قلنـا:
إنْ ألحنَ فإنّا لاحنين، وإنْ أكثر الغلط كنّا في غلطوط الغلطيط المتغلطط الغلطاط من الغالطون، ولن يك لحجّته من أوّل الإمكان وقادوم القدمان في جملان البهيان ودور الإبهاء محيطاً!
قال في " البيان " ما لفظه:
" شؤون الحمراء، آثار النقطة، جلّ وعزّ البيان، في شـؤون الخمسـة من كتاب الله عزّ وجلّ، كتاب الفاء: بسـم الله الأبهى الأبهى، بالله الله البهـيّ البهـيّ، الله لا إلـه إلاّ هو الأبهى الأبهـى، الله لا إله إلاّ هو البهيّ البهيّ، الله لا إله إلاّ هو المبتهى المبتهى، الله لا إله إلاّ هو المبهي المبهي، الله لا إله إلاّ هو الواحد البهيان، ولله بهيّ بهيان بهاء السـموات والأرض وما بينهما، والله بهاء باهي بهيّ، ولله بهيّ بهيان بهية السـموات والأرض، والله بهيان مبتهى مبتهاء، قل الله أبهى فوق كلّ ذي بهاء، لن يقدر أن يمتنع عن مليك سـلطان إبهائه من أحد لا في السـموات ولا في الأرض ولا ما بينهما، إنّه كان بهاءً باهياً بهيّـاً "!
ثمّ أكثر من هذا التكرار بهذه المادّة في البهيان والمبتهى! إلى أن قال:
" إنّا قد جعلناك جلالا جليلا للجاللين، وإنّا جعلناك جمالا جميلا للجاملين "!
ثمّ أخذ يكـرّر " إنّا قد جعلناك " وما بعدها، فلنحذف قوله: " إنّا قد جعلناك " ونذكر ما بعدها، وهو:
" عظماناً عظيماً للعاظمين. نوراناً نويراً للناورين. رحماناً رحيماً للراحمين. تماماً تميماً للتامّين. كمالا كميلا للكاملين. كبراناً كبيراً للكابرين. عزاناً عزيزاً للعاززين. نصراناً نصيراً للناصرين. فتحاناً فتيحاً للفاتحين. قدراناً قديراً للقادرين. ظهراناً ظهيراً للظاهرين. حباناً حبيباً
.. إلى أن قال: " تبارك الله من سـلط مسـتلط رفيع. وتبارك الله من وزر مؤتزر وزير "!!
وكرّر قوله: " تبارك الله [من] " في قوله: " جمل مجتمل جميل. عظم معتظم عظيم. نور متنوّر نوير. رحم مرتحم رحيم. شـمخ مشـتمخ شـميخ. بذخ مبتذخ بذيخ. بدء مبتدئ بديء. فخر مفتخر فخير. ظهر مظتهر ظهير. قهر مقتهر قهير. غلب مغتلب غليب. كبر مكتبر كبير. عزّ معتزز عزيز. جود مجتود جويد. طرز متطرّز طريز. جذب مجتذب جـذيب "!!
هذا كلامه! واسـأل الكردي المكترد الكريد، والزنج المنزنج الزنيج، ممّن له أقلّ إلمام بالعربية ومعرفة أُصولها وقل: أيّة فقرة سـالمة من الغلط المغتلط الغليط؟!
فإنّه يقول: ليس فيها صحيحاً إلاّ قوله: " رحماناً رحيماً للراحمين "!
واعتبر هذا التكرار في قولنا: سـعفاناً سـعيفاً للسـاعفين. خوصاناً خويصاً للخاوصين. كرباناً كريباً للكاربين. ليفاناً لييفاً للاّيفين!
واعتبر هذا التصريف في اللفظ بقولنا: طلعاناً. لقحاناً. بلحاناً. غدقاناً. بسـراناً. رطباناً. تمراناً. قسـباناً. قصّاناً. كرسـاناً. كبسـاناً. دبسـاناً. شـجراناً. نبعاناً. ورقاناً. غصناناً. ورداناً. ثمراناً. عنباناً. خوخاناً. تفحاناً. كوجاناً. نوماناً. سـنداناً. إنّا ملكنا فيك باسـق النخل ويانع الشـجر وجنى الثمر ممّا يشـتهون. فحيّاك الحَيا من بسـت مبتسـت بسـيت!
وكرِّر قولنا: " حيّاك الحَيا مِن " مع قولنا: خضر مختضر خضير. عمر
____________
(1) الخالص مدينة من مدن وسـط العـراق، شـمال شـرق بغـداد.
وخريسـان هي إشـارة إلى مقاطعة " خراسـان " في إيران بلهجة بعض أهل جنوب العراق وإيران.
واعتبر بهذا التصريف في قولنا: كبر. طول. عرض. عمل. سـمد. كرب. هلز.. وهكذا!
وقال أيضاً:
" يا خليل! بسم الله الأقدم الأقدم. بسـم الله الواحد القدام. بسـم الله المقدم المقدم. بسـم الله القادم القدام. بسـم الله القادم القدوم. بسـم [الله] القادم القدمان. بسـم الله المقتدم المقتدوم "!
وكـرَّر هذا التصريف بقوله: القادم. المتقادم. المسـتقدم. القيدوم. القدم. القدم. القادم. القدامين. القدمات. القدومين. القدامين. المقاديم. المتقدّمات. التقدمات. المسـتقدمات. القدام. القدادم!
وجرى على التقلّب في هذا التصريف نحو ثلاث أوراق كما تقلّب في البهيان والابتهاء!!
ولنضرب لك مثلا، بالنظر إليه يسـهل عليك أن تعارض هذا الكلام، فلا نحتاج إلى التطويل في المعارضة، والتبذير في القرطاس، وقد أعطيناك أُنموذج الكلام.. أمّا المثل فهو:
إنّه لمّا تمّت عمارة صحن الكاظمين عليهما السلام عملوا له احتفالا عظيماً، ونظم فيه الشـعراء، فجاء بعض الظرفاء ممّن ليس له طبع الشـعر وقال: إنّي قد عملت قصيدة بديعة في عمارة الصحن الشـريف، وذكرت جميع أجزاء العمارة بما لم يأت به الشـعراء، ونظمتها بالفارسـية لمناسـبة الباذل لمصارف العمارة، وهو الشـاهزاده فرهاد ميرزا، وها هي القصيـدة:
____________
(1) أي: صحنٌ عجيب! يا له من صحن! ما أحسن الصحن!.. وهكذا في باقي الأبيات!
واسـتمرّ على هذا في جميع أجزاء العمارة وأسـبابها، ثمّ التفت إلى ذِكر العَمَلَة على هذا المنوال فقال: عجب أُسـتا. عجب خلفة. عجب صانع. عجب مهدي. عجب أحمد. عجب ناصر.. وهكذا!
والقصيدة على طولها لم يأتِ فيها بلفظ مهمَل كالبهيان والمقتدوم وأشـباهها.
ثمّ إنّه بعد مدّة قدم العالم الميرزا أبو الفضل الطهراني (رحمه الله) من سـفر الحجّ، فمضى ذلك الرجل الظريف إلى زيارته وقال: إنّي نظمت في حجّك وقدومك قصيدة غرّاء.
فقال له الميرزا المذكور: أنا أتلو قصيدتك عليك قبل أن أسـمعها منك، ألسـتَ تريد أن تقول:
.. وهكذا في جميع أجزاء السـفر وأسـماء الأماكن ذهاباً وإياباً؟!
فقال الظريف: أحسـنت! وإنّك لَشـاعر عالِم بما في الضمير!
____________
(1) أي: البـلاط.
وكـرِّر هذا التصريف بقولك: العاتق المتعاتق. المسـتعتق العيتوق. العتق العتق. العتاقة. العاتق. العتاقين. العتقات العتوقين، العتاقين المعاتيق. المتعقات. المسـتعتقات. العتاق العتاتق!
وحيث ارتفع ـ بِـهِمّة الميرزا علي محمّـد ـ حَرَجُ العقلاءِ وأهلِ اللسـان في تصريف الألفاظ، فزد في ذلك وقل في التكرار: العتقتق. العتيقيق. العيتقوق.. ونحو ذلك ممّا هو أشـبه ببعض الألفاظ من لفظ " المقتدوم "!
وقال في " البيان " أيضاً:
" بسـم الله الأجمل الأجمل. بالله الجمل الجمل. بسـم الله الجمل ذي الجمالين. بسـم الله الجمل ذي الجملاء "!..
واسـتمرَّ على النحو السـابق من التكرار بهذه الألفاظ من: الجاملات والجملات والجاملين والمجمل والمجتمل والجمول والمسـتجمل والجملان والإجمال، كما كرّر وتقلّب في الأبهى والبهيان والأقدم والقدمان!..
فنقول في معارضته:
بحسن البستان الأحسن الأحسن. البستان الحسـن الحسـن.. ونكرّر ونتقلّب على ذلك المنوال بالحسـانين والحسـناء والحاسـنات والحسـنات والحاسـنين والمحسـن والمحتسـن والحسّون والمسـتحسـن والحسـنان والإحسـان..
بل إنّك ـ بحسـب المثل ـ تقدر على الزيادة والتكرار، وتكتب كلّ يوم من نحو هذا أوراق عديدة..
واصنع من هذا النحو مائة كتاب وسـمّها: البيان الأبين ذا البينان والبينان والبيانين.. وهكذا.
ومن العجب، ولا عجب، ممّن يقرأ أمثال هذا في كتب البابية ويقول مفتخراً: هذه الحقائق! لا قولهم في علم الصرف: نصر ينصر نصراً!
فنقول له: إنّا نعلّم أطفالنا علمَ النحو والصرف لنحفظ لهم شـرف أدبهم وكمالهم في معرفة الصحيح من اللغة والكلام، وليميّزوا بأدبهم مَن هو الذي يغلط ويهذر ويكفر وهو يدّعي أنّه باب العلم، ونبيّ مبعوث، وإله، جاء بكتاب معجز في اللغة العربية، وقد سـمعتَ أُنموذجه!!
وقال في " البيان ":
" قل كلٌّ لَيقولون إنّه لا إله إلاّ هو الذي آمنَتْ به كلّ الفتّاقـيّـين. قل كلٌّ لَيقولون إنّه لا إله إلاّ هو الذي آمنَتْ به [كلّ] السـبّاقـيّـيـن "!
وجرى على هذا مكرّراً قوله: " قل كلٌّ لَيقولون إنّه لا إله إلاّ هو الذي آمنَتْ به كلّ... " مع كلّ كلمة من قوله: السـماعيّين، الرتاحيّين، السـوائيّين، الأسـافيّين، النقابيّين، الخيّاطيّين، المقاتيّين، اللهاميّين، العرّافيّين، الوصّافيّين، النعّاتيّين، الزراعيّين، الذرائيّين، الإزاليّين، الكباريّين، البذّاخيّين، الضمّانيّين، الأماريّين، النعاميّين، العقابيّين.. وهكذا إلى نحو مائة لفظة من هذا النحو من المهمَل!!
فنقول في المعارضة:
من نشأة الخطّ ورمز الهزل، كتاب الطاء:
وكـرِّر قولنا: " قل كلٌّ لَيقولون ما هي إلاّ الحنطة التي رغب بها جُلّ " مع كلّ كلمة من قولنا: النثاريّين. اللواحيّين. المراريّين. السـواقيّين. النهاريّين. الكراديّين. المكانيّين. النواعيريّين. الدلاّئيّين. الكبّاسـيّين. الحدّاديّين. النجّاريّين. الفصاليّين. الحصاديّين. النقّاليّين. الكداسـيّين. الدوّاسـيّين. الذراويّين. القسّاميّين. الملاّكيّين. الفلاّحيّين. الشـحانيّين. الشـحّاذيّين. الفواديّين. الحمّاليّين. المكاريّين. البيّاعيّين. الشـرائيّين. العمّاليّين. التجّاريّين. الحرازيّين. السـيافيّين. العلاويّين. الدكّانيّين. الركاشـيّين. الطحّانيّين. النخّاليّين. العجّانيّين. الخبّازيّين. الأكّاليّين. العشّائيّين. الغدّائيّين. البقّاليّين. العطاريّين. البزّازيّين. الحيّاكيّين.. وهكذا.
وقال أيضاً في " البيان ":
" سـبحانك اللّهمّ أن لا إله إلاّ إيّاك وإنّك أنت الكشـف ذو الكشّافيّين. سـبحانك اللّهمّ أن لا إله إلاّ إيّاك وإنّك أنت العذب للعذابيّين. سـبحانك اللّهمّ أن لا إله إلاّ إيّاك وإنّك أنت الهلك ذو الهلاكين. سـبحانك اللّهمّ أن لا إله إلاّ إيّاك وإنّك أنت الجذب ذو الجذابين "!
.. إلى أن قال: " سـبحانك اللّهمّ لا إله إلاّ إيّاك لك الأسـماء الحسـنى كلّهنّ. والأمثال العليا بما فيهنّ وعليهنّ. يسـبّح لك من في السـموات والأرض وما بينهما. ويسـجد لك ما في ملكوت الأمر والخلق وما دونهما. إنّك أنت المهيمن القيّوم "!
أقـول:
ولا غرو إذا اغترّ عوامّ العجم بهذه الهمهمة والدمدمة، وتوهّموا أنّها ترجع إلى طائل ومعنىً محصَّل، فقبلوها وهم لا يشـعرون!
ولكن ما بال بعض العرب ـ وهم يدّعون الفهم والأدب ـ قد انخدعوا لصاحب هذه الطامّات والخرافات والأغلاط المضحكة؟!!
وأعجب من هذا أنّه يدّعي بها الإعجاز وهم يؤمنون!
ولا عجب من الهوى وخداعه، سُنّة في الّذين خلوا أفلا تتفكّرون؟! أفلا تسـمعون معارضتنا لِما لفّق من الغلط والإلحان، والكلام الذي يبكي على المعنى ويضحك ضحك المغبونين؟!
إنّا قلنا في معارضته إن كنتم سـامعين: أيّها النقد ذو الوجهين.
وكـرِّر قولنا: " ما شـأنك لا يطلب أهل الطمع إلاّ إيّاك كأنّك أنت " قبل كلّ فقرة من قولنا: التاجر للتاجرين. البائع للبائعين. الشـاري للشـارين. العامل للعاملين. الناقد للناقدين. السـائد للسـائدين..
وقس على ذلك في قولنا: العالم. العارف. الآمر. الناهي. الحاكم. العادل. الزاجر. الرادع. الحالّ. العاقد. الفاضل. الفائق. الفاتق. الراتق. الدافع. المانع. الباذل. الباخل. المانح. الماتح. الصارف. الزارع. الغارس. العامر. الحارس!
وإنّا قد جئنا ـ ها هنا ـ بهذا المقدار أُنموذجاً للمعارضة، ولم نقل فيه ـ في غير المقابلة ـ كما قال مهمَـلا ولا شـططاً!
ولو شـئنا جئـنا بمثـله أضعافـاً مضاعفة متواليـة لا تجد فيها إلحانـاً ولا هذياناً ولا غلطاً! ذلك لتعلم أنّ الّذين قالوا ما قالوا قد افتروا على الله كذباً، وصدّوا عن سـبيله مَن أعجبته نفسـه، فأقحموه من مداحض الجهل وعراً زلقـاً!
وإنْ تعجب من جرأتهم على الحقّ فلا عجب! فكم زيّن الشـيطان
فكيف ترى هؤلاء إذ كانوا عوامّـاً جهّالا، فخادعهم مَن يعطيهم مناصبَ الأنبياء وأُولي العِلم اسـماً ولقباً؟!
واسـتزلّهم إذ جعل اضطراب أفكارهم في غمرات الجهل على الحقّ حكماً، واسـتحوذ عليهم بمغالطة التأويل، الذي لا يرضون به أمر معاشـهم ومعاملاتهم وخطاباتهم، ويعدّون مَن يؤوِّل النصّ الصريح من كلامهم سـفيهاً مجنوناً، أو ضالاًّ محرّفاً ملعوناً مفتوناً!
فكيف رضوا بالتأويل الفاحش للنصّ الصريح في كلام الله وكلام رسـوله وحججه بما لا يرضون به في كلام أطفالهم؟!
ألا سـاء ما يحكمون! ولقد ظلموا بذلك أنفسـهم، وما ربّك بغافل عمّا يعمل الظالمون.. ( وسـيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون )(1).
____________
(1) سـورة الشـعراء 26: 227.
الشـبـهة الخامسـة
[إمتناع العلماء عن مناظرته]
ادّعى بعض البابية أنّ ميرزا علي محمّـد دعا العلماء إلى مناظرته والنظر في أمره، فامتنعوا عن ملاقاته، وهذا كاشـف عن قوّة حجّته.
أقـول:
أمّا أوّلا:
فإنّ هذه الدعوى كاذبة ـ كما سـنبيّنه ـ، ولو فرضنا صدقها لَما كان للعلماء داع لملاقاته، بعدما عرفوا دعاويه المتناقضة، الممتنع صدقها بحسـب الحقيقة وبحسـب اعترافاته، وبعدما عرفوا ما عنده من التشـبّـثات وبطلانها الواضح، وبعدما سـمعوا كتابه الغلط السـخيف.
فإنّ العلماء علموا من علي محمّـد اعترافه بحقّ الإسـلام والرسـول والقرآن والأئمّة وما جاء عنهم..
وعلموا باعترافه بالمهديّ بن الحسـن العسـكري عليهما السلام على ما ذكره رسـول الله وأئمّة الهدى..
وعلموا دعواه المتضمّنة للاعتراف بأنّ كتابه الذي سـمّاه " أحسـن القصص " قد خرج إليه من محمّـد بن الحسـن بن عليّ بن محمّـد بن عليّ ابن موسـى بن جعفر بن محمّـد بن عليّ بن الحسـين بن عليّ بن أبي طالب، وأنّ الله آتاه البيّنات من عند بقيّة الله المنتظر إمامنا..
ثمّ علموا ـ أيضاً ـ دعواه أنّه المهديّ، وأنّه نبيّ، وأنّه رسـول مبعوث
وإذا علموا ذلك كلّه، فقد اتّضح لديهم أنّ علي محمّـد ـ بسـبب اعترافاته ودعاويه ـ صار هو الشـاهد والحاكم على نفسـه بالتناقض، والكذب، والكفر، والارتداد عن الدين، كما حكم بذلك الدين القيّم والشـريعة الغرّاء!
وقد ذكرنا وبيّـنّـا ذلك مفصّلا في بيان الموانع..
وعلموا ـ أيضاً ـ أنّه يدّعي الإلهيّة والربوبيّة! مع أنّهم يعلمون حقّ اليقين ـ من محكمات المنقول، والبديهة، وبراهين الحكمة في المعقول ـ أنّ البشـر الذي يدّعي الإلهيّة والربوبيّة هو بشـر خسـيس كافر كذّاب!
ثمّ إنّهم علموا أنّ حجّته على دعاويه منحصرة بكتابه الذي يدّعي أنّه معجز، ورأوا كتابه فإذا هو عبارة عن ألحان وغلط وكلام مختلّ النظام في اللفط والمعنى، ولم يجرِ حتّى على قواعد الأطفال في محاوراتهم!
فإذا علم العلماء تفصيلا باعترافاته ودعاويه وحجّته والحكم البديهي في ذلك، فما الحاجة بعد هذا إلى ملاقاته ومناظرته؟!
نعم، غاية ما يسـتفاد من مشـافهته هو: التسـجيل على اعترافاته ودعاويه سـماعاً زيادة على العلم بها.
وأمّا ثانياً:
فإنّ أحوال علي محمّـد وأوقاته بعد إظهار دعوته معلومة مفصّلة في التواريخ المتعدّدة، وليسـت هملا لدعاوي البابية، فأين ومتى أحجم العلماء عن ملاقاته ومناظرته؟!
وهاك حاصل ما اتّفق عليه المؤرّخون المطّلعون على أحواله، وهو:
إنّه لمّا هاجر إلى كربلاء اشـتغل بالحضور في درس السـيّد كاظم الرشـتي، والتعلّم منه لطريقة الشـيخ أحمد الأحسـائي ومطالبه الجديدة مع
فأظهر الاجتهاد في العبادات الشـرعية، والزهد والتقشّف ـ اللذين هما مصيدة العوامّ ـ فكان اجتهاده بعبادات الشـرع الشـريف مصداق قول الشـاعر:
كالسـهمِ رامِيهِ يُـقَـرِّبُـهُ | ولأجلِ بُعْد ذلكَ القُرْبُ |
فاسـتمال بسـبب ذلك أنفاراً من ضعفاء العوامّ، وإذا اطمأنّ من أحدهم يقول له: " ادخلوا البيوت من أبوابها " ; فاسـتجلب لنفسـه أنفاراً، متدرّجاً في اسـتجلابهم بالدعوة، متسـتّراً بالاختفاء، حتّى رجع إلى بوشـهر سـنة الألف ومائتين وسـتّين..
ووجّـه دعـاته إلى شـيراز، فابتـدأوا بالدعوة عالِمَها المقـدَّم الشـيخ
____________
(1) هو من علماء عصر الشيخ حسن ابن الشيخ جعفر ـ صاحب " كشف الغطاء " ـ، المتوفّى سنة 1262 هـ، وكان بصحبته لمّا ذهب علماء النجف وكربلاء إلى بغداد لمناظرة " علي محمّـد الباب " بطلب من الوالي العثماني نجيب باشا.
انظر: أعيان الشـيعة 5 / 233.
(2) هو: محمّـد كريم بن إبراهيم الكرماني الشـيخي، المتوفّى سنة 1288 هـ، متكلّم، محدّث، مشارك في بعض العلوم، من تصانيفه: علم اليقين في الردّ على البابية الملحدين، إرشاد العوامّ في العقائد، وفصل الخطاب في الحديث.
انظر: معجم المؤلّفين 3 / 608 رقم 15343.
(3) هو: المولى محمّـد المامقاني الشـيخي، توفّي سنة 1311 هـ ودُفن بمقبرة وادي السلام في النجف الأشـرف.
انظر: أعيان الشـيعة 10 / 245.
فاسـتحضر الوالي الدعاة واسـتنطقهم بمحضر العلماء، فأخبروه بما عندهم من الدعوة، فاسـتفتى العلماء في شـأنهم، فحكموا بكفرهم، فأمر بقطع العصب الكعبري من كعابهم، وألقاهم في السـجن.
وكان المحضر المذكور ثاني شـعبان سـنة ألف ومائتين وإحدى وسـتّين.
ثمّ في السادس عشـر من الشهر المذكور اسـتحضر علي محمّـد من بوشـهر إلى شـيراز، فورد شـيراز في التاسـع عشـر من شـهر رمضان من السـنة المذكورة.
وكان الوالي مدبّراً داهيةً، فأراد أن يسـتكشـف جميع ما عنده من الخبايا والعزائم، فاسـتحضره ذات ليلة وبالغ في إكرامه والتواضع له، وأظهر الندم على ما فعله بدعاته، وأنّه مسـتعدّ لبذل النفس والنفيس في نصرته، وتباكى في إظهار التوبة..
فانخدع علي محمّـد وأخذ يسـكِّن روع الوالي ويسـأله عن سـبب الغلظة مع دعاته، فقال الوالي ما تعريبه: أيّها المولى! إنّي إلى الأمس أشدّ الناس بغضاً لك، وكنت مفكّراً في كيفيّة قتلك وتعذيبك، فنمتُ ورأيتك
____________
(1) أبو تراب الشـيرازي، إمام الجمعة في شـيراز، كان من أجلّة علمائها، وأعظم فقهائها، رئيسـاً مطاعاً نافذ الحكم، توفّي سـنة 1272 هـ، وقبره بمقبرة يقال لها: شـاه داعي الله.
انظر: أعيان الشـيعة 2 / 310.
فتهلّل وجه علي محمّـد فرحاً وقال: طوبى لك، إنّ الذي رأيته لم يكن في المنام، بل كان يقظةً، وإنّي بنفسـي حضرت إلى مضجعك وخاطبتك بما سـمعت!
فازداد يقين الوالي بكذب الرجل وتعمّده في الضلال والافتراء، ولكنّه أراد أن يعرف جميع ما عنده، فقام وقبّل يديه وقال متضرّعاً: أيّها المولى! إنّ جميع الجنود النظامية والمتـطوّعة في هذه الإيالة(1) تحت إمرتي، وخزائني مملوءة من الأموال، وكلّها طوع أمرك.
فقال له علي محمّـد: طوبى لك، وإنّي أعدك بأنّي سـأجعلك سـلطاناً للروم بعد أن أملك الدنيا بأسـرها!
ثمّ إنّ الوالي أقنع علي محمّـد بأن يجمع له العلماء في محفل ليدعوهم إلى أمره بدون مبالاة ولا إخفاء لشـيء من الدعوة، ويقيم عليهم الحـجّـة.
فجمع له العلماء، وخرج إليهم علي محمّـد بجَنان ثابت مطمئنّاً، بنصرة الوالي، وقال ما ترجمته: أما آن لكم أيّها العلماء، أن تتركوا الهوى والضلال، وتتّبعوا الهدى وتذعنوا لأوامري، إنّ نبيّـكم لم يخلّف بعده إلاّ القرآن، فهاكم كتابي " البيان " فاقرأوه تجدوه أفصح عبارة من القرآن، وأحكامه ناسـخة للقرآن، فاسـمعوا ونجّوا أنفسـكم وأطفالكم قبل أن
____________
(1) أي: البلد أو الولاية أو المقاطعة.
فقام الوالي والتمس من علي محمّـد أن يقيم عليهم الحجّة، ويكتب دعوته ودعاويه في صحيفة ويعرضها عليهم ; فكتب أسـطراً بالعربية، فلمّا قرأها العلماء صاروا يعدّدون غلطه فيها، من حيث الإلحان والتصريف والتركيب، وهو يحاول إقناعهم بأنّه لم يتعلّم العربية!
ثمّ بيّنوا مخالفة دعاويه لدين الإسـلام وشـريعته، وأوضحوا كفره بمقتضى ما ادّعاه وكَـتَبه بخطّ يده.
وحينئذ تمّ للوالي ما كان يرومه، فالتفت إليه وقال: أيّها الجاهل الضالّ! ما هذه الضلالة السـيّئة [التي] أحدثتها في الإسـلام؟! وكيف تدّعي الرسالة والنبوّة والمهدويّة، وترجّح نفسك على خاتم النبيّين؟! مع أنّك تحصر حجّتك بإعجاز كلامك في كتابك، وتدّعي أنّه أبلغ وأفصح من القرآن، وها أنت تعجز أن تتكلّم بالعربية الصحيحة كلاماً عادياً!!
ثمّ أمر الوالي فجرّوه من المجلس، وتفرّق العلماء، ثمّ قدّمه للضرب، فضربوه بالخشـب إلى أن اسـتجار بالتوبة والاسـتغفار من دعاويه، فأمر الوالي بكفّ الضرب عنه، وأن يُحمل على دابّة إلى المسـجد الأعظم بشـيراز المسـمّى (مسـجد نو) ليتوب على يد العلماء.
فجيء به إلى المسـجد وهو غاصّ بالعلماء والأعيان، فجعل يقبّل يدي العالم الشـيخ أبي تراب ويكرّر الاسـتغفار والتوبة، فأمروه أن يصعد المنبر ويعلن بالتوبة وبطلان دعاويه، ففعل ما أرادوا، ثمّ أُرجع إلى السـجن.
فلم يجرِ له مع العلماء في شـيراز إلاّ بيان دعاويه واحتجاجه بكتابه، واعتذاره من كثرة الغلط بجهله بالعربية، ومكث في السـجن سـتّة أشـهر.
ومن ذلك: أنّه أطلق السـراح ـ في أصفهان ـ لدعاة علي محمّـد في بثّ الدعوة، وكان هذا الوالي يظهر لعلماء أصفهان شـديد التألّم والتأسّف من دعوة علي محمّـد، وداهنهم بأنّه يجمعهم معه ليباحثوه ويطّلعوا على ما عنده، فإن وجدوه مسـتحقّ القتل فليكتبوا فتواهم بذلك، ليتمكّن في قانون السـياسـة من قتله.
وصار الوالي يماطلهم في ذلك، فألحّوا عليه، فجمع العلماء في محفل كبير وأحضر علي محمّـد معهم، وكان من جملة العلماء الآقا محمّـد مهدي الكلباسـي(1)، ومن مشـاهير الحكماء الميرزا محمّـد حسـن النـوري..
فقال الآقا مهدي لعلي محمّـد: إنّ المسـلمين على قسـمين، قسـم يسـتخرجون الأحكام الشـرعية من الكتاب والسُـنّة، وهم المجتهدون، وقسم لا يتمكّن من ذلك، فيتعلّم أحكامه من القسـم الأوّل، فهؤلاء المقلِّدون ; فمن أيّ القسـمين أنت؟!
____________
(1) هو: الشيخ محمّـد مهدي بن محمّـد إبراهيم الكلباسي الأصفهاني، المتوفّى سنة 1292 هـ، له مؤلّفات عديدة ; انظر: أعيان الشيعة 10 / 64.
فقال الآقا مهدي: إذاً فبماذا تعمل وأنت لم تواجه المعصوم فتأخذ عنه الأحكام الشـرعية شـفاهاً؟!
فاغتاظ علي محمّـد وتجرّأ على الآقا مهدي اطمئناناً بوفاق الوالي له سـرّاً، وقال له: أنت متعلّم في المنقول، ومقامك مقام طفل مبتدئ بأبجد هوّز، وأمّا أنا فمقامي مقام الذِكر والفؤاد.
فابتدر الميرزا محمّـد حسـن النوري وقال لعلي محمّـد: إنْ كنتَ فررتَ في مسـألة الرجل إلى اصطلاحات الحكماء فلا تَحِدْ عنها، فإنّ الحكماء جعلوا للذِكر والفؤاد مقاماً، من يصل إليه لم يجهل في الكون شـيئاً.
فقال علي محمّـد: نعم، أنا كذلك.
فقال الميرزا النوري: إذاً فبيّن لنا معنى الخبر الوارد في أنّ الزمان يسرع سيره في عهد السلطان الجائر، ويبطئ سـيره في عهد إمام الهدى ; وقد اجتمع أئمّة الهدى مع سـلاطين الجور من بني أُمّية وبني العبّـاس في عصور متّحدة، فهل كان للزمان سـيران متضادّان، سـريع وبطيء؟! وكيف يعقل ذلك؟!
وأيضاً: إنّا نعدّ ـ جميعاً ـ في كرامات الأولياء طيّ الأرض لهم، فكيف يكون؟ أبدخول بعض الأرض في بعض؟ بحيث تكون الألف فرسـخ بمسـافة ثلاثة أذرع مثلا، وهذا يؤدّي إلى فناء البلدان وأصناف الحيوان والشـجر التي تقع في أثناء المسـافة المتداخلة، مع أنّه لم يُسـمع ولم يُذكر وقوع هذا أصلا.
أو يكون الطيّ بمعنى لفّ الأرض بعضها على بعض كما يطوى
أو يكون طيّ الأرض بمعنى طيران الوليّ وقطعه المسـافة البعيدة بسـرعة طيرانه؟ وهذا خلاف المنقول من أنّ سـير الوليّ في طيّ الأرض بالخطوات، وكيف يطبّق على المعقول؟
فقال علي محمّـد: تريد الجواب باللسـان أو بالكتابة؟
فقال الميرزا محمّـد حسـن: ذاك إليك.
فأخذ قرطاسـاً وأطال الكتابة إلى أن اقتضت الدسـيسـة حضور الغذاء والأكل، فرمى القرطاس من يده إلى جنب المائدة وشـرعوا في الأكل.
فتناول الميرزا محمّـد حسـن ذلك القرطاس بين الخفية والعلن، فلم ير فيه إلاّ خطبة طويلة مشـتملة على البسـملة والحمدلة والصلاة والمناجاة، خالية من التعرّض للمسـائل ولو بكلمة واحدة!
وبعد الأكل لم يعد علي محمّـد إلى الكتابة، فأفتى العلماء بقتله بحسـب ما رأوه من دعاويه في غير هذا المجلس ; ولكنّ الوالي اعتذر بأنّه لا يسـعه قتله ما لم يراجع طهران، وفي الظاهر كبّله بالحديد وأرسـله إلى السـجن، وفي الباطن اسـتحضره في تلك الليلة إلى داره وأسـكنه غرفة منها معزَّزاً مكـرَّماً.
وكتب قصّته إلى طهران حسـب ما يشـتهيه من تسـهيلها وذيّلها ببيان رأيه، وهو أنّ قتله لعلي محمّـد يوجب ثورة عظيمة تضرّ بالسـياسة، فالصواب هو حبسـه إلى أن تسـكن الفورة.
فجاء الأمر من طهران بحبسـه، فتركه الوالي في غرفته موسّعاً عليه، يكتب الرسـائل ويرسـل الدعاة، وكتب في أثناء ذلك كتابه الذي سـمّاه " النبوّة الخاصّة " وبقي على ذلك سـنة وأشـهر حتّى مات الوالي فجأة،
فحاصل الأمر أنّه لم تجر من علي محمّـد في أصفهان مع العلماء مباحثة واحتجاج لدعاويه في المهدويّة والنبوّة والرسـالة والوحي بالكتاب، بل إنّه لمّا عرف من سـؤال الآقا مهدي أنّه يوصِل إلى هذا المقام، عدل في الجواب إلى طريقة المتصوّفة الراجعة إلى المكاشـفة والوصول، وأنّه الذِكر والفؤاد، حياداً عن الالتزام بالبراهين العقليّة، وتشـبّثاً بمجازفات دعاوي المتصوّفة للمكاشـفة، إذ رأى لها رواجاً ولا سـيّما في إيران، ورأى خيبةَ مسـعاه وظهورَ سـخافته وغلطه لمّا التزم بطريقة البرهان في محفل شـيراز، ولكن لم يدرِ أنّ الميرزا محمّـد حسـن يأخذ بنَفَسِـه.
ثمّ إنّ محمّـد شـاه أمر وليَّ عهده في تبريز ـ وهو ولده ناصر الدين شـاه ـ أن يعقد محفلا يجمع فيه العلماء والأعيان والأُمراء، ويُحضِر علي محمّـد من سـجنه ويُطلِق له الحرّية في التقرير والتحرير، ليناظره العلماء ويفتوا في شـأنه.
فانعقد المحفل، وممّن كان فيه: الملاّ محمّـد الممقاني، رئيس علماء الشـيخية وشـريك علي محمّـد في درس السـيّد كاظم الرشـتي، ومنهم: الملاّ محمود نظام العلماء، وهو الذي تولّى مكالمة علي محمّـد، فقال له: هذه الكتب التي هي على نسـق الآيات القرآنية ـ وأراه إيّاها ـ هل هي من مقالاتك أو هي مفتراة عليك؟
فقال: نعم، هذه الكتب من الله.