويّة لاستلامها مقاليد السلطة في المجتمع الاسلامي مع وجود أئمّة الحقّ ومصابيح الدجى "الذين جعلهم الله عزّ وجلّ أئمّة للناس وأوجب عليهم طاعتهم"(2)، كما يقول الامام زين العابدين (عليه السلام).
ويدين الزبيريين الذين يدعون الناس إليهم، ويحاولون كمّ الافواه بالنار والحديد، كما هو واضح في تهديدهم لمحمّد بن الحنفيّة، إمّا بالبيعة أو بالحبس(3).
إذن، عقيدة المختار اجتمع على تشويهها الاعداء ـ الامويّون والزبيريّون ـ لانّ تلك العقيدة أرادت نصرة أهل البيت (عليهم السلام) وإرجاع الحق إليهم، ولقد وفّى بعض هذه الاهداف، وقال بحقّه الامام الصادق (عليه السلام): "ما امتشطت فينا هاشميّة ولا اختضبت حتّى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين (عليه السلام) "، وهذه الرواية صحيحة السند كما يقول السيّد الخوئي(4).
____________
(1) الطبقات الكبرى: ج 5، ص 79/ 680.
(2) كمال الدين: ص 299 ـ 300.
(3) الطبقات الكبرى: ج 5، ص 79/ 680.
(4) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 94.
إذن، عقيدة المختار عقيدة واضحة، لا غبار عليها، لخّصها السيّد محمّد صادق آل بحر العلوم بقوله: (الذي انعقد عليه اتفاق الاماميّة صحّة عقيدة المختار، كما هو مذكور في كتبهم الرجاليّة والتاريخيّة، وكتب الحديث، وما نُبز به من القذائف، فهو مفتعل عليه وضعته أعداؤه تشويهاً لسمعته، وقد دعا له الامام السجّاد علي بن الحسين (عليهما السلام)، وشكره الامام الباقر (عليه السلام) على صنيعه، وأطراه وترحّم عليه هو وابنه الصادق (عليهما السلام)، وتواتر الثناء عليه والذب عنه من علماء الشيعة)(2).
إذن، لن يستطيع الكاتب أن يتفق مع الامويين والزبيريين لتشويه هذه العقيدة، بعد أن انعقد اتفاق الاماميّة على صحّتها، وإن حاول تشويش الاذهان في الجملة.
نظريّة الامامة واستفسارات الشيعة
كانت نظريّة الامامة واضحة في الفكر الاسلامي بما لا يقبل الشك، ووضوح هذه النظريّة نتيجة لما حملته من موروث نصي عليها من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن قبل أئمّة أهل البيت، ولهذا نجد كلاًّ من الامويين والعبّاسيين ادّعوا الامامة كما يقول الكاتب، فكلّ يحاول جر هذا المفهوم لمصاديقه التي يؤيّدها، وأمّا المصاديق الحقيقيّة له فقد فَرضت عليها الظروف الموضوعيّة في بعض الاحيان التكتم وعدم إذاعة السر، لما يواجهونه من محن من طغاة العصر، ونتيجة لوضوح فكرة الامامة وغموض مصداقها في بعض الاحيان، وعدم الايمان بالمصاديق الاُمويّة والعباسيّة لذلك المفهوم نجد الجميع يسأل عن الامام، وتُمَد الاعناق إلى البيت العلوي في كلّ فترة وكلّ عصر، ولهذا نجدهم تارة لا يؤمنون بموت إمام، ويتمسكون به حتّى بعد وفاته، كما حدث للبعض مع الامام الصادق (عليه السلام) عندما توفّي، ولم يتشخّص عند اُولئك المصداق الذي
____________
(1) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 94.
(2) هامش فرق الشيعة للنوبختي: ص 41، هامش رقم 1.
والبعض الاخر نجده يتمسّك ببعض أبناء الائمّة الذين يحملون بعض المواصفات مثل أكبر ولده، أو ما شابه ذلك، ويجعلونه الامام مع رفضه لهذا الموقع.
والبعض الاخر نجدهم يتمسكون حتّى بأبناء الائمّة الذين توفّوا في حياتهم، فكلّ ذلك نتيجة لغموض المصداق لديهم; لما فرضته الظروف، وخصوصاً في زمن الامام الصادق (عليه السلام) الذي تحدّث عنه محمد أبو زهرة فقال: (فلا ريب من وجود التقيّة في عصر الصادق ومن بعده، وهي كانت مصلحة للشيعة، وفيها مصلحة الاسلام، لانّها كانت مانعة من الفتن المستمرّة)(1).
ولكن رغم تلك الظروف نجد في كلّ عصر وزمان ثلّة من المؤمنين يحملون فكرة الامامة مشعلاً وهّاجاً، ويعرفون مصداقها الحقيقي باسمه ونسبه، وصرّح الائمّة لهم في ذلك، كما قال الامام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن سالم مع مجموعة من الشيعة، قال له: "سل تُخبر، ولا تُذِع، فإن أذعت فهو الذبح"(2).
فهذا هو الواقع الذي عاشه الشيعة مع أئمّتهم على مر العصور، وأكثر من ذلك فلقد كان المنصور يبعث جواسيسه بمعيّة الاموال حتّى يسلّموها إلى الامام الصادق (عليه السلام) ليتمكّن المنصور من قتله بهذه الطريقة، كما حدّث بذلك ابن المهاجر(3).
فهذه هي الظروف التي تحكم الائمّة في بعض الاحيان في طرح ما يؤمنون به داخل الساحة الاسلاميّة، وعلى أساس هذا الواقع يجب دراسة تحرّكات الائمّة وتصرّفات الشيعة في بعض الاوقات، فلم يعطِ الكاتب لهذا الواقع أي أهميّة في دراسته، وأكثر من ذلك راح يكذّب على الاماميّة بقوله: (وكان الاماميّون قد التفّوا حوله)(4) أي
____________
(1) الامام الصادق: ص 243 ـ 244 بتصرّف.
(2) الارشاد: ج 2، ص 222; بصائر الدرجات: ص 250 ـ 252; رجال الكشي: ترجمة هشام بن سالم، ص 282 ـ 283، رقم 502.
(3) مناقب ابن شهرآشوب: ج 4، ص 239 ـ 240.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 87.