الصفحة 441
الجهني، وأخذ غيلان من معبد(1)، وعاد بعد أن بثّ هذه الفكرة إلى نصرانيّته، وكذلك ابن كلاّب الذي يقول عنه أبوالعبّاس البغوي:

دخلنا على فثيون النصراني وكان في دار الروم من الجانب الغربي، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب، فقال: رحم الله عبدالله (اسم ابن كلاب) كان يجيئني فيجلس إلى تلك الزاوية وأشار إلى ناحية من البيعة، وعنّي أخذ هذا القول، ولو عاش لنصّرنا المسلمين(2).

فهذا النصراني كان يعد العدّة للدخول إلى الامّة الاسلاميّة من خلال بعض الحاقدين على الاسلام، وبثّ الافكار فيها.

وأمّا اليهود الذين بثّوا دعاتهم أمثال المغيرة بن سعيد الذي بين الامام الصادق (عليه السلام) مصدر أفكاره عندما قال: "لعن الله المغيرة بن سعيد، ولعن الله يهوديّة كان يختلف إليها"(3).

فآمن هذا اللعين بأفكار يهوديّة لم ينزل الله بها سلطان، حتّى وصل به الامر أن يدّعي النبوّة(4). فهل يعد من يعتقد بذلك من فرق المسلمين.

وتصدّى له ولغيره أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ولعنوهم وطردوهم من حظيرة الاسلام لافكارهم الهدّامة التي استوردوها من النصارى واليهود والمجوس، فهؤلاء وأمثالهم ليسوا من الاسلام كما ذكرت نصوص أئمّة أهل البيت، فكيف يعدّون من فرقهم.

فكيف يعد أبو الخطّاب على رأس فرقة من المسلمين، وهو يدعي أنّه إلـه(5)، وقد لعنه الامام الصادق (عليه السلام) بقوله: "اللهمّ العن أبا الخطّاب.... اللهمّ أذقه حرّ الحديد".

وأمر أصحابه أن يتجنّبوا أتباع أبي الخطّاب، فلا يقاعدوهم ولا يواكلوهم ولا

____________

(1) المقالات الفرق: ص 132.

(2) الفهرست لابن النديم: ص 230.

(3) رجال الكشي: ص 255، رقم 403.

(4) المقالات والفرق: ص 55.

(5) معجم رجال الحديث: ترجمة محمّد بن أبي زينب أبو الخطّاب الاسدي.


الصفحة 442
يشاوروهم، فقال: "لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ولا تشاوروهم ولا تصافحوهم ولا توارثوهم"(1).

ودعاهم الصادق (عليه السلام) إلى التوبة عندما قال: "ويلكم توبوا إلى الله فإنّكم كافرون مشركون"(2).

ومن اُولئك الغلاة الذين ادّعوا النبوّة ولعنهم الامام الصادق (عليه السلام): بزيع بن موسى(3)، وبيان النهدي، والمغيرة بن سعيد الذي كان يدسّ أعوانه في حلقة درس الباقر، وكما حدّثنا الصادق (عليه السلام) بقوله:

"كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي، ثمّ يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثّوها في الشيعة، فكلّما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو، فذاك ممّا دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم"(4).

إذن، الغلو كان من اليهود الذين كان يختلف إليهم المغيرة هذا(5)، وكذلك أبو منصور العجلي الذي لعنه الباقر (عليه السلام) وتبرّأ منه، وصائد النهدي الذي جعله الامام الصادق (عليه السلام) من مصاديق قوله تعالى: (هَلْ أُنَبِّئكُمْ عَلَى مَنْ تَنَّزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَّزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاك أَثِيم)(6).

ومحمّد بن نصير النميري، الذي كان يحلّل محارم الله، وادّعى أنّه نبي أرسله

____________

(1) المصدر السابق.

(2) رجال الكشي: ترجمة بشّار الاشعري.

(3) المقالات والفرق: ص 189.

(4) رجال الكشّي: ترجمة المغيرة بن سعيد.

(5) المصدر نفسه

(6) معجم رجال الحديث: ج 9، ص 47، رقم 5767.


الصفحة 443
الهادي (عليه السلام) فلعنه الامام وتبرّأ منه وطرده(1).

والعبرتائي الذي لم يكن يتديّن بشيء، كان يظهر الغلو مرّة والنصب اُخرى كما يقول السيد الخوئي(2).

وتبرّأ العسكري من هذه الفرق حتّى لا تحسب على الشيعة فقال:

"إنّي أبرأ إلى الله من أبي نصير الفهري وابن بابه القمّي، فابرأ منهم، وإنّي محذّرك ـ مخاطباً أحد أصحابه ـ ومخبرك أنّي ألعنهما عليهما لعنة الله، يعزم ابن بابه أنّي بعثته نبيّاً... ويله لعنه الله.... ولعن من يقبل منه"(3).

وسمح العسكري (عليه السلام) لاصحابه إن قدروا عليه أن يقتلوه ويشدخوا رأسه ـ حسب تعبير الرواية ـ وللاسف الشديد، فكلّ هذا التبرّي وهذا اللعن، لم يكن كافياً ليقوم المؤلّفون والباحثون في الموضوع بفصل التشيّع عن هذه الفرق المنحرفة، حتّى وصل الدور إلى أحمد الكاتب ليرفع هذا الانحراف ويحمله على حساب أئمّة أهل البيت، وعلى حساب الشيعة من غير بحث وتحقيق، حاله في ذلك حال حاطب ليل.

ما هي حكاية الفرق بعد وفاة العسكري (عليه السلام)


تحدّث بعض كتّاب الفرق بعد وفاة العسكري (عليه السلام) بحديث أشبه بالاسطورة والقصّة الخياليّة عندما قالوا: إنّ الشيعة انقسمت إلى ثلاث عشرة فرقة، ومنهم من أكّد هذه الاسطورة فقال بعشرين فرقة، وبالرغم من المدّة الزمنيّة الطويلة الفاصلة بين وفاة العسكري ومؤلّفي الفرق، لم نجدهم تحدّثوا على لسان أصحاب تلك الفرق، ولم يذكروا عددهم، ولا حتّى رؤسائهم في بعض الاحيان ممّا يضع علامة استفهام أمام هذا العدد الخيالي لتلك الفرق.

نعم، إنّ الجمهور من الشيعة قالوا بإمامة القائم المنتظر، وأثبتوا ولادته، كما قال ذلك

____________

(1) معجم رجال الحديث: ج 17، ص 300.

(2) معجم رجال الحديث: ج 2، ص 358.

(3) معجم رجال الحديث: ج 5، ص 112، رقم 3090.


الصفحة 444
المفيد(1).

ولكنّ القارئ والمطالع حتّى لو آمن بأنّ الجمهور قالوا بإمامة الامام الحجّة من بعد أبيه، فإنّه يتساءل عن هذا الحجم الهائل من الفرق وما هي أخبارهم؟

يقول الشيخ المفيد: انقطعت أخبارهم تماماً واندثرت عام 373 هـ، فلم يبقَ لهم أثر، وعلى حدّ تعبير الشيخ: أصبحوا حكاية عمن سلف، وأراجيف بوجود قوم منهم لا تثبت(2).

مائة سنة فقط اندثرت فيها 13 فرقة، وعلى قول البعض 20 فرقة، حقّاً إنّها أسطورة، لانّ بين وفاة العسكري وكلام الشيخ المفيد ما يقارب من مائة سنة، أدّت إلى اندثار الفرق وأصحابها وأقوالها، علماً إنّ مائة سنة في حساب اندثار الفرق لا قيمة لها تذكر، فلابدّ من دراسة جديدة تضع أمامها عقول الناس في تسطير الحروف وتعداد الفرق، تبين من خلالها مدى صحّة هذا الكلام، ومدى تحقّقه في التاريخ، وخصوصاً إنّ البعض يعد الشخص الواحد فرقة كاملة بمجرّد أنّه قال كلاماً ما، فمائة سنة اندثرت بها كلّ الفرق إلاّ اُولئك القائلين بوجود ولد للعسكري (عليه السلام)، تجعل من العاقل يشكّك فيما نقل إليه من أحداث في تاريخه الاسلامي الذي اُستهدِف من قبل العديد من التيّارات المغرضة والتدوين غير الموضوعي وغير المبتني على أساس صحيح.

____________

(1) الفصول المختارة: ص 318.

(2) الفصول المختارة: ص 321.


الصفحة 445


الفصل الحادي عشر
كشف الحقائق





الصفحة 446

الصفحة 447

الشيعة أوّل من كتب في الاحكام السلطانيّة


لقد توهّم الكاتب مرّة اُخرى عندما نسب إلى الفكر الشيعي الانعزال السياسي عن الساحة من دون تنظير، ونسب إليهم ذلك من دون بحث وتحقيق، بينما لو تتبع جيّداً في التاريخ لوجد أنّ الشيعة سبقت السنّة في التنظير والكتابة في الاحكام السلطانيّة.

بعد غياب الامام الثاني عشر، وغياب القيادة الالهيّة، لم تغب الشيعة عن مسرح الاحداث، بل راح فقهاؤهم ينظرون إلى هذه الغيبة وإلى تلك الفترة، ويحدّدون الموقف السياسي من الحكّام والسلاطين مستلهمين تعاليم ذلك التنظير من أئمتهم، وسبقوا كلّ المذاهب بذلك، فقد وضعوا لشيعتهم دساتير للتعامل مع السلطان ومع الحياة السياسيّة آنذاك. فهذا شيخ القميين أبو الحسن محمّد ابن الحسن بن أحمد بن داود القمّي المتوفى سنة 368 هـ قد وضع رسالة في عمل السلطان، وهو استاذ الشيخ المفيد(1).

وكذلك الشيخ أبو عبدالله البوشنجي الحسين بن أحمد بن المغيرة، حيث كتب رسائل حول طريقة التعامل مع السلطان، ثمّ كتب المفيد والمرتضى والطوسي في هذا الموضوع قبل أن يبدأ الماوردي المتوفى سنة 450 هـ وغيره من السنّة بكتابة الاحكام السلطانيّة.

فكيف انعزل الفكر الشيعي عن الساحة وهو من مطلع الغيبة إلى يومنا هذا يُنَظِّر

____________

(1) الذريعة في تصانيف الشيعة: ج 15، ص 345، الطبعة الثانية.


الصفحة 448
للشيعي كيفيّة التعامل مع زمانه وفي مختلف الظروف، وسواء كان السلطان عادلاً أو جائراً.

الشيعة والصراع السياسي


اتهم أحمد الكاتب الشيعة بالانعزال السياسي، ولم يكن هذا الاتهام مبنيّاً على أساس واضح، إلاّ لانّهم آمنوا بغيبة الامام المهدي المنتظر (عج)، وهذا الاتهام نفسه يوجّه إلى أحمد الكاتب، لانّه يؤمن بوجود رجل يخلّص البشريّة، ويصلّي عيسى خلفه، كما جاءت النصوص الصريحة بذلك، وإنّ اختلاف إيمان الكاتب مع إيمان الشيعة بشخص محمّد بن الحسن العسكري لا يضر في أصل الانتظار، فلكلّ منتظره وإن اختلفت الجزئيّات، وانتظار الكاتب هذا كانتظار الشيعة، فيكون على مبنى الكاتب نفسه أنّه منعزل سياسيّاً لانّه اتهم التشيّع بسبب الانتظار بالانعزال السياسي، فبحثه يكون فضولاً في الكلام.

أضف إلى ذلك أنّ الولاة والحكّام على مرّ العصور واختلاف شرائط الزمان يضعون الشيعة في صدر قائمة المعارضين لسياساتهم، وهذا ما حدث منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والى يومنا هذا، وهذا التصرّف ينمّ عن علم تلك الحكومات بأنّ التشيّع له روح خاصّة ونظرة عميقة إسلاميّة صحيحة لا تفسح المجال لاي كان بالتسلّق وقيادة المسلمين.

يقول الدكتور علي الوردي في كتابه وعّاظ السلاطين: (إنّ التشيّع في وضعه الراهن أشبه بالبركان الخامد وكان ثائراً ثمّ خمد على مرور الايّام، وأصبح لا يختلف عن غيره من الجبال الراسية إلاّ بفوهته والدخان المتصاعد منه، والبركان الخامد رغم هدوئه الظاهر يمتاز عن الجبل الاصم بكونه يحتوي في باطنه على نار متأجّجة لا يدري أحد متى تنفجر مرّة اُخرى).

وأضاف يقول: (إنّ عقيدة الاماميّة التي آمن بها الشيعة جعلتهم لا يفترون عن انتقاد الحكّام ومعارضتهم والشغب عليهم في كلّ مرحلة من مراحل تاريخهم

الصفحة 449
الطويل).

ويقول أحمد أمين: (والسياسي إذا نظر إلى العلويين رآهم إمّا ثواراً إن ظهروا أو متآمرين على قلب الدولة إن اختفوا)(1).

وللاسف حكم الكاتب على التشيّع وعلى علمائه من دون اطّلاع على الواقع العملي للشيعة، حيث دوّت ثوراتهم في كلّ زمان ومكان، وليس هنا مكان البحث عن تلك الثورات.

الغيبة وفقهاء الشيعة


حاول الكاتب إيجاد حالة من الارباك عند فقهاء الشيعة نجمت من غيبة الامام المنتظر (عليه السلام)، وبمرور سريع للحالة الاسلاميّة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا، نجد أنّ التشيّع كان في غنى عن تلك الحالة، أمّا غيره فقد وقع فيها، وذلك بعد غيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المجتمع والتحاقه بالرفيق الاعلى انقسم المسلمون إلى قسمين:

قسم قال: إنّ الشريعة قد بلغت إلى المجتمع بالكامل ولا تحتاج رسالة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قيّم عليها اختصّه رسول الله بأحكامها.

والقسم الاخر قال: لقد خصّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً وأبناءه بمسائل الدين وهم المكمّلين لشريعته من بعده.

وساروا جميعاً في الحياة، فأمّا القسم الاوّل فارتطم بواقع لا تشريع له، فاضطرّوا ولبعض الوقت الاستنجاد بإمام القسم الثاني لتوضيح تشريع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حول هذه الوقائع، ولكن هذا اللجوء لم يكن لجعل ذلك الامام مصدراً للتشريع، بل جعلوه يتمتع بموقع تشريعي ولفترة من الوقت.

وما إن سارت عجلة الحياة حتّى وجدوا أنفسهم أمام جمع غفير من الوقائع لا تشريع لها عندهم ـ وليس لا تشريع لها في الاسلام الذي هو رسالة للدين والدنيا معاً ـ فلم يجدوا بدّاً للجوء إلى وسائل تسعفهم في ذلك، فلجأوا إلى الاستحسان الذي

____________

(1) ضحى الاسلام: ص 278.


الصفحة 450
يقول عنه الشافعي: (من استحسن فقد شرّع)(1).

ولم يسد الاستحسان كلّ التغييرات، فلجأوا إلى القياس الذي شرّقوا وغرّبوا في القول به.

ويكفي أن يطّلع الانسان على أىّ موسوعة اُصوليّة ليعرف مدى التشعّب والتباين في الاراء(2).

ثمّ لجأوا إلى عدالة الصحابي، ففتحوا باباً جديداً في التشريع سمّي باب عدالة الصحابي نزّهوه فيها من كلّ عيب ودنس وخطأ، واختلفوا في ذلك أيضاً، فذهب قوم إلى أنّ مذهب الصحابي حجّة مطلقاً، وآخر إلى أنّه حجّة إن خالف القياس، وثالث إلى أنّ الحجّة في قول أبي بكر وعمر خاصّة... ورابع إلى أنّ الحجّة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا. وقال الغزالي: (إنّ جميع هذه الاقوال باطلة)(3).

ولم تقف سلسلة المستجدّات الخالية من التشريع، فلجأوا إلى المصالح المرسلة التي رفضها الشافعي بقوله: (إنّه لا استنباط بالاستصلاح، ومن استصلح فقد شرّع كمن استحسن، والاستصلاح كالاستحسان متابعة للهوى)(4).

وهذه الحيرة التي وقع فيها الفكر السنّي نتجت من إيمانه السابق بإكمال التشريع، وعدم وجود من خصّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بحيث أدّت به إلى اتباع مختلف الوسائل لسدّ النقص الحاصل عندهم، مثل فتح الذرائع وسدّها وما إلى ذلك.

أمّا القسم الثاني، وهم الشيعة، فقد استغنوا عن كلّ تلك الوسائل، لانّ النص قام على تنصيب إمام بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعطي ـ الامام ـ للامّة ما تحتاجه من تشريع اختُص به لكلّ المستجدّات الحادثة، واستقرّت الامامة بالنصوص المتواترة والادلّة القطعيّة، واحداً يكمل الاخر، والكل ينقلون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكما يقول

____________

(1) فلسفة التشريع الاسلامي: ص 174.

(2) الاصول العامّة للفقه المقارن: ص 320.

(3) الاصول العامّة للفقه المقارن: ص 439.

(4) مصادر التشريع: ص 74.


الصفحة 451
الامام الصادق (عليه السلام): "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "(1).

فأسّسوا منهاجاً متكاملاً للفقيه الشيعي على مدى قرنين من الزمان، واستعدّوا لمسألة الغيبة التي طالما تحدّثوا عنها، فوضعوا القواعد العامّة للفقيه كالاستصحاب، والبراءة الشرعيّة، وقاعدة اليد، والترجيح بين الروايات، والعمل بخبر الواحد، وغير ذلك من القواعد المبثوثة في مرويّاتهم، والتي قدّمت من قبلهم للفقيه الشيعي ليدور رحى الاجتهاد عليها.

وبعد أن تمّت الغيبة، وتورّم الفقه الشيعي بتراث ثر من الاحاديث والروايات والقواعد العامّة والخاصّة، وعلى مدى قرنين من الزمن، وبعد انتقال دستور القيادة من الائمّة إلى العلماء والفقهاء الذين اتفقوا جميعاً على انتقال مراسم القيادة إليهم، وإن اختلفوا في مساحة هذا الانتقال سعةً وضيقاً، بعد كلّ ذلك، جاء الفقيه الشيعي ليمارس دوره كنائب للامام، فوجد تراثاً ضخماً لا حاجة له معه بالرجوع إلى وسائل جديدة تؤدّى إلى الارباك والحيرة، فهو يحتاج فقط إلى الرجوع إلى ذلك التراث واستخراج الحكم الشرعي أو الوظيفة للمكلّف في مختلف الوقائع، ولقد تحدّث الشيخ الطوسي عن غزارة ذلك التراث فقال:

(أمّا بعد، فإنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الاماميّة ويستنزرونه وينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل، ويقولون: إنّهم أهل حشو وأهل مناقضة، وإنّ من ينفي القياس والاجتهاد (بالمعنى الخاص) لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الاصول، لانّ جلّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين، وهذا جهل منهم بمذاهبنا، وقلّة تأمّل لاصولنا، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أنّ جلّ ما ذكروه من المسائل موجودة في أخبارنا).

____________

(1) وسائل الشيعة: ج 27، ص 83، باب 8; الكافي: ج 1، ص 53.


الصفحة 452
ثمّ أضاف: (وأمّا ما كثّروا به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلاّ وله مدخل في اُصولنا ومخرج على مذاهبنا، لا على وجه القياس، بل على طريقة توجب علماً يجب العمل به ويسوغ الوصول إليها من البناء على الاصل وبراءة الذمّة وغير ذلك)(1).

إذن، فالشيعة لم يقعوا في حيرة وارباك نتيجة الغيبة كما حدث لغيرهم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

صلاحيّات الفقيه الشيعي


لقد توهم الكثير من الكتّاب والمؤلّفين عندما شاهدوا ومن بداية الغيبة إلى يومنا هذا انخراط فقهاء الشيعة في التوجّه السياسي، توهموا بتعليل ذلك بالتخلّي عن النظرة الاماميّة (الامامة، النص، الوصيّة) أو على الاقل التنازل عن بعض تلك الشروط، ولكن هذا الكلام خال من الدقّة تماماً، ونابع من عدم فهم الوظيفة الاساسيّة لفقهاء الامامية وصلاحيّاتهم، والعمل مع الدولة لا يعني شرعيّة تلك الدولة، ولهذا نجد علماء الطراز الامامي الاوّل أرسوا أصالة الفكر السياسي الشيعي بقواعد وجوب حفظ النظام، مع أنّهم لم يعطوا الشرعيّة للحكومات.

فلقد حمل الفكر الشيعي الامامي للفقهاء دساتير للعمل مع الحكومتين العادلة والظالمة، فرسالة الامام علي (عليه السلام) إلى مالك الاشتر تعتبر برنامج عمل مع الحكومة العادلة، وفي مقابل ذلك رسالة الامام الصادق (عليه السلام) لعبدالله النجاشي التي هي برنامج عمل مع الحكومة الظالمة، وهذا الذي أعطى للفكر الشيعي أسبقيّة في التحدّث والكتابة في الاحكام السلطانيّة، وكيفيّة التعامل مع السلطان، فنجد الحسن بن أحمد ابن المغيرة البوشنجي أبا عبدالله، وهو شيخ بعض مشايخ النجاشي، وشيخ القميين محمّد بن الحسن بن أحمد بن داود القمّي (المتوفى سنة 368 هـ) أستاذ الشيخ المفيد،

____________

(1) المبسوط: ج 1، ص 1.


الصفحة 453
نجدهم قد صنّفوا وكتبوا كتباً خاصّة في التعامل مع السلطان(1).

بالاضافة إلى الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن الحسين فله كتاب باسم "السلطان"(2).

وهكذا المفيد والمرتضى والطوسي، فهؤلاء كتبوا للعمل مع السلطان كتباً خاصّة.

يقول أحمد عنايت: كان متكلّمو الشيعة وفقهاؤهم قد بذلوا ذكاءً ملحوظاً في أفضل جزء من تاريخ التشيّع في إيجاد طرق عمليّة للتوافق مع حكّام العصر، وذلك حتّى يضمنوا بقاء أتباعهم وأمنهم(3).

ولهذا تقول دروينا كرافولكس المستشرقة الالمانيّة: إنّ الاماميّة الاثني عشريّة من بين الشيعة اتخذوا موقفاً معتدلاً تجاه الاكثريّة السنيّة الموجودة في السلطة من خلال الخلافة، فقد وافقوا على التعايش والخضوع للخلافة السنيّة القائمة(4).

فانخراط فقهاء الشيعة كان الهدف منه ليس الغاء (الامامة، النص، العصمة) كما تصوّر الكاتب، بقدر ضرورة الانخراط لاغراض مختلفة، ولهذا يقول فؤاد إبراهيم:

وتظهر لنا التطوّرات اللاحقة أنّ انخراط قسم من علماء الشيعة في الدولة الصفويّة لم يتم بمعزل عن وعي الامامة الالهيّة... ولذلك لا تغدو مشاركة العلماء في الدولة الصفويّة في عهودها الاولى كونها استجابة لظروف خارجيّة موضوعيّة تقتضي تحصين سيرورة وصيرورة الجماعة الشيعيّة هنا، والذي من شأنه تبرير التوسل بالدولة والتماهي فيها(5).

ولقد أخطأ أحمد الكاتب عندما جعل تدخل الفقيه الشيعي في بعض مناحي الحياة

____________

(1) الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج 15، ص 345.

(2) الفهرست للطوسي: ص 237، رقم 710.

(3) الفكر الاسلامي المعاصر: ص 59.

(4) مجلّة الاجتهاد: عدد 3، ربيع 1989، ص 115، وهي مجلّة تعنى بقضايا الدين والمجتمع، تصدر عن دار الاجتهاد بيروت.

(5) الفقيه والدولة: ص 146.