الصفحة 241

فقال النظام: دعنا من التعمية، وخاطبنا بالصراحة.

فقال: نعم، هذه الكتب من مقالاتي.

فقال النظام: يُفهَم منها أنّك تدّعي أنّها من الوحي، وأنّ كلامك كلام الله؟

قال: نعم.

قال النظام: تسـميتك بالباب منك أم من الناس؟

فقال: هي من الله، وأنا باب العلم.

فقال النظام: إنّ رسـول الله قال: " أنّا مدينة العلم وعليٌّ بابها "(1)، فكان أمير المؤمنين يقول: " سـلوني قبل أن تفقدوني "(2)، وإنّ عندي مسـائل غامضة أُريد منك حلّها، منها في علم الطبّ..

فقال: إنّي لم أتعلّم علم الطبّ!

فقال النظام: أسـألك من علم الدين، ومن شـروط هذا العلم فَهْم معاني الآيات والأحاديث، وهو موقوف على علم النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق، وغير ذلك من العلوم، فأسـألك الآن عنها مبتدئاً بعلم الصـرف.

____________

(1) مرّ تخريجه في الصفحة 211.

(2) ورد هذا القول عن أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام) بألفاظ مختلفة، فانظر مثلا:

نهج البلاغة: 280 ذيل الخطبة 189، أنساب الأشراف 2 / 351، الاستيعاب 3 / 1103 و 1107، منـاقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 90 ـ 91 ح 83 و 85 و ص 94 ح 92، شرح نهج البلاغة 6 / 136 و ج 12 / 197، الطبقات الكبرى 2 / 257، الرياض النضرة 3 / 166 و 167، ذخائر العقبى: 150 و 151، تاريخ دمشق 42 / 397 ـ 400، أُسد الغابة 3 / 597، مختصر تاريخ دمشق 18 / 23، فرائد السمطين 1 / 340 ـ 341 ح 263، الخلفاء الراشدون: 388، تاريخ الخلفاء: 203، ينابيع المودّة 1 / 208 ح 9 و ص 213 ح 17 و ص 214 ح 23.


الصفحة 242
فقال: إنّ الصرف تعلّمته في الطفولية، والآن لا يخطر ببالي!

فقال النظام: فسِّر لنا قوله تعالى: ( هو الذي يُريكم البرقَ خوفاً وطمعاً )(1)، وبيّن لنا تركيبها، وبيّن لنا سـبب النزول لسـورة الكوثر ووجه تسـلية النبيّ بها؟!

فتفكّر واسـتمهل في الجواب!

فسـأله النظام عن معنى كلام الرضا (عليه السلام) لمّا قال له المأمون: " ما الدليل على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ " فقال الرضا (عليه السلام): " نصّ آية ( أنـفسـنا )(2) ".

فقال المأمون: لولا ( نسـاءنا ).

فقال الرضا (عليه السلام): " لولا ( أبناءنا ) "(3).

فقال علي محمّـد: هذا ليس بحديث.

فقال النظام: أليس بكلام من كلام العرب؟! ففسّر لنا معناه!

فاسـتمهل في الجواب!

فسأله النظام عن معنى قول العلاّمة الحلّي(4): إذا دخل الرجل على

____________

(1) سـورة الرعد 13: 12.

(2) إشارة إلى الآية الكريمة: (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسـنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) سورة آل عمران 3: 61.

(3)

(4) هو: العلاّمة على الإطلاق، أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي، أشهر من أن يعرَّف أو يترجَم، وُلد في مدينة الحلّة السـيفية في العـراق سنة 648 هـ، وتوفّي سنة 726 هـ فحُمل جثمانه إلى النجف الأشرف فدُفن في جوار أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

شيوخه وتلامذته من كبار علماء الطائفة الحقّة، له مؤلّفات كثيرة في الفقه والأُصول والكلام والعقائد والحديث والرجال، وغيرها من العلوم، منها: منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، الأربعين في أُصول الدين، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، نهج الحقّ وكشف الصدق، كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الألفين الفارق بين الصدق والمين، واجب الاعتقاد على جميع العباد، نهاية المرام في علم الكلام، تذكرة الفقهاء، مختلف الشيعة إلى أحكام الشريعة، منتهى المطلب في تحقيق المذهب، إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان.

انظر في ترجمته مثلا: الكنى والألقاب 2 / 477 (الحلّي)، أعيان الشيعة 5 / 396، لسان الميزان 2 / 317 رقم 1295، الأعلام 2 / 227.


الصفحة 243

الصفحة 244
الخنـثى، والخنـثى على الأُنـثى، وجب الغسـل على الخنـثى دون الرجل والأُنـثى(1).

فسـكت!

فقال له النظام: إنّك تزعم أنّ كتابك مبنيٌّ على الفصاحة والبلاغة، فبيّن لنا النسـبة بينهما(2)، وبيّن لنا الوجه في كون الشـكل الأوّل بديهيّ الإنـتاج(3).

____________

(1) انظر مضمون المسألة في تذكرة الفقهاء 1 / 227 ـ 228 فرع (ز).

(2) الفصاحة في الكلام: تنبئ عن الظهور والإبانة، والبلاغة: تنبئ عن الوصول والانتهاء، فالفصاحة جزء البلاغة، فهي جزء من كلّ، فكلّ كلام بليغ فصيح وليس العكـس.

انظر: شرح مختصر المعاني: 12 وما بعـدها.

(3) الشكل الأوّل من الأشكال الأربعة ـ من مباحث الاسـتدلال ـ هو ما كان الأوسط فيه محمولا في الصغرى موضوعاً في الكبرى، ولهذا الشكل شرطان: إيجاب الصغرى، وكلّـيّة الكبرى ; وله ضروب أربعة بيّـنة الإنتاج، هي كالآتي مع أمثلتها:

1 ـ من موجبتين كلّيّتين، ينتج موجبة كلّية: كلّ خمر مسكر، وكلّ مسكر حرام، إذاً كلّ خمر حرام.

2 ـ من موجبة كلّية وسالبة كلّية، ينتج سالبة كلّية: كلّ خمر مسكر، ولا شيء من المسكر نافع، إذاً لا شيء من الخمر بنافع.

3 ـ من موجبة جزئية وموجبة كلّية، ينتج موجبة جزئية: بعض السائلين فقراء، وكلّ فقير يستحقّ الصدقة، إذاً بعض السائلين يستحقّ الصدقة.

4 ـ من موجبة جزئية وسالبة كلّية، ينتج سالبة جزئية: بعض السائلين أغنياء، ولا غنيّ يستحقّ الصدقة، إذاً بعض السائلين لا يستحقّ الصدقة.

انظر: المنطق: 214 ـ 217.


الصفحة 245
فلم يجـب!

فقال النظام: أسـألك سـؤالا لا أسـألك غيره، وهو: إنّ العادة المتّبعة عند العقل والعقلاء أنّ كلّ من ادّعى النبوّة والرسـالة والوحي قد أتى في حجّته بشـيء خارق للعادة، يعجز مَن دعاهم عن مثله، وأنت في كتابك تدّعي النبوّة والرسـالة، وإنّا نسـألك هل عندك شـيء من المعجزات يكون لك به الحجّة على الناس؟!

فقال. سـل ما تريد.

فقال النظام: إنّ الشاه مبتلىً بمرض النقرس، وقد عجز الأطباء عنه، وإنّا نطلب منك شـفاءه.

فقال: هذا غير ممكن.

فنادى النظام مخاطباً للجمهور، ومشـيراً بيده إلى علي محمّـد، وقال: إنّ هذا الرجل فارغ الجِراب(1) من كلّ معقول ومنقول.

فغضب علي محمّـد وقال: ما هذا الكلام أيّها النظام؟! وأنا ذلك الرجل الذي تنتظرونه منذ ألف عام!

فقال له النظام: أأنت المهدي النوعي أو الشـخصي؟! يعني ابن

____________

(1) الجِراب: الوِعاء، وقيل: هو المِزْوَد، وقيل: هو وعاء من إهاب الشاة لا يُوعى فيه إلاّ يابس ; والجمع: أَجْـرِبة وجُـرُب وجُـرْب.

انظر: لسان العرب 2 / 228 مادّة " جرب ".


الصفحة 246
الحسـن العسـكري عليهما السلام.

فقال: أنا عين ذلك المهديّ الشـخصي!

فقال له النظام: ما اسمك، وما اسم أبويك، وأين مسقط رأسك؟!

فقال: اسـمي علي محمّـد، واسـم أبي الميرزا رضا، واسـم أُمّي خديجـة، ومسـقط رأسـي شـيراز.

فقال له النظام: إنّ المهديّ عندنا حسـبما عرّفه أهل بيت العصمة هو: محمّـد بن الحسـن العسـكريّ، واسـم أُمّه نرجس، ومسـقط رأسـه سـرّ من رأى ; فكيف ينطبق ذلك عليك؟!

فقال: إنّي أُريكم معجزة يتحقّق بها صدق دعواي.

فقالوا: هات ما عندك.

فقال: إنّي أكتب في اليوم الواحد ألف بيت(1).

فقالوا: إنْ صدقت في قولك فإنّ كثيراً من الكُـتّاب يشـاركونك في القدرة على هذا المقدار!

ثمّ إنّ الملاّ محمّـد الممقاني سـأل علي محمّـد، وقال له: إنّا قرأنا في كتابك، الذي جعلته بمنزلة القرآن، قولك: " أوّل من سـجد لي محمّـد وعليّ "، أتعني بذلك أنّ مقامك أسـمى من مقام محمّـد وعليّ؟!

فقلق علي محمّـد من هذا السـؤال وأطرق.

ثم سـأله الملاّ عبـد الكريم الملاّ باشـي، وقال له: إنّ الله يقول في القرآن الكريم: ( واعلموا أنّما غنمتم من شـيء فأنّ لله خمسـه )(2)، وأنت تقول في كتابك: " ثُـلُـثه "..

____________

(1) البيت عند الكُـتّاب خمسـون حرفاً. منه (قدس سره).

(2) سـورة الأنفال 8: 41.


الصفحة 247
فبادر في الجواب وقال: إنّ الثلث نصف الخمس!

فضحك القوم ; وقال له الملاّ محمّـد الممقاني: فرضنا وسـلّمنا أنّ الثلث نصف الخمس، فكيف خالفت القرآن؟!

فسـكت!

فالتفت إليه السـيّد محمّـد جعفر، الملقّب بالأمير، وقال له: بيّن لنا كيفية رفع المسـيح إلى السـماء؟ هل كان بدون أن يموت ويقتل كما يقول القرآن والمسـلمون؟ أو كان بعد القتل والدفن كما يقول النصارى؟ وهل كان ذلك الرفع ببدنه العنصري الناسـوتي؟ أم كيف؟

فقال: بيان هذا يحتاج إلى مجال أوسـع من هذا!

ثمّ إنّ علي محمّـد خاطب القوم وقال: ألم تعلموا أنّي أخطب خطباً طويلة فصيحة بالبداهة والارتجال؟!..

فشـرع يخطب بالعربية وقال: الحمد لله الذي رفع السـماواتَ والأرضِ ـ بفتح التاء وكسـر الضاد ; وكلاهما غلط ـ!

فحينئذ قال وليّ العهد: أُسـكت أُسـكت! وصار يقرأ قول ابن مالك في النحو:


وما بِتَا وأَلِف قَدْ جُمِعايُكْسَرُ في الجَرِّ وفي النَصبِ مَعا(1)

ثمّ قال له: ما هذا الضلال والإضلال؟! وما هذه الترّهات؟! ألم تسمع من أهل بيت العصمة بأنّ المهديّ يخرج بالكرامات الباهرات، ويحمي دين جدّه وشـريعته، ويملأ الأرض قسـطاً وعدلا؟! ولا يكون المهديّ لا يعرف الكلام الصحيح، ويضربه والي شـيراز، ويودع أعماق

____________

(1) شرح ابن عقيل 1 / 61 رقم 41.


الصفحة 248
السـجون!

ثمّ التفت وليّ العهد واسـتفتى الفقهاء في شـأنه، فرأوا كفره، وأفتوا بقـتله.

وأمّا الأعيان فحكموا عليه بالجنون والبلادة، وأنّه يلزم تعزيره وتقيـيده.

فترجّح رأي الأعيان عند وليّ العهد، فأمر الحجّاب بأن يطرحوه في الأرض، وصاروا يضربونه وهو يسـتغيث حتّى تاب، وعاهد بالعهود المغلّظة على أن لا يرجع إلى مدّعياته، ثمّ ردّوه إلى محبسـه في قلعة چهريـق.

ولمّا توفّي محمّـد شـاه وجلس على سـرير الملك ولده ناصر الدين شـاه، وانتشـر الفسـاد من البابية بالقتال والغارات، جاء الصدر الأعظم الميرزا تقي خان أمير أتابك إلى الشـاه وقال له: إنّه لا وسـيلة لخلاص البلاد والعباد من هذا الفسـاد إلاّ بإعدام علي محمّـد.

فصوّب الشـاه رأيه وقال: أيّها الوزير! إنّ وزير أبي قد أخطأ بحبس علي محمّـد في چهريق، وحجبه عن الناس، حتّى تصوّر في مخيّلة العوامّ أنّه رجل كبير من الخواصّ، وكنز مخفيّ في السـجن، فأحدثت لهم مخيّلتُهم مَيلا عظيماً إليه، فانبعث هذا الفسـاد ; بل كان الرأي أن يجلبه إلى طهران، ويأذن للناس بأن يكلّموه ويباحثوه ويسألوه، ليطّلعوا على ما عنده من السـخافة والهذيان، وحينئذ يشـتهر بالسـخافة والبلادة، ويبقى كأفراد الصعاليك(1).

____________

(1) الصُـعْـلُوك: الفقير الذي لا مال له ; انظر: لسان العرب 7 / 350 مادّة " صعلك ".


الصفحة 249
فقال الوزير: الحال كما أمر الملك، ولكن نفذ سـهم القضاء، ولا بُـدّ لنا اليوم من إخماد نار الفتن بإعدام علي محمّـد.

فكتب الشـاه بإعدامه إلى الشـاهزاده عمّه حشـمة الدولة، والي تبريز، فطلب الوالي علماء تبريز للاجتماع والمشـورة في أمر علي محمّـد.

فقالوا: إنّكم رأيتم الرجل واطّلعتم على حاله، وقد ناظرناه واطّلعنا على حاله وحجّته ودعوته إلى ما هو كفر في الحقيقة، فإن كان باقياً على ذلك فجزاؤه الإعدام، وإن تاب وندم فليكتب بذلك سـجلاًّ حتّى ننظر في حكم الله في أمره بحسـب الشـرع الشـريف.

فعقد الوالي مجلسـاً من الأعيان ودعا علي محمّـد، فناظره الحاجّ ميرزا مسـعود ـ وكيل الوزارة الخارجية ـ في بعض الأحاديث النبويّة، فلم يحسـن علي محمّـد جوابه!

فقال الوالي له: سـمعنا أنّك تدّعي نزول الوحي عليك، وأنّك تأتي بكتاب كالقرآن، فإن كنت صادقاً فادعُ الله أن ينزل عليك وحياً في شـأن هذا المصباح البلّوري الذي أمامنا.

فأخذ علي محمّـد يتلو آيات ملفّـقة من سورة النور وسورة الملك من القرآن الكريم!

فقال له الوالي: هذا نزل عليك بالوحي الجديد؟!

فقال: نعم.

فقال له الوالي: أليس الوحي لا يُمحى من خاطر الموحى إليه؟!

قال: بلى.

وكان الوالي كتب ما تلاه علي محمّـد، فشـاغله بالكلام مدّة، ثمّ طلب منه إعادة ما تلاه أوّلا، فتشـوّش علي محمّـد في تلاوته، وغيّر

الصفحة 250
وبدّل، وقدّم وأخّر، وزاد ونقص!

فكـفّوا عن الكلام، وصمّموا على إعدامه، وقُضي الأمر..


*    *    *


الصفحة 251

الشـبـهة السـادسـة
[صرف بلاء مَن كتب إليهم]

إنّ حسـين علي قد كاتب الملوك، ودعاهم إلى الإيمان به وقبول دعوته، فلم تصبه منهم صدمة ولا نكبة، وهذا يدلّ على أنّ علاقته بالحقّ قد صرفت عنه صدماتهم.

أقـول:

أوّلا:

إنّ مكاتبته للملوك ودعوته لهم لم تُسـمع إلاّ منه، حيث كتب ذلك في كتبه، ومنها كتابه الذي سـمّاه " أقدس " فادّعى فيه أنّه كاتَبَ ودعا الملوك: آل عثمان، والفرانسة، والألمان، والنمسـا، ورؤسـاء الجمهورية في أمريكا، وعموم الملوك.

وإنّ كتابه " أقدس " ممّا التزموا فيه بالإخفاء والكتمان كسـائر كتبه، فإنّ أصحابنا لم يطّـلعوا عليه إلاّ بعد الجـدّ التامّ في تحصيله! بل لم يُـنَـلْ إلاّ بتوسّـط مَن أظهـر لهم المَيـل إلى البهائية، حتّى طمعوا فيه واطمأنّـوا إليه فأطلعوه على السـرّ المكتوم!

ومن شـواهد ذلك أنّي الآن أطلب منكم كتبكم لأشـتريها بأعلى الثمن فلا تحصل لي!

فليس خطابه ودعوته للملوك ـ في هذا الحال ـ إلاّ نحو خطابِ الذي يجلس في بيته ويتكلّم بما شـاء سـرّاً..

وثانياً:

لو فرضنا أنّ خطابه وصل إلى الملوك في حال حياته، لَما

الصفحة 252
كان هناك ما يقتضي أن يقصدوه بالصدمة ; لأنّه لم يتعرّض لسـيادتهم وسـياسـتهم، بل صرّح في خطابه للملوك في كتاب " أقدس " بقوله: " تالله لا نريد أن نتصرّف في ممالككم "!

وإنّ الملوك من شـدّة عنايتهم بأمر التمدّن والإصلاح، قد حرّروا الأفكار في هذا الموضوع، وأطلقوا السـراح لكلّ متكلّم فيه، سـواءً خاطب العموم أو الخصوص، وسـواءً جاء بسـمة الفيلاسـوف أو النبي، خصوصاً بعدما شـاع الاصطلاح بأنّ النبوّة عبارة عن التكلّم بالحقيقة النافعة وما فيه إصلاح العالَم ونظام التمدّن! فلا مضايقة على مدّعيها إذا تكلّم في هذا الموضوع.

وإنْ تكلّم واحدٌ في دعوة التمدّن والحضارة وأسـاء القول بالموعظة والتوبيخ، اعتبرته الدول المتمدّنة مجرماً مع السـياسـة في نصرة المدنية، وقد ألقى التمدّن عليهم عهدة حمايته!

وهذا محمّـد طاهر الحكّاك الخراسـاني يدّعي النبوّة، ويجاهر بالدعوة، ويرسـل المكاتيب علناً للملوك بالدعوة والنصيحة وبيان ما فيه صلاح البشـر، ولم يتعرّض له أحد، حتّى إنّه كاتَبَ السـلطان عبـد الحميد من إيران وبتوسّط متصرّف كربلاء!

وإنّك لَـترى في رعايا الملوك مَن هو ملحد يكتب الكتب في إلحاده والدعوة إليه، ومَن هو عابد وثن، ومَن يدّعي الإلهيّة، والملوك لا يتعرّضون لدعوتهم ونحلتهم ما لم تخلّ بالمدنية والسـياسـة، مع أنّ لسـان الحال والمقال من كلّ مدّع هو أنّه يدعو جميع الناس إلى نحلته.

ألا ترى إلى عائلة آقا خان في الهند، يدّعون الربوبية والحلول، ولهم قوانين وضرائب، وقد تبعهم على ذلك ملايين في سـنين متطاولة،

الصفحة 253
ويبذلون لهم الأموال الطائلة والطاعة العمياء، ويخضعون لأوامرهم ونواهيهم، فلم تتعرّض الدولة الإنكليزية لا للتابع ولا للمتبوع!

وهذا أحمد القادياني في الهند، يدّعي الدعاوي، وتُنظّم إليه الأتباع، ويطبع كتبه، فلم تتعرّض له الدولة!


*    *    *


الصفحة 254

الشـبـهة السـابعـة
[إتيانه بمعجزة الكـتابة]

هي أنّ علي محمّـد كان يقدر أن يكتب في اليوم ألف بيت(1)، تكون نحو ثلاثة عشـر ألف كلمة، وهذا أمر يعجز عنه غيره، فهو بإعجازه حجّة على صدقه في دعاويه، كما احتجّ هو بذلك في " البيان "، وفي مجلس تبريز.

فأقـول:

أوّلا:

إنْ أراد من ذلك قدرته على الكلام المكتوب، فلا يخفى أنّ غالب الناس، حتّى من الأطفال، يقدر في اليوم على هذا المقدار وأكثر، خصوصاً مثل قوله: " إنّا جعلناك جرداناً جريداً للجاردين.. برهاناً بريهاً للبارهين "..

ونحو قوله: " قل كلّ ليقولنّ إنّه لا إله إلاّ هو الذي آمنت به كلّ العتاقيّين.. الرتاحيّين.. المقاتيّين.. اللهاميّين "..

ومثل قوله: " سـبحانك اللّهمّ لا إله إلاّ إيّاك وأنت العذب ذي العذابين.. الخول ذي الخوالين.. الخزي ذي الخزائين.. العجل ذي العجالين.. الفرش ذي الفراشـين "..

على التكرار الذي ذكرنا عنه في صحيفة 178 ـ 187.

____________

(1) أي: خمسـين ألف حرف. منه (قدس سره).


الصفحة 255
فإنْ أردت التجربة، فاحضر لكي أُقيم لك ـ من أيّة بلدة شـئت ـ أكثر من مائة رجل وامرأة وطفل، يتكلّمون بمثل هذا الكلام، وأحسـن منه بأكثر من مقدار معجزتكم.

وإنْ أردت من المعجِز قدرةَ علي محمّـد على كتابة الألف بيت..

قلـنا: إنّ كثيراً من الكُـتّاب يقدر في اليوم على كتابة هذا المقدار وأكثر منه، كما لا يخفى..

فكأنّك لا تدري بكُـتّاب التجّار الكبار أيَّ مقدار يكتبون عندما تكثر عليهم المراسـلة ويضايقهم يوم البريد(1)، مع أنّهم يكتبون عن تأمّل وتقيّد بمطالب التجّار وحسـابهم..

فهب أنّ علي محمّـد يقدر على ذلك أو لا يقدر ; نعم، من كان يمنع من صدقه في دعوته ما ذكرنا من الموانع، فإنّه يليق به أن يتشـبّث بمثل هذه الأُمور.. فأين الرشـد وأين الألباب؟!


*    *    *

____________

(1) الپوسـطة. منه (قدس سره).


الصفحة 256

الشـبـهة الثـامنـة
[التفـوّق العلمي]

إنّ بعض الناس يزعم أنّ عبّـاس أفندي قد فاق في هذا العصر بعلمه، فهو يدرّس في عكّا بجميع العلوم، وهذا معجز بين الناس، وبإعجازه تتمّ الحجّة.

فأقـول:

ليت شـعري أيّ صناعة تنسـب لعبّـاس أفندي؟! وأيّ اكتشـاف صدر منه؟! وأيّ اختراع برز عنه؟! وأيّ فنّ تفرّد به؟! وأيّ تصنيف اشـتهر له؟! وكم هاجر من الغربيّين إلى مدرسـة عكّا وتدريسِ عبّـاس؟! وماذا تبحث الصحف الأُوروبّية في علوم عبّـاس وآثارها؟!

فهذا العالَم وآثاره، وهذه الصنائع والعلوم وأخبارها، وها هم العلماء والحكماء وأسـماؤهم، فلا تفضحونا بين الغربيّين، بل لا تفضحونا بين المسـتشـرقين الّذين أخذوا من علوم الشـرق حظّـاً وافراً، فلا تجعلوا دعاويكم عاراً على عامّة الشـرقـيّين.

ولئن سـمعت عن الرجل من أصحابه طنينَ علم وتدريس، فسـلهم ما هي العلوم؟! وما هو التدريس؟!

أفلا تدري أنّ من نظر إلى كتاب " جام جم "، ودائرة المعارف، ورسـائل فانديك، وحفظ ذلك سـواداً على بياض، لَيبهر عقلك إذا هدر بمحفوظاته منها في أشـتات العلوم، وأنواع الاكتشـافات، واختراع

الصفحة 257
الصنائع، وتراكيب الماكينات، وأسـرار الكهربائية؟! فتقول: إنّ هذا واحد الناس! وأنت لا تدري بأنّ له قشـر المحفوظات، ولغيره اللباب!

ولئن غرّك من عبّـاس معرفة بعض الألسـن، فقد ذهب بفضل ذلك أطفال المكاتب!

أرشـدك الله! إذا كنت تعرف أنّ العلمَ كمالٌ، فلماذا لم يكن عند علي محمّـد ـ أسـاس دعوتكم ـ بقدر أطفال المكاتب من علم اللغة العربية والنحو والصرف، مع أنّه يدّعي إعجازه بالكلام العربي؟!

أفما كان عليه ـ في شـيمة الشرف والحياء ـ أن يتعلّم ما يصونه عن الغلط الفاحش الفاضح؟!

أفهـذه دعاوي المعاجـز؟!

أرشـدك الله! إنّ تَـعَـرُّضي لذِكر هذه الشـبهات ودفعها، قد كان لزيادة إيضاح الحقّ، ودفع الوسـاوس المختلجة في ذهنك، وإلاّ ففيما ذكرناه ـ من الموانع الموضحة لبطلان دعوة البابية ـ كفاية لمن طلب الهدى وشـرف الحقّ، وتحذّر من سـخف الباطل وسـوء عاقبته، أعاذك الله.

وإنّي أُحبّ أن أزيد في بصيرتك، وأُنبّه اعتبارك ووجدانك في بعض الأُمور، وأسـتلفت نظرك إلى الباقي، فإنّه لا يخفى على البصير أنّه لم يُسـمع عن ذي شـعور وشـرفِ نفس، أنّه يريد أن يحمل البشـر على الجهل العامّ الخسـيس، والتقليد الأعمى، ويُلزِمهم بما فيه حرمانهم من فوائد المعقول والمنقول، فيعرّيهم من جلباب العلوم وشـرف المعارف، ويحطّهم عن معارج الترقّي والكمال، ويصدّهم عن التقدّم في التمدّن والعلوم النافعة للبشـر، ويأمـرهم بما يكونون به همجـاً وحوشـاً أوباشـاً، لا يعرفون إلاّ كتب شـخص واحد هي أُنموذج التخليط، والغلط الفاحش،

الصفحة 258
والجهل، والكفر، والضلال، ومخالفة العقل والنقل!

ولكن، ما عشـت أراك الدهر وأسـمعك عجباً!

فهذا علي محمّـد، أسـاس دعوة البابية، قد ذكر المؤرّخون أنّه نهى عن النظر في جميع الكتب ممّا عدا كتبه، وعن تعلّم جميع العلوم، وأمر بإعدام جميع الكتب ومحوها ممّا عدا كتبه، فصار أصحابه يعدمون ويحرقون كلّ كتاب ظفروا به حتّى القرآن!

وإنّا وإنْ لم نعثر إلى الآن على نصّ كلامه ذلك، ولكن حسـين علي في كتابه الذي سـمّاه " أقدس " حجّة على البابية في ذلك إذا كابروا بتكذيب المؤرّخين، فإنّه قال ما نصّه: " قد عفا الله عنكم ما نزل في (البيان) من محو الكتب، وأَذِنّاكم بما تقرأوا من العلوم ما ينفعكم " ; انتهى كلامه.

فإنْ قيـل:

إنّ علي محمّـد لا يُلام في ذلك، فإنّ علم اللغة والنحو والصرف وكتبها توضح أغلاطه الفاحشـة المسـتوعبة لكتبه، وإنّ كتب الأدب تبيّن سـخافته ونقصه، وإنّ كتب الحديث تبيّن ما ذكرتَ بعضَه في أمر المهديّ بن الحسـن العسـكريّ عليهما السلام، وذلك يبطل دعوى علي محمّـد، ويوضح ارتداده عن الدين ـ كما تقدّم ـ، وإنّ كتب الحكمة والكلام تبيّن أنّ دعوى البشـر للإلهيّة كفر وضلال وسـخافة، وتعلن بأنّ دعوى الرسـالة لا بُـدّ أن تكون خالية من الموانع، مقرونة بالمعجِز الطابق، وأنّ الرسـول لا يكون ناقصاً.

قلـنا:

إذاً فما ذنب باقي العلوم كالمنطق والمعاني والبيان والعروض، وغيرها من العلوم في الرياضي والطبيعي؟! وما ذنب القرآن الكريم؟!

هذا حسين علي أيضاً يجعل الأمر بمحو الكتب مُـنْـزَلا من الله، فهو شـريك علي محمّـد في هذه السـخافة والشـناعة، ولا يغسـلها عفوه وإذنه

الصفحة 259
بتعلّم العلوم!

فإنْ قلـت:

إنّ المسـلمين يحرِّمون النظر إلى بعض الكتب، ويأمرون بإعدامها!

قلـت:

إنّ المسـلمين يحرِّمون على غير الكاملين أن ينظروا في كتب الضلال والضرر على البشـر، وهي الكتب المشـتملة على ما حكم العقل والنقل بأنّه ضلال أو ضرر على البشـر، كالكتب المتضمّنة للباطل، وكتب السـحر ـ وهو التصرّف بأحوال البشـر من دون رضاً منهم ولا اسـتحقاق للتسـلّط عليهم ـ ; وهذا ممّا يمنعه العقل وكلّ شـرع إلهي أو فلسـفي.

ومع ذلك، فإنّ المسـلمين لم يحرّموا النظر إلى هذه الكتب، ولم يأمروا بإعدامها مطلقاً، بل جوّزوا اقتناءها والنظر فيها للكامل الذي يريد الردّ عليها ويبيّن ضلالها ; وأين هذا من أمر بابكم بمحو الكتب مطلقاً وإعدامها؟!

وهذا حسـين علي، في أُخريات الباب الأوّل من كتابه " إيقان "، قد تبع علي محمّـد على هذا الأدب، واسـتشـهد بكلامه في (بيانه)، فصار يذمّ العلم، ويريد من الناس أن لا يهتدوا بهدى العلم ولا يسـتضيئوا بنوره، بل يريد منهم أن يخبطوا في ظلمات الأوهام بعمى جهلهم وشـطحات أهوائهم، بلا نورِ حجّة ولا هدى دليل، فيتصرّفون في الحقائق الإلهيّة والكلام، ويتلاعبون فيها خبطاً، بلا تعقّل ولا ميزان ولا قانون عقلائي، وبلا رابطة شـرعية ولا عقلية ولا لغوية ولا عقلائية!

فقال ممّا قال: " العلم حجاب الأكبر، هيچ رائحه آن علوم ظلماني كه ظلمت إين همه بلاد را فرا گرفته اسـتشـمام نميشـود، أز إين شـجر جز بغي وفحشاء ثمري نيارد، وجز غلّ وبغضاء حاصل نيخشـد، ثمرش سمّ

الصفحة 260
قاتل اسـت، وظلّش نار مهلك، فنِعْم ما قال:


تَمسّكْ بأذيالِ الهَوى واخلَعِ الحَيَاوَخَلِّ سَبيلَ الناسِكِينَ وإنْ جَلُّوا

پس بايد صدر را أز جميع آنچه شـنيده شده پاك نمود، وقلب را أز همه تعلّقات مقدّس فرمود تا محلّ إدراك إلهامات غيبي شـود، وخزينه أسـرار علوم ربّاني گردد، إينسـت كه ميفرمايد(1) السـالك في النهج البيضاء، والركن الحمراء، لن يوصل إلى مقام وطنه إلاّ بكفّ الصفر عمّا في أيدي الناس "(2) ; انتهى.

وَلَعَمْرُ الشـرف والفضل والكمال والحياء، إنّ أمرهم متوقّف على ما طلبوه أشـدّ التوقّف، فإنّ التعقّل والمعارف والعلوم العقلية والشـرعية والأدبية فاضحة لدعاويهم أيَّ افتضاح! موضحة لبطلانها أيَّ إيضاح!

فكيف تروج دعواه للمهدويّة، مع ما في أحاديث المسـلمين المتواترة ـ وخصوص الشـيعة ـ في نسـب المهديّ وسـلطانه ومَلْـئِه الأرضَ قسـطاً وعدلا، كما سـمعت بعضه من الأحاديث المتقدّمة في هذا المختصر؟!

وكيـف تروج دعواهم الرسـالة من الله، مع ما سـمعت بعضه من دلالـة القرآن الكريم، والأحاديث المتواترة، على ختام النبوّة بمحمّـد رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّه لا نبيّ بعده؟!

____________

(1) يعني: علي محمّـد. منه (قدس سره).

(2) أي: إنّ العلم هو الحاجز الكبير بين المرء وقلبه، ولا نشمّ أي رائحة لهذه العلوم التي ملأت أرجاء البلاد كافّة، ولا نرى أيّة ثمرة سوى ثمرة البغي والفحشاء، والتي تعدّ سُـمّاً قاتلا، وظلّه نار مهلكة.. كما قال الشاعر:... تمسّـك... ولهذا يجب إزالة وتطهير الصدر والفؤاد من جميع الشوائب التي تلوّثا بها، لكي يكونا محلاًّ للفيوض الغيبية، ووعاءً لأسرار العلوم الربّانية، كما قال علي محمّـد:...