أما قول الإمامية من أن الله تعالى منزه من فعل القبايح والفواحش، وأنه لا يفعل إلا ما هو حكمة، وعدل، وصواب، ولا شك في وجوب الرضا بهذه الأشياء، فلا جرم كان الرضا بقضائه وقدره على قواعد الإمامية، والمعتزلة واجبا، ولم يلزم منه خرق الاجماع، في ترك الرضا بقضاء الله تعالى، ولا في الرضا بالقبايح.
إنه تعالى لا يعاقب على فعله
المطلب السابع: في أن الله تعالى لا يعاقب الغير على فعله تعالى.
ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى: أن الله تعالى لا يعذب العبيد على فعل يفعله فيهم، ولا يلومهم عليه.
وقالت الأشاعرة: إن الله تعالى لا يعذب العبد على فعل العبد، بل يفعل الله تعالى فيه الكفر، ثم يعاقبه عليه، ويفعل فيه الشتم لله تعالى، والسب له، ولأنبيائه (ع)، ويعاقبه عليها، ويخلق فيهم الأعراض عن الطاعات، وعن ذكره وذكر أحوال المعاد (1)، ثم يقول: " فما لهم عن التذكرة معرضين " (2)؟.
وهذا أشد أنواع الظلم، وأبلغ أصناف الجور، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد قال تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد (3)، وما الله يريد ظلما للعباد " (4) وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، (5) ولا تزر وازرة وزر أخرى " (6). وأي ظلم أعظم من أن يخلق في العبد شيئا، ويعاقبه عليه، بل يخلقه أسود، ثم يعذبه على سواده، ويخلقه طويلا،
____________
(1) الملل والنحل 1 ص 96، وشرح العقائد ص 112، والفصل لابن حزم ج 3 ص 142.
(2) المدثر: 49.
(3) فصلت: 46.
(4) غافر: 31.
(5) هود: 101.
(6) الأنعام: 164.
فلينظر العاقل المنصف من نفسه، التارك للهوى، هل يجوز أن ينسب ربه عز وجل إلى هذه الأفعال؟ مع أن الواحد منا لو قال: إنك تحبس عبدك، وتعذبه على عدم خروجه في حوائجك لقابل بالتكذيب، وتبرأ من هذا الفعل، فكيف يجوز أن ينسب إلى ربه ما يتنزه هو عنه؟..
امتناع تكليف ما لا يطاق
المطلب الثامن: في امتناع تكليف ما لا يطاق.
قالت الإمامية: إن الله تعالى يستحيل عليه من حيث الحكمة: أن يكلف العبد ما لا قدرة له عليه، ولا طاقة له به، وأن يطلب منه فعل ما يعجز عنه، ويمتنع منه، فلا يجوز له أن يكلف الزمن الطيران إلى السماء، ولا الجمع بين الضدين، ولا كونه في المشرق حال كونه في المغرب، ولا إحياء الموتى، ولا إعادة آدم ونوحا عليهما السلام، ولا إعادة أمس الماضي، ولا إدخال جبل قاف في خرم الإبرة، ولا شرب ماء دجلة في جرعة واحدة، ولا إنزال الشمس والقمر إلى الأرض، إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة لذاتها.
وذهبت الأشاعرة: إلى أن الله تعالى لم يكلف العبد إلا ما لا يطاق، ولا يتمكن من فعله (1)،.
فخالفوا المعقول الدال على قبح ذلك. والمنقول، وهو المتواتر من الكتاب العزيز، قال الله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " (2)،
____________
(1) الملل والنحل ج 1 ص 96، والتفسير الكبير ج 7 ص 140، وروح المعاني ج 7 ص 60.
(2) البقرة: 286.
والظلم هو إضرار غير المستحق، وأي إضرار أعظم من هذا، مع أنه غير مستحق؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
إرادة النبي موافقة لإرادة الله
المطلب التاسع: في أن إرادة النبي صلى الله عليه وآله موافقة لإرادة الله تعالى.
ذهبت الإمامية إلى أن النبي (ع) يريد ما يريده الله تعالى، ويكره ما يكرهه، وأنه لا يخالفه في الإرادة والكراهة.
وذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وآله يريد ما يكرهه الله تعالى (4) ويكره ما يريده، لأن الله تعالى أراد من الكافر الكفر، ومن العاصي العصيان، ومن الفاسق الفسوق، ومن الفاجر الفجور. والنبي صلى الله عليه وآله أراد منهم الطاعات، فخالفوا بين مراد الله تعالى وبين مراد النبي صلى الله عليه وآله وأن الله كره من الفاسق الطاعة، ومن الكافر الإيمان، والنبي أرادهما منهما، فخالفوا بين كراهته تعالى، وكراهة النبي، نعوذ بالله تعالى من مذهب يؤدي إلى القول بأن مراد النبي يخالف (5) مراد الله تعالى، وأن الله تعالى لا يريد من الطاعات ما يريده أنبياؤه، بل يريد ما أرادته الشياطين: من المعاصي، وأنواع الفواحش والفساد!.
____________
(1) فصلت 46.
(2) غافر: 17.
(3) الكهف: 49.
(4) راجع: الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم ج 3 ص 52، وما بعدها، . و 142، وما بعدها...
(5) أقول: هذه كلمة من أركان المذهب الأشعري، وهم يستندون إليها في أكثر مسائلهم الاعتقادية.
إنا فاعلون
المطلب العاشر: في إنا فاعلون.
اتفقت الإمامية (1)، والمعتزلة على " إنا فاعلون " وادعوا الضرورة في ذلك. فإن كل عاقل لا يشك في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية، وأن هذا الحكم مركوز في عقل كل عاقل، بل في قلوب الأطفال والمجانين. فإن الطفل لو ضربه غيره بآجرة تؤلمه، فإنه يذم الرامي، دون تلك الآجرة، ولولا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما استحسن ذم الرامي دون الآجرة، بل هو حاصل في البهائم..
قال أبو الهذيل: (حمار بشر أعقل من بشر، لأن الحمار إذا أتيت به إلى جدول كبير، فضربته، لم يطاوع على العبور، وإن أتيت به إلى جدول صغير جاز، لأنه فرق بين ما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه، وبشر لا يفرق بينهما، فحماره أعقل منه).
وخالفت الأشاعرة في ذلك، وذهبوا إلى أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى (2)
____________
(1) لا يخفى على من تتبع كتب الإمامية: أنهم يبطلون الجبر، خلافا للأشاعرة، ويبطلون التفويض خلافا للمعتزلة، كما استفاض، بل تواتر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام:
" لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين "، فنفوا حقيقة الجبر، وحقيقة التفويض بنفي الجنس فيهما. وفسروا عليهم آلاف التحية والثناء الأمر بين الأمرين: بأنه الملكية الواقعية
(التي لا ترديد في تحققها، بضرورة العقل والوجدان) للقدرة والاستطاعة التي يملكها العباد، بتمليك الله تعالى لهم إياها، وهو أملك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فبإذنه تعالى شأنه يتصرف الإنسان فيه، ويوجد ما اختاره من الفعل أو الترك. قال تعالى:
" لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " البقرة: 286. وقال تعالى: " فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا وأطيعوا " التغابن: 16 وغيرهما من الآيات.
(2) الملل والنحل ج 1 ص 97 شرح العقائد قفتازاني ص 123.
مكابرة الجبرية بضرورة العقل
فلزمهم من ذلك محالات:
منها: مكابرة الضرورة، فإن العاقل يفرق بالضرورة بين ما يقدر عليه، كالحركة يمنة ويسرة، والبطش باليد، وبين الحركة الاضطرارية، كالوقوع من شاهق، وحركة المرتعش، وحركة النبض.
ويفرق بين حركات الحيوان الاختيارية، وحركات الجماد، ومن شك في ذلك فهو سوفسطائي، إذ لا شئ أظهر عند العاقل من ذلك، ولا أجلى منه.
يلزم الجبرية إنكار الأحكام الضرورية
ومنها: إنكار الحكم الضروري، من: حسن مدح المحسن، وقبح ذمه، وحسن ذم المسئ، وقبح مدحه.
فإن كل عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات دائما، ولا يفعل شيئا من المعاصي، ويبالغ بالاحسان إلى الناس، ويبذل الخير لكل أحد، ويعين الملهوف، ويساعد الضعيف، وإنه يقبح ذمه، ولو شرع أحد في ذمه.
باعتبار إحسانه عده العقلاء سفيها، ولأمه كل أحد.. ويحكمون حكما ضروريا بقبح مدح من يبالغ في الظلم، والجور، والتعدي، والغضب، ونهب الأموال، وقتل الأنفس، ويمتنع من فعل الخير وإن قل، وأن من مدحه على هذه الأفعال عد سفيها، ولأمه كل عاقل.
ونعلم ضرورة قبح المدح والذم على كونه طويلا أو قصيرا، أو كون السماء فوقه، والأرض تحته، وإنما يحسن هذا المدح والذم لو كان الفعلان
والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذم، فلم يحكموا بحسن مدح الله تعالى على إنعامه، ولا الثناء عليه، ولا الشكر له، ولا بحسن ذم إبليس، وسائر الكفار، والظلمة، المبالغين في الظلم، بل جعلوهما متساويين في استحقاق المدح والذم.
فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله، ويتبع ما يقوده عقله إليه، ويرفض تقليد من يخطئ في ذلك، ويعتقد ضد الصواب، فإنه لا يقبل منه غدا يوم الحساب. وليحذر من إدخال نفسه في زمرة الذين قال الله تعالى عنهم: " وإذ يتحاجون في النار، فيقول الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعا، فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار " (2)؟.
يلزم الجبرية قبح التكليف
منها: أنه يقبح منه تعالى حينئذ تكليفنا فعل الطاعات، واجتناب المعاصي، لأنا غير قادرين على ممانعة القديم، فإذا كان الفاعل للمعصية فينا هو الله تعالى، لم نقدر على الطاعة، لأن الله تعالى إن خلق فينا فعل الطاعة كان واجب الحصول، وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول.
ولو لم يكن العبد متمكنا من الفعل والترك كانت أفعاله جارية مجرى
____________
(1) في الطرائف: روي أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق (ع)، عن القضاء والقدر، فقال: ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله، يقول الله تعالى للعبد: لم عصيت؟ لم فسقت؟ لم شربت الخمر؟ لم زنيت؟
فهذا فعل العبد، ولا يقول له: لم مرضت؟ لم قصرت؟ لم ابيضضت؟ لم اسوددت؟
لأنه من فعل الله تعالى. (بحار الأنوار ج 5 ص 59).
(2) المؤمن: 47.
ولأنه إذا طلب منا: أن نفعل فعلا، ولا يمكن صدوره عنا، بل إنما يفعله هو، كان عابثا في الطلب، مكلفا لما لا يطاق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
يلزم الجبرية كونه تعالى ظالما
ومنها: أنه يلزم أن يكون الله سبحانه أظلم الظالمين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لأنه إذا خلق فينا المعصية، ولم يكن لنا فيها أثر البتة، ثم عذبنا عليها، وعاقبنا على صدورها منه تعالى فينا، كان ذلك نهاية الجور والعدوان، نعوذ بالله من مذهب يؤدي إلى وصف الله تعالى بالظلم والعدوان!. فأي عادل يبقى بعد الله تعالى، وأي منصف سواه، وأي راحم للعبد غيره، وأي مجمع للكرم والرحمة، والإنصاف عداه، مع أنه يعذبنا على فعل صدر عنه، ومعصية لم تصدر عنا بل منه.
يلزم الجبرية نفي ما علم ثبوته وإثبات ما علم نفيه بالضرورة
ومنها: أنه يلزم تجويز انتفاء ما علم بالضرورة ثبوته.
وبيانه. أنا نعلم بالضرورة: أن أفعالنا إنما تقع بحسب قصودنا ودواعينا، وتنتفي بحسب انتفاء الدواعي، وثبوت الصوارف.
فإنا نعلم بالضرورة أنا متى أردنا الفعل، وخلص الداعي إلى إيجاده، وانتفى الصارف، فإنه يقع، ومتى كرهناه لم يقع. فإن الإنسان متى اشتد به الجوع، وكان تناول الطعام ممكنا، فإنه يصدر منه تناول الطعام، ومتى اعتقد أن في الطعام سما انصرف عنه، وكذا يعلم من حال غيره ذلك، فإنا نعلم بالضرورة: أن شخصا لو اشتد به العطش ولا مانع له من
ومنها: أنه يلزم تجويز ما قضت الضرورة بنفيه، وذلك لأن أفعالنا إنما تقع على الوجه الذي نريده ونقصده، ولا يقع منا على الوجه الذي نكرهه، فإنا نعلم بالضرورة: أنا إذا أردنا الحركة يمنة، لم تقع يسرة، ولو أردنا الحركة يسرة لم تقع يمنة، والحكم بذلك ضروري، فلو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى، جاز أن تقع الحركة يمنة، ونحن نريد الحركة يسرة، وبالعكس. وذلك ضروري البطلان.
الجبرية يخالفون نصوص القرآن
ومنها: يلزم مخالفة الكتاب العزيز، ونصوصه، والآيات المتضافرة فيه، الدالة على استناد الأفعال إلينا. وقد بينت في كتاب " الايضاح " مخالفة أهل السنة لنص الكتاب والسنة، بالوجوه التي خالفوا فيها آيات الكتاب العزيز، حتى أنه لا تمضي آية من الآيات إلا وقد خالفوا فيها من عدة أوجه، فبعضها يزيد على عشرين، ولا ينقص شئ منها عن أربعة.
ولنقتصر في هذا المختصر على وجوه قليلة، دالة على أنهم خالفوا صريح القرآن، ذكرها أفضل متأخريهم، وأكبر علمائهم فخر الدين الرازي (1)، وهي عشرة:
الآيات التي نسب للفعل فيها إلى العبد
الأول: الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد: " فويل للذين
____________
(1) التفسير الكبير ج 2 ص 43.
الآيات التي مدح فيها المؤمن أو ذم فيها الكافر
الثاني: ما ورد في القرآن من مدح المؤمن على إيمانه، وذم الكافر على كفره، ووعده بالثواب على الطاعة، وتوعده بالعقاب على المعصية، كقوله تعالى: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " (10)، " إنما تجزون ما كنتم تعملون " (11)، " وإبراهيم الذي وفى " (12)، " ألا تزر وازرة وزر أخرى " (13)، " لتجزى كل نفس بما تسعى " (14)، " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " (15)، " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " (16)، " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " (17)، " ومن أعرض عن ذكري " (18)، " أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا " (19)، " إن الذين كفروا بعد إيمانهم " (20)
____________
(1) مريم: 37.
(2) البقرة: 79.
(3) الأنعام: 148.
(4) الأنفال: 53.
(5) يوسف: 18.
(6) المائدة: 30.
(7) النساء: 123.
(8) الطور: 21.
(9) إبراهيم: 22.
(10) غافر: 17.
(11) الطور: 16.
(12) النجم: 37 و 38.
(13) النجم: 37 و 38.
(14) طه: 15.
(15) الرحمن: 60.
(16) النمل: 90.
(17) الأنعام: 160.
(18) طه: 124.
(19) البقرة: 86.
(20) آل عمران: 90.
الآيات التي تنزه فعله تعالى عن شبه أفعال العباد
الثالث: الآيات الدالة على أن أفعال الله تعالى منزهة عن أن تكون مثل أفعال المخلوقين، في التفاوت، والاختلاف، والظلم. قال الله تعالى:
" ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " (1)، " الذي أحسن كل شئ خلقه " (2)، والكفر والظلم ليس بحسن، وقال تعالى: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق " (3)، والكفر ليس بحق، وقد قال تعالى: " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " (4)، " وما ربك بظلام للعبيد (5)، " وما ظلمناهم " (6)، " لا ظلم اليوم " (7)، " ولا يظلمون فتيلا " (8).
الآيات التي توبخ العباد على كفرهم وعصيانهم
الرابع: الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر والمعاصي كقوله تعالى:
" كيف تكفرون بالله " (9)، والانكار والتوبيخ مع العجز عنه محال.
ومن مذهبهم: (أن الله خلق الكفر في الكافر، وأراده منه، وهو لا يقدر على غيره) (10)، فكيف يوبخه عليه؟ وقال تعالى: " وما منع
____________
(1) الملك: 3.
(2) السجدة: 17.
(3) الحجر: 85.
(4) النساء: 40.
(5) فصلت: 46.
(6) هود: 101.
(7) غافر: 17.
(8) الإسراء: 71.
(9) البقرة: 28.
(10) قال ابن تيمية، في كتابه مجموعة الرسائل الكبرى ج 1 ص 129، ما خلاصته: قالت الجهمية، والأشعرية: قد علم أن الله خالق كل شئ، وربه، ومليكه. ولا يكون خالقا إلا بقدرته، ومشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وكل ما في الوجود فهو بمشيئته، وقدرته، هو خالقه، سواء في ذلك أفعال العباد، وغيرها..
وقال الشهرستاني: في الملل والنحل ج 1 ص 96: قال الأشعري: وإرادته واحدة، قديمة أزلية، متعلقة بجميع المرادات، من أفعاله الخاصة، وأفعال عباده، من حيث أنها مخلوقة له، أراد الجميع، خيرها وشرها، ونفعها وضرها، وكما أراد وعلم، أراد من العباد ما علم، وأمر القلم، حتى كتب في اللوح المحفوظ.
قال الصاحب بن عباد: كيف يأمر بالإيمان ولم يرده؟، وينهى عن المنكر وقد أراده؟. ويعاقب على الباطل وقدره؟ وكيف يصرفه عن الإيمان؟ ويقول: " أنى تصرفون " (11)، ويخلق فيهم الكفر، ثم يقول:
" كيف تكفرون " (12)؟ ويخلق فيهم لبس الباطل، ثم يقول: " لم تلبسون الحق بالباطل " (13)، وصدهم عن سواء السبيل، ثم يقول:
" لم تصدون عن سبيل الله " (14)، وحال بينهم وبين الإيمان، ثم قال:
" وماذا عليهم لو آمنوا بالله " (15)، وذهب بهم عن الرشد، ثم قال:
" فأين تذهبون " (16)، وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا، ثم قال:
" فما لهم عن التذكرة معرضين " (17)؟.
____________
(1) الكهف: 55
(2) النساء: 39.
(3) ص: 75.
(4) طه: 92.
(5) المدثر: 49.
(6) الانشقاق: 20.
(7) التوبة: 43.
(8) التحريم: 1.
(9) آل عمران: 71.
(10) آل عمران: 99.
(11) يونس: 32.
(12) البقرة: 28.
(13) آل عمران: 71.
(14) آل عمران: 99.
(15) النساء 39.
(16) التكوير: 26.
(17) المدثر: 49.
الآيات الدالة على التخيير في الأفعال التكليفية
الخامس: الآيات التي ذكر الله تعالى فيها تخيير العباد في أفعالهم، وتعلقها بمشيئتهم، قال تعالى: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " (1)، " اعملوا ما شئتم " (2)، " فسيرى الله عملكم " (3)، " لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " (4)، " فمن شاء ذكره " (5)، " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " (6)، " فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا " (7).
وقد أنكر الله تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه، وأضافها إلى الله تعالى بقوله: " سيقول الذين أشركوا: لو شاء الله ما أشركنا " (8)، " وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم " (9).
الآيات التي فيها أمر العباد بالأفعال
السادس: الآيات التي فيها أمر العباد بالأفعال، والمسارعة إليها، قبل فواتها، كقوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " (10)، " أجيبوا داعي الله وآمنوا به " (11)، " استجيبوا لله وللرسول " (12)، يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا (13)، " اعبدوا ربكم " (14)، " فآمنوا به خير لكم " (15) " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم " (16)، " وأنيبوا إلى ربكم " (17)،.
____________
(1) الكهف: 29.
(2) فصلت: 40.
(3) التوبة: 105.
(4) المدثر: 37.
(5) عبس: 12.
(6) المزمل: 19.
(7) النبأ: 39.
(8) الأنعام: 148.
(9) الزخرف: 20.
(10) آل عمران: 133.
(11) الأحقاف: 31.
(12) الأنفال: 24.
(13) الحج: 77.
(14) البقرة: 21.
(15) النساء: 57.
(16) الزمر: 55.
(17) الزمر: 54.
قم، ولمن يرمى من شاهق جبل: احفظ نفسك، فكذا ها هنا.
الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به
السابع: الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به، كقوله تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين " (1)، " فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " (2) " استعينوا بالله " (3).
فإذا كان الله تعالى خلق الكفر والمعاصي كيف يستعان، ويستعاذ به.
وأيضا يلزم بطلان الألطاف والدواعي، لأنه تعالى إذا كان هو الخالق لأفعال العباد، فأي نفع يحصل للعبد من اللطف الذي يفعله الله تعالى.
ولكن الألطاف حاصلة، كقوله تعالى: " أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة، أو مرتين " (4)، " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة " (5)، " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " (6)، " فبما رحمة من الله لنت لهم " (7)، " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " (8).
الآيات الدالة على اعتراف الأنبياء بأعمالهم
الثامن: الآيات الدالة على اعتراف الأنبياء بذنوبهم (9)، وإضافتها إلى
____________
(1) الحمد: 5.
(2) النحل: 98.
(3) الأعراف: 128.
(4) التوبة: 126.
(5) الزخرف: 33.
(6) الشورى: 27.
(7) آل عمران: 159.
(8) العنكبوت: 45.
(9) ستعرف في بحث النبوة، بأجلى بيان، وأحكم برهان منه قدس الله سره: أن الأنبياء منزهون عن الذنوب، والخطأ، والسهو، والنسيان. وهذا الاعتراف من الأنبياء (ع) ليس إلا إظهارا للخضوع، ونهاية العبودية، في مقابل جلال كبريائه تعالى وعظمته، ومن باب ما عبدناك حق عبادتك، فليس مراده من قوله (قدس الله سره): (على اعتراف الأنبياء بذنوبهم): ذنب مخالفة أمر الله تعالى، وعصيانهم له تعالى، بل مراده كما قال عفيف عبد الفتاح طبارة، في كتابه: " مع الأنبياء في القرآن الكريم " ص 21:
وقد يعتبر الأنبياء أنفسهم مقصرين في حق الله، لأنهم أعرف الناس بجلال الله، وعظمته، فيستغفرون الله على تقصيرهم، لا على ذنوب اقترفوها.
" بل سولت لكم أنفسكم أمرا " (4)، وقال يوسف (ع): " من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين إخوتي " (5)، وقال نوح (ع): " رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم " (6).
فهذه الآيات تدل على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لأفعالهم..
الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة
التاسع: الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة: بأن كفرهم ومعاصيهم كانت منهم، كقوله تعالى: " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم " (7). إلى قوله: " أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟
بل كنتم قوما مجرمين "، وقوله تعالى: " ما سلككم في سقر؟ قالوا:
لم نك من المصلين " (8)، " كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير " (9).. إلى قوله تعالى: " فكذبنا "، وقوله تعالى: " أولئك ينالهم
____________
(1) الأعراف: 23.
(2) الأنبياء: 87.
(3) القصص: 16.
(4) يوسف: 18.
(5) يوسف: 100.
(6) هود: 47.
(7) سبأ: 31 إلى 32.
(8) المدثر: 43 إلى 46.
(9) الملك: 8 إلى 9.
الآيات الدالة على تحسر الكفار في الآخرة
العاشر: الآيات التي ذكر الله تعالى فيها ما يحصل منهم من التحسر في الآخرة على الكفر، وطلب الرجعة، قال تعالى: " وهم يصطرخون فيها:
ربنا، أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل " (3)، " قال: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا " (4)، " ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم، ربنا، أبصرنا، وسمعنا، فارجعنا نعمل صالحا " (5)، " أو تقول حين ترى العذاب: لو أن لي كرة فأكون من المحسنين " (6).
فهذه الآيات، وأمثالها من نصوص الكتاب العزيز، الذي: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد " (7)، فما عذر فضلائهم؟، وهل يمكنهم الجواب عن هذا السؤال: كيف تركتم هذه النصوص ونبذتموها وراءكم ظهريا (8)؟... إلا بأنا طلبنا الحياة الدنيا، وآثرناها على الآخرة؟ وما عذر عوامهم في الانقياد إلى فتوى علمائهم، واتباعهم في عقائدهم؟ وهل يمكنهم الجواب عند السؤال: كيف تركتم هذه الآيات، وقد جاءكم بها نذير، وعمرناكم ما يتذكر فيه من تذكر (9)؟ إلا بأنا قلدنا آباءنا وعلماءنا، من غير فحص، وبحث
____________
(1) الأعراف: 37.
(2) الأعراف: 39.
(3) فاطر: 37.
(4) المؤمنون: 99.
(5) السجدة: 12.
(6) الزمر: 58.
(7) فصلت: 42.
(8) إشارة إلى قوله تعالى: " فنبذوه وراء ظهورهم " آل عمران: 187.
(9) إشارة إلى قوله تعالى: " أولم نعمركم؟ ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءكم النذير " فاطر: 37.
مخالفة الجبرية للحكم الضروري
ومنها: مخالفة الحكم الضروري، الحاصل لكل أحد، عندما يطلب من غيره: أن يفعل فعلا، فإنه يعلم بالضرورة: أن ذلك الفعل يصدر عنه، ولهذا يتلطف في استدعاء الفعل منه، بكل لطيفة، ويعظه، ويزجره عن تركه، ويحتال عليه بكل حيلة، ويعده، ويتوعده على تركه، وينهاه عن فعل ما يكرهه، ويعنفه على فعله، ويتعجب من فعله ذلك، ويستطرفه ويتعجب العقلاء من فعله، وهذا كله دليل على فعله.
ويعلم بالضرورة: الفرق (2) بين أمره بالقيام، وبين أمره بإيجاد السماوات والكواكب، ولولا أن العلم الضروري حاصل بكوننا موجدين لأفعالنا، لما صح ذلك.
مخالفة الجبرية لإجماع الأنبياء
ومنها: مخالفة إجماع الأنبياء والرسل، فإنه لا خلاف في أن الأنبياء أجمعوا على: أن الله تعالى أمر عباده ببعض الأفعال، كالصلاة، والصوم،
____________
(1) قال ابن أبي الحديد في شرح خطبة علي (ع) التي فيها: " هم (يعني آل محمد) عيش العلم، وموت الجهل. يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم.. لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام " - قال -:
كما يختلف غيرهم من الفرق، وأرباب المذاهب، فمنهم من له في مسألة قولان، أو أكثر، ومنهم من يقول قولا، ثم يرجع عنه، ومنهم من يرى في أصول الدين رأيا، ثم يتعقبه ويتركه.. (شرح نهج البلاغة ج 3 ص 293).
(2) توضيح ذلك: أن الأمر بالقيام أمر متعلقه فعل الغير، كالأمر بالتكاليف الشرعية، والأمر بالايجاد أمر متعلقه فعل نفس الأمر، كخلق السماوات والكواكب وغيرها..