وقالت بها الشافعيّة، قال النووي: (فإنّ يمين المكره غير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور، وأكثر العلماء)(3).
وقال الشافعي: (إذا استكره الرجل المرأة اُقيم عليه الحدّ، ولم يقم عليها لانّها مستكرهة)(4). فلماذا لا يقام عليها الحد؟ ما ذاك إلاّ للاكراه والخوف.
وقال بالتقيّة الفقه المالكي، يقول مالك بن أنس: (ما من كلام يدرأ عنّي سوطين من سلطان إلاّ كنت متكلّماً به)(5).
وقال بالتقيّة الفقه الحنبلي، يقول ابن قدامة: (وإنّما اُبيح له فعل المكره عليه دفعاً لما يتوعّده به من العقوبة فيما بعد)(6).
فإذا كان الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي يقولون بالتقيّة، فيظهر من الاخ الذي قال: (إنّ التقيّة غش في الدين) أنّه ليس من المسلمين، أضف إلى ذلك أنّ كلاًّ من الفقه الظاهري والفقه الطبري والفقه الزيدي ورأي المعتزلة والخوارج، كلّهم قالوا بالتقيّة(7).
وكان أهل المدينة قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع محمّد ذي النفس الزكيّة، وقالوا: (إنّ في أعناقنا بيعة لابي جعفر، فقال: إنّما بايعتم مكرهين، وليس على
____________
(1) المبسوط للسرخسي: 24/ 48 ـ 51، كتاب الاكراه.
(2) الهداية: ج 3، ص 275; شرح فتح القدير: ج 8، ص 165; اللباب: ج 4، ص 107; النتف في الفتاوي: ج 2، ص 696، وغيرها.
(3) المجموع شرح المهذّب: 18/ 3.
(4) الاُم: ج 6، ص 155.
(5) المدونة الكبرى: ج 3، ص 29، ح 6، كتاب الايمان بالطلاق وطلاق المريض.
(6) المغني: ج 8، ص 262.
(7) دفاع عن الكافي: ج 2، ص 628 ـ 634.
ويقول ابن حزم: (وقد أباح الله عزّ وجلّ كلمة الكفر عند التقيّة)(2).
وفي حديث لابي الدرداء: (إنّا لنكشّر في وجوه قوم وإنّ قلوبنا تلعنهم)(3).
فالشيعة لم يكونوا وحدهم القائلين بالتقيّة، بل الفكر الاسلامي من محدّثين وفقهاء وعلماء آمنوا بهذا البند في حالات مخصوصة، وبما أنّ تلك الحالات المخصوصة كانت هي الحياة الطبيعيّة للشيعة على مرّ التاريخ، فاضطرّوا إلى أن يتعايشوا جنباً إلى جنب مع التقيّة لحفظ دماءهم وأموالهم وأعراضهم. كلّ ذلك تجاهله الكاتب وشنّع على التشيّع في مورد التقيّة وجعلها من مدعيات الشيعة لتفسير ظاهرة التناقض بين أقوال الائمّة من أهل البيت وسيرتهم العلنيّة على حدّ زعمه(4).
الائمّة وعلم الغيب
شنّع الكاتب ـ كما فعل الذين من قبله ـ على الشيعة في قولهم إنّ الائمّة يعلمون الغيب، ولم يميّز الكاتب أي أنواع العلم بالغيب يعلمه الائمّة (عليهم السلام)، بل أطلق الكلمة من دون تحديد، ومن المعلوم أنّ علم الغيب له قسمان:
القسم الاوّل: اختصّ الله تعالى به.
القسم الثاني: أطلع الله رسوله وأولياءه عليه.
ومن شواهد القسم الاوّل، قوله تعالى: (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهَ)(5) و(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لله)(6) و(عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ)(7).
____________
(1) الكامل في التاريخ: ج 5، ص 532.
(2) الفصل في الملل والاهواء والنحل: ج 3، ص 111.
(3) تفسير المنار: ج 3، ص 281.
(4) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 78.
(5) النمل: الاية 65.
(6) يونس: الاية 20.
(7) الانعام: الاية 59.
وغير ذلك من الشواهد التي تؤكّد علم الغيب، الذي أطلع الله رسوله ومن ارتضى من الاولياء عليه، واتفق المسلمون قاطبة، شيعة وسنّة، على أنّ القسم الاوّل اختص الله تعالى به، ولم يطلع عليه أحد، بينما اتفقوا على اطّلاع الانبياء والاولياء على القسم الثاني.
يقول الرازي: (فثبت أنّ الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب)(3).
ويقول ابن حجر الهيثمي في هذا الباب: (لا منافاة بين قوله تعالى: (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهَ) وقوله: (عَالِمِ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِر عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً)وبين علم الانبياء والاولياء بجزئيّات من الغيب، فإنّ علمهم إنّما هو بإعلام من الله تعالى وهذا غير علمه الذي تفرّد به تعالى شأنه من صفاته القديمة الازليّة الدائمة الابديّة المنزّهة عن التغيير)(4).
وقال النيسابوري صاحب التفسير: (إنّ امتناع الكرامة من الاولياء إما لانّ الله ليس (معاذ الله) أهلاً لان يعطي المؤمن ما يريده، وإمّا لانّ المؤمن ليس أهلاً لذلك، وكلّ منهما بعيد، فإنّ توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده)(5).
وقال ابن أبي الحديد: (إنّا لا ننكر أن يكون في نوع من البشر أشخاص يُخبرون عن الغيوب، وكلّه مستند إلى الباري جلّ شأنه بإقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه)(6).
فالفكر الاسلامي لا ينكر مسألة إطلاع أولياء الله ورسله على بعض الغيوب التي علّمها الله لهم، وما أثبته الائمّة لانفسهم من العلم هو القسم الثاني الذي أذعن
____________
(1) آل عمران: الاية 44.
(2) الجن: الاية 25 ـ 26.
(3) تفسير الرازي: ج 30، ص 149.
(4) مقتل الحسين للمقرّم: ص 53.
(5) مجلّة تراثنا، العدد: 37، ص 26.
(6) شرح نهج البلاغة: ج 5، باب 58، ص 12.
يقول الامام علي (عليه السلام): "سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإنّ عندي علم الاوّلين والاخرين، أما والله لو ثني لي الوساد لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الانجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل القرآن بقرآنهم"(1).
ويقول أبو عبدالله: "إنّي لاعلم ما في السموات وما في الارض، وأعلم ما في الجنّة وما في النار، وأعلم ما كان وما يكون، قال الراوي: ثمّ سكت هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه فقال: علمت ذلك من كتاب الله عزّ وجلّ، يقول (فِيهِ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىْء)"(2).
وغير ذلك من الروايات التي حفلت بها كتب الشيعة، والتي لا تحتاج إلى إثبات السند فيها، لانّها من الموضوعات الخارجيّة وليست من الاحكام، يقول السيّد الجلالي: (إنّ اعتبار السند وحاجته إلى النقد الرجالي بتوثيق الرواة أو جرحهم إنّما هو لازم في مقام إثبات الحكم الشرعي للتعبّد به، لانّ طريق اعتبار الحديث توصلاً إلى التعبد به متوقّف على اعتباره سنديّاً بينما القضايا الاعتقاديّة، والموضوعات الخارجيّة لا يمكن التعبّد بها لانّها ليست من الاحكام الشرعيّة)(3).
وهذه الروايات التي أثبتت علم الائمّة بالغيب ولم نجد أحداً في التاريخ استنكر عليهم ذلك، لهي خير شاهد على علمهم بالغيب الذي أطلع الله أولياءه عليه وأنكره الكاتب، وقد قام السيّد الجلالي ببحث مستقل حول علم الائمّة بالغيب نُشر في مجلّة تراثنا، ومن أراد الاطلاع أكثر فليراجع(4).
____________
(1) الارشاد: ج 1، ص 35.
(2) الكافي: ج 1، ص 319 ـ 320، باب 48.
(3) مجلّة تراثنا: عدد 37، ص 37.
(4) المصدر السابق.
الفصل العاشر
الحركات والفرق ومدى
اعتماد المؤلّف عليها
سر نشوء الحركة الكيسانيّة
نشأت الكيسانيّة بشعار أموي ودعم زبيري وترسيخ عبّاسي.
أمّا الشعار الاموي فهو الحرب الشعواء التي حاولوا فيها إسقاط شخصيّة المختار ابن أبي عبيدة الثقفي في المجتمع الاسلامي، لما لاقوه من هذا الرجل من بأس شديد أذاقهم المرّ وسهَّر عيونهم، فنسبوه إلى العقائد الباطلة والاقوال الفاسدة، فاستفاد الكاتب من الامويين، ولم يبحث الموضوع بحثاً كاملاً، وأطلق العبارة التي نسب فيها المختار إلى قيادة الكيسانيّة(1)، مع أنّ الكيسانيّة نشأت بعد وفاة محمّد بن الحنفيّة، والمختار قتل ومحمّد بن الحنفيّة حي كما يقول السيّد الخوئي(2)، فكيف تنسب الحركة لزعيم قتل قبل نشوئها؟ نعم الشعار الذي روّج له الامويّون لاسقاط المختار هو الذي مهّد الطريق لهذه الفرقة.
وأمّا الدعم الزبيري لتحجيم شخصيّة المختار وتأطيرها بإطار ضيّق فلا يخرج عن المصالح الشخصيّة لهذا الرجل، حتّى لا تنكشف الحقائق التي نادى بها، وإلاّ لو كشفت الحقائق وأنّ المختار طلب من زين العابدين (عليه السلام) القيادة والامامة(3) ـ لو انكشفت تلك الحقائق ـ لما كان للزبيريين شعار يرفعونه وهم في بداية دعوتهم، فحاولوا طمس الواقع بالتهديد والوعيد، كما فعلوا ذلك مع محمّد بن الحنفيّة، وهدّدوه إمّا أن يبايع أو
____________
(1) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 33 ـ 34.
(2) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 101.
(3) مروج الذهب: ج 3، ص 87.
وجاء العبّاسيّون ليرسّخوا فكرة الكيسانيّة، ويعدّلوا منهجها ويضيفوا ويحذفوا، فجعلوا من تلك الحركة قاعدة شعبيّة لمحمّد ابن الحنفيّة ـ الذي هو بريء من تلك الحركة لانّها ولدت بعد وفاته(2) ـ وقالوا: عندما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عبدالله (أبي هاشم)، وكما يقول ابن خلدون:
(وآخرون يزعمون أنّ أبا هاشم لمّا مات بأرض السراة منصرفاً من الشام أوصى إلى محمّد بن علي بن عبدالله بن العبّاس، وأوصى محمّد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالامام، وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبدالله ابن الحارثيّة الملقّب بالسفّاح، وأوصى هو إلى أخيه عبدالله، أي جعفر الملقّب بالمنصور، وانتقلت في ولده بالنص واحداً بعد الاخر إلى آخرهم، وهذا هو مذهب الهاشميين القائمين بدولة بني العبّاس)(3).
وسرّ ترسيخ العبّاسيين لهذه الفكرة هو الشرعيّة التي تمدّهم بها هذه السلسلة الطويلة من الوصايا التي تؤهّلهم لاستلام الحكم وقيادة المسلمين.
إذن، كان دور العبّاسيين مهماً جدّاً في ترسيخ هذه الفكرة; لانّ الكيسانيّة كانت تقول: إنّ الامامة في ابن الحنفيّة وذريّته(4).
وهذا بند وثائقي ينفع العبّاسيين في المطالبة بالحكم، والشرعيّة للقيادة. وهذا البند من البنود المزعومة للكيسانيّة.
إذن، سرّ ذيوع هذه الحركة هو الشعار الاموي، والدعم الزبيري، والتأصيل العبّاسي لهذه الحركة في المجتمع الاسلامي، فقد اتحد الاضداد في فكرة واحدة هدفها متشعّب يخدم الجميع.
____________
(1) الطبقات الكبرى: ج 5، ص 79/ 680.
(2) معجم رجال الحديث: ج 18، ص 101.
(3) مقدمة ابن خلدون: ص 199 ـ 200.
(4) الفصول المختارة: ص 296.
الوقف والواقفيّة
لقد وقف مجموعة من الشيعة على إمامة الامام موسى الكاظم مدّة من الزمن، وتراجع البعض عن هذا الوقف، وعاد إلى الحقّ والقول بإمامة الرضا (عليه السلام)، مثل عبدالرحمن بن الحجّاج(1) ورفاعة بن موسى(2)، وغيرهم.
والمهم هنا في هذه السطور أن نتعرّف على السبب الذي أدّى بهؤلاء إلى الوقف، وتحدّث العلماء عن خلفيّات هذا الامر، واجتمعوا على سببين لذلك:
الاوّل: عدم معرفة البعض بالنص على إمامة الرضا (عليه السلام) من قبل أبيه، وجهلهم به، وهذا فُرِض على الامام الكاظم (عليه السلام) من قبل الرشيد، الذي أنهى حياة الامام مسموماً بسجنه، بحيث وصل الامر بالناس أن يقولوا له ـ أي للرشيد ـ: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت(3).
فتمسّك الواقفون بالقول: إنّ الامام الكاظم (عليه السلام) دخل دار الرشيد ولم يخرج منها، وقد علمنا إمامته وشككنا في موته، فلا نحكم في موته إلاّ بتعين(4).
الثاني: الطمع وحبّ الدنيا وحطامها.
يقول الكشي: كان بدء الواقفيّة أنّه اجتمع (000/30) ثلاثون ألف دينار عند الاشاعثة لزكاة أموالهم، وما كان يجب عليهم فيها، فحملوه إلى وكيلين لموسى بن جعفر (عليه السلام) بالكوفة، أحدهما حيان السرّاج، وآخر كان معه، وكان موسى (عليه السلام) في الحبس، فاتخذا بذلك دوراً وعقاراً، واشتريا الغلات، فلمّا مات موسى (عليه السلام) وانتهى الخبر إليهما أنكرا موته، وأذاعا في الشيعة أنّه لا يموت لانّه القائم، فاعتمدت عليهما طائفة من الشيعة، وانتشر قولهما في الناس، حتّى كان عند موتهما أوصيا بدفع المال إلى
____________
(1) معجم رجال الحديث: ج 9، ص 316.
(2) معجم رجال الحديث: ج 7، ص 197.
(3) الغيبة: ص 23.
(4) الفرق بين الفرق: ص 46.
وهذا ما يؤيّده أنّ بعض الواقفيّة قد وقف على الكاظم، مع أنّه قد روى قبل الوقف حديث "الائمّة اثنا عشر"، مثل علي بن أبي حمزة البطائني(2) فغرّته الدنيا، فنسى ذلك الحديث، ولم يكمل الاثني عشر الذين نقل النص عليهم، ووقف على الامام الكاظم (عليه السلام)؟
وتجاهل الكاتب تلك الاسباب، واعتمد على اُناس خصموا أنفسهم قبل أن يقفوا على إمامة الكاظم (عليه السلام)، أمثال علي بن أبي حمزة البطائني، الذي روى عن يحيى بن القاسم بن جعفر الصادق (عليه السلام).... عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "الائمّة بعدي اثنا عشر، أوّلهم علي بن أبي طالب، وآخرهم القائم، هم خلفائي وأوصيائي وأوليائي وحجج الله على اُمّتي بعدي"(3).
وكذلك روى عن الامام الباقر (عليه السلام) سمعه من مولى لابي جعفر (عليه السلام) يقول: "منّا اثنا عشر محدّثاً، السابع من ولدي القائم"(4). فكيف يروي ويقف عند الكاظم (عليه السلام).
ثمّ راح الكاتب ينسب اُناساً إلى الوقف أمثال محمّد بن إسحاق بن عمّار الصيرفي التغلبي، ونسبة هذا الرجل إلى الوقف فيها كلام، لانّ الرواية التي نسبته إلى الوقف ضعيفة كما يقول السيد الخوئي، لا يمكن الاستدلال بها على شيء، لانّ في سندها جرير بن حازم، وهو مجهول(5).
ثمّ كذب على القارئ حينما ذكر رجالاً ونسبهم إلى الوقف، أمثال عبدالرحمن بن الحجّاج ورفاعة بن موسى وغيرهم، ولم يذكر تراجعهم عن هذا القول، والرجوع إلى
____________
(1) رجال الكشي: ص 459، رقم 871.
(2) معجم رجال الحديث: ج 11، ص 225.
(3) المصدر السابق.
(4) الغيبة للنعماني: باب ما ورد في أنّ الائمّة اثنا عشر إماماً، ص 57.
(5) معجم رجال الحديث: ج 15، ص 72.
وأيضاً ذكر في اُولئك الواقفين من كان قد شهد وصيّة الامام موسى بن جعفر إلى ولده الرضا (عليه السلام)، مثل يحيى بن الحسين بن زيد(2).
ودوّن الكاتب في سجّل الواقفيّة اُناساً لم يتحقّق من وقفهم، ولم يثبت ذلك، بل أرسله إرسال المسلّمات. وبعد كلّ هذا الدجل والكذب، جعل سبب الوقف ـ كما يدّعي ـ وجود روايات وصفها بالكثيرة تدلّ على مهدويّة الكاظم (عليه السلام) (3).
ولكن تلك الاخبار التي أحصاها الشيخ الطوسي ـ ولم تكن كثيرة كما يقول ـ كلّها أخبار آحاد، وقال الشيخ الطوسي بحقّها: (أخبار آحاد لا يعضدها حجّة، ولا يمكن ادعاء العلم بصحّتها، ومع هذا فالرواة لها مطعون عليهم لا يوثق بقولهم ورواياتهم)(4).
فهذا كلام شيخ الطائفة والرجالي المعروف لم يطّلع عليه الكاتب، وهذا ما يثبت تسرّعه في الاحكام، أضف إلى ذلك، أنّ سبب الوقف هذا كذّبه كلّ من الكشي والبغدادي(5).
استغلال الفرق المنحرفة كأداة لضرب التشيّع
استغل أحمد الكاتب الفرق المنحرفة عن الاسلام والخارجة في بعض تعاليمها عنه، كأداة لضرب التشيّع، وحاول أن يستفيد من المعالجات غير الصحيحة، ومن التطرّف والتعصّب لبعض مؤلّفي الفرق، وراح يكيد للتشيّع ورجاله وأئمته.
والحقيقة أنّ بحث الفرق ونشوءها من البحوث اليتيمة من التحليل والاستنتاج،
____________
(1) معجم رجال الحديث: ج 9، ص 316 وج 7، ص 197.
(2) عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 42، ح 1; معجم رجال الحديث: ج 1، ص 290، ح 281.
(3) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 93.
(4) الغيبة: ص 29.
(5) رجال الكشي: ص 459، رقم 871; الفرق بين الفرق: ص 46.
فالكامليّة التي تكفّر أمير المؤمنين، والبيانيّة التي ادّعت النبوّة لشخص، لا يمكن عدّها من فرق الشيعة أبداً وإن فعل بعض المتطرّفين وغير المنصفين ذلك.
ولكن عندما نجدهم يتحدّثون عن الفرق الاخرى، نجدهم يتحدّثون بلهجة تشير إلى أنّ هذه الفرق مندسّة في السنّة ولا علاقة لهم بها.
وقبل عدّ هذه الفرقة من السنّة أو من المندسّين فيهم، وعدّ تلك الفرقة من الشيعة، لابدّ من القيام قبل هذه المرحلة ببحث مستقل نبيّن فيه أسباب نشوء هذه الفرق وتاريخها وعدد القائلين بها وهويّاتهم الشخصيّة حتّى يتضّح الانتماء الحقيقي لهذه الفرق.
أسباب نشوء الفرق
عندما انطلق الاسلام بشعار (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) جوبه من قبل تيّارات عديدة كالجاهليّة العربيّة، والنصارى، واليهود، والمجوس، وغيرهم من الحركات والتيّارات التي لا يروق لها شعار المساواة، ومحو الطبقيّة، والذي يعصف بالفوارق ويطيح بالقوى التي سيطرت على المجتمعات بعوامل القوّة تارة والوراثة اُخرى، فخاضوا حروباً دمويّة، راح ضحيّتها خيرة الصحابة والمسلمين الذين آمنوا بتلك الشعارات ودافعوا عنها.
فانتصر الاسلام في هذه الحروب وأصبحت بنوده الناطقة بالمساواة والعدالة
____________
(1) المقالات والفرق: ص 14.
(2) فرق الشيعة: ص 51.
هذه القاعدة التي أقصت الخليفة الشرعي، وجاءت بخليفة عيّنته المهاترات الكلاميّة واللفظ وارتفاع الاصوات كما اعترف الخليفة الثاني بذلك.
وخوفاً من أن يظهر زيف هذه القاعدة وأمثالها، وتظهر الحقيقة، صدرت الاوامر بإلغاء تدوين الحديث ومنعه، وسُمح لبعض تلك التيّارات أن تتحدّث للناس وتبين لهم ما دفنوه قبل ذلك، وهكذا حتّى وصل الامر إلى عثمان بن عفّان الذي طرد القريب أبو ذر، وقرّب الطريد، كلّ هذا رفع معنويّات تلك التيّارات التي لم تقف مكتوفة الايدي، بل أظهرت بين الحين والاخر أبخرة بركان حقدها الدفين، فمثَّل حكم الجاهليّة بأرقى صورها معاوية بن أبي سفيان بعد أن مهّد له من تقدّم عليه، فعمل على تفتيت اُمّة الاسلام عندما استلم دفّة الحكم، فأرسل مراسيله إلى طلحة والزبير وأضرابهم ليقفوا بوجه علي (عليه السلام)، وفشل في ذلك بعد أن أخمد أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنصاره تلك الوسائل، فلم يجد بدّاً إلاّ أن يجهّز الجيوش الشاميّة التي فتحت عينها على إسلام معاوية وأمثاله، وقرّر أن يواجهه بنفسه من خلال الحرب، ودارت تلك المعارك الطاحنة، ولما انجلت الغبرة وأصبح النصر لعلي كقاب قوسين أو أدنى، استغلّ معاوية العقول الخاوية في معسكر الامام، ورفع المصحف، وتراجع المغفّلون معلنين الصلح من دون موافقة إمامهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) على ذلك، وحدّدوا لانفسهم
____________
(1) تاريخ الطبري: ج 3، ص 288.
ففكّرت الجاهليّة العربيّة بهذا السلاح الجديد بقيادة معاوية، فجمع فقهاء قصر الحمراء وعلماءه، وأمرهم بإنشاء مصانع جديدة لا لصنع السيوف لقتال أعداء الاسلام، بل لصنع الاحاديث للقضاء على الاسلام، وبدأت الحرب الجديدة التي "اتخذت من القرآن سلاحاً، ومن السنّة متراساً، ومن الايمان أداةً، ومن الفكر قاعدة لها، ومن الاسلام راية تخفق في سمائها، ومن العقول والقلوب ساحة، وأمّا أدوات هذه الحرب فجيش من المفسّرين والقرّاء والمتكلّمين والقضاة والفقهاء ورجال الدين، وما بقي من الصحابة وأولادهم قادة لهذا الجيش(1).
فأصبحت المعركة الجديدة معركة عقائد الحقّ مع عقائد الباطل، فبزغ قرن الشيطان ـ الجبر ـ الذي يجعل الانسان مسيّراً في كلّ الحوادث الواقعة له خيرها وشرّها، وأوّل من قال به معاوية، ودعا إليه ودافع عنه(2).
وبزغ قرن الشيطان الثاني ـ الارجاء ـ الذي هو تبرير واضح لاغتصاب حق الامامة بوسائل التدليس والاغتيال، وأساليب الترغيب والترهيب، كما يقول الدكتور محمود إسماعيل الذي أضاف:
إنّ شيوخ هذا المذهب خصّوا برعاية الامويين الاوائل وأقاموا إلى جانبهم في
____________
(1) الانتفاضات الشيعيّة: ص 97 ـ 98.
(2) الحركات السريّة: ص 31 ـ 48.
ويقول هاشم معروف الحسني: فكان الجبر والارجاء سلاحين فتّاكين، وإن صحّ تعبيري فهما حرب جرثوميّة على الامّة وطمس معالم الاسلام الصحيح، وتحجيم دور الائمّة داخل الشعب المسلم الذي لم يطّلع على إسلامه الحقيقي أبداً.
أضف إلى ذلك سلاح التصوّف الذي لجأ فيه المتدينون ظاهراً إلى الغارات والكهوف، وتركوا الحكّام يعيثون بالارض فساداً، وبدأ هنا الاسلام باستيراد الافكار من الهند والصين وفارس(2).
فتحطم المجتمع أمام هذه الاسلحة التي أصبحت فرقاً فيما بعد، وذلك من خلال البعض الذي وجد فيها ضالّته المنشودة، لانّهم سئموا الحروب وآثروا السلامة والعافية من جراء ما لاقوه من أهوال.... وانصرفوا لاُمورهم الداخليّة دون نظر إلى نوعيّة السلطة(3).
ولم يقف البيت الاموي وأنصاره عند حد الجبر والارجاء والتصوّف، بل لجأوا إلى سلاح فتّاك آخر يضرب صميم الاسلام، وهو سلاح الغلو والمغالاة، وبرَّزوا له الصحابي الذي لا يحق لاحد الرد عليه، والراد عليه كالراد على رسول الله، والراد على رسول الله كالراد على الله، وهكذا حتّى وصل الامر إلى كفر من يرد على الصحابي وإخراجه من دائرة الاسلام باسم عدالة الصحابي الذي منحه معاوية وأنصاره ومريدوه حصانة دبلوماسيّة يتحرّك فيها داخل المجتمع الاسلامي، ويكفي في تسمية الشخص صحابي أنّه رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وإن استحى البعض في هذا الزمان، فعدّل في النظريّة بعض التعديلات ـ فهدّم معاوية وأنصاره المتمّثلين بالجاهليّة العربيّة أركان الاسلام، وضعضع الصفّ الاسلامي، وصال آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد جذّاء لحفظ مصالح الاسلام والمسلمين من هذه الافكار، فحصّنوا أصحابهم حملة الاسلام
____________
(1) الحركات السريّة: ص 31 ـ 48.
(2) الانتفاضات الشيعية عبر التاريخ: ص 98 ـ 99.
(3) الحركات السريّة: ص 35 ـ 36.
أقدر المسلمين على فهم الاسلام، وأكثرهم إخلاصاً لمبادئه، وأشدّهم حرصاً على تطبيق تعاليمه، وقد ورثوا مأثرة التفقّه في الدين والاحاطة بأصناف العلوم من إمامهم الاوّل علي بن أبي طالب(1).
فتحصين بعض المسلمين بأفكار الاسلام الصحيحة لا يروق لمعاوية وأنصاره روّاد الجاهليّة العربيّة، ولا إلى النصارى والمجوس واليهود وأتباعهم، فأعدّوا العدّة لحرب جديدة لا تختلف عن سابقتها إلاّ من ناحية الموقع والمكان، حرباً ضد الاسلام وموقعه الجديد، أصحاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، فاختُلق عبدالله بن سبأ المزعوم، ولم يكفي هذا في المواجهة لانّ التشيّع نبض في قلوب الصحابة والخلّص من أنصار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل إسلام هذا الرجل على فرض وجوده، واستمرّت المواجهة بين أئمّة أهل البيت وأصحابهم وأنصارهم من جهة، وبين الجاهليّة العربيّة المتمثلة بمعاوية وأنصاره واليهوديّة المتمثلة بكعب، والنصرانيّة المتمثلة بسوسن، الذي يعتبر أوّل من نطق بالقدر، والمجوسيّة متمّثلة بمجموعة من اُولئك الذين دخلوا الكوفة وعرفوا بحمرا الديلم(2).
واتحد الجميع لهدف واحد، وهو القضاء على الاسلام وبمختلف الطرق، فحدّدوا دماغ الامّة الاسلاميّة أئمّة أهل البيت وأصحابهم، واستعدّوا لضرب هذا الدماغ، وشلّ أعضاء هذا الدين الالهي، ولم يقتصروا على تحديد الشخصيّات فقط، بل خطّطوا حتّى لمواقع الانطلاق حتّى يوسم ذلك الموقع بأي فكرة يطلقونها، فاختاروا الائمّة من الشخصيّات وأصحابهم، واختاروا الكوفة وبعض المناطق التي وسمت بالتشيّع لاهل البيت، فتغلغل أنصار اُولئك في أصحاب الائمّة وفي داخل الكوفة التي قطنها النصراني في الحيرة ورعايا الفرس، والتي أصبحت مصدر إشعاع للعالم الاسلامي.
فجاء سوسن النصراني الذي نطق بالقدر وقد أظهر الاسلام وعنه أخذ معبد
____________
(1) الحركات السريّة: ص 67.
(2) فتوح البلدان; ص 279.