نعم يحدّثنا الإصحاح الثامن من سفر نحميا انّه لمّا رجعت بنو اسرائيل من سبي بابل اجتمعوا، وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب اسرائيل فأتى عزرا الكاتب بالشريعة أمام الجماعة من الرجال والنساء وكلّ فاهم ما يسمع وقرأ فيها من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء والفاهمين، وكانت آذان كلّ الشعب نحو سفر الشريعة.
قال وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع الشعب والكهنة واللاويين إلى عزرا الكاتب ليفهمهم كلام الشريعة، فوجدوا مكتوباً في الشريعة التي أمر بها الربّ عن يد موسى أنّ بني إسرائيل في مظال فى العيد في الشهر السابع فأخذوا في عمل المظال، الأمر الذي يدلّك على انّه لم يكن عندهم نسخة من التوراة سوى التي بيد عزرا، وهل هذه هي النسخة التي أوجدها حلفيا، أو الأصلية التي كتبها موسى؟ وأين التي كتبها موسى؟ أو ثالثة أوجدها عزرا؟ خلاف بين أهل الكتاب، قال (اكليمنس
____________
1- وممّا يوضّح لك ذلك ما جاء في الباب الأوّل من الكتاب الأوّل للمقابيين ما ملخّصه (لما فتح انتيوكس) ملك ملوك الافرنج اورشليم أحرق جميع نسخ كتب العهد العتيق التي حصلت له من أي مكان بعدما قطعها وأمر ان من يوجد عنده نسخة من نسخ كتب العهد العتيق أو يؤدي رسم الشريعة يقتل وكان تحقيق هذا الأمر في كل شهر فكان يقتل مّن وجد عنده نسخة من كتب العهد العتيق أو ثبت انّه أدى رسماً من رسوم الشريعة وتعدم تلك النسخ، قيل وكانت هذه الحادثة قبل ميلاد المسيح بمائة واحدى وستين سنة وانّها امتدت إلى ثلاث سنين ونصف.
وتقول العبرانية انّ الزمان من الطوفان إلى ولادة إبراهيم(عليه السلام) مئتان واثنتان وتسعون سنة، وتقول اليونانية الف واثنتان وسبعون سنة، وتقول السامرية تسعمائة واثنين واربعون سنة، وكتب (هنري واسكات) أيضاً
واعلم انّ النزاع في معرفة من غير التوراة قائم على قدم وساق منذ قرون عديدة.
قال في إظهار الحق بعد ذكر اختلاف العبرانية والسامرية في أمر موسى ببناء الهيكل على جبل عيبال أو على جبل جرزيم، فالعبرانية تقول: (فإذا
وقال (داود) من علماء كاتلك في صفحة 18 من كتابه المطبوع سنة 1841 إنّ ملحدي الشرق حرفوها، وعلى كلّ حال، فالتحريف واقع والمحرف احد من ذكرناه، إمّا السبب الداعي للتحريف فلا ريب انّه غير محصور، وقد أشرنا إلى بعضه آنفاً، والمنقول عن المجلد الأوّل من تفسير
وملخّصه انّ التوراة التي جاء بها موسى من عند الله تعالى التي هي عبارة عن الأسفار الخمسة كما يزعمون قد ثبت من أسفار العهد العتيق المعتبر عندهم انّ موسى كتبها ووضعها بجانب تابوت عهد الرب قبل وفاته، وانّها ضاعت منهم في أيام خروجهم عن طاعة الله وعكوفهم على عبادة الأصنام وتخريب بيت عهد الرب، وإنّ ما ادّعاه حلفيا من وجودها في البيت انّما هو زعم منهم لم يثبت بحجّة والاعتبار ينفيه، ثمّ انّ هذه التي أتى حلفيا بها ثبت أيضاً انّها ضاعت في سبي بابل، وإنّ ما ادعوه من إتيان عزرا بها انّما هي دعوى منهم لم تثبت ببرهان، ثم انّ هذه التي اتى بها عزرا أيضاً ثبت انّها ذهبت منهم في حادثة (انتيوكس) ملك ملوك الافرنج، وإنّ هذه التي هي بأيديهم انّما هي مجموعة ألّفها المؤلفون فأخطأوا وأصابوا ومع ذلك لم تسلم من أيدي المحرّفين والمغيرين وانهم اليهود بزعم المسيحيين، وإنّ الغرض من ذلك عنادهم، وانّه في سنة 130 من السنين المسيحية فافهم.
الفصل الثاني
وفيه الجواب على السؤال الرابع والخامس وهما:
(1) هل يوجد إخبار في التوراة قبل تغيّرها تصرّح بأنّ عيسى نبي لا إله؟
(2) لماذا جحد اليهود نبوّة عيسى بعد تواتر الأخبار عن نبيّهم موسى بأنّه سيجيء بعده هذا النبي؟ فهنا بحثان:
"الأوّل" قد علمت ممّا تقدّم انّه ليس لنسخة التوراة الصحيحة السالمة من التحريف بأيدي الناس منها عين ولا أثر، ويشهد لذلك صريحاً، مضافاً لما اسلفناه الكلمة السادسة والثلاثون من الإصحاح الثالث والعشرين من سفر (ارميا) من أسفار العهد العتيق وهذا لفظها "أمّا وحي الربّ فلا تذكروه بعد لأنّ كلمة كلّ إنسان تكون وحيه، إذ قد حرفتم كلام الإله الحي ربّ الجنود إلهاً"، والكلمة الثامنة من الإصحاح الثامن من "ارميا" وهذا لفظها: "كيف تقولون نحن حكماء، وشريعة الرب معنا، حقّاً انّه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب"، والكلمة الخامسة عشر إلى السادسة عشر من الإصحاح التاسع والعشرين من سفر اشعيا من أسفار العهد العتيق وهذا
أمّا المنقول لنا عنها بالأسانيد إلى النبي أو إلى الأئمة المعصومين سلام الله عليهم جميعاً من كلماتها الدالة على ما طلبت من أن عيسى نبي لا إله لا تعتبره النصارى حجّة عليهم، ولا تأخذه بيد القبول منّا ولا منهم، وماذا تريد ويريدون من التوراة التي لم تغيَّر؟ وهذه التوراة الموجودة بأيديهم، بل العهد العتيق والجديد كلاهما مع ما طرأ عليهما من التحريف والتبديل يفصحان لك عمّا أردت، ويصرحان بوحدانية الله وانّ المسيح رسولا لا إله، وحسبك بهما دليلا على ما طلبت كافياً، وبرهاناً على ما أردت شافياً، أليس بقاؤها بعد التحريف والتغيير مع مضادتها لما عليه من التثليث دليل على انّها بلغت من الكثرة مبلغاً لم يتمكّنوا من تغييرها؟ وحلّت من الصحّة محلاً لم يقدروا معه على تحريفها وتبديلها، وهذه هي أوردها إليك بألفاظها، كاشفاً لك عن مواضعها، لتعلم انّا لا نقول إلاّ الحق ولا نهدي إلاّ إلى سواء السبيل.
قالت التوراة في الكلمة الرابعة من الإصحاح السادس من سفر التثنية: "اسمع يا اسرائيل الرب إلهنا ربّ واحد" وقال الزبور في الكلمة الثالثة
وإذا شئت ان ترجع إلى القول الفصل والحكم العدل من القرآن المنزّل على محمّد(صلى الله عليه وآله) فإليك آية مائة وواحد وسبعون من سورة النساء:
(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحق انّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته) التي حصل بسببها انّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون "وروح منه"
وآية خمس وسبعون من سورة المائدة (ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل وأمّه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر انّى يؤفكون).
وآية اربع وستون من سورة آل عمران (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون).
هذا هو القول الفصل، هذا هو الكلام الجزل، هذا هو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (فبشّر عبادي الذين يستمعون القول فيتّبعون احسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب).
( البحث الثاني)
من الغريب ان يسأل لماذا جحد اليهود نبوّة عيسى بعد تواتر الأخبار عن نبيّهم موسى بأنّه سيجيء بعده هذا النبي، وهل تواتر الأخبار أبلغ في الدلالة على نبوّته من المعجزات التي أظهرها، ثمّ متى صدق الناس كلهم بالأنبياء مع توفّر الأدلّة والإتيان بالبراهين القاطعة.
اعلم هداك الله إلى رشدك انّ الناس على قسمين خاصّة وعامّة، ولا ريب انّ القسم الثاني تابع للأوّل غالباً، فمنه يأخذون وعلى رأيه يعتمدون.
ثمّ اعلم انّ للخاصّة مفسدتين عظيمتين ومهلكتين كبيرتين كلّما نجا أحدهم من مهلكة وقع في أخرى، وهما الحسد والاستكبار، بهما هلكت الأمم ومنهما ضلّت، قال الله تعالى فيما قصّ علينا من سورة البقرة بشأن ابليس:
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)(2).
وقال تعالى فيما قصّ علينا من سورة المؤمنون بشأن نوح:
____________
1- المؤمنون: 44.
2- آية 34.
وقال تعالى فيما قصّ علينا منها بشأن غيره (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة واترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلاّ بشر مثلكم يأكل ممّا تأكلون منه ويشرب ممّا تشربون، ولئن اطعتم بشراً مثلكم انّكم إذا لخاسرون)(2).
وقال تعالى فيما قصّ علينا منها بشأن موسى وهارون:
(ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملائه فاستكبروا وكانوا قوماً عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)(3).
وقال تعالى فيما قصّ علينا من سورة الإسراء بشأن محمّد(صلى الله عليه وآله) (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل فأبى أكثر الناس إلاّ كفورا، وقالوا لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في
____________
1- آية 23 ـ 25.
2- آية 32 ـ 33.
3- آية 45 ـ 47.
وهذا الصدّيق الأكبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) يحدّثنا بشأن محمّد(صلى الله عليه وآله) وقريش بقوله:
"ولقد كنت معه(صلى الله عليه وآله) لمّا أتاه الملأ من قريش، فقالوا له: يا محمّد انّك قد ادّعيت عظيماً لم يدّعه آباؤك، ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمراً ان اجبتنا إليه وأريتناه علمنا انّك نبي ورسول، وان لم تفعل علمنا انّك ساحر كذّاب، فقال(صلى الله عليه وآله): وما تسألون؟ قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك، فقال(صلى الله عليه وآله): إنّ الله على كلّ شيء قدير، فإن فعل الله لكم ذلك اتؤمنون، وتشهدون بالحق؟ قالوا: نعم، قال: فإنّي سأريكم ما تطلبون، وإنّي لأعلم انّكم لا تفيئون إلى خير، وإنّ فيكم مَن يطرح في القليب، ومَن يحزّب الأحزاب ثم قال(صلى الله عليه وآله): يا أيّتها الشجرة إن كنتِ تؤمنين بالله واليوم الآخر فتعلمين إنّي رسول الله فانقلعي بعروقك حتي تقفي بين يدي بإذن الله، والذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها، وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتّى وقفت بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله)مرفرفة، والقت بغصنها الأعلى على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه(صلى الله عليه وآله). فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا
____________
1- آية 89 ـ 95.
فتبين لك من هذا الكلام الشريف انصراف الناس عن الإيمان بالأنبياء، المسيح وغيره سبب العتو والاستكبار، وعلى هذا العتو نسلت القرون وبمرديات ذلك الاستكبار تهاوت، يتلو بعضها بعضاً والله تعالى يقول: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذ هم يجئرون، لا تجئروا اليوم انّكم منّا لا تبصرون، قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون، مستكبرين به سامرا تهجرون، أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آبائهم الأوّلين، أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون، أم يقولون به جنّة بل جاءهم
وان لم يقنعك في الوقوف على هذه الحقيقة إلاّ ما ينصّه الإنجيل من أمر عيسى، فلاحظ الكلمة الرابعة عشرة من الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متّى، والكلمة الخامسة عشرة من الإصحاح الواحد والعشرين منه، والكلمة السابعة عشرة من الإصحاح السابع والعشرين منه أيضاً، وفيه التصريح بأنّ اليهود أسلموه للصلب بزعم متّى حسداً.
وهذا هو السبب الذي منع النصارى ومشركي قريش في الصدر الأوّل من الإيمان بمحمّد(صلى الله عليه وآله)، ثمّ على هذا المنوال نسج المتأخّرون، وعلى ذلك الطريق حبّا بالرئاسة وإيثاراً للهوى ساروا، وهذه معجزاته آيات بيّنات باقية ما بقي الدهر ودائمة بدوام الله لم تبل الأيام جدَّتها، ولا أخلقت الحدثان نضارتها، ولا أثّرت فيها نزوات الملحدين، ولا غيّرت عليها افتراءات المفترين، قد أقعت البلغاء عن مجاراتها، وتقاعست الفصحاء عن مباراتها، واعترفت بالعجز بعد التحدّي والطلب، واقرَّت بالنقص بعد العناء والنصب، والله تعالى شأنه يناديهم بقوله:
(وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسوره من مثله وادعوا شهدائكم إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدّت للكافرين)(2).
____________
1- المؤمنون: 65 ـ 71.
2- البقرة: 23 ـ 24.
الفصل الثالث
نقرئك في هذا الفصل جملاً في أحوال الإنجيل ونسخه وناسخيه ليتبين لك الجواب على مسائلك الثلاث وهي (1) متى غُيّر الإنجيل؟، (2) ولماذا غُيّر؟، (3) ومَن غيّره؟ فاستمع لما يُتلى:
"الجملة الأولى" يحدّثنا الإنجيل على اختلاف نسخه انّه هو عبارة عن حكاية أحوال عيسى، وخطبه وكلماته، التي كان يسأل فيجيب بها، مبتدأ بذلك من حين ولادته إلى حين صلبه كما يزعمون، والحاكي لذلك على ما يُدّعى (متّى) تارة، (ومرقس) أخرى، (ولوقا) ثالثة، (ويوحنّا) رابعة، فالنسخ المشهورة للإنجيل بين أيدي أهل الكتاب إذاً أربع كما فصّلنا، ولا نحتاج في هذه الجملة لوضوحها إلى برهان.
"الجملة الثانية" هل يجب الاعتماد على نقل هؤلاء الأربعة والركون إليهم فيما حدّثوا ونقلوا عن المسيح(عليه السلام)؟ أو انّ مثلهم في ذلك مثل المؤرخين الذين ينقلون إلينا من أحوال محمّد(صلى الله عليه وآله) وسيرته وآياته ومعجزاته.
لا ريب بأن مثلهم في ذلك مثل سائر المؤرخين ونقلة الأخبار، فإذا كان
ويمكن أن أزيدك بياناً وأعينك على إيضاح الحق بنحو لا يبقى فيه مجال للشك، ولا مسرح للارتياب فاسمع واغتنم.
تحقيق علمي
اعلم انّ الأخبار المنقولة لنا في أحوال محمّد(صلى الله عليه وآله) وبيناته ومعجزاته من غير القرآن الكريم على أقسام منها ما هو متواتر، ومنها ما هو محفوف
أمّا ما كان من قبيل الأوّل والثاني، فلا ريب بوجوب تصديقه والعمل على طبقه، وأمّا ما كان من قبيل الثالث، فقد وقع الاختلاف فيه بين أهل العلم، فِمن قائل بوجوب التصديق، ومِنْ قائل بعدمه، وليس هنا موضع تحقيق الحق فيه.
وأمّا ما كان من قبيل الرابع، فلا ريب بعدم وجوب التصديق به، وكيف يجب التصديق بخبر لا نعرف صدقه من كذبه، ولا ندري خطأه من صوابه، ومن أعظم جريمة ممّن ادّعى على الله انّه قال شيئاً ولم يعلم انّه قاله، أو أمر عنه بشيء ولم يعلم انّه أمر به، وأعظم من ذلك جريمة وأكبر فرية مَن ادّعى على الله أو على أحد أنبيائه انّه قال شيئاً وهو يرى الأدلّة قائمة على انّه لم يقله، ويزعم انّه أمر بشيء وهو يرى البراهين قائمة على انّه لم يأمر به، والأناجيل المشهورة يا رعاك الله من هذا القسم، فإنّ القرائن قائمة والأدلّة مستفيضة على انّها ليست من عند الله، ولا هي من المسيح رسول الله وإنّما هي عن جماعة كتبوها في أحوال المسيح(عليه السلام) قامت الأدلّة على عدم صحّتها وإليك البيان:
"الجملة الرابعة" يحدّثنا التاريخ المسيحي انّ العهد الجديد ما صنفه المسيح ولا الحواريون، قال (لاردنر) في المجلد الثالث من تفسيره في
قال في الكلمة السادسة من الباب الأوّل من تلك الرسالة ما لفظه "ثم إنّي أعجب من أنّكم أسرعتم بالانتقال عمّن استدعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، وهو ليس بإنجيل، بل ان معكم نفراً من الذين يزعجونكم ويريدون أن يحرفوا إنجيل المسيح" فانّها مصرحة بوجود غير إنجيل المسيح، فإذا ضممت إليها ما أسلفناه من اختلاف هذه الأناجيل وتناقضها فيما بينها، لم يبق عندك شك انّ هذه الموجودة من ذاك، وهل يمكن التصديق بكتاب يشهد على المسيح وهو من أعاظم أنبياء الله ورسله بأنه ظالم(1) وكاذب(2) وشريب خمر(3)؟ وهل يختلج الريب بعد هذا بأنّه لا
____________
1- راجع الكلمة التاسعة والعشرين إلى الإحدى والثلاثين من الإصحاح التاسع عشر من (لوقا) لترى حديثه عن المسيح بارسال تلميذيه ليأتياه بالجحش وقوله لهما إن سألكما أحد فقولا له الرب محتاج إليه، أترى ان حاجته إليه تبيح له أخذه.
2- ترى في الكلمة الثامنة إلى الحادية عشرة من الإصحاح السابع من (يوحّنا) انّ المسيح قال لست أصعد إلى العيد ثم صعد أليس هذا كذب.
3- تجد في الإصحاح السابع من انجيل لوقا ما نصّه (جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً فتقولون به شيطان جاء ابن الانسان ـ يعني عيسى ـ يأكل ويشرب فتقولون هو ذا انسان أكول وشريب خمر).
وخلاصة ما حرَّرناه من هذه الجمل الأربع انّ هذه النسخ المشهورة بين أيدي المسيحيين المعبر عن أحدها بإنجيل (متّى) وعن الثانية بإنجيل (مرقس)، وعن الثالثة بإنجيل (لوقا)، وعن الرابعة بإنجيل (يوحنا)، إنّما هي كتب في أحوال عيسى(عليه السلام)اسندت لهؤلاء الأربعة ولم يثبت إسنادها إليهم، بل قد عرفت الشهادة من مؤرخيهم المعتضدة بالبرهان على نفيها عنهم، ولو فرض صحّة إسنادها إليهم، فما هي إلاّ كسائر كتب المؤرخين ورواياتهم التي قامت الأدلّة على عدم صحّتها وعدم صدقها، اللّهم إلاّ ما كان منها دالاّ على توحيد الله تعالى وكاشفاً عن انّ المسيح(عليه السلام)رسول من قِبَل الله، وانّه جاء مبشّراً بمحمّد(صلى الله عليه وآله)، فإنّ ذلك لقيام الأدلّة على صحّته مقبول وهو أقل قليل.
وفهم أيضاً من كلمة (بولس) السابعة انّه كان في أيّامه إنجيل يدعى انجيل (المسيح)، وانّ القوم كانوا بصدد تحريفه في ذلك الوقت، ولكن لا وجود له اليوم لا محرّفاً ولا بغير تحريف، ومع هذا البيان الشافي يسقط السؤال (متى غيّر الإنجيل، ولماذا غيّر، ومَن غيَّره) وذلك انّ السؤال عن