الصفحة 79
الإمام القائم بالحقّ، يظهر به الدين، له غَيبة يرتدّ بها قوم ويثبت على الدين فيها آخرون(1).

  • بـيان:

    ولا يخفى أنّ المراد بالتاسـع هو التاسـع في سـلسـلة التوالد وأظهُر التناسـل، إذ لا معنى لغيره.

    وفي قوله (عليه السلام): " يرتدّ بها قوم ويثبت على الدين فيها آخرون " سـرّ عجيب وغيب عظيم، لا يُعرَف وجهه إلاّ بالنظر إلى الحال الحاضر منذ خمس وسـبعين سـنة، فإنّه وإنْ أنكر الغَيبةَ كثيرٌ من الناس وقالوا: إنّ المهديّ لم يولد ; لكنّ ذلك لم يبلغ بهم مبلغ الارتداد، بل إنّ عنوان الدين محفوظ عندهم ثابتون عليه، حتّى نشـأت بالفرقة الجديدة ناشـئة بدّلوا الدين والشـريعة، ونبذوا الكتاب، وخالفوا ضروريّات الدين، وارتدّوا عن فطرة، وخلعوا ربقة(2) الإسـلام عنهم بالكلّـيّـة.

    ____________

    (1) إكمال الدين: 317 ح 3، مقتضب الأثر: 23، كفاية الأثر: 232.

    (2) الرِبْـقة ـ في الأصل ـ: عروة في حبل تُجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها ; فاستعيرت للإسلام، يعني كلّ ما يشـدّ المسلم به نفسه من عرى الإسلام، أي حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه.

    انظر: لسان العرب 5 / 123 مادّة " ربق ".


    الصفحة 80
    32 ـ وروى الفضل بن شـاذان في كتاب " الغَيبة "، عن الحسـن بن محبـوب، عن مالك بن عطيّـة، عن ثابت بن دينـار(1)، عن أبي جعفـر الباقر (عليه السلام)، قال: خطب الحسـين أصحابه ليلة شـهادته فأخبرهم بالشـهادة، وذكر لهم القائم المنتقم من أعداء الله.

    فقيل له: يا بن رسـول الله! ومن القائم؟

    فقال: هو السـابع من أولاد ولدي محمّـد بن عليّ، وهو الحجّة ابن الحسـن بن عليّ بن محمّـد بن عليّ بن موسـى بن جعفر بن محمّـد بن عليّ ابني(2).


    *    *    *

    ____________

    (1) أي: أبي حمزة الثمالي. منه (قدس سره).

    (2) الغَيـبة: مفقود.


    الصفحة 81

    5 ـ فصـل
    [في ما روي عن الإمام عليّ السـجّاد (عليه السلام)]

    33 ـ وأسند الصدوق في الباب الحادي والثلاثين من " إكمال الدين " بسـندين، والطبرسـي في " الاحتجاج "، عن زين العابدين (عليه السلام) ـ في حديث ـ أنّه سـئل عن تسـمية جعفر بن محمّـد (عليه السلام) بالصادق، فقال: إنّ رسـول الله أمر بذلك ; لأنّ الخامس من وُلده(1) اسـمه جعفر، يدّعي الإمامة... فهو عند الله جعفـر الكذّاب، المفـتري على الله... ذلك الذي يروم كشـف سـرّ الله عند غَيـبة وليّ الله.

    ثمّ قال: كأنّي بجعفر الكذّاب قد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر وليّ الله، والمغيّب في حفظ الله... جهلا بولادته، وحرصاً على قتله إن ظفر به، طمعاً في ميراث أخيه ـ إلى أن قال: ـ ثمّ تمتدّ الغَيبة بوليّ الله(2).

    أقـول:

    وهذه الرواية رواها الفضل بن شـاذان في كتاب " الغَيبة "، عن صفوان ابن يحيى، عن إبراهيم بن أبي زياد، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي خالد الكابلي، عن زين العابدين (عليه السلام)(3)، وهي تبلغ مبلغ النصّ على أنّ الحجّة

    ____________

    (1) أي: وُلد الصادق. منه (قدس سره).

    (2) إكمال الدين: 319 ـ 320 ح 2، الاحتجاج 2 / 152 ـ 154 ح 188.

    (3) الغَيـبة: مفقود.


    الصفحة 82
    القائم، الذي يغيب وتمتدّ غَيبته، هو ابن الحسـن العسـكري (عليه السلام).

    34 ـ وأسـند الصـدوق في البـاب المذكور بسـندين عن زين العابدين (عليه السلام)، أنّه قال: في القائم سُـنّة من نوح، وهو طول العمر(1).

    35 ـ وأسـند أيضاً قوله (عليه السلام): إنّ للغائب منّا غَيـبتين، إحداهما أطول من الأُخرى... أمّا الأُخرى فيطول أمدها حتّى يرجع عن هذا الأمر أكثر من يقول به(2).

    36 ـ وفي مسـند آخر عنه (عليه السلام): إنّ في القائم منّا سُـنّة من سـبعة أنبياء ـ إلى أن قال: ـ فأمّا من آدم ونوح فطول العمر، وأمّا من إبراهيم فاختفاء الولادة واعتزال الناس، وأمّا من موسـى فالخوف والغَيـبة(3).

  • بـيان:

    لا يلزم أن يكون عمر الحجّة بطول عمر آدم أو نوح، بل يجـوز أن يكـون أطـول ; لأنّ الشـبه بالطول لا بالمقـدار، وبمجـرّد الغَيـبة لا بمقدارها ; وإنّ هذه الأحاديث الثلاثة لا تنطبق إلاّ على المهديّ بن الحسـن العسـكريّ وإنْ لم يصرّح فيها باسـمه واسـم أبيه.

    37 ـ وأسـند الخزّاز في (الكفاية)، عن زين العابدين ـ في حديث ـ قوله (عليه السلام) في شـأن الباقر (عليه السلام): يخرج من صلب محمّـد ابني سـبعة من الأوصياء، فيهم المهديّ(4).

  • بـيان:

    الحديث دالٌّ على أنّ المهديّ القائم هو وصيٌّ عن الإمام الذي قبله، موجودٌ عند موته.

    ____________

    (1) إكمال الدين: 322 ح 4 و 5.

    (2) إكمال الدين: 323 ـ 324 ح 8.

    (3) إكمال الدين: 321 ـ 322 ح 3.

    (4) كفاية الأثر: 243.


    الصفحة 83
    38 ـ وأسـند أيضاً عنه (عليه السلام) في شـأنّ الباقر (عليه السلام): إنّ الإمامة في وُلده إلى أن يقوم قائمنا فيملأُها قسـطاً وعدلا(1).

  • بـيان:

    الحديث دالٌّ على اسـتمرار الإمامة ووجود الإمام إلى قيام القـائم (عليه السلام).

    39 ـ وروى الفضل بن شـاذان في كتاب " الغَيبة "، عن صفوان بن يحيى، عن أبي أيّوب إبراهيم بن أبي زياد الخزّاز، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي خالد الكابلي، قال: دخلت منزل عليّ بن الحسـين (عليه السلام) وفي يده صحيفة ينظر إليها وهو يبكي بكاءً شـديداً.

    فقلت: ما هذه الصحيفة؟!

    فقـال: نسـخة اللـوح الذي أهداه الله لرسـوله، وفيها اسـم رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّـة (عليهم السلام)..

    وعدّهم واحداً بعد واحد إلى الحسـن العسـكري، وقال: وابنه حجّة الله، القائم بأمر الله، المنـتقم من أعداء الله، الذي يغيب غَيـبة طويلة، ثمّ يظهر بعدها فيملأ الأرض قسـطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً(2).


    *    *    *

    ____________

    (1) كفاية الأثر: 237.

    (2) الغَيـبة: مفقود.


    الصفحة 84

    6 ـ فصـل
    [في ما روي عن الإمام محمّـد الباقر (عليه السلام)]

    40 ـ وأسـند الشـيخ الطوسـي في كتاب " الغَيبة "، عن أبي جعفر البـاقر (عليه السلام) حديثـاً فيه تعـداد الأئمّـة الاثني عشـر، قـوله (عليه السلام) بعـد ذِكـر عليّ الهـادي (عليه السلام): وإلى ابنه الحسـن، وإلى ابنه محمّـد الهـاديّ المهـديّ (عليه السلام)(1).

    41 ـ وأسـند الكليني في " أُصول الكافي "، والنعماني في كتاب " الغَيـبة "، والشـيخ الطوسـي في كـتاب " الغَيـبة "، بأسـناد متعـدّدة، عـن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، أنّه سـئل عن قوله تعالى: ( فلا أُقسـم بالخنّس * الجوار الكنّس )(2)، فقال (عليه السلام): إمامٌ يخنس في... سـنة سـتّين ومائتين، ثمّ يبدو كالشـهاب الواقد في ظلمة الليل(3).

  • بـيان:

    السـنة المذكورة هي سـنة وفاة الحسـن العسـكريّ وسـنة إمامة المهديّ وغَيـبته.

    ____________

    (1) الغَيبة: 149 ح 110.

    (2) سـورة التكوير 81: 15 و 16.

    (3) أُصـول الكـافي 1 / 383 ح 22 و 23، الغَـيـبة ـ للنعـمـاني ـ: 150 ح 7، الغَيـبة ـ للطوسـي ـ: 159 ح 116.


    الصفحة 85
    42 ـ وأسند الخزّاز في (الكفاية)، عن الكميت، قول الباقر (عليه السلام) له: يا أبا المسـتهلّ! إنّ قائمنا هو التاسـع من وُلد الحسـين (عليه السلام)..

    وذكر الأئمّة واحداً بعد واحد إلى الحسـن العسـكري، وقال: وهو أبو القائم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسـطاً وعدلا(1).

    43 ـ وأسـند أيضاً قوله: قائمنا هو السـابع من وُلدي(2).


    *    *    *

    ____________

    (1) كفاية الأثر: 249 ـ 250.

    (2) كفاية الأثر: 252.


    الصفحة 86

    7 ـ فصـل
    [في ما روي عن الإمام جعفر الصـادق (عليه السلام)]

    44 ـ وأسـند الصدوق في الباب الثالث والثلاثين من " إكمال الدين " بسـندين عن الصادق (عليه السلام) ـ في حديث ـ أنّه قيل له: يا بن رسـول الله! فمن المهديّ من وُلدك؟

    قـال (عليه السلام): الخامس من وُلد السـابع، يغيـب عنـكم شـخصه، ولا يحلّ لكم تسـميته(1).

    45 ـ وأسـند أيضاً عنه قوله: الإمام بعدي موسـى ابني، والخلف المأمول المنتظَر مَن خرجَ من الحسـن بن عليّ بن محمّـد بن عليّ بن موسـى(2).

    46 ـ وأسـند أيضاً عنه (عليه السلام) ـ في حديث فيه تعداد الأئمّة ـ قوله بعد ذِكر الحسـن العسـكريّ: ثمّ محمّـد بن الحسـن(3).

    47 ـ وأسـند أيضاً عن أبي بصيـر ـ في حـديث ـ قال: فقلت له(4): يا بن رسـول الله! ومن القائم منكم أهل البيت؟

    فقال: هو الخامس من وُلد ابني موسـى، ذلك ابن سـيّدة الإماء، يغيب غَيـبة يرتاب فيها المبطلون، ثمّ يظهره الله عزّ وجلّ فيفـتح الله

    ____________

    (1) إكمال الدين: 333 ح 1 و ص 338 ح 12.

    (2) إكمال الدين: 334 ح 4.

    (3) إكمال الدين: 336 ـ 337 ح 9.

    (4) يعني الصادق (عليه السلام). منه (قدس سره).


    الصفحة 87
    على يده مشـارق الأرض ومغاربها(1).

    48 ـ وأسـند أيضاً عن الصادق (عليه السلام) أنّه سـئل عن الغَيبة، فقال: إنّ الغَيـبة سـتقع بالسـادس من وُلدي(2).

    49 ـ وأسـند النعماني في (غَيبته)، عن الصادق (عليه السلام)، حديث الرقّ الذي فيه تعداد الأئمّة واحداً بعد واحد، وفيه بعد اسـم الحسـن بن عليّ(3)ما نصّه: والخَلَـف الحجّـة(4).

    وهذا الحديث رواه الكراجكي أيضاً نقلا من كتاب " الغَيبة " للمفيـد(5).

  • بـيان:

    قد ذكرنا لك أنّ الخلف هو الذي يخلف المتوفّى في مقامه الحميد وآثاره الكريمة، ويقوم مقامه، ويسـدّ خلّة فقده.

    50 ـ وأسـند الخزّاز في (الكفاية)، عن الصادق (عليه السلام) ـ في حديث ـ قوله (عليه السلام): إنّ قائمنا يخرج من صلب الحسـن، والحسـن يخرج من صلب عليّ، وعليّ يخرج من صلب محمّـد، ومحمّـد يخرج من صلب عليّ، وعليّ يخرج من صلب ابني هـذا ; وأشـار إلى موسـى الكاظـم (عليه السلام)(6).

    51 ـ وأسـند عنه أيضاً حديثاً في تعداد الأئمّة إلى الحسـن

    ____________

    (1) إكمال الدين: 345 ح 31.

    (2) إكمال الدين: 342 ح 23.

    (3) أي: العسـكري. منه (قدس سره).

    (4) الغَيبة: 87 ـ 88 ح 18.

    (5)

    (6) كفاية الأثر: 261 ـ 262.


    الصفحة 88
    العسـكري، وقال: والمهديّ وَلَـدُ الحسـن (عليه السلام)(1).

    52 ـ وأسـند النعماني في كتاب " الغَيبة "، والصدوق في الباب الثالث والثلاثين من " إكمال الدين "، والشـيخ الطوسـي في كتاب " الغَيبة "، والخطيب الفقيه الشـافعي ـ المعروف بابن المغازلي ـ في كتاب " المناقب "، بأسـانيدهم عن الصادق، في حديث طويل منه قوله (عليه السلام): إنّي نظرت... في كتاب الجفر... المشـتمل على... علم ما كان وما يكون... وتأمّلت فيه مولدَ قائمنا، وغَيبتَه، وإبطاءَه، وطولَ عمره، وبلوى المؤمنين... وتولّد الشـكوك... من طول غَيبته، وارتداد أكثرهم عن دينهم، وخلعهم ربقة الإسـلام من أعناقهم.

    إلى أن قال (عليه السلام): إنّ الله تبارك وتعالى أدار للقائم ثلاثةً أدارها لثلاثة من الرسـل، قدّر مولده تقدير مولد موسـى، وقدّر غَيبته تقدير غَيبة عيسـى، وقدّر إبطاءه تقدير إبطاء نوح، وجعل له... عمر العبد الصالح ـ أعني الخضر ـ دليلا على عمره.

    ثمّ بيّن شَـبه مولده بموسـى (عليه السلام) فقال: إنّ بني العبّـاس وضعوا السـيف في آل الرسـول طلباً لقتل القائم، كما وضع فرعون السـيف في بني إسـرائيل طلباً لقتل موسـى (عليه السلام).

    إلى أن قال (عليه السلام): وأمّا غَيبة عيسـى فإنّ اليهود والنصارى اتّفقوا على أنّه قتل، فكذّبهم الله تعالى بقوله: ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُـبّه لهم )(2)، وكذلك غَيبة القائم فإنّ الأُمّة سـتنكرها لطولها، فمن قائل يهذي بأنّه لم يولد، وقائل [يفتري] يقول: إنّه وُلد ومات، وقائل

    ____________

    (1) كفاية الأثر: 263 وفيه: " المهديّ من ولد الحسـن " وهو تحريف ظاهر!!

    (2) سورة النساء 4: 157.


    الصفحة 89
    يكفر بقوله: إنّ حادي عشـرنا كان عقيماً، [وقائل يمرق بقوله: إنّه يتعدّى إلى ثالث عشـر فصاعداً] ، وقائل يعصي الله بقوله: إنّ روح القائم ينطبق في هيكل غيره.

    ثمّ بيّن (عليه السلام) شَـبَهَ إبطاء القائم بإبطاء نوح، بأنّ الله أمر نوحاً بغرس النوى سـبع مرّات، كلّ نواة من ثمر النواة التي قبلها، إلى أن تمحّص المؤمنون، وارتدّ الّذين في قلوبهم مرض، فقال (عليه السلام): وكذلك القائم [فإنّه] تمتدّ أيّام غَيبته فيصرّح الحقّ من محضه، ويصفو الإيمان من الكدر بارتداد [كلّ] من كانت طينـته خبيثة من الشـيعة(1).

    ثمّ بيّن (عليه السلام) أنّه لا حكمة مهمّة لنوع البشـر في إطالة عمر الخضر إلاّ الاسـتدلال به على عمر القائم، ليقطع بذلك حجّة المعاندين، لِما كان في سـابق علمه أن يقدّر من عمر القائم ما يقدّر من عمر الخضر (عليه السلام).

    انتهى محلّ الغرض من هذا الحديث، ولا بأس بالتعرّض لبعض البيان ممّا يتعلّق ببعض فقراته.

    قوله (عليه السلام): " قدّر إبطاءه بتقدير إبطاء نوح " أي بنحو ذلك القضاء، كما يوضّحه قوله (عليه السلام) بتقدير مولد موسـى وبتقدير غَيبة عيسـى، فقضى جلّ وعلا إبطاء القائم بنحو قضائه لإبطاء نوح، لنحو تلك الحكمة والتمحيص للمؤمنين بارتداد مرضى القلوب.

    وليس المراد من التقدير: المقدار ; إذ لا يسـاعد عليه اللفظ، وتأباه القرائن في قوله (عليه السلام) بتقدير مولد موسـى وتقدير غَيبة عيسـى.

    مضافاً إلى أنّ إرادة المقدار ترجع إلى التوقيت، وقد تضـافرت

    ____________

    (1) الغَيـبة ـ للنعماني ـ:     ، إكمـال الـدين: 352 ـ 357 ح 50، الغَيـبة ـ للطوسـي ـ: 167 ـ 173 ح 129، مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام):


    الصفحة 90
    الأخبار بأنّ زمان ظهوره ممّا اسـتأثر الله بعلمه، وقولهم (عليهم السلام): " كذب الوقّاتون "(1).

    وقد نقل بعض الناس أنّ بعض من يجنح لطريقة البابية قد ابتهج لهذا الحديث، وعدّه من الدلائل على طريقتهم، ويطالب الناس بالتدبّر في معناه وفهم كلام أُولي العصمة (عليهم السلام)! فيحمل (التقدير) في قوله (عليه السلام): " بتقدير إبطاء نوح " على إرادة المقدار، بحيث يرجع إلى بيـان الوقت لظهور المهديّ، فيقول: " إنّ المهديّ وُلد سـنة المائتين وخمس وخمسـين أو سـتّ وخمسـين، ونوحاً لبث في قومه ألف سـنة إلاّ خمسـين عاماً، فينطبق على دعوة الميرزا علي محمّـد، الملقّب بـ (الباب) "!

    قلـت:

    وإنّ حسـابه هذا يقتضي أن يكون وقت الظهور سـنة الألف ومائتين وخمس سـنين أو سـتّ، وعلي محمّـد وُلد سـنة الألف ومائتين وخمس وثلاثين، وادّعى دعواه لخمس وعشـرين سـنة من عمره، فتكون دعوته سـنة الألف ومائتين وسـتّين، فأين التطبيق؟!

    أفلا يكون من غرائب الكلام أن يعترف الشـخص بأنّ المهديّ وُلد سـنة المائتين وخمس وخمسـين، وأنّه أبطأ بإبطاء نوح تسـعمائة وخمسـين سـنة، ثمّ يقول: هو علي محمّـد المولود سـنة الألف ومائتين وخمس وثلاثين؟!

    أفلا يقول: إنّ المولود بذلك التاريخ كيف يكون هو المولود بعد

    ____________

    (1) الغَيبة ـ للنعماني ـ: 289 ـ 290 ح 6 و ص 294 ح 11 ـ 13.


    الصفحة 91
    تسـعمائة وخمسـين سـنة؟! إلاّ أن يقول: بأنّ المولود الأوّل مات وحلّت روحه بعد المدّة الطويلة في المولود الثاني بنحو التناسـخ!!

    ولكنّ نفس الرواية تكذّبه فضلا عن دليل العقل والنقل، فإنّ نفس الرواية وبّخت من يقول بأنّ المهديّ وُلد ومات، ومن يقول بأنّ روح القائم ينطبق في هيكل غيره على التناسـخ.

    والحاصـل: إنّ مضمون الرواية قد عيّن أنّ القائم المهديّ هو ابن الإمام الحادي عشـر (عليه السلام) بقوله: " وقائل يكفر بقوله: إنّ حادي عشـرنا كان عقيماً "، وبيّن (عليه السلام) أيضاً أنّ طول غَيبته كثير، يحتاج إلى إقامة الحجّة فيه على الناس المعترفين بالخضر وطول عمره، فإنّ طول عمر الخضر قد بلغ الآن ما يزيد على الألـفَي سـنة.

    فـائـدة

    إنْ سـأل سـائل وقال: لماذا كانت الحجّة بعمر الخضر ولم تكن بعمر آدم؟! وكثير من ذرّيّته الّذين ذكرت التوارة أنّهم عمّروا نحو التسـعمائة والألف، بل ونوح الذي ذكر القرآن الكريم أنّه لبث في قومه ألف سـنة إلاّ خمسـين عاماً، بل وعمر عيسـى الذي قارب في هذا الوقت أن يبلغ الألـفَي سـنة.

    قلـت: إنّ الله خبير بعباده، عالم بالجهات التي تميلهم إليها الأهواء، عالم بأنّ في الناس من يقول ـ إذا ضايقته الحجّة ـ: إنّ طول عمر آدم وبعض ذرّيّته إلى نحو الألف سـنة لم يثبت ; لأنّ التوراة محرّفة، والتواريخ لا عبرة بها، وإنْ ثَبتَ فهو كطول عمر نوح، كان من مقتضيات الطبيعة في

    الصفحة 92
    ذلك الدور، ومناسـبة الارتباط ببعض الأوضاع الفلكية ونوبة بعض السـيّارات في التأثير.

    وأمّا في هذه الأدوار فلا يكون ذلك لاقتضاء الطبيعة ـ بمناسـباتها ـ قصر الأعمار.

    وأمّا عمر عيسـى، فإنّ طوله لأجل حلوله في السـماء، وتأثير العالم العلوي غير تأثير العالم السـفلي.

    هذا غاية ما يتوهّم في هذا المقام، وحيث علم الله أنّ الأهواء تتمايل بالناس إلى مثل هذه الأوهام، شـاء الله أن يجاريهم ويحتجّ عليهم بالحجّة البالغة في ما يقرّون ويذعنون به في دينهم واعتقادهم من أمر الخضر، ويقول لهم: إنّ الله القادر، خالق الأفلاك والسـماوات، والأرض والسـيّارات، ومناسـباتها، ربّ العالم العلوي والسـفلي، وذلك الدور، وهذا الدور، لَقادرٌ على أن يطيل عمر القائم لحكمة عظيمة فيه، كما أطال عمر الخضر في الأرض في هذه الأدوار، دور القائم وما قبله.

    وهذا هو الحكمة بالاحتجاج بطول عمر الخضر قطعاً لشـبهات الأوهـام.

    ولعلّ ناشـئة البابية تكابر وتنكر وجود الخضر وطول عمره إلى الآن، ولكنّ اتّفاق المسـلمين على ذلك، وتضافر الأحاديث ـ ومن جملتها هذا الحديث ـ حجّة على هذه الناشـئة الجديدة، شـاءت أو أبت!

    وفي هذه الرواية أيضاً من أنباء الغيب ما أبانت الأيّامُ مصداقه، وصرّحت بإشـارته في أنّ كثيراً من المؤمنين لأجل طول الغَيبة يرتدّون عن دينهم، ويخلعون ربقة الإسـلام عن أعناقهم، حيث إنّ كثيراً ممّن وُلد على فطرة الإسـلام لم يبق على شـيء من دين الإسـلام وشـريعته، وعاند

    الصفحة 93
    بجحوده ضروريّات الدين ونصوص القرآن ومتواترات السُـنّة ; والله المسـتعان على ما يصفون.

    53 ـ وأسـند الكليني في " أُصول الكافي "، عن الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: للقائم منّا غَيبتان، إحداهما قصيرة والأُخرى طويلة، [الغَيبة] الأُولى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة شـيعته، والأُخرى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة مواليه(1).

  • بـيان:

    المراد بمواليه: خدمه وحشـمه.

    54 ـ وأسـند أيضاً هو والنعماني في كتاب " الغَيبة " قوله (عليه السلام): للقائم غَيبتان، يشـهد في إحداهما المواسـم، يرى الناس ولا يرونه(2).

    55 ـ وأسـند كلاهما أيضاً قوله (عليه السلام): يفقد الناس إمامهم، يشـهد المواسـم، يراهم ولا يرونه(3).

    56 ـ وأسـند ابن عيّـاش في " مقتضب الأثر "، عن الصادق (عليه السلام) في ذِكـر الأئمّـة الاثـني عشـر ومَن هو بعـد البـاقر (عليه السلام)، فقال: أنا وابني هـذا ـ وأشـار إلى موسـى الكاظم (عليه السلام) ـ والخامس من وُلده يغيب شـخصه، ولا يحلّ ذِكر اسـمه(4).

  • بـيان:

    اكتفى الإمام في البيان على ذِكر موسـى على ما هو معلوم، وفيه كثير من الروايات أنّ الإمامة من بعد الحسـين تنتقل في الأولاد، فكأنّه قال (عليه السلام): " وفي أولاد موسـى "، ثمّ بيّن (عليه السلام) أنّ خاتم الأئمّة وتمام عدّتهم

    ____________

    (1) أُصول الكافي 1 / 382 ح 19.

    (2) أُصول الكافي 1 / 380 ح 12، الغَيبة: 175 ـ 176 ح 16.

    (3) أُصول الكافي 1 / 378 ـ 379 ح 6، الغَيبة: 175 ح 14.

    (4) مقتضب الأثر: 41.


    الصفحة 94
    يغيـب.

    57 ـ وأسـند الحافظ أبو نعيم في (أربعينه)، عن الصادق (عليه السلام) قوله: الخلف الصالح من وُلدي، وهو المهديّ، اسـمه محمّـد، وكنيته أبو القاسـم، يخرج في آخر الزمـان، يقـال لأُمّه: نرجـس(1).

    58 ـ وروى الفضل بن شـاذان في كتاب " الغَيبة "، عن علي بن الحكم، عن سـيف بن عميرة، عن علقمة بن محمّـد الحضرمي، عن الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: الأئمّة اثنا عشـر.

    فسـئل عن أسـمائهم، فذكرهم واحداً بعد واحد إلى الحسـن العسـكري (عليه السلام)، وقال (عليه السلام): وبعده ولده المهديّ (عليه السلام)(2).


    *    *    *

    ____________

    (1) الأربعين:

    (2) الغَيـبة: مفقود.


    الصفحة 95

    8 ـ فصـل
    [في ما روي عن الإمام موسـى الكاظم (عليه السلام) والأئمّـة (عليهم السلام)
    في الغَيـبة والتمحيص أثـنائها]

    59 ـ وأسـند الكليني في " الكافي "، والصدوق في الباب الرابع والثلاثين من " إكمال الدين "، والخزّاز في " كفاية الأثر "، والشـيخ الطوسـي في كتاب " الغَيبة "، بأسـانيدهم عن الإمام موسـى بن جعفر (عليه السلام)، أنّه قال: إذا فُقد الخامس من وُلد السـابع فالله الله في أديانكم لا يردّكم أحد عنها، إنّه لا بُـدّ لصاحب [هذا] الأمر من غَيبة حتّى يرجع عن هذا الأمر أكثر من يقول بـه(1).

    60 ـ وأسـند الصـدوق أيضاً، والخـزّاز في (الكفاية)، عن يونـس ابن عبـد الرحمن، قال: دخلت على موسـى بن جعفـر فقلت له: يا بن رسـول الله! أنت القائم بالحقّ؟

    فقال (عليه السلام): أنا القائم بالحقّ، ولكنّ القائم الذي يطهّر الأرض من أعداء الله ويملأها عدلا كما ملئت ظلماً وجوراً هو الخامس من وُلدي، له غَيبة يطول أمدها خوفاً على نفسـه، يرتدّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون(2).

    ____________

    (1) أُصول الكافي 1 / 376 ح 2، إكمال الدين: 359 ـ 360 ح 1، كفاية الأثر: 264، الغَيبة: 166 ح 128.

    (2) إكمال الدين: 361 ح 5، كفاية الأثر: 265.


    الصفحة 96

  • تـنـبـيـه:

    أُنظر إلى التحذير في الحديث السـابق، والتأكيد في الأمر بالتمسّك بالدين، وعدم الارتداد عن الدين بما يلفّقه الضُلاّل في حال الغَيبة كما أخبر به في هذا الحديث، وقد ظهر مصداق إخباره وتحذيره وبانَ فيه سـرُّ الغيب، ولا بأس بأن نتعرّض لشـيء من هذا النحو، عسـى أن يكون موعظة ونجاة لبعض المؤمنين.

    61 ـ أسـند الكليني في " أُصول الكافي "، والنعماني في كتاب " الغَيبة "، بسنديهما عن يمان التمّار، قال: كنّا عند أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)جلوسـاً، فقال لنا: إنّ لصاحب هذا الأمر غَيبة، المتمسّـك فيها بدينه كالخـارط للقتاد ; ثمّ قال هكذا بيـده; فأيّكم يمسـك شـوك القتاد بـيده؟!

    ثمّ أطرق مليّاً ثمّ قال: إنّ لصاحب هذا الأمر غَيبة، فليتّقِ اللهَ عبدٌ وليتمسّـك بدينه(1).

    62 ـ وروى المفيد في كتاب " الجوابات "، عن الصادق (عليه السلام) قوله: كيف بكم إذا التفتّم يميناً فلم تروا أحداً! والتفتّم شـمالا فلم تروا أحداً! واسـتوت أقدام بني عبـد المطّلب، ورجع عن هذا الأمر كثير ممّن يعتـقده، يمسـي أحدكم مؤمناً ويصبح كافراً، فالله الله في أديانـكم!(2).

    ____________

    (1) أُصول الكافي 1 / 376 ح 1، الغَيبة: 169 ح 11.

    (2) الرسالة الثانية في الغَيبة: 13.


    الصفحة 97
    63 ـ وأسـند الصدوق في الباب الثالث والعشـرين(1) من " إكمال الدين "، عن أبي عبـد الله (عليه السلام) قوله: إنّ لصاحب هذا الأمر غَيبة، فليتّقِ الله عبـدٌ وليتمسّـك بدينه(2).

    64 ـ وأسـند الكليني في " أُصول الكافي " بسـندين، والصدوق في الباب الثالث والعشـرين من " إكمال الدين "، والشـيخ الطوسـي في (غَيبته)، بأسـانيدهم عن المفضّل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام) قوله: أَمَا والله لَيغيبنّ عنكم صاحب هذا الأمر... ولتكـفأنّ كما تكـفأ السـفينة في أمواج البحر، لا ينجو إلاّ من أخذ الله ميثاقه، وكتب الإيمان في قلبه، وأيّده بروح منه...

    قال المفضّل: فبكيت، ثمّ قلت: فكيف نصنع؟

    قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصُفّة(3) فقال: يا أبا عبـد الله! ترى هذه الشـمس؟

    قلت: نعم.

    فقال: والله لأَمرُنا أبينُ من هذه الشـمس(4).

    65 ـ وأسـند الكليني في " أُصول الكافي "، والصدوق في الباب

    ____________

    (1) كذا في الأصل في هذا الحديث والذي يليه، وهو تصحيف في الموضعين ; والصحيح في كليهما: الباب 33، وهو في ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في النصّ على الإمام المهديّ (عليه السلام) ; لاحـظ المصدر!

    (2) إكمال الدين: 343 ح 25، و ص 347 ذ ح 34.

    (3) الصُـفّـة ـ من البُنيان ـ: شـبه البهو الواسـع الطويل السَـمْك ; انظر: لسـان العرب 7 / 364 مادّة " صفف ".

    (4) أُصول الكافي 1 / 377 ح 3 و ص 380 ح 11، إكمال الدين: 347 ح 35، الغَيبة: 337 ـ 338 ح 285.