وإن كنت تدري فقل لي كيف أمكن في رشـدك وشـعورك أنّ البشـر ـ وخصوص علي محمّـد وحسـين علي ـ يكون إلهاً، ويكون هو الله ربّ العالمين؟! فاذكر لي دليلك الذي أقنعك في ذلك، حتّى أُبيّن لك بعون الله ضـلاله.
هداك الله! إنّك وكلّ ذي شـعور لتشـمئزّون وتنفرون من الإنسـان الكاذب، أفلا تقول لـ (علي محمّـد أو حسـين علي): يا هذا الذي يزعم أنّه الإله! ألسـتَ تقول: إنّك أنت الإله الذي ظهر بظهور موسـى وعيسـى ومحمّـد والأئمّة من بعده، وأنزلت من كلامك ووحيك كتباً هي التوراة والأناجيل الأربعة والقرآن؟!..
فذكرتَ في الأناجيل في معجزات عيسـى قصصاً طويلة عريضة متكرّرة في حوادث خاصّة، ووقائع عجيبة، وأشـخاص مخصوصين، وجلوتها بأوضح النصوص..
وذكرتَ في القرآن وظهورك في محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليّ والأئمّة، أنّ محمّـداً خاتم النبيّين، انقطع بموته الوحي، وأنّه لا نبيّ بعده، وأنّ الدين عند الله الإسـلام، ومن يبتغ غير الإسـلام ديناً فلن يقبل منه، وأنّه لا أمد ولا غاية لشـريعة الإسـلام، وأنّ القرآن يهدي للّتي هي أقوم، وأنّ من يتمسّك به لا يضلّ أبداً إلى يوم البعث، وأنّ الله يبعث الموتى من القبور، من الأوّلين والآخِرين، ويحييهم في يوم الجزاء بعد أن كانوا تراباً ورميماً، واحتججت على ذلك بقدرتك على خلقهم أوّل مرّة، وذممت المنكِرين لذلك، ووبّختهم توبيخاً عظيماً، وكرّرت ذلك في القرآن، وفي أقوالك بظهورك في محمّـد والأئمّة..
وبشّرت في أقوالك بظهورك في محمّـد والأئمّة بأنّ التاسـع من وُلد
فما بالك ـ يا هذا الإله! ـ بظهوراتك الجديدة تخالف جميع الأقوال المتقدّمة وتناقضها، كما أحصوها الناس علينا مفصّلة على ما مرّ في الموانع المتقدّمة؟!
فيا حبّذا صَمْتُ الصُمِّ، إذ لا تظهر عليه هذه التناقضات والمخالفات!
هداك الله! وهذا كاف لك في إبطال مزاعم هؤلاء، ورجوعك إلى الحقّ والهدى، وكاف في قيام الحجّة عليك عند الله.
وإن شـئتَ زيادة الاسـتيضاح، أو التبس عليك شـيءٌ ممّا كتبناه، أو شـككت فيه، فراجعنا في ما عندك من الحجج والشـبهات، فإنّي بعون الله لا أضجر ولا أنكل.
ولئن سـاءك ـ عاجلا ـ قولي: فلانٌ كاذب ومتناقض الأقوال ; فأرجو منك المسـامحة في ذلك ; لأنّ الحجّة لا تسـير سـيرها إلاّ بذلك، وقد قلتُ منه أقلّ المجزي، وإنّي لم أقله إلاّ في حقّ بشـر قد سـاءني في ديني، وشـريعتي، وقرآني، وإلهي وكُتُبِ وحيِه، ونهجِ الهدى وسـبيلِ الحقّ، وأهلِ ديني وإخواني، ولغتي العربية في كلماتها وإعرابها، ومحاورةِ العقلاء، وطريقِ المكالمة والخطاب، وطريقةِ التفهّم والتفهيم!
وقد بقي في نفسـي معك سـؤال، أُقسـم فيه عليك بشـرف الكمال ومجد الديانة، وأرجو أن تجيبني بحرّية الإنصاف وفضيلة طلب الحقيقة، وهـو:
فهل تجد لفظاً أوضح دلالة من الألفاظ المتقدّمة على المعاني التي احتججنا بها؟!
وانظر في خطابك مع أهل بيتك وأولادك وخدمك وعَمَلَتِك، فبماذا تخاطبهم إذا أردتَ أن يفهموا مرادك ويطيعوك ولا يخالفوك؟! وبماذا تخاطبني إذا أردتَ أن أفهم مرادك وأعرف مقصودك؟! أعندك غير طريقة العقلاء في محاوراتهم؟!
أفلا تنظر أنّ الطريق الذي تعسّـفتموه من التأويل لا يبقي بقيّة في مقام التفهيم والتفهّم، ولا يبقي لك في كلام كلّ متكلّم أن تقول: إنّي فهمته، وإنّه صدق أو كذب، أو أمر أو نهى؟!
فإنّ تأويلكم الذي لا ميزان له يجري على طريقتـكم في كلّ كلام، فلا يفهم للكلام معنىً محصَّل، خصوصاً إذا لم نراعِ قواعد اللغة في مادّة اللفظ وإعرابه، بل جعلنا الغلط والإلحان ديدناً في الكلام كما هو ديدن (بيانكم).
وقد ذكرنا قريـباً قول حسـين علي، أنّ " البـيان " ينوح ويقول له: " إنّ القوم قد حرّفوا ما نزل فيَّ لإثبات حقّـك "!
أرشـدك الله! فانظر إلى " البيان " من أوّله إلى آخره، وقل أيّ كلام فيه هو نصّ أو صريح أو ظاهر في حقّ حسـين علي، بحيث تكون مخالفته تحريفاً مذموماً؟!
مع أنّ مخالفاتكم لنصّ القرآن، والأحاديث وصراحتها المكرّرة
أفلا تعتبر بهذا أقلاًّ وتراعي شـرف الحقّ وعزّة نفسـك عليك؟!
وفي ما ذكرناه من الموانع كفاية في الهدى لأُولي الألباب..
ولكن ربّما تريد أن تنظر في حجّة الميرزا علي محمّـد، والميرزا حسـين علي، فنقول: إنّا نذكر لك غاية ما وجدناه من الحجج، ونتكلّم على ما فيها، وإن كان عندك غيرها فاذكره لنا بشـواهده ودلائله لننظر فيه، وهاك ما وجدناه من وجوه الاحتجاج بالشـبهات:
الشـبهات التي احتجّت بها
البابـيـة والبهائيـة
للتمسّك بعقائدهم الباطلة
الشـبـهة الأُولى
[عدم نزول العذاب والعقوبة]
احتجّ أصحابكم بأنّ الميرزا علي محمّـد والميرزا حسـين علي جاءا بكتب وقالا: إنّها من وحي الله وكلامه ; فلو كانا كاذبين لأهلكهما الله بضربة عذابه وقطع منهما الوتين، وعجّل لهما العقوبة ولم يمهلهما ; وذلك لقوله جلّ اسـمه في القرآن الكريم في سـورة الحاقّة: ( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثمّ لقطعنا منه الوتين )(1).
فنـقول:
دع عنك الكثيرين الّذين ادّعوا النبوّة والوحي كذباً على الله، من مسـيلمة والعنسـي، ومن قبلهما ومن بعدهما، فأمهلهم الله بأكثر ممّا أمهل به علي محمّـد..
ولكن تبصّر أقلاًّ في أنّ الميرزا يحيى ـ الملقّب بصبح الأزل ـ قد جاء بكتاب وكلام ينسـبه إلى الوحي وقول الله عزّ وجلّ، وهذا أخوه بهاؤكم يكفّره ويكذّبه، ويجعله وقومه شـرّاً من فرعون وهامان والشـيطان، وأنّهم حرّفوا " البيان "، ويلعنهم، إلى غير ذلك ممّا هاجت به أحزانه في كتابه المسـمّى " ألواح "، إذ كتبه في السـجن الذي تسـبّب عن معارضة أخيه الميرزا يحيى كما ذكرناه في مقام ادّعاء حسـين علي للإلهيّة! فراجعه(2).
____________
(1) سـورة الحاقّة 69: 44 ـ 46.
(2) راجع الصفحة 182 ـ 184.
وممّا وجدناه من كلام الميرزا يحيى في هذا المقام قوله: " بسـم الله الرحمن الرحيم، لقد جاءكم نور من لدنّا بالحقّ مصدّقاً لما معكم من الكتاب فلا تتّخذوا العجل من بعده وأنتم تعلمون، إنّ الّذين يتّخذون العجل من بعد نور الله هم المشـركون "!
ومن ذلك قوله أيضاً: " قاتلوا الّذين كفروا بنور الله حتّى لا تكون بينكم فتنة، وأن اسـتعينوا بالبيان يوم التقاء الجمعاء، حينئذ على العرش اسـتوى الرحمن، اتّقوا الله وثمّ تـتّـقون " ; انتهى.
فقـل:
أيكون هذان الرجلان صادقَين في ما يدّعيان من الوحي وقول الله عزّ وجلّ في تكفير كلّ واحد منهما لصاحبه؟! أم تقول: كلاهما كاذبان في هذا الموضوع؟! أم تقول: إنّ أحدهما كاذب؟!
فنـقول:
إذاً، لا بُـدّ من أن يكون أحدهما أو كلٌّ منهما كاذب متقوّل على الله، مع أنّ الله لم يضربه بالهلكة، ولم يقطع وتينه، بل أملى له وأمهله، فسـقط احتجاجكم، وبهذا تعرف أنّ مفاد الآيات المتقدّمة يختصّ ـ كاختصاص لفظها ـ برسـول الله خاتم النبيّين، الذي ما ينطق عن الهوى.
الشـبـهة الثـانيـة
[ثبات الناس على البابية وتمسّـكهم بها]
ما سـمعناه عن بعض النـاس ; وهو: إنّه خُـيِّـل له أنّ ثبات البابية على أمرهم دليل على حقّهم.
فنـقول له:
إنّا نسـتلفت اعتبارك إلى جميع نحل الضلال كيف قد ثبت عليها أهلوها قروناً متطاولة، يبذلون في سـبيلها النفس والنفيس، فهذه الضلالة كتلك الضلالات!
وإنّ أكثر الّذين تلبّسـوا بالبابية يتسـتّرون مدّة من الزمان، ويموِّهون أمرهم في الظاهر بإجراء رسـوم الإسـلام، وما يدريك بأنّه كم من بابيّ رجع من هؤلاء إلى الحقّ قبل افتضاحه بنحلة الباطل، ولو ذكرنا لك الراجعين عن البابية بعد أن عُرِفوا بها لقلت: إنّها أسـماء بغير مسـمّىً ; وذلك لأنّهم أُناس غير معروفين لديك، فلنكـتف بالعمدة وفيه الكفاية، وذلـك:
إنّ المؤرّخين لأحوال الميرزا علي محمّـد يذكرون أنّه في شـيراز حين برّح به الضرب تاب وأناب على يد الوالي نظام الدولة حسـين خان المراغي، وأعلن بتوبته على يد العلماء في مسـجد شـيراز الأعظم المسـمّى (مسـجد نو) وجاهرَ بها على المنبر، واسـتغفر من جميع دعاويه، وعدّها واحدة واحدة في مقام التوبة والاسـتغفار.
لكنّه لم يتب عند جلبه الذي قُتل فيه ; ليقينه بأنّ التوبة لا تنجيه من القتل كما أنجته من الضرب ; لأنّه إن سـومح في أمر الدين فلا يسـامَح في أمر السـياسـة، وحَمْله لدعاته على الثورات التي أهلكوا فيها مئات من أطفال المسـلمين فضلا عن غيرهم.
وهذا عدمُ ثباتِ علي محمّـد، وهو الداعي وأسـاس الدعوى، ولم يصـدر مثـل ذلـك مـن مؤسّـس لِـدينِ حـقّ وداع إليـه أصـلا ورأسـاً، بل لا يجوز عقلا ونقلا، بل لم يُسـمَع بمثل ذلك مِن غالب مَن أسّـس دعوةَ ضـلال!
[من تاب من البابـيّـة]
وممّن تاب من البابية:
الملاّ علي أصغر النيسـابوري، فإنّه كان الداعية المعاضد للبشـروئي على الدعوة في خراسـان، ولمّا أحضره الشـاهزاده حشـمة الدولة حمزة ميرزا في مرتع (زادگان) خاف على نفسـه، فتاب وأخذ يسـبّ الباب ويشـتمه ويتبرّأ منه.
وممّن أظهر التوبة هو:
السـيّد حسـين اليزدي، وهو من قدماء أصحاب علي محمّـد ودعاته، وقرينه في الحبس في (ماكو)، وزميله في جلبه إلى تبريز للقتل، فإنّه لمّا أُخذ هو وعلي محمّـد إلى محفل السـيّد
وممّن تاب أيضاً:
الآقا رسـول مع ثلاثين نفراً من عسـكر البابية، تابـوا بعـد قـتل البشـروئي، وحينمـا صـار القائـد لهـم الحـاجّ محمّـد علي ـ الملقّب " قدّوس " ـ فإنّهم اسـتأمنوا من عسـكر المسـلمين وتابوا وتبرّوا من (الباب)، ولكنّ بعض العسـكر قتل الآقا رسـول مع بعض أصحابه غيلة، فرجع الباقون إلى قلعة البابية، فقتلهم البابية لأجل ارتدادهم عن الدين الجـديد!!
وممّن تاب أيضاً من هذا العسـكر:
رضا خان بن محمّـد خان ميرا آخور الملك محمّـد شـاه مع ثلاثة وعشـرين رجلا، اسـتأمنوا من عسـكر المسـلمين وأحسـنوا توبتهم، وأخبروا قائد العسـكر الإسـلامي بانحلال قوى البابية في القلعة ; ولمّا سُـلّم الحاجّ محمّـد علي قائد العسـكر البابي لعسـكر المسـلمين أظهر شـطرٌ منهم توبتَهم والعدولَ عن دين البابيّة.
وممّن تاب من أركان البابية ودعاتهم هو:
الحاجّ عبـد الكريم الطهراني، ونجله محمّـد حسـن، نزيلا مصر، وكان الحاجّ عبـد الكريم هاجر إلى أمريكا لتقوية أمر عبّـاس أفندي على أخيه محمّـد علي، وبعد أن
____________
(1) كذا في الأصل، ولعلّه هو: المولى المتألّه الآقا علي ـ الشهير بالمدرّس الطهراني ـ ابن المولى عبـد الله المدرّس الزنوزي التبريزي، المتوفّى حدود سنة 1309 هـ.
انظر: أعيان الشـيعة 8 / 268.
وهذا ما وصل إلينا بالنقل المعتمَد من التواريخ المتعدّدة في أمر التوبة من البابيّة، من زعيم دعوتها وأركانها.
نعم، ثبت عليها أبو الفضل الگلپايگاني الجربادقاني، ومن ثباته أنّه صار يعين بعض الملل ويحرّر لهم الاعتراضات على الإسـلام والقرآن الكريم! ثمّ جاهر بذلك في كتابه " الدرر البهيّة "! بل من ثباته ورسـوخ إيمانه في البابيّة صار يأخذ من كلّ ملّة دراهمها، ويلفّق لها من الواهيات ردّاً على أضدادها!
وثبت على البابيّة أيضاً البهائيةُ والأزليةُ، ومن ثباتهم صار يكفّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً!
وثبت على البابيّة ولدا حسـين علي وأصحابهما، وهم: الميرزا محمّـد علي وأصحابه، وعبّـاس أفندي وأصحابه، وصار الفريقان ـ أيضاً ـ يكفّر بعضهم بعضاً، ويشـنّع بعضهم على بعض!
فإن كنت ترى الحقّ في واحدة من الفرق، فقد ارتدّ باقي الفرق عن الحقّ وكفروا، فبخ بخ لهذا الثبات!
الشـبـهة الثـالثـة
[كثرة الأتباع في مدّة قصيرة]
إنّ رسـول الله دعا الناس عشـر سـنين فلم يتّبعه إلاّ قليل من ضعفاء الناس ; و (الباب) لم تمض على دعوته خمس سـنين حتّى تبعه الجمّ الغفير، وفيهم الأشـراف والأكابر، فانعقدت لهم الألوية، وتجنّدت منهم الجنود، وقامت الحروب بهم على سـاق.
فأقـول:
أوّلا:
إنّ المتمهدي محمّـد أحمد في أفريقا امتدّ أمره في أقلّ من خمس سـنين، ومَلَكَ من تخوم مصر إلى ما وراء خطّ الاسـتواء، وجنّد الأجناد العظيمة، ومن جملة ذلك أنّه حاصر الخرطوم واحتلّها بسـبعين ألف مقاتل، وهو يسـتطيع أن يجنّد من الفادِين له أضعاف ذلك.
وثانياً:
لا يخفى على ذي شـعور أنّه شـتّان ما بين رسـول الله والمتمهدين، فإنّ رسـول الله جاهر قومه بصريح دعوته ولم يترك منها مخبّـأً، ولم يتدرج فيها بالحيل، بل جاءهم فيها دفعة بأثقل ما يكون على أهوائهم وما انطبعوا عليه من الشـرك وعبادة الأوثان وضلالات الجاهلية، فكانت طليعة دعوته الذمّ والعيب لآلهتهم، والتوبيخ على عبادتها، والدعوة إلى عبادة الله وحده، والإعراض عن آلهتهم، وثنّى ذلك بالدعوة إلى الإقرار بأنّه رسـول الله.
وأين هذا ممّن رأى الناس وقد ملأ دينهم أسـماعهم بالبشـرى بالمهديّ، وحشـا قلوبهم وجوانحهم بالشـوق إليه، وطالت عليهم ليالي الانتظار في توقّع صبح الفرج، فكان من يأتيهم باسـم المهديّ يكون حاجتهم المطلوبة وأُمنـيّـتهم المنتـظَرة، وعلى الخصوص أهل إيران ; لِما تعرفهم به من التشـيّع والعلاقة بأهل البيت (عليهم السلام)، والشـوق إلى دولة المهديّ (عليه السلام) وعدلها وأمنها.
فقد قاسَـوا في مملكتهم أشـدّ القلق والضيق من اضطراب أمر السـياسـة وتقلّب الدولة، من الصفوية.. إلى نادر.. إلى الزندية.. إلى القاجارية ; كلّ ذلك مع اختلال نظام السـياسـة، وطغيان الفتن، وتتابع الثورات المبيدة، ودوام الحروب والغارات، حتّى كادت أن تأتي على رمق عيشـهم، ونفس راحتهم، وبقيّـة حياتهم..
فكان من يأتيهم متسـمّياً بالمهديّ يأتي إلى مهاد موطّد وأمر ممهّد، قد امتلأت بالرغبة إليه القلوب، واشـتاقت إليه النفوس، وامتدّت الأعناق، وشـخصت الأبصار..
فلا يحتاج المتمهدي ـ فيه ـ من ضعفاء البصائر إلاّ إلى شـيء من
____________
(1) أي: ذو الشأن الرفيع ; لشفاعته للمقصّرين.
(2) المُقاسـاة: مكابدة الأمر الشـديد ; انظر: لسان العرب 11 / 168 مادّة " قسا ".
بل إنّ صريح المأثور ـ كما سـمعته في الحديث الثاني والخمسـين والثالث والخمسين(2) ـ أنّ المهدي في هذا العالم يشهد المواسم ويراه مواليه، فأين جابلقا وأين هورقوليا؟! إنْ هي إلاّ أسـماء سـمّيتموها، بل سـوّلت لكم أنفسـكم أمراً، ولكن.. رُبّ سـاع لقاعد(3)، فإنّ هذا القائلَ طَبخَ وغيره أَكَـل!
____________
(1) جابلق: رستاق بأصبهان ; انظر: معجم البلدان 2 / 106.
(2) بل في الحديثين 53 و 54 وكذا الحديث 55 ; راجع الصفحة 93.
(3) مثل يضرب لمن يأتيه الأمر من دون سعي أو جهد ; انظر: مجمع الأمثال 2 / 45 رقم 1583.
الشـبـهة الرابعـة
[الإتيان بكتاب معجـز]
هو أنّ علي محمّـد جاء بكتاب ادّعى أنّه معجز، واسـتدلّ به على صدق دعواه، وادّعى أنّه لا يقدر الجنّ والإنس على أن يأتوا بمثله!
ففي كتاب " أحسـن القصص " في تفسـير سـورة يوسـف، في تفسـير قوله تعـالى: ( إذ قالوا لَيوسـفُ وأخوه أحبّ إلى أبـينا منّـا )الآيـة(1)..
قال: " لو اجتمعت الجنّ والأنس على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب بالحقّ على أن يسـتطيعوا ولو كان أهل الأرض ومثلهم معهم على الحقّ ظهيراً، فَوَرَبِّك الحقّ لا يقدرون بمثل بعض من حروفه "!
وقال في كتابه للمفتي الآلوسـي: " أفلا تنظرنّ إلى الدلائل، فإنّ كلّ ذلك يثبت بما نزّل الله في الكتاب، وما يثبت الكتاب إلاّ وأنّ فيه، لتعجبنّ ما على الأرض كلّهنّ بما لا يقدرن أن يأتين بمثله "!
وقال في " البيان ": " أنا أنا ليس غيري، وبرهاني ومعجزي كلامي وبياني، لو اجتمعت الإنس والجنّ لا يأتون مثلها حرفاً واحداً "!
قلـت:
إنّ هذا الذي يدّعي ميرزا علي محمّـد أنّه معجزٌ وحجّةٌ على صدق
____________
(1) سـورة يوسـف 12: 8.
فإنّه جاء بكتاب بالأُسـلوب العربي على نهج القرآن في فصول الآيات، وجاء فيه بأُمور، وهي:
وإنّ الله قد ضرب المثل لنوره بالمشـكاة والمصباح(2)، فسـهّلَتْ لي
____________
(1) الأَوْباش ـ جمع: وَبَش أو وَبْش ـ: الأخلاط والسَفِلَة، والضُرُوب المتفرِّقون من النـاس.
انظر مادّة " وَبَشَ " في: الصحاح 3 / 1024، النهاية في غريب الحديث والأثر 5 / 145 ـ 146، القاموس المحيط 2 / 303، لسان العرب 15 / 200، تاج العروس 9 / 219.
(2) إشارة إلى الآية الكريمة: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح...) سـورة النور 24: 35.
ومـن الأمثـال:
إنّه اجتمع فارسـيّان، فقال أحدهما لصاحبه: ما صناعتك؟
قال: شـاعر ; وأنت ما صناعتك؟
قال: أنا ماعر ; فاقرأ لي من شِـعرك!
فقال الشـاعر: إنّي قلت في انقضاء برد الشـتاء والثلج وارتياح الأطيار بطيـب الربـيع وبهجة الأزهار: " كَـبَـكْ دَرْ كُـوْه مِيْـزَنَد خَـنْـده "(1)، فاقـرأ لي معـرك!
فقال الماعر: وأنا قلت: " مَـبَـكْ دَر مُوه ميزنَد مَـنده ".
فقال الشـاعر: هذا شِـعري وأنت مسـخـتَه!
فقال الماعر: لا، هذا معري، وأنا أنشـأتُه.
هـذا، ولكنّ الماعر أحسـن الإتباع بالوزن والأُسـلوب والانسـجام!
ومـن الأمثـال:
إنّ الحذّاق الّذين يمشـون على الحبل، ويعملون عليه الحركات الغريبة العجيبة، يجعلون على الأرض رجلا يعمل مثل أفعالهم وهو على الأرض، وذلك ليزداد أُنس الحاضرين، ويعتبروا بمقابلة الضدّين، فتجسّم لهم البراعة والسـخافة، ومع ذلك فالرجل الذي على الأرض يحسـن الإتباع والشـبه في هزله.
____________
(1) أي: الفاختة تضحك في الجبل.
فإنْ قلت:
ما محلّ هذه الأمثال في وقار المباحثة؟!
قلـت:
إذا ألقى المجـنون في بئرك حجراً فأعطَـشَ أحبابَك وأصحابَك، فلا بُـدّ أن تجمع جماعةً من العقلاء، وتطلب منهم إعمال أنواع التدبير في إخراجه حسـب ما تقتضيه الحكمة.
فإنْ قلت:
إنّ كُتب الباب ـ التي تصفها بهذا الوصف ـ قد انقاد لها جماعات كثيرة، وعدّوها من الوحي وكلام الله، فتركوا لأجلها القرآن، فأين ما تقول وتصف؟!
قلـت: لا يخفى أنّ الناس حينما جاء الميرزا علي محمّـد بكتبه، واحتجّ بها على دعوته، قد كانوا على أصناف:
فصـنف منهـم ;
وهم الّذين ابتدأهم بالدعوة، هم أُناس من عوامّ العجم، لا يعرفون شـيئاً من اللسـان العربي.
نعم، طرق أسـماعهم القرآن الكريم، وأدعية أهل البيت، فهم يتلونها سـواداً على بياض، أو يسـمعونها ألفاظاً وحروفاً، ولا يعرفون لها معنىً إلاّ بحسـب الترجمة بالفارسـية، كما تراه في كثير من المصاحف المطبوعة وكتب الأدعية والزيارات.
وهذا الصنف إذا تُلي عليه كلُّ كلام أُسـلوبه أُسـلوب الكلام العربي، وإنْ كان مهمَلا، حسـبوه من أعالي الكلام، خصوصاً إذا كان على طرز القرآن الكريم وطرز الأدعية المأثورة، وخصوصاً إذا سـمع فيه لفظ: سـميع، عليم، حكيم، نور، سـموات، نار، عذاب..
فإذا تلوت عليه قول القائل من المهمَل: " إنّا ترفنا لكم وبيس الذراف وحداً من عندنا وما كنّا عن الأفلاج سامهين ".. وأسمعته أمثال ذلك، لم يميّزه من آيات القرآن الكريم.
وقد سـبق في أذهان هذا الصنف ـ إجمالا ـ أنّ صاحب الزمان يظهر، وهم من الشـوق إليه، والانتظار له، والضجر من الجور، على الحالة التي سمعتها في أثناء الكلام على الشـبهة السابقة، فحين سـمعوا دعوة (الباب) وما يتلوه من (بيانه) تحكّم في أذهانهم صدق الدعوة، وأنّها هي الأُمنـيّة التي كانوا يُبشِّـرون بها آمالهم، ويقضون في لواعج شـوقها طوال الليالي والأيّـام، فتهالكوا في تلبية هذه الدعوة وتأييدها.
وصنف من الناس ;
قد انحرفت طريقتهم بتعاطي بعض الأنحاء من حكمة اليونان، ولم يمكّنهم الوقت من قطع العلائق عن الإسـلام، فصاروا يؤوِّلون ما جاء في الدين على أضداد معناه التي اضطربت فيها آراء الحكماء، وأخذوا يقولون ما تشـتهيه أنفسـهم على طبق أهوائهم، فتجاوزوا في الأُمور الدينية حدّ الحقيقة، وغالوا في البشـر لأجل إنقاصهم من واجب الوجود صفات جماله، فسـلبوا عنه الإرادة والاختيار، ولم يجعلوا لمقام البشـر في الكمال حدّاً محدوداً، وراموا إخضاع الناس لنفوذ أهوائهم، وطمعوا في العوامّ إذ رأوهم يرغبون في من يَجْلُو(1) لهم مألوفاتهم بالإفراط جلوة جديدة وإن غيّر مادّتها وشـوّه صورتها.
____________
(1) أي: يكشف ويُظهر ويوضح ; انظر: لسان العرب 2 / 343 مادّة " جلا ".
وهُرِع بعضٌ إلى مَن يقول: كلّ شـيء بكى على الحسـين، ألا ترى إلى الإناء إذا انكسـر يقول: طـق!!
وهُرِعوا إلى من ادّعى أنّه انكشـف له السـتر وظهر له السـرّ، فصار يقول ما يشـتهي!
ومـن بعض ذلك أنّـه تعـرّض لتفسـير " مدينـة العلـم " فـي قـول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها "(1) فجاء بالعجائب المضحكة
____________
(1) ورد هذا الحديث الصحيح في كتب الفريقين، فانظر مثلا:
الأمالي ـ للصدوق ـ: 425 ذ ح 560، الإرشـاد 1 / 33، فضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): 39 رقم 18، إعلام الورى 1 / 317، جامع الأخبار: 52 ـ 53 ح 59، سنن الترمذي 5 / 596 ح 3723، المستدرك على الصحيحين 3 / 137 ـ 138 ح 4637 ـ 4639، المعجم الكبير 11 / 55 ح 11061، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام)ـ للمغازلي ـ: 115 ـ 120 ح 120 ـ 129، كفاية الطالب: 220 ـ 222، جامع الأحاديث الكبير 3 / 282 ح 8649، الجامع الصغير: 161 ح 2704 و 2705، تاريخ بغداد 2 / 377 رقم 887 و ج 4 / 348 رقم 2186 و ج 7 / 172 ـ 173 رقم 3613 و ج 11 / 48 ـ 50 رقم 5728، فردوس الأخبار 1 / 42 ح 109 و ص 43 ح 111، تاريخ دمشق 42 / 378 ـ 384 ح 8974 ـ 8987، أُسد الغابة 3 / 597، تذكرة الخواصّ: 52، الرياض النضرة 3 / 159، ذخائر العقبى: 141 ـ 142، مختصر تاريخ دمشق 18 / 17، جامع الأُصول 8 / 657 ح 6501، البداية والنهاية 7 / 286، مجمع الزوائد 9 / 114، تاريخ الخلفاء: 202، كنز العمّال 11 / 600 ح 32889 و 32890 و ص 614 ح 32978 و 32979.
وقد صنّف الحافظ أحمد بن محمّـد بن الصدّيق الغماري الحسني كتاب " فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي " جمع فيه طرقه، وسلك فيه مسلكاً مبتكراً أثبت فيه صحّة الحديث بتسعة مسالك ; فراجـع.
ومن جملة أصحاب العقود امرأة بيدها دفّ! ومن جملتها امرأة فاجرة تدعو الناس إلى نفسـها! ومن جملتها رجل يفعل برجل!
وذكر كثيراً من نحو ذلك ممّا لم يُذكر لا في كتاب الله، ولا في سُـنّة نبيّه، ولا في أحاديث الأئمّة، ولا في كتب القدماء، ولا في كتاب ألف ليلة وليلة، ولا في كتاب كريم كرد، ولا في الرومانات، بل قال هو في آخر هذا المقام: " نحن شـرطنا أن لا نذكر ما هو في الكتب مذكور، ولا نبيّن ما بيّنه غيرنا في السـطور "!
ولم ينكر الناس على هذا الصنف مجاهرته في كتبه بقولها: إنّه بعد الألف ومائتين سـنة من الهجرة قد انقضت دورة محمّـد الأرضي، وجاءت دورة أحمد السماوي "! كما هو مذكور في كتابَي " جوامع الكلم " و " شرح القصيدة " حتّى كأنّ الناس لم يفطنوا إلى الباب الذي يراد فـتحه بهذا الكلام، وما خبّئ فيه للإسـلام وعقائده وشـريعته، فراجت هذه الترّهات بين كثير من الناس، ورحّبوا بها بالقبول الأعمى.
ولمّا رأى أهل الضلال والإضلال أنّه قد انفتح في الناس باب التصرّف بالدين وتقليب الحقائق، طمعوا في اسـتدراج العوامّ شـيئاً فشـيئاً، واسـتحلابهم كلٌّ بحسـب مشـربه ومألوفه ومحبوبه.
وقد جرّبوا في إيران تقلّب الدولة والسـياسة بحسـب الثورات، كما في دولة الصفوية، ونادر شاه، والزندية، والقاجارية، ورأوا أنّ كثيراً من أعضاء الدولة منحرفين عن حقيقة الدين، يتسـارعون بالإرادة والاتّباع لكلّ مـن أظهـر التصـوّف وادّعـى المكاشـفة، فيغـالون بـه، ويرجـون منـه مـا لا يرجونه من الله!
وقد كانت سـياسـة إيران مختلّة النظام ; لأجل ابتلاء محمّـد شـاه بالأمراض المزمنة التي شـغلته عن السـياسـة كما ينبغي، فاقتضت هذه الأُمور للصنف المذكور أن يلبّوا كلّ داع يجمع كلمتهم ليتوصّلوا إلى مقاصدهم، وذلك لوثوقهم بالنجاح عند اجتماع الكلمة بالثورة والدعوة، خصوصاً إذا كانت الدعوة توافق مذاق الشـيخية والكشـفية والمتصوّفة، إذ كان الشـطر الكبير في إيران من هذا النحو.
فلمّا أظهر الميرزا علي محمّـد دعوته، وجدوا أنّها هي الفرصة التي يطلبونها وينتظرونها، وخُـيِّـلَ لهم أنّ الشـيخية والكشـفية والمتصوّفة وضعفاء الشـيعة جميعاً يلبّونها، فيأخذون بزمام السـياسـة وبدعة الديانة، وبعد ذلك ينتظر كلّ واحد في غرضه الشـخصي فرصة، فلذا رفعوا لكتب علي محمّـد لواء الوحي وحيّوها بتحيّة كلام الله!
وصنـف ;
من أهل اللسـان والتمييز والتمسّك بالدين، لمّا أتتهم كتب الميرزا علي محمّـد ورأوا ما فيها من وجوه الوهن، تلقّوها بالسـخرية
والحاصـل:
لم يقابلوا تلك الكتب إلاّ بالإعراض عنها، والموعظة والنصيحة للداعية، وقد غفلوا عمّا ينبغي، وكان اللازم أن يلاينوها ويحيّوها بالمعارضة والمقابلة بمثلها وبلحنها وغلطها، فيعارضوا الحجّة بمثلها، ويعرّفوا الضعفاء بذلك وهنها حسـب ما يقتضيه قوله تعالى: ( ادع إلى سـبيل ربّك بالحكمة )(1)، فإنّ الحكمة ها هنا أن يعارضوا الحجّة بمثلها كيفما كانت، ولا يَدَعُوا للشـيطان على الضعفاء سـبيلا، ولا يتركوا مسـاغاً للداعية أن يرجع للضعفاء ويقول افتراءً: " قد عجز العلماء عن معارضة كتب الباب لأنّها كلام الله "!
هـذا، ولكنّ الوقت لم يفت، والواجب عليهم واجب علينا، وإنْ فاتنا هدي أهل ذلك الزمان فلا يفوتنا إن شـاء الله هدي أهل هذا الزمان، وهم أحبّاؤنا وأعزّاؤنا.
فلنذكر شـيئاً من كتب علي محمّـد، ثمّ نذكر معارضته بما هو مثله أقـلاًّ، ليعرف كلّ أحد أنّ علي محمّـد كاذب في دعواه: أنّ كلامه في كتبه لا يقدر الجنّ والإنس على أن يأتوا بمثله.
فإن قال علي محمّـد:
إنّ نار إعجازي قد تحقّقت بالحقّ على الحقّ في الحقّ بليغاً، وجاءت من سـدرة الإلحان في شـجرة الغلط في القبّة
____________
(1) سـورة النحل 16: 25.