الصفحة 97
بالبخاري، فثار عليه المجلس و شغب عليه العامة.(1)

وقال القاسمي ـ وهو من أكابر علماء العامة ـ: إنّا نعلم أنّ البخاري قرئ للعرابين في واقعة التل الكبير (أي في مصر) فلم يلبثوا أن فشلوا ومزّقوا شرّ ممزق.(2)

الثاني:

إن الشيعة الإمامية لا يقولون بكفر الصحابة كلّهم ونفاقهم وخداعهم للّه ورسوله، كما انّهم لا يقولون بعدالة الصحابة جميعاً وأنّهم منزّهون سواء انغسموا في الفتنة أو جانبوها(3)، لكنّهم يقولون أنّ الصحابة كسائر الأمم وسائر من بُعث إليهم الأنبياء، خاضعون للمقاييس الإلهية ولما جاء به أنبياؤهم، فمن آمن بالله ورسوله وكُتبه وأحكامه وشرائعه وسار على هديها فهو المهتد، ومَن ضلّ عن ذلك فإنّما يضل عليها، وليست خصوصية الصحبة بعاصمة للمرء عن الفسق والانحراف وحتّى الكفر والنفاق كما هو صريح القرآن والسنة بوجود هؤلاء في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

وقد مرّ عليك استثناء الذهبي الصحابة من تناولهم بالجرح والتعديل.

وقال ابن عبدالبر في مقدمة استيعابه: ثبتت عدالة جميعهم.

وقال ابن الأثير في مقدمة أسد الغابة: والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك [أي ضرورة معرفة أنساب الرواة وأحوالهم] إلا في الجرح والتعديل، فانهم كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح.

وقال ابن حجر في الفصل الثالث، في بيان حال الصحابة من العدالة في مقدمة الإصابة: اتّفق أهل السنة على أنّ الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة.(4)

ونَقَلَ عن أبي زرعة أنه قال: إذا رأيت الرجلَ ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)

____________

1- مجلة الرسالة ـ السنة الخامسة، ص 403.

2- قواعد التحديث للقاسمي: 274.

3- انظر كتابه 1: 82 و تصريحه بأنهم حكموا بعدالة الصحابة جميعاً.

4- الاصابة 1: 18.


الصفحة 98
فاعلم أنّه زنديق.(1)

وهكذا دارت كلماتهم في هذه الحلقة المفرغة، فحكموا بعدالة جميع الصحابة وزندقة من ينتقصهم، مع أنّ القرآن المجيد أوّل من انتقص قسماً من الصحابة وفسّق بعضاً منهم، وصرّح بنفاق بعض، و و و...

قال تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذّ بهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم)(2)

وقد نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)(3) بإطباق أكثر المفسرين و أرباب أسباب النزول في الوليد بن عقبة.(4)

وفي الصحابة من أخبرالله عنهم بالإفك، وهم الذين رموا فراش رسول الله ـ أُمّ المؤمنين عائشة أو أمّ المؤمنين مارية القبطية ـ بالإفك، فقال تعالى (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرّاً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولّى كبره منهم له عذاب عظيم)(5).

ومنهم من تركوا رسول الله قائماً في مسجده يخطب الجمعة، وذهبوا وراء التجارة واللهو، فقال تعالى فيهم (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً)(6).

____________

1- الاصابة 1: 18.

2- التوبة: 101.

3- الحجرات: 6.

4- انظر مسند احمد 4: 279، والسنن الكبرى 9: 54، ومجمع الزوائد 7: 110، والاحاد والمثاني 4: 310، وتفسير القرآن للصنعاني 3: 231، وجامع البيان للطبري 26: 160، وأسباب النزول للواحدي: 261، والجوهر النقي للمارديني 9: 56، ولباب النقول للسيوطي: 180 وصرّح بأن رجال إسناده ثقات.

5- النور: 11.

6- الجمعة: 11.


الصفحة 99
وفيهم من تواطئوا على اغتيال رسول الله ليلة العقبة، وكان عددهم اثني عشر أو أربعة عشر أو خمسة عشر رجلا من الصحابة(1).

وهدد القرآن زوجات النبي، وهنّ صحابيات بلاشك، فقال في شأنهن: (يا نساء النبي من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً * ومن يقنت مِنكُن للّه ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريما)(2)، وهذا عين ما تقوله الإمامية من أنّ الجميع خاضعون للموازين الإسلامية دون استثناء، الصحابة وغيرهم ونساء النبي وغيرهن.

وقد صرّح القرآن المجيد بأنّ عائشة وحفصة صَغَتَ قلوبهما وتظاهرتا على النبي (صلى الله عليه وآله) ; قال تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه و جبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)... إلى أن قال (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغينا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون اذ قالت ربّ ابْنِ لي عندك بيتاً في الجنة)(3)...

وهذا المثل القرآني صريح في أن الميزان هو الاعتقاد والعمل، فامرأتا نوح ولوط في النار، وامرأة فرعون في الجنة، فلم تُغنِ عن الأوليين زوجيّتهما وصحبتهما للنبيين، كما لم تضرّ آسية كونها امرأة فرعون.

وهذا الميزان مطّرد عند الإمامية، مصرّح به في كتبهم وتآليفهم، وأعلن به شعراؤهم،

____________

1- انظر مسند احمد 5: 390 و 453، و صحيح مسلم 8: 122 ـ 123 / باب صفات المنافقين، و مجمع الزوائد 1: 110، 6: 195، و مغازي الواقدي 3: 1042، و امتاع الاسماع للمقريزي: 477، و الدر المنثور 3: 258 ـ 259. و انظر التفاسير في قوله تعالى في الايه 74 من سورة التوبة (و هموا بما لم ينالوا).

2- الاحزاب: 30 ـ 31.

3- انظر سورة التحريم من اولها إلى آخرها.


الصفحة 100
فهذا دعبل الخزاعي يقول في دفن الإمام الرضا (عليه السلام) عند هارون الرشيد:


قبران في طوسَ خيرُ الناسِ كلّهم و قبرُ شرّهم هذا من العبرِ
ما ينفع الرجس من قُرب الزكيّ ولا على الزكيّ بقرب الرجسِ من ضررِ
هيهاتَ كل امرئ رهنٌ بما كسبت لهُ يداه فخد ما شئت أو فَذَرِ(1)

وقد أخبرت السنة النبوية الشريفة، بأنّ هناك من الصحابة من بدّلوا وأحدثوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ، وذلك في حديث الحوض وارتداد الصحابة، حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصيحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلما توفّيتني كنتَ أنتَ الرقيب عليهم)(2)، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.(3)

وفي رواية:

ليردنّ علَيَّ ناسٌ من أصحابي الحوض حتّى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك.(4)

وفي صحيح مسلم:

ليردنَّ علي الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولن: أي ربّ أصيحابي، فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.(5)

____________

1- ديوان دعبل بن علي الخزاعي: 80.

2- المائدة: 117.

3- صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة ـ باب "و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني"، وكتاب الانبياء ـ باب "واتخذ الله ابراهيم خليلا"، وسنن الترمذي، ابواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحشر، وتفسير سورة طه.

4- صحيح البخاري / كتاب الرقاق ـ باب في الحوض.

5- صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب اثبات حوض نبينا 4: 1800 / ح 40.


الصفحة 101
و قد حاول الشربيني(1) ردّ هذه الأدلة الدامغة وأدلّة أخرى، فحمل انفضاض الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله) على أنه وقع في بدء زمن الهجرة وأنّ أكثر الصحابة ـ وهم المنفضّون ـ لم يكونوا واقفين على الآداب الشرعية، وهذا باطل لأنّ الواحدي صرّح بأن الذين لم ينفضوا اثنا عشر رجلا فقط ـ و في تفسير الثعلبي عن ابن عباس أنّه لم يبق مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلاّ ثمانية رجال ـ و هذا يعني أنّ المنفضين كانوا من المهاجرين والأنصار كلهم إلاّ هذا العدد المستثنى، فيكف لم يعرف المهاجرون ـ إن تنزّلنا وسلّمنا عدم معرفة الأنصار ـ تلك الآداب بعد أكثر من عشر سنين قضوها مع النبي؟! خصوصاً إذا لا حظتَ قول الجصاص في أحكام القرآن نقلا عن أهل السير: أنّ أول جمعة أقيمت بالمدينة صلاّها مصعب بن عمير بأمر النبي قبل الهجرة النبوية(2)، مما يلزم منه معرفتهم بآداب صلاة الجمعة وشروطها.

ثم أورد كلام مختصر التحفة الاثني عشرية وقول الآلوسي "ولذا لم يشنع عليهم ولم يوعدهم سبحانه وتعالى بعذاب ولم يعاتب الرسول (صلى الله عليه وآله) أيضا"، مع أنّ الواحدي في أسباب النزول قال أنّ المفسرين قالوا أنّ النبي قال: "والذي نفس محمد بيده لوتتابعتم حتى لم يبق أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً"(3). فهل بعد هذا التهديد تهديد؟ وهل بعد هذا العتاب والتخويف يقال أنّه لم يشنع عليهم ولم يوعدهم الباري ولم يعاتبهم الرسول؟! بل إنّ في هذا التهديد أكبر دليل على أنّهم كانوا يعرفون حرمةَ ذلك العمل فارتكبوه، لا كما ادّعى من عدم معرفتهم بالآداب. وقد صرح القرطبي أنّه كان خليقاً بهم أن لا يفعلوا ذلك(4). وقبل كل ذلك فإنّ لسان الآية لسان تأنيب، خصوصاً قوله (قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة).

____________

1- انظر كتابه 2: 84 ـ 98.

2- انظر أحكام القرآن 3: 599.

3- أسباب النزول: 286.

4- تفسير القرطبي 18: 110.


الصفحة 102
وتمحل بتمحل آخر مفاده أنّ انفضاضهم وقع في أثناء خطبة النبي لا في صلاته، ظنّاً منه بأنّ ذلك يهوّن مخالفتهم، مع أنّ خطبتي الصلاة لا تصحّان إلاّ في الوقت، فلو خطب قبل الوقت وصلّى لم تصحّ الصلاة باتّفاق المذاهب الأربعة، وقال ابن حزم في الأحكام "إنّ خطبة الجمعة فرض تبطل الصلاة بتركها"(1). فحكم الخطبتين الوجوب و تركهما مبطل لصلاة الجمعة، فلا فرق بين الانفضاض في الصلاة أو الخطبتين.

هذا مع أنه نقل عن الآلوسي أنّ ذلك وقع منهم مراراً، ونقل قوله أنّه "إن أريد رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعوّل عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين، ولتثبت صحّته، وأنى بذلك". ونقول نحن: إنّ الطبري في جامع البيان روى بسنده عن قتادة مثل ذلك(2)، وحدوث ذلك مرّة واحدة كاف في تحقق الذم والتأنيب، وحدوثه ثلاث مرات أبلغ في ذلك، والأخذ بهاتين الروايتين ترجيحاً لتأنيب القرآن والرسول، أولى من الأخذ بمرسل أبي داود ـ المصرَّح بأنّه مع شذوذه معضل ـ المدَّعي أنّ الناس "لم يظنّوا إلاّ أنّه ليس في ترك الجمعة شيءُ"، والذي رجّحه القاضي عياض ـ لا النووي كما توهّمه الشربيني ـ تحسيناً للظن بالصحابة، و أولى مما ذهب إليه ابن حجر من أن الانفضاض وقع في الخطبة تحسيناً للظن بالصحابة، مع أن صريح رواية البخاري ـ الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله عندهم ـ: "بينما نحن نصلي مع النبي حتّى ما بقي مع النبي إلاّ اثنا عشر رجلا".

  • ثمّ جاء ليردّ صراحةَ قولِهِ تعالى (وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق)، المعتضد بما رواه مسلم وغيره في قضيه الرجل الصحابي الذي قال للنبي (صلى الله عليه وآله) : يا محمد اعدل، فاستاذن عمرُ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) بقتله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : "معاذ الله أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي"، فزعم في جواب ذلك أنّ

    ____________

    1- الأحكام 3: 276.

    2- جامع البيان 28: 67 ـ 68.


    الصفحة 103
    المراد بالصحابي هنا هو الصحابي اللغوي لا الاصطلاحي، وكأنّه يريد تحكيم اصطلاحاتهم المخترعة على صريح قول النبي "أصحابي"، إذ لولم يكن من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) لما صحّ وجهٌ لكراهة قتله، ولو سلّمنا الاصطلاح فيبقى أنّ هذا واحدٌ ممّن تبيّن لكم نفاقه وارتداده ـ وأنّه من رؤوس الخوارج المارقين، الذين قتلهم أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ـ لكن ما حال الباقين من المنافقين المستورين الذين لم يظهر لكم نفاقهم؟! إنكم تحكمون بعدالتهم بناءً على أنّهم صحابة، وتنفون عنهم الكذب والفسق و و و... فكيف يستقيم هذا الحكم العامّ بعدالتهم مع العلم القطعيّ بوجود عدد كبير من المنافقين المستورين بينهم؟!

  • ثمّ أخذ يختلق الوجوه والمعاذير للصحابة، زاعماً أنّ المنافقين من الصحابة كانوا فئة معلومة، وكانوا قليلي العدد، وكانوا غير مجهولين في مجتمع الصحابة، حيث علم بعضهم بعينه، والبعض الآخر بأوصافه، مما جعل منهم طائفة متميزة منبوذة لا يخفى أمرها على أحد.

    وكأنّه لم يلتفت ولم يتنبه إلى أنّ في كلامه هذا دفاعاً عن الصحابة على حساب القرآن المجيد، الذي صرّح في تتمة الآية السالفة بقوله مخاطباً لرسوله: (لا تعلمهم نحن نعلمهم)، وكان المنافقون غير معلومين عند الجميع، ولذلك كانوا يخافون أن تنزل فيهم سورة تفضحهم، قال تعالى (يحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إنّ الله مخرجٌ ما تحذرون)(1)، قال القرطبي في تفسيره: قال السدي: قال بعض المنافقين: والله وددت لو أنّي قدّمت فجُلِدتُ مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت الاية(2).

    ____________

    1- التوبة: 64.

    2- تفسير القرطبي 8: 195. وانظر تفسير الطبري 10: 118. وفي مجمع البيان 5: 71 "إنّه إخبار بأنهم يخافون أن يفشوا سرائرهم ويحذرون ذلك، عن الحسن ومجاهد والجبائي وأكثر المفسرين، والمعنى أنّهم يحذرون من أن ينزل الله عليهم ـ أي على النبي والمؤمنين ـ سورة تخبر عما في قلوبهم من النفاق والشرك".


    الصفحة 104
    بل إنّ النفاق لغة واصطلاحاً يقتضي إخفاءً من جهة وإظهاراً من جهة أخرى، لأن الكافر هو من يبطن عدم الإيمان ويظهره، والمؤمن من يبطن الإيمان ويظهره، والمنافق هو مَن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فإذا كُشف للجميع أمرهم عن زيف ظاهرهم وأُظهر كفرهم الذي كانوا يكتمونه لم يبق معنى لنفاقهم كشريحة اجتماعية لها ثقلها السلبيّ و آثارها السيئة.

    و من غرائب ردوده في هذا المجال أنه استدل بما رواه حذيفة بن اليمان صاحب سرّ رسول الله، "في أصحابي اثنا عشر منافقاً فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة و لا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط". و لا أدري كيف وفّق بين كون المنافقين معروفين معدودين و بين كون حذيفة صاحب السرّ؟! لأنّ حذيفة كان من المخصُوصين بمعرفة المنافقين بإِخبار من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فإذا فُرض أنّهم مفضوحون معلومون لم يبق معنى لكونه صاحب السرّ، و لم يبق معنى لسؤال عمر بن الخطاب و غيره لحذيفة عن نفسه و عن آخرين هل انّهم من المنافقين أم لا؟(1)

    و ماذا يقول المرء حين يقرأ ما رواه مسلم بسنده عن أبي الطفيل، قال: كان بين رجل من أهل العقبة و بين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك، قال: كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر(2)... الخ.

    و روى يزيد بن هارون، قال: أخبرنا الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، قال: سابَّ رجلٌ عماراً، فقال حذيفة أو قال عمار: كان الذين تجسّسوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة العقبة

    ____________

    1- انظر سؤال عمر لحذيفة عن ذلك في الاستيعاب بهامش الإصابة 1: 277، و مختصر تاريخ دمشق 6: 253، و مغازي الواقدي 3: 1044.

    2- صحيح مسلم المطبوع مع شرح النووي 17: 130 ـ 131 / كتاب صفات المنافقين و أحكامهم ـ ح 11.


    الصفحة 105
    أربعة عشر رجلا، فإن كنت فيهم فهم خمسة عشر(1).

    و هكذا دارت الروايات العامية في إطارها العام حول إبهام اسم هذا الرجل الذي تنازع مع حذيفة أو عمار، لكن روى أبو جعفر الطوسي بسنده عن عامر بن الطفيل، عن أبي تحيى، قال: سمعت عمار بن ياسر يعاتب أبا موسى الأشعري و يوبِّخه على تأخّره عن علي بن طالب (عليه السلام) و قعوده عن الدخول في بيعته، و يقول له: يا أبا موسى ما الذي أخّرك عن أميرالمؤمنين؟! فو الله لئن شككت فيه لتخرجنّ عن الإسلام، و أبو موسى يقول: لا تفعل ودع عتابك لي، فإنما أنا أخوك، فقال له عمار: ما أنا لك بأخ، سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يلعنك ليلة العقبة، وقد هممتَ مع القوم بما هممت، فقال أبو موسى: أفليس قد استغفر لي؟ قال عمار: قد سمعتُ اللعن ولم أسمع الاستغفار(2).

    وفي تاريخ دمشق قال أبو موسى لعمار: مالي ولك، ألستُ أخاك؟ فقال عمار: ما أدري إلاّ أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يلعنك ليلة الجمل، قال أبو موسى: إنّه قد استغفر لي، قال عمار: قد شهدتُ اللعن و لم أشهد الاستغفار(3).

    وأخرج الفسوي ـ وغيره ـ بسند صحيح عن محمد بن عبدالله بن نمير، عن أبيه عبدالله بن نمير، عن الأعمش، عن شقيق، قال: كنا مع حذيفة جلوساً فدخل عبدالله بن مسعود و أبو موسى [الأشعري] المسجد، فقال حذيفة: أحدهما منافق. ثم قال: إنّ أشبه الناس هدياً و دلاًّ وسمتاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) عبدالله بن مسعود(4)!!

    فهذا أحد المنافقين الذين بقوا متخفين إلى زمان أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، وإن لم ترضَ ذلك فمما لا شكّ فيه أنّ منهم الكثيرين مِمّن كانوا متخفين إلى زمان عمر بن

    ____________

    1- المسترشد: 597.

    2- أمالي الطوسي: 181 / ح 304.

    3- تاريخ دمشق 23: 93.

    4- تاريخ الفسوي 2: 771، و تاريخ دمشق 23: 93، و سير أعلام النبلاء 2: 394، و صرّح محققه في الهامش بأنّه صحيح.


    الصفحة 106
    الخطاب على الجزم واليقين، فدعوى أنّهم معروفون مفضوحون دعوى لا يدعمها الدليل.

  • وأمّا ما يتعلّق بحديث الحوض وارتداد الصحابة، فهو ظاهر في أنّ هناك صحابة يرتدون من بعد النبي على أعقابهم، وأنّ النبي يقول لهم: سحقاً سحقاً.

    لكنّ الشربيني جاء ليردّ ظهور هذا الحديث بقوله:

    أما استدلالهم بحديث الحوض، وما جاء فيه من وصف الصحابة بالردة، فهذا من زندقة الرافضة ومن تلبيسهم وتضليلهم، فإنّ المراد بالأصحاب هنا ليس بالمعنى الاصطلاحي عند علماء المسلمين، بل المراد بهم مطلق المؤمنين بالنبي، المتّبعين لشريعته، وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة: أصحاب أبي حنيفة، ولمقلّدي الشافعي: أصحاب الشافعي، وهكذا، وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكذا يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب "أصحابنا" مع أن بينه وبينهم عدّة من السنين، ومعرفته (صلى الله عليه وآله) لهم مع عدم رؤيتهم في الدنيا بسبب أمارات تلوح عليهم يعرفها النبي (صلى الله عليه وآله) .(1)

    وهذا الجواب ظاهر فيه صرف الحديث عن ظاهره بلا حجة ملموسة، خصوصاً قول الربّ الأعلى "لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" فإنه يدل على بدء الارتداد بعد مفارقة النبي لهم مباشرة، واستمرار ذلك "لم يزالوا" من بعده (صلى الله عليه وآله) .

    بل النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه كذّب هذا الجواب المصنوع، حيث أنّه سمّى الذين يؤمنون به من بعده ولم يروه "إخوانه"، وسمّى من رأوه "أصحابه"، وهاتان التسميتان جاءتا في حديث الحوض وارتداد الصحابة، حيث روى مسلم بسنده عن أبي هريرة:

    إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتى المقبرة، فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين و إنّا إن شاءالله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا". قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعدُ من أمّتك يا

    ____________

    1- كتابه 2: 93.


    الصفحة 107
    رسول الله؟ فقال: أرايت لو أنّ رجلا له خيل غرّ محجّلة بين ظهري خيل دُهم بُهْم أَلا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنّهم يأتون غرّاً محجّلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض.

    ألا ليذادن رجال [وقد علمت مما تقدم أنّهم من الصحابة] عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هَلُمَّ، فيقال: إنّهم قد بدّلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً(1).

    فتلاحظ أنّ النبي سمّى الآتين "إخوانه"، و سمّى من رأوه ورآهم "أصحابه"، فالرجال المرتدّون المذادون عن الحوض هم من أصحاب النبي بالمعنى الذي قرره رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو يشمل حتى مَن ارتدّوا مِن بعده(2)، وأمّا الذين يعرفهم النبي (صلى الله عليه وآله) بالغرة والتحجيل من الوضوء فهُمْ "إخوانه"، ومقابل تصريح النبي الأكرم بهذا الإيضاح و الفرق بين "الصحابة" المرتد بعضهم وبين إخوانه، ما تكون قيمة كلام الشربيني و تلاعبه بالمفاهيم؟!

    وما أدري ما يقول الشربيني فيما رواه البخاري بسنده عن عقبة بن عامر قال: صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودّع للأحياء والاموات ثمّ طلع المنبر فقال: اني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإنّ موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، واني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها. قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3).

    فها هو النبي (صلى الله عليه وآله) يصرح بأنّه لا يخشى عليهم الشرك المفضوح، ولكنّه يخشى عليهم الشرك الخفي وعبادة الاهواء والتنافس على الدنيا ومغرياتها، فهل أنّ المقصودين في

    ____________

    1- صحيح مسلم مع شرح النووي 3: 140 ـ 141 / الباب 12 "استحباب إطالة الغرّة و التحجيل في الوضوء" / ح 6.

    2- فلا وَجْهَ للقول بعدالة كلّ الصحابة، و صرفِ معنى الصحابة في حديث الحوض إلى معنى الأَتباع.

    3- صحيح البخاري 5: 194/ كتاب المغازي ـ باب غزوة احد.


    الصفحة 108
    هذا الحديث عند الحوض ليسوا من الصحابة أيضاً!!

    وعلى كل حال، فهذا موقف الإمامية صريح واضح في وجود كافة الفئات خيرها وشرها في الصحابة، وهم في ذلك غير خارجين عن سنن الله في أرضه وفي الأمم السالفة والحاضرة والآتية، منذ بدء الخليقة إذ قتل قابيلُ هابيلَ وهما ولدا نبي، ومروراً بابن نوح الغريق، وأمّته الذين أُغرق أكثرهم وما آمن منهم إلاّ القليل، وموسى الذي انقلب قومه وعبدوا العجل، وانتهاء بخاتم الأنبياء وسيّد المرسلين محمّد (صلى الله عليه وآله) الذي ذمّ القرآنُ عمَّه، وبعضَ زوجاته، وقِسْماً من أصحابه، وما هذا إلاّ مصداق للسير الطبيعي للبشرية، إذ لم يخبرنا القرآن ولا السنة ولا التاريخ بوجود أمة كاملة من أمم الأنبياء منزّهة عن العيب والريب والفسق والكفر والنفاق برمّتها وقضّها وقضيضها، وما هذا إلاّ من صنع التعصب والجهل.

    هذا وقد مدح القرآن و السنة الشريفة جموعاً كثيرة من الصحابة، معلّقاً المدح على الصفات لا على الذوات.

    فقال سبحانه وتعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً)(1)، فخصّ سبحانه وتعالى المؤمنين من المبايعين بالثناء، ومدحهم بإيمانهم وبيعتهم، فلم يُدْخِل في المدح المنافقين الذين حضروها مثل عبدالله بن أبيّ وأوس بن قيظي.(2)

    ومدح السابقين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان(3) ورضي عنهم، معلّقا المدح على الوصف وهو السبق بالهجرة، والنصرة، والاتّباع بالإحسان، وذمّ بعدها مَن حولهم من المنافقين الأعراب والذين مردوا على النفاق من أهل المدينة كما

    ____________

    1- الفتح: 18.

    2- انظر خبر بيعة الشجرة و هي بيعة الرضوان في مغازي الواقدي: 588، و إمتاع الأسماع للمقريزي: 284.

    3- انظر الاية 100 من سورة التوبة.


    الصفحة 109
    تقدم.

    وهكذا تذهب الإمامية إلى طهارة شهداء بدر وأحد وسائر الشهداء في حروب النبي وغزواته، وإلى رذالة شهيد الحمار(1)، وقزمان(2)، وأضرابهما ممن قتلوا في حروب النبي (صلى الله عليه وآله) لمطامع دنيوية و مآرب عصبية وقبلية و و و... وحسبك في ذلك مهاجر أم قيس، وهو صحابي من هذيل خطب يقال لها أمّ قيس، فأبت أن تتزوّجه حتّى يهاجر، فهاجر فتزوّجها، فكانوا يسمّونه مهاجرَ أمّ قيس(3).

    ومن هذه الخلاصة يتبين زيف دعوى ذهاب الشيعة إلى تكفير جميع الصحابة والحكم بنفاقهم وخداعهم، وهاهي كتبهم الرجالية مملوءة طافحة بذكر جماهير من الصحابة المخلصين الذين آمنوا بالله ورسوله ولم ينحرفوا، ولم يتبدلوا ولم يبدلوا.

    الثالث:

    إن الكاتب لم يفرق بين الكفر الصراح والارتداد، ونقل رواية واحدة عن الكافي دون فهم مرماها، ولا الأخذ بنظر الاعتبار باقي الروايات، ولا وقف على تنقيح المطلب، وادّعى أنّ الإمامية يكفّرون كل الصحابة إلاّ عدداً محصوراً منهم، وجاء برواية

    ____________

    1- انظر جامع السعادات 3: 89.

    2- كان قزمان بن الحارث حليف بني ظفر رجلا من المسلمين، وكان إذا ذكر عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنه لمن أهل النار، فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديداً، فقتَلَ هو وحدَهُ ثمانيةً أو سبعةً من المشركين، وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر بالجنة، فقال: بماذا أبشر، فو الله إن قاتلت إلاّ عن أحساب قومي و لو لا ذلك ما قاتلت، فلما اشتدت عليه جراحاته، أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه. (انظر السيرة النبوية لابن كثير 3:71، وتاريخ الطبري 2: 209، والاصابة 5:335) . قال ابن كثير في السيرة 3: 72 وقد ورد مثل قصة هذا في غزوة خيبر، ثم نقل رواية الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة قصة مقتل أحد المسلمين مثل ذلك، وكان النبي قد أخبر بأنه من أهل النار، وفي هذه الرواية قول النبي: إنه لا يدخل الجنة إلاّ نفس مسلمة وإنّ الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.

    3- انظر اسد الغابة 5: 610، والإصابة 8: 454، والمعجم الكبير للطبراني 9: 103، وتحفة الأحوذي 5: 234، وقال المزي في تهذيب الكمال 16: 126 هذا حديث صحيح.


    الصفحة 110
    الكافي "كان الناس أهل ردّة بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبوذر الغفاري، وسلمان الفارسي رحمةُ الله وبركاته عليهم"، وهذا ناتج من عدم فهمه لآراء الإمامية، وعدم الإحاطة بأقوالهم، إذ الأمر يختلف اختلافاً جذريا عما زخرفه من القول.

    وقبل بيان المطلب وتنقيحه نودّ أن نذكّر أنّ هذا الأمر منعكس عليه أيضاً، حيث كفّر أرباب المذاهب الأربعة ورؤساؤهم بعضهم بعضاً، وحملوا حملات شعواء وأفتوا بفتاوى يندى لها جبين التاريخ.

    قال محمد بن موسى الحنفي قاضي دمشق (ت 506 هـ) : لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية.(1)

    ويقول أبو حامد الطوسي (ت 567 هـ) : لو كان لي أمر لوضعت على الحنابلة الجزية.(2)

    وقال الشيخ ابن حاتم الحنبلي: من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم.(3)

    وعكس ذلك الشيخ أبوبكر المقري الواعظ في جوامع بغداد، فذهب إلى تكفير الحنابلة أجمع.(4)

    وكان الشيخ علي بن الحسن الملقب بسيف الدين (ت 631 هـ) حنبلياً، ثم صار شافعياً، فتعصّب عليه فقهاء البلاد وحكموا عليه بالكفر والزندقة.(5)

    واستفتى بعضهم في شهادة على شافعيٍّ زوراً، فأجابه المفتي: ألستَ تعتقد أن دمه وماله حلال؟ قال: نعم، قال: فمادون ذلك فاشهد وادفع فساده عن المسلمين.(6)

    ____________

    1- معجم البلدان 1: 476، طبقات الحنفية 1: 135.

    2- شذرات الذهب 2: 324، العبر في خبر من غبر 4: 200.

    3- سير اعلام النبلاء 17: 625 و 18: 508، تذكرة الحفاظ 3: 1187.

    4- شذرات الذهب 3:252.

    5- مرآة الجنان 4:24.

    6- طبقات الشافعية الكبرى 2: 16.


    الصفحة 111
    وفي تاريخ بغداد: قال حماد بن أبي سليمان [وهو من أكابر رواة العامة]: أبلغوا أبا حنيفة المشرك أنّي من دينه بريء إلى أن يتوب.(1)

    وقال سفيان: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين. وقال يعقوب: مراراً.(2)

    واجتمعت المذاهب على الحنابلة غضباً على أعمال ابن تيمية ونودي في دمشق وغيرها: من كان على دين ابن تيمية حلّ ماله ودمه.(3)

    ووقع هرج ومرج ونزاع شديد بين ابن القشيري الشافعي الذي ورد بغداد سنة 469 هـ وبين زعيم الحنابلة عبد الخالق بن عيسى وجماعته، ووقع قتال بين الطرفين، وأراد الخليفة آنذاك أن يصلح بينهم، فجمع القشيري وأصحابه وأبا جعفر الشريف زعيم الحنابلة وأصحابه بمحضر الوزير، فقام القشيري والتفت إلى الوزير عندما طلب منه الصلح وقال: أيّ صلح يكون بيننا؟! إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دَين أو تنازع في ملك، فأما هؤلاء القوم فإنّهم يزعمون أنا كفّار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافراً، فأيّ صلح يكون بيننا؟!(4)

    وتقوّلوا على الشافعي أنّه قال: من أبغض أحمد بن حنبل فهو كافر، فقيل له: أتطلق عليه اسم الكفر؟ فقال: نعم، من أبغض أحمد عاند السنّة، ومن عاند السنّة قصد الصحابة، ومن قصد الصحابة أبغض النبي (صلى الله عليه وآله) ، ومن أبغض النبي (صلى الله عليه وآله) كفر بالله العظيم(5)!!!

    وهذه التكفيرات ذرّة من رمالِ صحراء، وغيض من فيض ماء، وآخرها أوضحها نقضاً على هذا الكاتب الوهابي الحنبلي، إذ كيف ساغ لهم أن يقولوا بكفر مبغض أحمد، ويشنّعوا على من يقول بنَصْب من أبغض أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؟! ولماذا

    ____________

    1- تاريخ بغداد 13:388.

    2- تاريخ بغداد 13: 392.

    3- انظر الدرر الكامنة 1: 171 والبدر الطالع 1: 67 والعبر في خبر من غبر 6: 31.

    4- انظر ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1: 22.

    5- طبقات الحنابلة 1: 13.


    الصفحة 112
    يستلزم بغض أحمد بغض النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يلزم ذلك من بغض أبي السبطين الحسن والحسين، مع أنّه نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنص حديث المؤاخاة والمباهلة؟!، ونص حديث "يا علي كذب من زعم أنّه يحبني وهو يبغضك".(1)

    الشيعة والصحابة:

    بعد هذا نقول في تنقيح المطلب: إنّ هذا الحديث ليس كما توهّمه، بل ليس كما حمّله من المعنى، لأنّ هناك روايات أخرى في هذا المجال إذا ضممنا بعضها إلى بعض فهمنا المقصود في هذا المضمار، وقد أشار الكاتب في النقل إلى بعضها وأخلّ بالبعض الآخر، وإليك تمام الكلام:

    إن الشربيني تابع العسال فذكر أنّ الشيعة يكفّرون الصحابة كلهم إلاّ خمسة(2)أو سبعة(3) أو بضعة عشر(4)... ثم ذكر رواية الكافي التي فيها استثناء ثلاثة.

    وقد قَصُرَ أو قصَّر كلاهما في بيان الحقيقة، ولم ينقلا باقي روايات الإمامية في هذا المجال، فأوحيا بغرورهما للناس أن الشيعة الإمامية تكفر كل الصحابة إلاّ هذا العدد المستثنى، مع أنّ الروايات ناطقة بغير ذلك:

    ففي رجال الكشي: قال الفضل بن شاذان: إنّ من السابقين الذين رجعوا إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام) : أبو الهيثم بن التيهان، وأبو أيوب، وخزيمة بن ثابت، وجابر بن عبدالله،

    ____________

    1- درر السمطين: 103، شواهد التنزيل 2: 271 و 358، تاريخ دمشق 42: 268.

    2- انظر ظاهر رواية الكشي: 8 / ح 17 و فيه بسنده عن أبي بصير: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة ـ أبوذر وسلمان والمقداد ـ؟ قال: فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : فأين ابو ساسان وأبو عمرة الأنصاري.

    3- انظر روايتي رجال الكشي: 6 ـ 7 / ح 13 و 14.

    4- لم نعثر على هذا التحديد و لا ندري من أين أخذه بالضبط، فإن كان أخذ ذلك من رواية الكشي في رجاله: 38 / ح 78 ـ التي ستأتي ـ فقد خان في عدم ذكرها بتمامها، لأنّ في ذيلها ما يكذب دعواه.


    الصفحة 113
    وزيد بن أرقم، وأبو سعيد الخدري، وسهل بن حنيف، والبراء بن مالك، وعثمان بن حنيف، وعبادة بن الصامت، ثم ممن دونهم قيس بن سعد بن عبادة، وعدي بن حاتم، وعمرو بن الحمق، وعمران بن الحصين، وبريدة الأسلمي، وَبَشَرٌ كثيرٌ.(1)

    وفي رجال الكشي أيضاً بسنده عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، قال: كان الناس أهل الردة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبوذر الغفاري، وسلمان الفارسي، ثم عَرَفَ الناسُ بَعْدَ يسير.(2)

    وفي رجال الكشي أيضاً بسنده عن أبي بكر الحضرمي، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة نفر ـ سلمان وأبوذر والمقداد ـ قال: قلتُ: فعمار؟ قال: قد كان جاض جيضةً، ثم رجع... ثم أنابَ الناسُ بعدُ، فكان أول من أناب أبو ساسان الأنصاري، وأبو عمرة، وشتيرة، وكانوا سبعة، فلم يكن يعرف حقّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) إلاّ هؤلاء السبعة.(3)

    فهذه النصوص كلّها تؤكّد أنّ بشراً كثيراً من الصحابة، وأنّ الناسَ سرعان ما رجعوا إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام) وعرفوا حقّه المغتصب، وإنّما ذكر أئمةُ آل محمّد بعضَ أسماء الصحابة المتمحضين في الودّ والإخلاص لعلي (عليه السلام) ، الذين ثبتوا على مواقفهم رغم كل ظروف اغتصاب الخلافة والتهديد بالحرق وملابسات السقيفة ومشاجراتها، مع أنّ مثل تلك الحال العصيبة أحبطت عزائم آخرين من الصحابة، وجعلت آخرين منهم يركبون غارب التقية، خُصوصاً الذين لم تكن لهم عشائر تحميهم ولا قبائل تدافع عنهم، أضف إليهم من لم يكونوا في المدينة المنوّرة(4)، ومن لم يكونوا على اطّلاع كاف بخلفيات

    ____________

    1- رجال الكشي: 38 / ح 78 فإن كان هذا هو النص الذي اعتمد عليه العسّال في تحديد هم بـ "بضعة عشر" فقد خان في عدم ذكره جملة "وَ بَشَرٌ كثيرٌ".

    2- رجال الكشي: 6 / ح 12.

    3- رجال الكشي: 11 ـ 12 / ح 24.

    4- كما سيأتيك في خبر الاثني عشر الذين اعترضوا على أبي بكر في جلوسه للخلافة.