الصفحة 148
أبا هريرة(1)، ثمّ قال في جوابه:

وأمّا طعنه على أبي هريرة بتكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة له فإنّ أبا هريرة صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) نحواً من ثلاث سنين وأكثر الرواية عنه... فلما أتى من الرواية عنه ما لم يأتِ بمثله مَن صَحِبه من جلّة أصحابه والسابقين الأوّلين إليه اتهموه وأنكروا عليه، وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟

وكانت عائشه أشدّهم إنكاراً عليه لتطاول الإيّام بها و به...

وكان عمر أيضاً شديدا على من أكثر الرواية... وكان يأمرهم بأن يقلّوا الرواية، يريد بذلك أنّ لا يتسع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي(2)...

واستمرّ ابن قتيبة في التأويلات، ولم ينكر صدور قول علي (عليه السلام) لأبي هريرة: متى كان النبي خليلك يا أبا هريرة؟! وذلك عندما كان أبو هريرة يقول: حدثني خليلي، وقال خليلي، ورأيت خليلي...

وفي تكذيب هؤلاء الأربعة لأبي هريرة كفاية في صدور الكذب عنه، مضافاً إلى مروياته الصريحة الناطقة بكذبه على الله ورسوله، والّتي ألّف الأعلام فيها كتباً مستقلّة تبيّن كذب أبي هريرة وسقم الكثير الكثير من مروياته.

وحسب العاقل أن يقرأ ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن أبى هريرة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إذا وقع الذُباب في إناء أحدكم فليغمسه كلّه، ثمّ ليطرحه، فإنّ في إحدى جناحيه شفاءً، وفي الآخر داءً.(3) وقد ذكر الكاتب هذا الحديث وراح يؤيده بأنّه روي

____________

1- تأويل مختلف الحديث 1: 27 و 28.

2- لا حظ ان الشربيني اتهم المنافقين فقط بالكذب، و هنا زاد ابن قتيبة "الفاجر" و "الاعرابي" تأويل مختلف الحديث 1: 28 ـ 43.

3- انظر كتاب الشربيني 2: 342. حين نقل هذا الحديث عن البخاري و دافع عنه بكل حيلة. من ص 342 ـ 353 من المجلد الثاني.


الصفحة 149
مضمونه عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك، ونقَلَ عن أحد الأطباء المصريين العصريّين ما يؤكّد صحة متنه، قال: وقد كتب بعض الاطباء الغربيين نحو ذلك، ولم يعط أي مصدر لكلا ادّعائيه.

وعلى فرض تسليم كل ذلك المراء أقول: إذا كان في أحد جناحي الذباب شفاء وفي الآخر داءً، فلماذا يغمس الذباب كله في الإناء في فرض كون الجناح الساقط في الإناء هو الجناح الحامل للشفاء؟! إذ لوصحّ الحديث لكان المفروض أن يقال بغمس الذباب في حال سقوط الجناح الحامل للداء فقط أوّلا.

  • ومن نماذج كذب أبي هريرة حديث خلق السماوات والارض في سبعة أيام.

    قال الله تبارك وتعالى: (إنّ ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام)(1).

    وقال عزوجل: (هو الذّي خلق السماوات والأرض في ستة أيّام)(2).

    وقال عز ذكره: (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيّام)(3).

    وقال جل اسمه: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيّام)(4).

    ومع كل هذه الآيات الكريمة الناصّة على خلق السماوات والأرض في ستة أيّام، يروي أبو هريرة أن ذلك كان في سبعة أيّام، فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيدي فقال: خلق الله عزوجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الاربعاء، وبث فيها الدوابّ يوم الخميس، وخلق آدم (عليه السلام) بعد العصر من يوم الجمعة في آخر

    ____________

    1- الاعراف: 54، يونس: 3.

    2- هود: 7، الحديد: 4.

    3- الفرقان: 59، السجدة: 4.

    4- ق: 38.


    الصفحة 150
    الخلق في آخر سعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل.(1)

    فهذه سبعة أيّام يعدّها أبو هريرة في الخلق، وهي مخالفة لصريح القرآن المجيد، ولم يتعرض الشربيني لهذه الرواية وأسدل عنها الستار، مركّزاً دفاعه عن حديث الذباب.

  • ومنها: أُرسلِ ملك الموت الى موسى (عليهما السلام) فلمّا جاءه صكَّهُ [ففقأ عينه] فرجع إلى ربّه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال [فردّ الله عينه، فقال]: ارجع اليه فقل له(2)....

    وفي رواية مسلم: جاء ملك الموت الى موسى (عليه السلام) فقال له: اجب ربك، قال: فلطم موسى (عليه السلام) عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله تعالى فقال: انك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني، قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إلى عبدي فقل(3)...

  • ومنها: خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً... فكل من يدخل الجنة على صورة آدم [طوله ستون ذراعاً] فلم يزل الخلق ينقص بعدُ حتى الان(4).

  • ومنها: يقال لجهنم هل امتلأت، وتقول: هل من مزيد، فيضع الربّ تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول: قط قط.(5)

    وقد نقل ابن عبد البرّ في التمهيد رواية "لا تقبحوا الوجوه فان الله خلق آدم على صورته" و "ان موسى لطم ملك الموت" و "اشتكت النار إلى ربها حتى يضع فيها قدمه"، نقل ذلك،

    ____________

    1- صحيح مسلم بشرح النووي 17: 139 ـ 140 / صفة القيامة و الجنة و النار ـ باب ابتداء الخلق و خلق آدم.

    2- صحيح البخاري 2: 619 / باب 927 "وفاة موسى و ذكرُهُ بعد"، و قد رواه البخاري عن شيخه يحيى بن موسى عن عبدالرزاق. و ما بين القوسين حذفه البخاري و هو موجود في مصنف عبدالرزاق 11: 274. و البخاري رواه موقوفاً.

    3- صحيح مسلم 4: 1843 / كتاب الفضائل ـ باب من فضائل موسى.

    4- صحيح البخاري 5: 2299 / باب بدء السلام. و انظره في المصنف لعبد الرزاق 10: 384، و صحيح مسلم 4: 2183 / باب يدخل الجنة اقوام أفئدتهم مثل افئدة الطير.

    5- صحيح البخاري 4: 1835 / باب قوله (و تقول هل من مزيد). و انظر البخاري 6: 2411 / باب ما جاء في قوله تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين).


    الصفحة 151
    وقال: قال أحمد: كل هذا صحيح، وقال إسحاق: كل هذا صحيح ولا يدعه إلاّ مبتدع أو ضعيف الرأي.

    قال أبو عمر ابن عبد البر: الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة و ما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله) فيها، والتصديق بذلك، و ترك التحديد والكيفية.(1)

    وهل هذا إلاّ تعطيل للفكر والتدبّر المأمور بهما، وهل هذا إلاّ مصادرة للفكر البشري، ومخالفة لضرورات الدين من أنّ جهنّم يخلد فيها الخالدون، فكيف يملؤها الربّ برجله ـ و العياذ بالله ـ؟! وكيف يصوّر نبي الله موسى (عليه السلام) بصورة مارد يحب الحياة ويفقأ عين مَلَك الموت؟!

    وأعجب من ذلك أنّ الشربيني في مصر ولا بدّ أنّه رأى الاهرامات وفيها الفراعنة محنّطين، وأجسادهم بأطوالها وأعراضها، لا تختلف كثيراً عن أجسام سائر الناس اليوم، وهذه الآثار والحفريات تعرض لنا بين الحين والآخر جماجم وأجساداً عثر عليها منذ أقدم العصور، وليس فيها ولا شخصاً واحداً بهذا الحجم الذي يصفه أبو هريرة.

    وأمّا حديث "خَلَق الله التربة" فقد قال فيه ابن كثير: وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري، وغير واحد من الحفّاظ، وجعلوه من كلام كعب [الاحبار]، وأنّ أبا هريرة إنّما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنّما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعاً.(2)

    فالحديث من طوامّ أبي هريرة عن كعب الأحبار اليهودي، لكن القوم آثروا المحافظة على كرامة أبي هريرة ولو على حساب القرآن والأنبياء والحقائق التي لا ينكرها إلاّ معتوه.

    وإذا أردت التأكُّد من ذلك فإليك بعض مرويات أبي هريرة الأخرى، مثل "خرج موسى عرياناً فنظر بنو إسرائيل إلى سوأته"(3) و "أمر نبي من الانبياء بإحراق قرية النمل لقرص

    ____________

    1- التمهيد 7: 147 ـ 148.

    2- تفسير ابن كثير 1: 70 / تفسير الاية 29 من سورة البقرة.

    3- انظر صحيح البخاري 3: 1249 / باب طوفان من السيل.


    الصفحة 152
    نملة إياه"(1) و "نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم"(2) ويقول نبي الله إبراهيم (عليه السلام) : "اني كذبت ثلاث كذبات"(3) و و و... هذا كلّه ـ وما تركناه أضعافه ـ يضاف إلى تكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة له، فكيف يقال أنّ الصحابة كانوا على منهج واحد؟!

    ج ـ تقدّم كثير من الصحابة بين يدي الكتاب والسنة ادّعى الكاتب ـ كما قرأت ـ أنّ أمّة الاسلام كانت على نهج واحد حتى وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وصدر من عصر صحابته، وهذا القول داحض، وتفنده الوقائع والحقائق، فإنّ الاعتراض على النبي (صلى الله عليه وآله) والتقدم بين يديه كان حالة شاخصة عند رهط من الصحابة، بحيث نراهم يتعاملون مع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كأىّ شخص عاديّ، وقد بحث العلماء والأساتذة والمؤمنون كثيراً من المفردات الدالّة على هذا، بحيث صحّ ووَضُح أنه كان هناك نهجان في حياته (صلى الله عليه وآله) ، نهج ينصاع لأوامره وتعالميه بحذافيرها وبدون تردد، ونهج يعارض ويتردد ويحتج ويعترض ويفعل بمحضر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لا ينبغي أن يفعل، وإذا أردنا استقصاء كل تلك المفردات احتجنا إلى مجلد ضخم أو مجلدات(4) لكننا هنا سنُعرض نماذج من ذلك بالمقدار الي يقرّ معه كل منصف بأنّ الصحابة لم يكونوا على منهج واحد بهذا الشكل الذي يحاول البعض تحميله على أفكار المسلمين وزجّه زجّاً في عقولهم.

  • قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تُقَدِّموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إنّ الله سميع عليم)(5)، وهذه الآية الكريمة صريحة بوجود مجموعة من الصحابة كانوا

    ____________

    1- انظر صحيح البخاري 3: 1099 / باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق، و صحيح مسلم 4: 1759 / باب النهي عن قتل النمل، سنن ابن ماجة 2: 1075 / ح 3225.

    2- انظر صحيح البخاري 3: 1233 / باب قوله (و نبئهم عن ضيف إبراهيم).

    3- انظر صحيح البخاري 3: 1225 / باب قوله تعالى (و اتخذ إبراهيم خليلا)، 4: 1746 / باب (ذرية من حملنا مع نوح)، 5: 1955 / باب "اتخاذ السراري و من اعتق جاريته ثمّ تزوجها"، و صحيح مسلم 4: 1840 / باب من فضائل إبراهيم الخليل.

    4- انظر في هذا السياق النص و الاجتهاد ومنع تدوين الحديث.

    5- الحجرات: 1.


    الصفحة 153
    يقدِّمون بين يدي الرسول، قال القرطبي: قال العلماء: كان في العرب جفاء وسوءُ أدب في خطاب النبي (صلى الله عليه وآله) وتلقيب الناس.(1)

    وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله) لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، و قال العوفي عنه: نُهوا أن يتكلّموا بين يدي كلامه، وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه، وقال الضحاك: لا تقضوا امراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم، وقال سفيان الثوري: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) بقول ولا فعل(2)...

    وقال الطبري: يعني تعالى ذكره بقوله (يا أيها الذين آمنوا) يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله و بنبوة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) يقول: لا تعجلوا بقضاء أمر حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضُوا بخلاف أمرالله وأمر رسوله.(3)

    وفي تفسير النيسابوري: عن الحسن: نزلت في المنافقين كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوت رسول الله (صلى الله عليه وآله) استخفافاً واستهانةً، و ليقتدي بهم ضَعَفَةُ المسلمين، فنُهي المؤمنون عن ذلك، وعلى هذا فإما أن يكون الإيمان [في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا)] أعم من ان يكون باللسان أو به وبالقلب، وإمّا أن يكون الإيمان حقيقة فيكون تأديبا للمؤمنين الخلّص حتّى يكون حالهم بخلاف حال أهل النفاق، ويكون كلامهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أخفض من كلامه لهم رعاية لحشمته وصيانة على مهابته(4).

    وفي تفسير أبي السعود: يروى عن الحسن أنّها نزلت في بعض المنافقين الذين كانوا يرفعون

    ____________

    1- تفسير القرطبي 16: 300.

    2- تفسير ابن كثير 3: 205.

    3- تفسير الطبري 26: 73 ـ 74.

    4- تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 26: 74.


    الصفحة 154
    أصواتهم فوق صوته (صلى الله عليه وآله) .(1)

    فإذا عرفت ذلك، فاقرأ ما في صحيح البخاري، بسنده عن ابن أبي مليكة، أن عبدالله بن الزبير أخبرهم أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال أبوبكر: أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمِّر الأقرع بن حابس، فقال أبوبكر: ما أردتَ إلاّ خلافي، فقال عمر: ما اردتُ خلافك، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)... حتّى انقضت الآيه(2)...

    ومعنى هذه الاية وشأن نزولها يكذّبان صراحةً ما قاله الشربيني من عدم التقدم بين يدي الكتاب والسنة.

  • ومن مفردات التقدُّم المذكور وعدم التسليم: أمرُ النبي (صلى الله عليه وآله) أبابكر وعمر بقتل الرجل الخارجي المصلّي وامتناعهما من ذلك، فقد روى أرباب المسانيد والسنن والحفاظ، عن أنس بن مالك، قال: كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل يعجبنا تعبده واجتهاده، وقد ذكرناه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) باسمه فلم يعرفه، فوصفناه بصفته فلم يعرفه، فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل علينا، فقلنا: هو هذا، قال: إنكم لتخبروني عن رجل إنّ في وجهه لسفعة من الشيطان...

    ثمّ دخل يصلي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من يقتل الرجل؟ قال أبوبكر: أنا، فدخل عليه فوجده يصلي، فقال: سبحان الله، أقتل رجلا يصلي؟ وقد نهى رسول الله عن قتل المصلين؟ فخرج فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما فعلت؟ قال: كرهت أن أقتله وهو يصلي وقد نهيت عن قتل المصلين.

    قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من يقتل الرجل؟ قال عمر: أنا، فدخل فوجده واضعاً جبهته. قال عمر: أبوبكر أفضل مني، فخرج فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : مهيم؟ قال: وجدته واضعاً جبهته لله فكرهت أن

    ____________

    1- تفسير أبي السعود 8: 115.

    2- صحيح البخاري 4: 1834 / كتاب التفسير ـ سورة الحجرات. و انظر الدرالمنثور 7: 546. في تفسير الجلالين 1: 684 "نزلت في مجادلة أبي بكر و عمر عند النبي (صلى الله عليه وآله) في تأمير الأقرع بن حابس أو القعقاع بن معبد و نزلت في من رفع صوته عند النبي (صلى الله عليه وآله) ".


    الصفحة 155
    أقتله.

    فقال (صلى الله عليه وآله) : من يقتل الرجل؟ فقال علي: أنا، فقال (صلى الله عليه وآله) : أنت إن أدركته، فدخل عليه فوجده قد خرج، قال (صلى الله عليه وآله) : لو قُتل ما اختلف من أمّتي رجلان(1)...

  • ومن ذلك ما رواه أحمد في مسنده، بسنده عن علي (عليه السلام) ، قال: جاء النبيَّ (صلى الله عليه وآله) أناسٌ من قريش، فقالوا: يا محمّد إنّا جيرانك وحلفاؤك، وإن ناساً من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين، ولا رغبة في الفقه، إنّما فرّوا من ضياعنا وأموالنا، فارددهم إلينا، فقال لابي بكر: ما تقول؟ قال: صدقوا إنهم جيرانك، قال: فتغيّر وجه النبي (صلى الله عليه وآله) ، ثمّ قال لعمر: ما تقول؟ قال: صدقوا إنّهم لجيرانك و حلفاؤك، فتغيّر وجه النبي (صلى الله عليه وآله) .(2)

    وروى هذا الحديث النسائي في خصائصه، وفيه تتمه هي: ثمّ قال (صلى الله عليه وآله) : يا معشر قريش والله ليبعثن الله عليكم رجلا امتحن الله قلبه للإيمان فيضربكم على الدين ـ أو يضرب بعضكم ـ قال أبوبكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن ذلك الذي يخصف النعل، وقد كان أعطى عليا نعلا يخصفها.(3)

  • ومن ذلك تخلُّفُ مَن تَخَلَّفَ عن جيش أسامة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أمر بتجهيز جيش أسامة، ولعَنَ من تخلف عنه(4)، ولم يُبقِ أحداً من وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر

    ____________

    1- الإصابة 2: 409، عن أبي يعلى في مسنده 6: 341. و انظره في الزهد لابن مبارك 1: 64، و نوادر الأصول 1: 222 / في الاصل الحادي و الأربعين، ومجمع الزوائد 7: 257 ـ 258 عن أبي يعلي، قال: "و قد تقدمت لهذا الحديث طرق. في قتال الخوارج"، و انظر مسند أحمد 3: 15 عن أبي سعيد الخدري و عنه في مجمع الزوائد 6: 225 قال "و رجاله ثقات". و العقد الفريد 2: 244 ـ 245، و حلية الاولياء 3: 227، و البداية و النهاية 7: 298.

    2- مسند أحمد 1: 155، و انظره في الاحاديث المختارة للضياء المقدسي 2: 69 قال "إسناده حسن".

    3- خصائص أميرالمؤمنين: 69. و نقله المتقي في كنز العمال 13: 127 عن أحمد و ابن جرير ـ و صحّحه ـ و سنن سعيد بن منصور.

    4- انظر السقيفة و فدك: 77، و عنه في شرح النهج 6: 52، و الملل و النحل 1: 23.


    الصفحة 156
    وعمر وأبي عبيدة وسعد وأمثالهم، لكنّ بعضهم مكثوا وتعلّلوا بمرض رسول الله، وبعضهم ذهب إلى الجيش ورجع، وطعن بعضهم بتأميره أسامة بن زيد.

    قال العضد الايجي في المواقف: وكاختلافهم [أي الصحابة] بعد ذلك في التخلف عن جيش أسامة; فقال قوم بموجب الاتباع لقوله: جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه، وقال قوم بالتخلف انتظاراً لما يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه.(1)

    وقد كان أبوبكر وعمر من المأمورين بالانضواء تحت لواء أسامة(2)، لكنّهما رجعا وتخلفا عن الجيش لأمر دُبِّر بِلَيل، وكان ما كان من أمر السقيفة.

  • وكان طلحة وعثمان طامِعَين في بعض زوجات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، إذ كان الأول طامعاً في أمّ المؤمنين عائشة، والثاني طامعاً في أمّ المؤمنين أمّ سلمة، ونزل في ذلك قوله تعالى (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إنّ ذلكم كان عندالله عظيماً)(3)، وقوله (إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإنّ الله كان بكل شيء عليما)(4)، وقوله (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم)(5)، وقوله (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّلهم عذاباً مهينا)(6)، وقد تلفظا بألفاظ ينبو عنها اللسان، ولولا توخّينا إظهار الحقيقة لأعرضنا عن ذكرها، فقد

    ____________

    1- المواقف 3: 650. و انظر الملل و النحل 1: 23.

    2- انظر طبقات ابن سعد 2: 90، 4: 66، و تاريخ اليعقوبي 2: 113، و الكامل لابن الأثير 2: 317، و شرح النهج 1: 159، و سمط النجوم العوالي للعاصمي 2: 224، و السيرة النبوية لزيني دحلان 2: 339، و كنز العمال 5: 312، و منتخبه بهامش مسند أحمد 4: 180، و أنساب الأشراف 1: 474، و تهذيب تاريخ ابن عساكر 2: 391، و أسد الغابة 1: 68، و السيرة الحلبية 3: 234، و تاريخ أبي الفداء 1: 156.

    3- الأحزاب: 53.

    4- الأحزاب: 54.

    5- الأحزاب: 6.

    6- الأحزاب: 57.


    الصفحة 157
    تلفظا بمثل قولهما "اينكح محمد نساءنا إذا متنا ولا ننكح نساءه إذا مات؟ لو مات لقد أَجلنا على نسائه بالسهام"، وبمثل "لو مات محمد لتزوَّجْتُ عائشة" فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتأذى به، وبمثل "لئن عشتُ بعدَ محمّد لأنكحنّ عائشة".(1)

  • وفرّ طلحة و عثمان يوم أحد، وأراد أحدهما أن يتهود والآخر أن يتنصّر.

    فقد روى ابن جرير الطبري بسنده عن السدي، قال: وفشا في الناس أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة [الذين صعدوا إلى صخرة الجبل منهزمين في حرب أحد]: ليت لنا رسولا إلى عبدالله بن أُبيّ فيأخذ لنا أمَنَةً من أبي سفيان!! يا قوم إن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم...(2)

    و روى السدي في تفسير قوله تعالى (يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين)(3)، قال: لمّا أصيب أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) بأُحُد، قال عثمان: لألحقن بالشام فإن لي به صديقا من اليهود ـ يقال له: دهلك ـ فلآخذنّ منه أماناً، فإني أخاف أن يدال علينا اليهود، وقال طلحة بن عبيدالله: لأخرجنّ إلى الشام فإنّ لي صديقا من النصارى فلآخذنّ منه أماناً، فإني أخاف أن يدال علينا النصارى، قال السدي: فأراد أحدهما أن يتهود و

    ____________

    1- انظر تفسير القرطبي 14: 228 ـ 229، و تفسير الفخر الرازي 25: 225، و تفسير الثعلبي 8: 60، و تفسير ابن كثير 3: 505 ـ 506، و تفسير الطبري 22: 29 ـ 30، و معاني القرآن للنحاس 5: 373، و أسباب النزول: 243، و زاد المسير 6: 213، و طبقات ابن سعد 8: 201، و الاصابة 3: 433، و الدر المنثور 5: 214 ـ 215، و غيرها. و قد اتفقت كلّها على ذكر طلحة، و تحفّظت على عثمان إلاّ أنّ السديّ روى ذلك مصرِّحاً باسمه. (انظر دلائل الصدق 3: 337 ـ 339) و ثبوت هذا القول في طلحة فقط كاف في المقام لدحض افتراء عدم تقدّمهم بين يدي الله و رسوله.

    2- تفسير الطبري 4: 149، و تاريخ الطبري 2: 201، و الدر المنثور 2: 80، و البداية و النهاية 4: 26.

    3- المائدة: 51.


    الصفحة 158
    الآخر أن يتنصّر.

    قال: فأقبل طلحة على النبي (صلى الله عليه وآله) و عنده علي بن أبي طالب (عليه السلام) فاستأذنه طلحة في المسير إلى الشام. و قال: إن لي بها مالا آخذه ثمّ أنصرف، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : عن مثل هذا الحال تخذ لنا وتخرج و تدعنا؟! فأكثر على النبي (صلى الله عليه وآله) من الاستئذان، فغضب علي (عليه السلام) فقال: يا رسول الله ائذن لابن الحضرمية، فو الله ما عزّ من نَصَرَ ولا ذَلَّ من خذل، فكف طلحة عند ذلك، فانزل الله عزوجل فيهم (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنّهم لمعكم حبطت أعمالهم)(1) يعني أولئك، يقول: إنّه يحلف لكم أنّه مؤمن معكم فحبط عمله بما دخل فيه من أمر الإسلام حين نافق فيه.(2)

    وإذا لم يَرُق ذلك لأتباع طلحة وعثمان. فيكفي في المقام رواية السدي الأولى المصرِّحة بأنّ بعض أصحاب الصخرة من الصحابة أرادوا المساومة مع المنافقين على حساب الدين، كما إنها دالّة على وجود جماعة من الصحابة خالفوا أمر النبي (صلى الله عليه وآله) وتركوه في أحرج اللحظات، فهل هذا هو المنهج الواحد الذي تعنية في التسليم للسنة النبوية؟!!

  • وهناك مفردات كثيرة جدّاً جدّاً في تقدم الصحابة بين يدي الله ورسوله، وذلك التقدم منبثق من قربهم بعهد الجاهلية وعدم فهمهم لروح الاسلام ومقام الرسول والرسالة على واقعهما، وقد ألّفت في كثير منها الكتب والأسفار والمجلدات، وذكروا منها:

    أ ـ إنّ عمر جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وفي يده كتاب من أخ له من اليهود من بني زريق وأشار على النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يزداد به علماً إلى علمه، قالوا: فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أحمرّت وجنتاه،

    ____________

    1- المائدة: 53.

    2- الطرائف 2: 494، نقلا عن تفسير السدي. و قد نقل صدرَ هذه الرواية عن السديِّ الثعلبيُّ في تفسيره 4: 76 لكنه حذَفَ اسمَي الصحابيين عثمان و طلحة، فقال: "فقال رجل من المسلمين: أما أنا فألحق بدهلك اليهودي... و قال رجل آخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض اهل الشام فآخذ منه اماناً، و أنزل الله هذه الاية ينهاهما".


    الصفحة 159
    ثم نودي بـ "الصلاة جامعة"، فقالت الأنصار: أُغْضب نبيكم، السلاح السلاح...(1)

    ب ـ ولاقى عمرُ صفيةَ بنت عبدالمطلب عمّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال لها: يا صفيّة سمعت صراخك ـ وكانت قد مات لها ولد فبكته ـ إنّ قرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لن تغني عنك من الله شيئاً، فلما أخبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك غضب، قال الراوي وهو ابن عباس: فغضب النبي وقال: يا بلال هجّر بالصلاة، فهجّر بلال بالصلاة، فصعد المنبر (صلى الله عليه وآله) فحمدالله واثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع، كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي فانها موصولة في الدنيا والآخرة...(2)

    ج ـ ولما توفّي عبدالله بن أُبيّ جاء ابنه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطلب منه أن يكفنه في قميصه ويستغفر له ويصلي عليه، فلما جاء النبي (صلى الله عليه وآله) ليصلي عليه جذبه عمر(3) من ثوبه(4).

    د ـ واعترض عمر اعتراضاً فيه كثير من الغلظة على النبي (صلى الله عليه وآله) والتقدم بين يديه في صلح الحديبية، وجعل يردّ على رسول الله الكلام، وقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إني رضيتُ وتأبى(5)؟! وكان عمر يقول: فعملتُ لذلك أعمالا(6)، ويقول: ما شككت منذ أسلمت إلاّ

    ____________

    1- انظر تقييد العلم: 52، و مصنف عبدالرزاق 10: 313، و مجمع الزوائد 10: 174، و مسند أحمد 3: 387، و مصنف بن أبي شيبة 6: 228، السنة لابن أبي عاصم: 27، و الفائق 3: 412 "هَوَك". و لا حظ غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع أنّه على خلق عظيم بنصّ القرآن، و في المجموع للنووي 15: 328 قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعمر "أفي شكّ أنت يابن الخطّاب".

    2- مجمع الزوائد 8: 215 ـ 216. و في المعجم الكبير للطبراني 24: 424 روى عن عبدالرحمن بن أبي رافع مثل ذلك، و أن عمر قال لأم هانئ: "اعلمي أنّ محمّداً لا يغني عنك شيئاً".

    3- انظر هذه الجرأة على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في صحيح البخاري 7: 26 / كتاب اللباس، و سنن النسائي 4: 37، و سنن الترمذي 4: 343، و صحيح ابن حبان 7: 447.

    4- صحيح البخاري 5: 206، و صحيح مسلم 7: 116، 8: 120 / كتاب صفات المنافقين، و السنن الكبرى 3: 402.

    5- السيرة الحلبية 2: 706.

    6- صحيح البخاري 3: 182 / كتاب الصلح، و تفسير ابن كثير 4: 213 / في سورة الحجرات، و الدر المنثور 6: 77. و قال ابن حبان في صحيحه 11: 224. فعملت لذلك اعمالا، يعني في نقض الصحيفة".


    الصفحة 160
    يومئذ(1). ولم يكن عمر الوحيد في هذا المجال لكنه كان الرقم الصارخ، فقد روى الثعلبي ما أصاب الصحابة من الشك برؤيا النبي دخول المسجد الحرام. قائلا: وقد كان اصحاب رسول الله خرجوا و هم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فلما رأوا ذلك [الصلح] دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون... فقال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ.(2)

    هـ ـ ومن طوامّ عمر ما قاله عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ، و ذلك حين أراد أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً. إذ قال ألفاظاً في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي عين التقدم بين يديه وعينُ الردّ عليه.

    فقد روى بسنده عن ابن عباس. قال: لما اشتدّ بالنبي (صلى الله عليه وآله) وجعُهُ قال: ائتوني بكتاب، أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، قال عمر: إنّ النبي غَلَبَهُ الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلَّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين كتابه.(3)

    وروى البخاري أيضاً بسنده عن ابن عباس، انه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتد برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعه يوم الخمس، فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيّ تنازع.

    ____________

    1- صحيح ابن حبان 11: 224، و مصنف عبدالرزاق 5: 339، و تفسير الطبري 26: 129، و الدر المنثور 6: 77، و تفسير الثعلبي. و قال الصالحي الشامي في سبل الهدى و الرشاد 5: 53 "و قال [عمر] كما في الصحيح: و الله ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ، و جعل يردّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام".

    2- تفسير الثعلبي 9: 59 ـ 60.

    3- صحيح البخاري 1: 119 ـ 120 / كتاب العلم ـ باب كتابة العلم. و لا حظ مقولة "حسبنا كتاب الله" فهي دالة بالملازمة على منع عمر من التدوين و التحديث و الكتابة.


    الصفحة 161
    فقالوا: هَجَرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال: دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني اليه(1)...

    وروى البخاري أيضاً بسنده عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعُهُ، فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ماشأنه: أَهَجَرَ استَفْهِمُوهُ، فذهبوا يردُّون عليه، فقال: دعوني فالذي أنا فيه خيرٌ ممّا تدعوني إليه(2)...

    وروى بسنده عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: لمّا حُضِرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) و في البيت رجال. فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : قوموا. قال عبيدالله: فكان يقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.(3)

    وروى بسنده عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس، قال: لمّا حُضِرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي (صلى الله عليه وآله) : هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إنّ النبي قد غَلَب عليه الوجع. وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي (صلى الله عليه وآله) كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وآله) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : قوموا. قال عبيدالله: فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله)

    ____________

    1- صحيح البخاري 2: 490 / كتاب الجهاد و السير ـ باب جوائز الوفد.

    2- صحيح البخاري 3: 317 ـ 318 / كتاب المغازي ـ باب مرض النبي و وفاته / ح 871.

    3- صحيح البخاري 3: 318 / كتاب المغازي ـ باب مرض النبي و وفاته / ح 872. قال العيني في عمدة القاري 9: 63 "و في البيت رجال، أي و الحال أنّ في بيت النبي رجال من الصحابة و لم يُرد أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) ".


    الصفحة 162
    وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.(1)

    وقد صرّح الحميدي في الجمع بين الصحيحين في حديث القرطاس: فقالوا ما شأنه؟ فقال عمر: إن الرجل ليهجر.(2)

    وقال القاضي عياض في نسيم الرياض: وأمّا الاختلاف الذي وقع عنده (صلى الله عليه وآله) كما ورد في الأحاديث الصحيحة من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال في مرضه: ائتوني بدواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي، فقال عمر: إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله.(3)

    قال العيني في عمدة القاري: واختلف العلماء في الكتاب الذي هَمَّ (صلى الله عليه وآله) بكتابته، قال الخطابي: يحتمل وجهين، أحدهما أنه أراد أن ينصّ على الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين(4)...

    وقال ابن حجر: قوله "أَهجر" بهمزة الاستفهام، والاسم الهُجْر وهو الهذيان، ويطلق على كثرة الكلام الذي لا معنى له، قيل: وهو استفهام إنكار.(5)

    وقال العيني ـ عند شرحه الحديث المروي في باب جوائز الوفد ـ: قوله "أهجر" ويروى "هجر" بدون الهمزة... وقال ابن بطال: قالوا هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي اختلط، وأهجر إذا أفحش، وقال ابن التين: يقال هَجَرَ العليل ـ إذا هذى ـ يهجُرُ هجراً بالفتح، والهُجْر بالضم: الإفحاش. وقال ابن دريد: يقال هجَرَ الرجل في المنطق إذا تكلم بما لا معنى له، وأهجر إذا أفحش. قلت [و الكلام للعيني]: هذه العبارات كلّها فيها ترك الأدب والذكر بما لا يليق بحق

    ____________

    1- صحيح البخاري 4: 225 ـ 226 / كتاب المرضى و الطب ـ باب قول المريض قوموا عني. و رواه أيضاً في صحيحه 4: 774 / كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة ـ باب كراهية الخلاف.

    2- 3- 4- عمدة القاري 2: 171. و انظر في آخر كلامه اختلاق المعاذير لتنزيه عمر على حساب النيل من مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

    5- مقدمه فتح الباري 1: 200.


    الصفحة 163
    النبي، و لقد أفحش من أتى بهذه العبارة.(1)

    وقال العيني أيضاً ـ عند شرحه الحديث المروي في باب مرض النبي ووفاته من كتاب المغازي ـ: قوله "أهجر" بهمزة الاستفهام الإنكاري عند جميع رواة البخاري، وفي رواية الجهاد "هَجَرَ" بدون الهمزة، وفي رواية الكشميهني هناك "هَجَرَ هَجَرَ رسول الله" بتكرار لفظ هَجَرَ. وقال عياض: معنى هَجَرَ أفحَشَ، ويقال: هَجَرَ الرجل، إذا هذى، وأَهْجَرَ إذا أفحش.

    قلت [والقول للعيني]: نسبة هذا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لا يجوز، لأنّ وقوع مثل هذا الفعل عنه (صلى الله عليه وآله) مستحيل لأنّه معصوم في كل حالة في صحته و مرضه.

    وقد تكلموا في هذا الموضع كثيراً، وأكثره لا يجدي، والذي ينبغي أن يقال: إنّ الذين قالوا "ما شأنه أَهَجَرَ أو هَجَرَ" ـ بالهمزة و بدونها ـ هم الذين كانوا قريبي العهد بالاسلام و لم يكونوا عالمين بأنّ هذا القول لا يليق أن يقال في حقّه (صلى الله عليه وآله) (2) لأنّهم ظنوا أنّه مثل غيره من حيث الطبيعة البشرية، إذا اشتد الوجع على واحد منهم تكلم من غير تحرٍّ في كلامه...

    ومن أجل ذلك وقع بينهم التنازع حتى أنكر عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله "ولا ينبغي عند نبىّ التنازع" وفي الرواية الماضية "ولا ينبغي عندي تنازع" ومن جملة تنازعهم ردّهم عليه، و هو معنى قوله "فذهبوا يردّون عليه".(3)

    وهنا للقاري أن يحكم بين تصريحهم وتصريح القاري العيني بالردّ على النبي (صلى الله عليه وآله) ، وبين قول هذا الكويتب أنّ الصحابة كانوا على منهج واحد في التسليم، وأنّهم لم يعارضوا نَصّاً إذا كان يخالف سنّة النبي (صلى الله عليه وآله) ؟! فهذا مصَرّحٌ به، وهذا بكائ إبن عبّاس ماثل للعيان، وها هو استياء الرسول الاكرم منهم، وهاهي التصريحات بان نسبة الهجر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) تطاوُلٌ على حرمة النبوة.

    ____________

    1- عمدة القاري 14: 298.

    2- و قد عرفت أنّ عمر هو قائل هذا القول.

    3- عمدة القاري 18: 62.


    الصفحة 164
    وهذه الامثلة التي سقناها لك من الاختلافات والتقدم بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) مسبوقة وملحقة بعشرات بل مئات مثلها، اعترف بها القوم لكنهم حملوها ـ بتعسّف ـ على انها اختلافات اجتهادية!!! وأين كان المتنازعون في كتابة الكتاب عن قوله تعالى مخاطبا لنبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) (فلا و ربك لا يؤمنون حتّى يحكموك فيما شجر بينهم) وقوله(وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحي يوحى)؟!

    قال الشهرستاني بعد ذكره حديث ذي الخويصرة وردّه على النبي (صلى الله عليه وآله) : وذلك خروج صريح على النبي (صلى الله عليه وآله) ، ولو صار مَن اعترض على الإمام الحقّ خارجيّاً، فمن اعترض على الرسول أحقّ بأن يكون خارجيا(1)، أو ليس ذلك قولا بتحسين العقل وتقبيحه؟ وحُكماً بالهوى في مقابلة النص؟ واستكبارا على الأمر بقياس العقل؟(2)

    وقال: وأما الاختلافات الواقعة في حال مرضه (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته بين الصحابة فهي اختلافات اجتهادية كما قيل... فأول تنازع وقع في مرضه (صلى الله عليه وآله) فيما رواه الامام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري... [وساق رواية "قد غلبَهُ الوجع"]...

    الخلاف الثاني في مرضه (صلى الله عليه وآله) : أنه قال جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه، فقال قوم: يجب علينا امتثال أمره... و قال قوم: قد اشتد مرض النبيّ فلا تسع قلوبنا مفارقته...

    الخلاف الثالث: في موته (صلى الله عليه وآله) ، قال عمر بن الخطاب: من قال أنّ محمّداً قدمات قتلته بسيفي هذا، وإنّما رفع إلى السماء كما رفع عيسى (عليه السلام) ...

    الخلاف الرابع: في موضع دفنه (صلى الله عليه وآله) ... وأرادت جماعة نقله إلى بيت المقدس...

    الخلاف الخامس: في الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الامامة في كل زمان(3)...

    الخلاف السادس: في أمر فدك والتوارث عن النبي (صلى الله عليه وآله) ...

    ____________

    1- ولاحظ ان ذا الخويصرة اتّهم الرسول (صلى الله عليه وآله) بعدم العدل، و أنّ عمر اتّهمه بالهذيان.

    2- الملل و النحل 1: 21.

    3- لا حظ ما قاله الخطابي قبل قليل من أن النبي أراد أن ينص في الكتاب على الإمامة بعده.