«والله، ما فعلنا الذي فعلنا معه عن عداوة، ولكن استصغرناه، وخشينا أن لا يجتمع عليه العرب، وقريش؛ لما قد وترها»(27).
وقال لابن عباس أيضاً:
«كرهت قريش أن تجمع لكم النبوة والخلافة، فتجفخوا الناس جفخاً(28)، فنظرت قريش لأنفسها، فاختارت، ووفقت، فأصابت»(29).
وفي موقف آخر قال الخليفة له: «استصغر العرب سنه».
كما أنه قد صرح أيضاً بأن قومه قد أبَوْه(30).
وفي مناسبة أخرى قال له:
«لا، ورب هذه البنية، لا
وقال أيضاً لابن عباس:
«إن علياً لأحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله..»(32).
قريش في كلمات علي عليه السلام:
وإذا رجعنا إلى كلمات أمير المؤمنين [عليه الصلاة والسلام] نفسه، فإننا نجده يحمل قريشاً مسؤولية كل المصائب والرزايا والبلايا التي واجهها هو وكل المخلصين بعد وفاة النبي [صلى الله عليه وآله] ولا سيما فيما يرتبط بأمر الخلافة، وما نشأ عن ذلك من تمزق، في جسم الأمة، وتوزع في أهوائها. ثم ما كان من تقاتل وتناحر، وانحراف عن خط الإسلام وعن مفاهيمه وأحكامه؟ وإلى يوم يبعثون ونذكر من كلماته [عليه السلام] هنا، ما يلي:
قال [عليه السلام]: «اللهم أخز قريشاً، فإنها منعتني
وعنه [عليه السلام]: «فجزى قريشاً عني الجوازي، فإنهم ظلموني حقي، واغتصبوني سلطان ابن أمي»(34).
وفي نهج البلاغة وغيره قال [عليه السلام]: «اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثم قالوا: ألا في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه».
وزاد في نص آخر: «فاصبر كمداً، أو فمت متأسفاً حنقاً، وأيم الله لو استطاعوا أن يدفعوا قرابتي ـ كما قطعوا سنتي ـ لفعلوا، ولكن لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً»(35).
وفي خطبة له [عليه السلام]، يذكر فيها فتنة بني أمية، ثم ما يفعله المهدي [عليه السلام] بهم، يقول:
وعنه [عليه السلام]: حتى لقد قالت قريش: «إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب»(37).
وقال عليه السلام: «إني لأعلم ما في أنفسهم، إن الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر في صلاح شأنها، فتقول: إن وُليَّ الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبداً. وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش»(38).
وقال [عليه السلام]: «إن العرب كرهت أمر محمد [صلى الله عليه وآله]، وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه، حتى قذفت زوجته، ونفرت به ناقته، مع عظيم إحسانه إليها، وجسيم مننه عندها، وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته.
ثم فتح الله عليها الفتوح؛ فأثرت بعد الفاقة، وتمولت بعد الجهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً، وقالت: لولا أنه حق لما كان كذا.
ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأكد عند الناس نباهة قوم، وخمول آخرين، فكنا نحن ممن خمل ذكره، وخبت ناره، وانقطع صوته وصيته، حتى أكل الدهر علينا وشرب..» (40).
وفي نص آخر عنه [عليه السلام] أنه قال: «فلما رق أمرنا طمعت رعيان البهم من قريش فينا»(41).
وعنه [عليه السلام]: «يا بني عبد المطلب، إن قومكم عادوكم بعد وفاة النبي، كعداوتهم النبي في حياته، وإن يطع
وعنه صلوات الله وسلامه عليه: «ما رأيت منذ بعث الله محمداً رخاء، لقد أخافتني قريش صغيراً، وأنصبتني كبيراً، حتى قبض الله رسوله، فكانت الطامة الكبرى»(43).
وقال له رجل يوم صفين: «لم دفعكم قومكم عن هذا الأمر، وكنتم أعلم الناس بالكتاب والسنة؟!».
فقال [عليه السلام]: «فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين»(44).
كما أنه [عليه السلام] قد أجاب على رسالة من أخيه عقيل: «فإن قريشاً قد اجتمعت على حرب أخيك اجتماعها على حرب رسول الله [صلى الله عليه وآله] قبل اليوم، وجهلوا حقي، وجحدوا فضلي، ونصبوا لي الحرب، وجدوا في إطفاء نور الله، اللهم فاجز قريشاً عني بفعالها، فقد قطعت رحمي، وظاهرت علي..».
وفي بعض المصادر ذكر [العرب] بدل
وأما بالنسبة لمعاوية الخليفة الأموي، فقد أخبر [عليه السلام]: أنه لو استطاع لم يترك من بني هاشم نافخ ضرمة(46).
وبعد.. فإن الامام الحسن [عليه السلام] قد ذكر في خطبة له أن قريشاً هي المسؤولة عن موضوع إبعاد أهل البيت [عليهم السلام] عن الخلافة، فراجع(47).
بعض ما قاله المعتزلي هنا:
هذا.. وقد أكد المعتزلي هذه الحقيقة في مواضع من شرحه لنهج البلاغة. ونحن نذكر هنا فقرات من كلامه، ونحيل من أراد المزيد على ذلك الكتاب، فنقول:
قال المعتزلي: «إن قريشاً اجتمعت على حربه منذ بويع،
وقال: «إنه رأى من بغض الناس له، وانحرافهم عنه، وميلهم عليه، وثوران الأحقاد التي كانت في أنفسهم، واحتدام النيران التي كانت في قلوبهم، وتذكروا الترات التي وترهم فيما قبل بها، والدماء التي سفكها منهم، وأراقها.
إلى أن قال:
وانحراف قوم آخرين عنه للحسد الذي كان عندهم له في حياة رسول الله [صلى الله عليه وآله]، لشدة اختصاصه له، وتعظيمه إياه، وما قال فيه فأكثر من النصوص الدالة على رفعة شأنه، وعلو مكانه، وما اختص به من مصاهرته وأخوّته، ونحو ذلك من أحواله.
وتنكّر قوم آخرين له، لنسبتهم إليه العجب والتيه ـ كما زعموا ـ واحتقاره العرب، واستصغاره الناس، كما عددوه عليه، وإن كانوا عندنا كاذبين، ولكنه قول قيل، وأمر ذكر..»(49).
وقال: «فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها، حين بويع بالخلافة، بعد وفاة رسول الله [صلى الله عليه وآله] بخمس
«فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه [صلى الله عليه وآله] من إظهار ما في النفوس، وهيجان ما في القلوب، حتى إن الأخلاف من قريش، والأحداث والفتيان، الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم، فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله، وتقاعست من بلوغ شأوه»(50).
وقال: «اجتهدت قريش كلها، من مبدأ الأمر في إخمال ذكره، وستر فضائله، وتغطية خصائصه، حتى مُحي فضله ومرتبته من صدور الإسلام»(51).
وقال: «إن قريشاً كلها كانت تبغضه أشد البغض..
إلى أن قال:
«ولست ألوم العرب، ولا سيما قريشاً في بغضها له، وانحرافها عنه، فإنه وترها، وسفك دماءها، وكشف القناع في
هذا وقد أشار إلى بغض قريش ومنابذتها له في مواضع عديدة أخرى من كتابه، فليراجعها من أراد(53).
واستقصاء النصوص الدالة على هذا الأمر غير متيسر، بل هو متعذر، بسبب كثرته وتنوعه، وتفرقه في المصادر التي تعد بالمئات.
وبعد ما تقدم:
فإن الوقت قد حان للوقوف على حقيقة موقف قريش، ومن تابعها، مما جرى في قضية [الغدير]، والظرف الذي كان يواجهه الرسول الأعظم [صلى الله عليه وآله] مع هؤلاء، في هذه المناسبة بالذات، فإلى الفصل التالي.
الفصل الثالث
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله يعرفهم
الرسول صلى الله عليه وآله والمتآمرون:
ونحن إذا رجعنا إلى كلمات الرسول الأعظم [صلى الله عليه وآله]، المنقولة لنا بصور متعددة، وفي موارد مختلفة، فإننا نجد، أنه [صلى الله عليه وآله] كان يؤكد على معرفته بنوايا المتآمرين من قومه قريش تجاه أهل بيته عموماً، وأمير المؤمنين علي [عليه السلام] بصورة خاصة، وقد تقدم عنه [صلى الله عليه وآله] بعض من ذلك، وما تركناه أكثر من أن يحاط به بسهولة، لكثرته، وتنوعه.
ويكفي أن نذكر هنا: أن تأخيره صلى الله عليه وآله إبلاغ ما أنزل إليه في شأن الإمامة والولاية، قد كان بسبب المعارضة الكبيرة التي يجدها لدى قريش، التي كانت لا تتورع عن اتهام شخص الرسول [صلى الله
وقد صرحت طائفة من النصوص المتقدمة بأن قريشاً كانت رائدة هذا الاتجاه، وهي التي تتصدى وتتحدى، وإليك نموذجاً أخر من تصريحات الرسول [صلى الله عليه وآله] الدالة على معرفته بهؤلاء المتآمرين، ووقوفه على حقيقة نواياهم في خصوص هذا الأمر. وبالنسبة لقضية الغدير بالذات.
أمثلة وشواهد:
1ـ قال الطبرسي: «قد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر، وأبي عبدالله [عليهما السلام]: أن الله أوحى إلى نبيه [صلى الله عليه وآله]: أن يستخلف علياً [عليه السلام]؛ فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه؛ فأنزل الله هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره الله بأدائه..»(54).
والمراد بـ «هذه الآية» قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ..}(55).
2ـ عنه [صلى الله عليه وآله]: أنه لما أُمر بإبلاغ أمر الإمامة قال:
«إن قومي قريبو عهد بالجاهلية، وفيهم تنافس وفخر، وما منهم رجل إلا وقد وتره وليّهم، وإني أخاف، فأنزل
3ـ عن ابن عباس إنّه [صلى الله عليه وآله] قال في غدير خم:
«إن الله أرسلني إليكم برسالة، وإني ضقت بها ذرعاً، مخافة أن تتهموني، وتكذبوني، حتى عاتبني ربي بوعيد أنزله علي بعد وعيد..»(57).
4ـ عن الحسن أيضاً:
«إن الله بعثني برسالة؛ فضقت بها ذرعاً، وعرفت: أن الناس مكذبي، فوعدني لأبلغنّ أوليعذبني، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ..}»(58).
5ـ عن ابن عباس، وجابر الأنصاري، قالا: أمر الله تعالى محمداً [صلى الله عليه وآله]: أن ينصب علياً للناس، فيخبرهم بولايته، فتخوف النبي [صلى الله عليه وآله] أن يقولوا: حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك فأوحى الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ..}(59).
«أيها الناس، إنه قد كرهت تخلفكم عني حتى خُيّل إلي: أنه ليس شجرة أبغض إليكم من شجرة تليني..»(60).
7ـ ويقول نص آخر: إنه لما أمر [صلى الله عليه وآله] بنصب علي [عليه السلام]:
«خشي رسول الله [صلى الله عليه وآله] من قومه، وأهل النفاق، والشقاق: أن يتفرقوا ويرجعوا جاهلية، لِما عرف من عداوتهم، ولِما تنطوي عليه أنفسهم لعلي [عليه السلام] من العدواة والبغضاء، وسأل جبرائيل أن يسأل ربّه العصمة من الناس».
ثم تذكر الرواية:
«أنه انتظر ذلك حتى بلغ مسجد الخيف. فجاءه جبرائيل، فأمره بذلك مرة أخرى، ولم يأته بالعصمة، ثم جاء مرة أخرى في كراع الغميم ـ موضع بين مكة والمدينة ـ وأمره
ثم لما بلغ غدير خم جاءه بالعصمة».
فخطب [صلى الله عليه وآله] الناس، فأخبرهم:
«أن جبرائيل هبط إليه ثلاث مرات يأمره عن الله تعالى، بنصب علي [عليه السلام] إماماً ووليّاً للناس»..
إلى أن قال:
«وسألت جبرائيل: ان يستعفي لي عن تبليغ ذلك إليكم ـ أيها الناس ـ لعلمي بقلة المتقين، وكثرة المنافقين، وإدغال الآثمين، وختل المستهزئين بالإسلام، الذين وصفهم الله في كتابه بأنهم: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}(61)، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}(62) وكثرة أذاهم لي في غير مرّة، حتى سمّوني أُذناً، وزعموا: أنّي كذلك لكثرة ملازمته إيّاي، وإقبالي عليه، حتى أنزل الله عز وجل في ذلك قرآناً: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}(63).
إلى أن قال:
ولو شئت أن أسميهم بأسمائهم لسميت، وأن أومي إليهم بأعيانهم لأومأت، وأن أدل عليهم لفعلت. ولكني والله في أمورهم تكرّمت»(64).
8 ـ عن مجاهد، قال: «لما نزلت: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ
«يا رب، إنما أنا واحد كيف أصنع، يجتمع عليّ الناس؟ فنزلت {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}»(65).
9ـ قال ابن رستم الطبري:
«فلما قضى حجّه، وصار بغدير خم، وذلك يوم الثامن عشر من ذي الحجة، أمره الله عز وجل بإظهار أمر علي؛ فكأنه أمسك لما عرف من كراهة الناس لذلك، إشفاقاً على الدين، وخوفاً من ارتداد القوم؛ فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ..}(66)».
10ـ وفي حديث مناشدة علي [عليه السلام] للناس بحديث الغدير، أيّام عثمان، شهد ابن أرقم، والبراء بن عازب، وأبو ذر، والمقداد، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال، وهو قائم على المنبر، وعلي [عليه السلام] إلى جنبه:
«أيها الناس، إن الله عز وجل أمرني أن أنصب لكم إمامكم، والقائم فيكم بعدي، ووصيي، وخليفتي، والذي فرض الله عز وجل على المؤمنين في كتابه طاعته، فقرب(67) بطاعته طاعتي، وأمركم بولايته، وإني راجعت ربّي خشية طعن
وعند سليم بن قيس:
«إن الله عز وجل أرسلني برسالة ضاق بها صدري، وظننت الناس يكذبوني، وأوعدني..»(69).
11ـ وعن ابن عباس: لما أمر النبي [صلى الله عليه وآله] أن يقوم بعلي ابن أبي طالب المقام الذي قام به؛ فانطلق النبي [صلى الله عليه وآله] إلى مكة، فقال:
«رأيت الناس حديثي عهد بكفر بجاهلية ومتى أفعل هذا به، يقولوا، صنع هذا بابن عمّه. ثم مضى حتى قضى حجة الوداع»(70).
وعن زيد بن علي، قال: لما جاء جبرائيل بأمر الولاية ضاق النبي [صلى الله عليه وآله] بذلك ذرعاً، وقال:
«قومي حديثو عهد بجاهليّة، فنزلت الآية»(71).
فقال: إن أمتي حديثو عهد بالجاهلية.
فنزل عليه: إنها عزيمة لا رخصة فيها، ونزلت الآية: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ..}(72)».
13ـ وجاء في رواية عن الإمام الباقر [عليه السلام]: أنه حين نزلت آية إكمال الدين بولاية علي [عليه السلام]:
«قال عند ذلك رسول الله: إن أمتي حديثو عهد بالجاهلية، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي، يقول قائل، ويقول قائل. فقلت في نفسي من غير أن ينطلق لساني، فأتتني عزيمة من الله بتلةً أوعدني: إن لم أبلغِّ أن يعذبني. فنزلت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}(73)».
وفي بعض الروايات:
أنه [صلى الله عليه وآله] إنما أخر نصبه [عليه السلام] فَرَقاً من الناس، أو لمكان الناس(74).
ممن الخوف يا ترى:
14ـ عن الحسن: «ضاق بها ذرعاً، وكان يهاب قريشاً. فأزال الله بهذه الآية تلك الهيبة»(75).
يريد: أن الرسول [صلى الله عليه وآله] ضاق ذرعاً وخاف قريشاً بالنسبة لبلاغ أمر الإمامة، فأزال الله خوفه بآية: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
المتآمرون:
هذا غيض من فيض مما يدل على دور المتآمرين من قريش، ومن يدور في فلكها في صرف الأمر عن أمير المؤمنين علي [عليه السلام]، وتصميمهم على ذلك، لأسباب أشير إلى بعضها في ما نقلناه سابقاً من كلمات ونصوص.
وفي مقدمة هذه الأسباب حرص قريش على الوصول إلى السلطة، وحقدها على أمير المؤمنين [عليه السلام] لما قد وترها في سبيل الله والدين.
وكل ما تقدم يوضح لنا السر فيما صدر من هؤلاء الحاقدين من صخب وضجيج، حينما أراد الرسول [صلى الله عليه وآله] في منى وعرفات: أن يبلغ الناس أمر الإمامة، ودورها،
فإنهم تخوفوا من أن يكون قد أراد تنصيب علي [عليه السلام] إماماً للناس بعده. فكان التصدي منهم. الذي انتهى بالتهديد الإلهي. فاضطر المتآمرون إلى السكوت في الظاهر على مضض، ولكنهم ظلوا في الباطن يمكرون، ويتآمرون، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(76).
فإلى توضيح ذلك فيما يلي من صفحات، وما تحويه من مطالب.
الفصل الرابع
الموقف ـ الفضيحة
الصخب والغضب:
لقد ذكرت الروايات الصحيحة: أن رسول الله [صلى الله عليه وآله]، قد خطب الناس في حجة الوداع؛ في عرفة، فلما أراد أن يتحدث في أمر الإمامة وذكر حديث الثقلين(77)، ثم ذكر عدد الأئمة، وأنهم اثنا عشر، واجهته فئات من الناس بالضجيج والفوضى، إلى حد أنه لم يتمكن من إيصال كلامه إلى الناس.
وقد صرح بعدم التمكن من سماع كلامه كل من: أنس، وعبدالملك بن عمير، وعمر بن الخطاب، وأبي جحيفة، وجابر بن سمرة(78) ـ ولكن رواية هذا الأخير، كانت أكثر وضوحاً.
1ـ في مسند أحمد؛ حدّثنا عبدالله، حدثني أبو الربيع الزهراني، سليمان بن داود، وعبيدالله بن عمر القواريري، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، قالوا: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن جابر بن سمرة، قال: خطبنا رسول الله [صلى الله عليه وآله] بعرفات ـ وقال المقدمي في حديثه: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وآله] يخطب بمنى.
وهذا لفظ حديث أبي الربيع: فسمعته يقول: لن يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً، حتى يملك اثنا عشر كلهم ـ ثم لغط القوم، وتكلموا ـ فلم أفهم قوله بعد [كلّهم]؛ فقلت لأبي: يا أبتاه، ما بعد كلّهم؟.
قال: «كلّهم من قريش»..
وحسب نص النعماني: «فتكلم الناس، فلم أفهم فقلت لأبي..»(79).
قال: «فجعل الناس يقومون ويقعدون».
زاد الطوسي: «وتكلم بكلمة لم أفهمها، فقلت لأبي، أو لأخي»..(80).
وفي حديث آخر عن جابر بن سمرة صرّح فيه: «أن ذلك قد كان في حجة الوداع»(81).
ومن المعلوم: أن النبي صلى الله عليه وآله لم يحج إلا هذه الحجَّة..(82) 3ـ عن جابر بن سمرة، قال: «خطبنا رسول الله [صلى الله عليه وآله] بعرفات؛ فقال: لا يزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً، ظاهراً على من ناواه حتى يملك اثنا عشر، كلهم ـ قال: فلم أفهم ما بعد ـ قال: فقلت لأبي: ما قال بعد كلّهم؟ قال: «كلّهم من قريش»(83).
وعن أبي داود وغيره:
ـ وإن لم يصرّح بأن ذلك كان في عرفات ـ زاد قوله: كلّهم تجتمع عليه الأمة، فسمعت كلاماً من النبي [صلى الله عليه وآله] لم أفهمه، فقلت
وفي لفظ آخر: «كلهم يعمل بالهدى ودين الحق»(85).
وفي بعض الروايات:
ثم أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟
قال: قال: «كلهم من بني هاشم»(86).
4ـ وذكر في نص آخر: أن ذلك كان في حجة الوداع، وقال:
ثم خفي عليّ قول رسول الله [صلى الله عليه وآله]، وكان أبي أقرب إلى راحلة رسول الله [صلى الله عليه وآله] مني؛ فقلت: يا أبتاه، ما الذي خفي عليّ من قول رسول الله [صلى الله عليه وآله]؟!
قال: فأشهد على أبي إفهام أبي إيّاي: قال: «كلهم من قريش»(87).
5ـ وبعد أن ذكرت رواية أخرى عنه حديث أن الأئمة اثنا عشر قال: ثم تكلم بكلمة لم أفهمها، وضج الناس؛ فقلت لأبي: ما قال؟ (88).
6ـ ولفظ مسلم عن جابر بن سمرة، قال: انطلقت إلى رسول الله [صلى الله عليه وآله]، ومعي أبي؛ فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة؛ فقال كلمة صمّنيها الناس.
فقلت لأبي: ما قال؟
قال: «كلهم من قريش».
وعند أحمد وغيره:
فقلت لأبي ـ أو لإبني ـ: ما الكلمة التي أصمّنيها الناس؟!. قال: «كلهم من قريش»(89).
فقال: قال: «كلّهم من قريش، وكلهم لا يُرى مثله»(90).
8 ـ ولفظ أبي داود: فكبر الناس، وضجوا، ثم قال كلمة خفية.. (91).
ولفظ أبي عوانة:
فضج الناس. وقد قال النبي [صلى الله عليه وآله] كلمة خفيت عليّ.. (92).
وعلى كل حال.. فإن حديث الاثني عشر خليفة بعده [صلى الله عليه وآله]، والذي قال فيه [صلى الله عليه
إلفات النظر إلى أمرين:
وقبل أن نواصل الحديث، فيما نريد التأكيد عليه، فإننا نلفت النظر إلى أمرين.
الأول: المكان..