الصفحة 95

النقطة الأولى: نظرة إجمالية لمزاعم المحدث النوري وأجوبتها

سوف نسعى في هذه النقطة إلى بيان تلك المزاعم التي أثارها المحدث النوري، ونردفها بمناقشات وإجابات موجزة ومقتضبة، مهيبين بالقراء الأعزاء الراغبين بالمزيد من التفصيل والتعمّق العودة إلى الكتب العديدة المختصة بمعالجة قضية التحريف في القرآن الكريم، لا سيما تلك المعنية منها بالردّ على كتاب فصل الخطاب نفسه والتي سنشير إلى بعضها في النقطة الرابعة الآتية إن شاء الله تعالى.

ففي المقدمة الأولى تحدث الميرزا النوري عن مصحف الإمام علىّ عليه السلام الذي ورثه الأئمة المعصومون عليهم السلام، وسيأتي استيفاء البحث حول هذا المصحف لدى التعرض لـ "مصحف الإمام علىّ" في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

أما المقدمة الثانية، فقد تعرض فيها المحدث النوري لأنواع التحريف وأشكاله مميزاً ـ وفق زعمه ـ بين أشكال التحريف التي تعرض لها القرآن الكريم وتلك التي كان مصوناً منها، يقول الميرزا النوري في هذا الصدد ما نصّه:

"إنّ زيادة السورة وتبديلها بأخرى أمر ممتنع، وزيادة آية على القرآن أو تبديل آية بأخرى هو أيضاً منتف بإجماع، أما زيادة كلمة في القرآن، ممكنة كزيادة "عن" في قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال...). ونقصان كلمة في القرآن ككلمة "في علىّ" في كثير من الآيات وتبديل الكلمات، مثل تبديل آل محمد، بآل عمران وتبديل حرف وكنقصان "همزة" من قوله تعالى: (كنتم خير أمّة...)"(1).

أقول: إن زيادة كلمة "عن" في قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال...) قراءة واردة بإجماع الفريقين(2) وليست من التحريف في شيء كما زعمه النوري، كما أنـّها

____________

1 ـ فصل الخطاب: ص 23.

2 ـ جامع البيان (تفسير الطبري): ج 2، ص 176; التبيان: ج 5، ص 86.


الصفحة 96
ليست من اختلاق الروافض ولا من وحي الشيطان كما ادّعاه الدكتور القفاري(1)، وزيادة "في علىّ" أو غيره ـ إن صحت أسانيد النصوص التي جاءت فيها هذه القضية ـ إنّما هي من باب الإقراء والتفسير، وبيان النزول، أو مورده، وقد أوردنا على ذلك أدلة قويمة، كما أن الشواهد على هذا الأمر من كتب الفريقين كثيرة هي الأخرى، وسوف نفصل القول فيما سيأتي في قضية تبديل آل محمّد بآل عمران، وخير أئمة، بخير أمة، وسيرى القارئ الكريم أنّ هذه الحالات لا علاقة لها بما ادّعاه المحدث النوري على الإطلاق(2)، بل إنها ليس سوى تفسير وبيان لأتم المصاديق، فالقرآن الموجود اليوم ما بين الدفتين هو الذي أنزله الله تعالى على رسولنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا يزيد عن ذلك ولا ينقص، وذلك للأدلة القطعية على سلامته من الدس والتحريف.

وأما المقدمة الثالثة، فقد عقدها النوري لذكر أقوال علماء الطائفة في تغيير القرآن وعدمه.

وقد استعرضنا حرفياً أقوال علماء الشيعة بنصوصهم حول هذا الموضوع في المقام الأول، ممّا تبيّن أن الإمامية مجمعة على القول بصيانة القرآن من التحريف والتغيير، والإشكالية التي وقع فيها المحدث النوري تكمن في نسبته القول بتحريف القرآن إلى طائفتين:

الأولى: أصحاب الكتب الروائية والتفسير بالمأثور مثل محمد بن يعقوب الكليني(3)، محمد بن إبراهيم النعماني، علىّ بن إبراهيم القمي، محمد بن مسعود

____________

1 ـ أصول مذهب الشيعة: ص 1011 و1007 (في الهامش رقم 2).

2 ـ انظر: المقام الثاني، مبحث "هل انكار المنكرين لهذا الكفر من الشيعة من قبيل التقية".

3 ـ سيأتي البحث تفصيلا عن "موقف علىّ بن إبراهيم القمي ومحمد بن يعقوب الكليني عن روايات التحريف" في المقام الثاني، مبحث "شيوع هذه المقالة في كتب الشيعة" وستلحظ البحث عن تفسير العياشي وتفسير فرات الكوفي و... في النقطة الثانية بحث "مصادر وأسانيد روايات كتاب فصل الخطاب".


الصفحة 97
العياشي وفرات الكوفي و...

الثانية من ذكر كلمة التحريف في عنوان كتابه كمحمد بن حسن الصيرفي فعنوان كتابه: "التحريف والتبديل"(1) وأحمد بن محمد السياري (ت 276 هـ.) عنوان كتابه: "كتاب القراءات"(2) (وفي بعض الكتب سمّي بكتاب "التنزيل والتحريف") وأحمد بن محمد بن خالد البرقي (ت 276 هـ.) عنوان كتابه: "كتاب التحريف"(3) وعلي بن حسن بن فضال (ت أواخر القرن الثالث) عنوان كتابه "كتاب التنزيل من القرآن والتحريف"(4).

لكن اسناد التحريف لكلّ من الطائفتين ليس بصحيح.

فأمّا الطائفة الأولى فإنّما كان غرضها من كتبها الروائية جمع الأحاديث فحسب، دون أن يكون لهم أدنى تعرض للبحث في دلالة الحديث ومضمونه أو علاج تعارض تلك الأحاديث مع الأحاديث الكثيرة في نفس الكتب الدّالة على سلامة القرآن من التحريف، ومن الواضح عدم اختصاص الإمامية بمثل هذه الكتب التي فيها بعض الأحاديث التي تدل بظاهرها على التحريف ولذا يقال لهذه الكتب، الكتب الروائية والتفسيرية بالمأثور.

وأمّا إسناد القول بالتحريف للطائفة الثانية فليس صحيحاً أيضاً. فإنّ المحدث النوري استفاد من عناوين هذه الكتب وذهاب أصحابها إلى القول بالتحريف لكن

____________

1 ـ الفهرست للطوسي: ص 183، الرقم 661.

2 ـ رجال النجاشي: ص 80، الرقم 192.

3 ـ نفس المصدر: ص 76، الرقم 182.

4 ـ نفس المصدر: ص 257 ـ 258 الرقم 676.


الصفحة 98
ومع غض النظر عمّا قاله علماء الرجال في بعض أصحاب تلك الكتب مثل أحمد بن محمد السيّاري حيث اتفق علماء الفريقين على تضعيفه(1) واحمد بن محمد بن خالد البرقي وهو قد نقل عن الضعفاء واعتمد على المراسيل(2)، نقول:

أولاً: لا يجزم باستفادة القول بالتحريف في خصوص ألفاظ القرآن من مجرد هذه العناوين خصوصاً عنوان كتاب الصيرفي وهو "التحريف والتبديل"، وكتاب البرقي وهو "كتاب التحريف".

وثانياً: بعض عناوين الكتب المتقدّمة ليس بثابت، فقد اختلف أصحاب الفهارس في عناوينها، مثل كتاب احمد بن محمد بن خالد البرقي، فقال الشيخ الطوسي بأنّ اسمه "كتاب المعاني والتحريف"(3) وذكره ابن النديم بأسم "كتاب معاني الأحاديث والتحريف"(4).

وثالثاً: ليس مراد اصحاب تلك الكتب من كلمة التحريف، التحريف في ألفاظ القرآن، حيث وإن لم يصل إلينا سوى كتاب السياري فأنّه مع التأمّل بما جاء في كتاب السيّاري من الأحاديث وما جاء من الأحاديث المختلفة في كتب المتأخرين، نستطيع الجزم بأنّ مراد أصحاب تلك الكتب من كلمة التحريف هو التحريف في معاني القرآن لا التحريف بمعنى التغيير والتبديل في ألفاظ القرآن، ومع ملاحظة طبقة أصحاب تلك الكتب وإنّ منهجهم كان غالباً في تنسيق وتنظيم وتصنيف الروايات فإنّ عناوين كتبهم تقتبس من ألسن الأحاديث، وما كان في الأحاديث من لفظ "التحريف" ينصرف وبعدة قرائن إلى التحريف بالمعنى، أو ـ على الأقل ـ

____________

1 ـ الفهرست للطوسي: ص 51 ورجال النجاشي: ص 80، معجم رجال الحديث: ج 2، ص 282، الرقم 871 ولسان الميزان: ج 1، ص 382، الرقم 800.

2 ـ الفهرست للطوسي: ص 48 ورجال النجاشي: ص 76.

3 ـ الفهرست للطوسي: ص 49.

4 ـ الفهرست للنديم: ص 277.


الصفحة 99
أنّ عنوان التحريف منتزع من القدر المتيقن من الأحاديث المختلفة بحيث يكون شاملاً للتحريف والحذف في الوحي التفسيري، وحمل الآيات على خلاف مراد الله سبحانه، واختلاف تأليف الآيات، واختلاف القراءات و...

هذا ونرى المحدّث النوري في المجال ولأجل رسالة "ناسخ القرآن ومنسوخه" نسب التحريف إلى سعد بن عبد الله القمي، ولأجل رسالة "صنوف آيات القرآن" نسب إلى محمد بن إبراهيم بن النعمان التحريف، مع إنّ الرسالتين في الواقع واحدة ولا يعرف من صاحبها بل تلك الرسالة بنفسها قد تسمى باسم "رسالة في المحكم والمتشابه" ونسبت لأشخاص آخرين وعلى ذلك لا يمكن نسبة التحريف إلى سعد بن عبد الله القمي، أو إلى محمد بن إبراهيم النعمان.

إلى هنا كان البحث في المقدمات الثلاث لكتاب فصل الخطاب. وقد تعرض المحدث النوري في الباب الأول لما زعمه من الأدلة على إثبات ما ادّعاه من التحريف وهي:

الزعم الأول: تشابه الأمم

قال النوري:

"إن اليهود والنصارى غيروا وحرفوا كتاب نبيهم بعده فهذه الأمة أيضاً لا بدّ وأن يغيروا القرآن بعد نبينا صلّى الله عليه وآله لأن كل ما وقع في بني إسرائيل لا بدّ وأن يقع في هذه الأمة على ما أخبر به الصادق المصدق صلوات الله عليه..."(1).

____________

1 ـ فصل الخطاب: ص 35، وقد ورد في الروايات من طريق الشيعة والسنة أن كل ما وقع في الأمم السابقة لا بدّ وأن يقع مثله في هذه الأمة، انظر: مسند أحمد بن حنبل (طبع المحقق): ج 18، ص 322، رقم 11800، فالمحققون قد صرحوا في الهامش بصحة سند حديث تشابه الأمم; وبحار الأنوار، باب افتراق الأمة بعد النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلم على ثلاث وسبعين فرقة: ج 28، ص 8 وج 51، ص 128.


الصفحة 100
والجواب عن ذلك:

أولا: إنّ هذا الدليل لو تم لكان دالا على وقوع الزيادة في القرآن أيضاً كما وقعت في التوراة والإنجيل، ومن الواضح بطلان ذلك.

ثانياً: إنّ كثيراً من الوقائع التي حدثت في الأمم السابقة لم يقع مثلها في هذه الأمة، كعبادة العجل، وتيه بني إسرائيل أربعين سنة، ومسخ كثير من السابقين قردة وخنازير، وغير ذلك ممّا لا يسعنا إحصاؤه، وهذا أدل دليل على عدم إرادة التشابه في كل الجهات فلا بدّ من إرادته في بعض الوجوه.

ثالثاً: يكفي لتشابه هذه الأمة في وقوع التحريف في كتابها، عدم اتباعهم لحدود القرآن، وإن أقاموا حروفه، أي تفسيرهم له برأيهم، كما كان الحال في التحريف على مستوى العهدين حيث تم تحريفهما تحريفاً معنوياً وتفسيرهما تفسيراً على غير وجهه.

رابعاً: إن كان المقصود من المشابهة، إرادة التشابة في تمام الجهات، إذاً فتلك الروايات مخالفة للأدلة القطعية التي تؤكد على سلامة القرآن من التحريف ـ وقد تقدّم ذكرها ـ فلا بدّ من تأويلها أو استثناء تحريف ألفاظ القرآن منها(1).

الزعم الثاني: كيفية جمع القرآن

قال النوري:

"إن كيفية جمع القرآن وتأليفه [بعد وفاة النبىّ صلّى الله عليه وآله ]مستلزمة عادة لوقوع التغيير والتحريف فيه..."(2)

____________

1 ـ لمزيد من التفصيل حول زعم المحدث النوري هذا ينبغي مراجعة: كشف الإرتياب في عدم تحريف كتاب ربّ الأرباب: ص 164; الحجة على فصل الخطاب في إبطال القول بتحريف الكتاب: ص 75; البيان في تفسير القرآن: ص 220 ـ 222; صيانة القرآن من التحريف: ص 151.

2 ـ فصل الخطاب: ص 97.


الصفحة 101
إن هذه الشبهة مبتنية على صحة الأحاديث الواردة في كيفية جمع القرآن بعد وفاة النبىّ صلّى الله عليه وآله، لكن يستفاد من الأدلة القطعية والشواهد الكثيرة أن القرآن كان مجموعاً أيام حياة النبىّ صلّى الله عليه وآله على ما هو عليه الآن من الترتيب والتنسيق في آياته وكلماته وحروفه بلا زيادة ولا نقصان ولا تبديل ولا تغيير.

وقد بحث جملة من علماء الشيعة هذا الموضوع قديماً وحديثاً وحققوا ما يتعلق به من الروايات المختصة بجمع القرآن الكريم أيضاً(1).

ونحن نكتفي هنا بذكر ما أورده السيد الخوئي في المقام إجمالا، حيث ذكر ـ رحمه الله ـ إحدى وعشرين رواية من روايات جمع القرآن من صحاح ومسانيد أهل السنة، وبعد البحث فيها وصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ تلك الروايات متناقضة تناقضاً داخلياً فيما بينها، وسجل السيد الخوئي اثني عشر مورداً من موارد التناقض هذا عند مقايسة بعضها مع بعض، كما ولاحظ تعارضها مع الكتاب ومخالفتها حكم العقل والإجماع(2)، وبعد الاستدلال وتفصيل الكلام في هذه الموارد كافة، قال (قده) في نهاية المطاف:

"وخلاصة ما تقدم، أنّ إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمر موهوم مخالف للكتاب والسنة والإجماع والعقل، فلا يمكن القائل بالتحريف أن يستدل به على دعواه، ولو سلّمنا أن جامع القرآن هو أبو بكر في أيام خلافته، فلا ينبغي الشك في أن كيفية الجمع المذكورة في

____________

1 ـ من القدماء كالشريف المرتضى (ت / 436 ق.) في كتابه الذخيرة في علم الكلام: ص 364 ـ 365; وابن شهرآشوب (ت / 588 ق.) في مثالب النواصب المخطوط: الورق 468 من نسخة لكنهو 471 من نسخة سپهسالار، وحديثاً شرف الدين العاملي (ت / 1381 ق.) في أجوبة مسائل جار الله: ص 25; وجعفر مرتضى العاملي في حقائق هامة حول القرآن الكريم: ص 20 ـ 50.

2 ـ انظر: البيان: ص 239 ـ 257.


الصفحة 102

الروايات المتقدمة مكذوبة، وأن جمع القرآن كان مستنداً إلى التواتر بين المسلمين، غاية الأمر إن الجامع قد دوّن في المصحف ما كان محفوظاً في الصدور على نحو التواتر"(1).

وعليه فينتفي زعم المحدّث النوري انتفاء موضوعياً بل ـ كما قال السيد الخوئي نفسه ـ إن هذه الروايات لو صحت وأمكن الاستدلال بها على التحريف من جهة النقص لكان اللازم على النوري أن يقول بالتحريف من جهة الزيادة أيضاً لأن كيفية الجمع المذكور ـ على حد زعم النوري ـ تستلزم ذلك، والقول بالزيادة خلاف إجماع المسلمين، كما اعترف به النوري نفسه قائلا: "زيادة الآية وتبديلها منتفيان بالإجماع..."(2).

الزعم الثالث: منسوخ التلاوة وبطلانها

قال النوري:

"إن أكثر العامة وجماعة من الخاصة ذكروا في أقسام الآيات المنسوخة ما نسخت تلاوتها دون حكمها وما نسخت تلاوتها وحكمها معاً... وحيث إن نسخ التلاوة غير واقع عندنا فهذه الآيات والكلمات لا بدّ أن تكون ممّا سقطت من الكتاب جهلا أو عمداً لا بإذن الله ورسوله وهو المطلوب"(3).

والجواب عن ذلك:

أولاً: لا يوجد في روايات الإمامية آية منسوخة التلاوة إلاّ آية الرجم، وهي

____________

1 ـ نفس المصدر: ص 257.

2 ـ فصل الخطاب: ص 23.

3 ـ فصل الخطاب: ص 95.


الصفحة 103
خبر واحد سنداً، معارض للروايات الأخرى متناً كما سيأتي تفصيله(1).

ثانياً: إن نظرية نسخ التلاوة دون الحكم أو مع الحكم سراب لا حقيقة له، كما سترون واعترف به بعض علماء أهل السنة قديماً وحديثاً وفنّدها بأدلة قويمة، لكن هذا لا يعني أن تلك الآيات والكلمات المنسوخة مما سقط أو كان سقوطه من الكتاب جهلا أو عمداً، بل إن نفس الروايات التي حملت هذه المضامين ساقطة لا ينبغي الركون إليها، وسيأتي تفصيل هذه النكتة إن شاء الله تعالى في مبحث "دراسة أحاديث التحريف في مصادر أهل السنة".

الزعم الرابع: مصحف الإمام علىّ ومخالفته لهذا القرآن

قال النوري:

"إنّه كان لأمير المؤمنين عليه السلام قرآن مخصوص جمعه بنفسه بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله... وهو مخالف لهذا القرآن الموجود من حيث التأليف وترتيب السور... ووجود الزيادة فيه من نفس القرآن حقيقة لا من الأحاديث القدسية ولا من التفسير والتأويل..."(2).

وبدورنا، ونظراً للأهمية التي تحظى بها دراسة هذا المصحف، والاهتمام الزائد الذي أبداه ويبديه الآخرون إزاءه على صعيد نقد الشيعة وموقفهم منه، عالجنا قضية هذا المصحف وبشكل مفصل في موضعين وخرجنا بنتائج أثبتنا من خلالها الأمور التالية:

أولا: إن أصل وجود هذا المصحف أمر ثابت وفقاً لمستندات الطرفين السنة والشيعة ومصادرهما.

____________

1 ـ في مبحث: "وقفة قصيرة مع الدكتور القفاري" في المقام الثاني.

2 ـ فصل الخطاب: ص 135.


الصفحة 104
ثانياً: إن التفاوت الحاصل ما بين مصحف الإمام علىّ عليه السلام والمصاحف الموجودة بين أيدينا إنما يكمن في ترتيب السور وشرح الآيات وتفسيرها.

ثالثاً: إن الزيادة الواقعة في مصحف الإمام علىّ عليه السلام إنما هي من نوع التفسير والتأويل ليس إلاّ.

رابعاً: إن الشبهات والاتهامات التي أثارها ويثيرها الآخرون حول هذا المصحف ليست سوى جهل أو عناد(1).

الزعم الخامس: مخالفة مصحف عبد الله بن مسعود للمصحف الموجود

قال النوري:

"إنّه كان لعبد الله بن مسعود مصحف معتبر فيه ما ليس في القرآن الموجود مستلزم لعدم مطابقته لتمام ما نزل على النبىّ صلّى الله عليه وآله إعجازاً..."(2).

ثم يذكر المحدث النوري موارد كانت موجودة في مصحف عبد الله بن مسعود، غير موجودة اليوم فيما بأيدينا من مصاحف، معقباً ذلك بالإقرار بـ:

"إن تلك الأخبار أكثرها ضعاف وكون بعضها من طرق أهل السنة"(3).

والجواب عن ذلك:

أولا: إن اختلاف مصحف ابن مسعود مع سائر المصاحف إنما كان في قراءته الزيادة التفسيرية أحياناً، وتبديله كلمات غير مألوفة إلى نظيراتها المألوفة لغرض

____________

1 ـ انظر مبحث "مصحف الإمام علي" في المقام الثاني.

2 ـ فصل الخطاب: ص 135.

3 ـ نفس المصدر: ص 136. لقد نقل المحدث النوري سبعة وعشرين مورداً عن مصحف ابن مسعود، تسعة منها من كتب أهل السنة وثمانية منها من كتب الشيعة. انظر المصدر السابق: ص 136 ـ 139.


الصفحة 105
الإيضاح، وهذه المسألة تصبح مستساغة حينما نرجع إلى الأبحاث التي تتعلق بمفردات من قبيل "الإقراء" و"التنزيل" و"التأويل"، وكذلك حينما نراجع المستندات التي تحكي عن أن الصحابة كانوا يقومون بشرح الآيات القرآنية في مصاحفهم ـ كما يشير إليه ابن الجزري في قوله: "كانوا [أي الصحابة] ربما يدخلون التفسير في القراءة إيضاحاً وبياناً لأنّهم محققون لما تلقوه عن النبىّ صلّى الله عليه وآله قرآناً فهم آمنون من الالتباس وربما كان بعضهم يكتبه معه"(1) ـ وإذا لم يكن الأمر كما قلناه آنفاً ـ بل كان الاختلاف على صعيد نفس القرآن والآيات القرآنية ـ فإن هذا الاختلاف الحاصل بين مصحف ابن مسعود وبقية المصاحف يستدعي تجاهل مصحف ابن مسعود نفسه ورده دون الأخذ به نظراً إلى كونه من أخبار الآحاد، بينما القرآن الذي بين أيدينا إنما نقل لنا بالتواتر، وهذا يعني معارضة مصحف ابن مسعود مع الأدلة القطعية التي دلّت على سلامة القرآن من التحريف.

ثانياً: لقد أنكر ابن مسعود ـ كما تزعم مصادر أهل السنة ـ قرآنية المعوذتين بدعوى أنهما عوذتان لا أكثر، ولم يثبت سورة الفاتحة في مصحفه نظراً لكونها عدل القرآن لا منه.

لكن ذلك منه لا ينم عن قصد لتحريف الكتاب، وسيأتي إن شاء الله تعالى موقف علماء أهل السنة من هذا الإنكار، واتفاق الإمامية على بطلان موقفه من المعوذتين.

الزعم السادس: مخالفة مصحف أُبي بن كعب للمصحف الموجود

قال النوري:

"إن هذا المصحف الموجود غير شامل لتمام ما في مصحف أُبي بن

____________

1 ـ النشر في القراءات العشر: ج 1، ص 32 وبمضمونه عن القاضي أبي بكر في الانتصار، نقل عنه الزركشي في البرهان: ج 1، ص 235.


الصفحة 106

كعب فيكون غير شامل لتمام ما نزل إعجازاً لصحة ما في مصحف أُبي واعتباره"(1).

حصيلة ما أثاره المحدث النوري هنا هو:

أولا: إن هذا المصحف الموجود غير شامل لتمام ما في مصحف أُبي بن كعب.

ثانياً: إن ما في مصحف أُبي معتبر.

لقد اشتمل مصحف أُبي على دعائين للقنوت وقد حسبهما سورتين، سورة الخلع وسورة الحفد، وكانت له زيادات تفسيرية وقراءات واردة على غرار زيادات مصحف ابن مسعود، ومعناه أن هذه الزيادات لا تشكل دليلا على أن ما في مصحفه من سنخ ما نزل إعجازاً وإلاّ ـ كما قلناه فيما يتعلق بمصحف ابن مسعود ـ فإذا لم نتمكن من تقديم تأويل وتبرير لهذا الاختلاف الموجود بين مصحف أبي والمصحف الموجود بين أيدينا اليوم فإن ذلك يشكل دليلا على بطلان مصحف أُبي نفسه، ذلك أنـّه مصحف ثبت بخبر الواحد، ومن ثم فهو يعارض الأدلة القطعية الدالة على صيانة القرآن من التحريف والتزوير.

أما قول المحدث النوري بأن ما في مصحف أُبي معتبر، فهو كلام قابل للمناقشة من حيث تعارضه مع المنقول عن أهل البيت عليهم السلام من أمرهم بالقراءة المشهورة المتداولة بين الناس حيث قالوا: "... اقرأ كما يقرأ الناس"(2) و"اقرءوا كما علمتم"(3) وعليه فلا حجة للنوري فيما ادّعاه.

____________

1 ـ فصل الخطاب: ص 149.

2 ـ الكافي: ج 2، ص 633، الرقم 23.

3 ـ نفس المصدر: ج 2، ص 631، الرقم 14 ومثله في: ج 2، ص 619، الرقم 2.


الصفحة 107

الزعم السابع: جمع عثمان للمصحف وتمزيق سائر المصاحف

قال المحدث النوري:

"إن ابن عفان لما استولى على الأمة جمع المصاحف المتفرقة واستخرج منها نسخة بإعانة زيد بن ثابت... وأحرق ومزق ساير المصاحف... مما لزم منه سقوط بعض الكلمات والآيات..."(1).

إن الروايات التي تحدثت عن جمع عثمان للمصاحف المتفرقة بإعانة من زيد بن ثابت، وعن قيامه بتمزيق المصاحف الأخرى وإحراقها ومن ثم إسقاط بعض الأشياء منه وقول عثمان بوجود الخطأ واللحن في المصحف الموجود... كلها روايات مدرجة في مصادر أهل السنة، وهي بأجمعها لا اعتبار لها وإن وردت في مصادر وكتب معتبرة في حد نفسها! كيف يمكن لعالم منصف واعتماداً على مثل هذه الروايات أن يحتمل وقوع التحريف من طرف عثمان والحال كما يقول السيد المرتضى (ت 436 هـ.) أحد قدماء الإمامية:

"إذا جاز فيما أداه النبىّ صلّى الله عليه وآله نيفاً وعشرين سنة وتداوله الناس ونشروه أن يتم فيه لعثمان النقص والحذف جاز ذلك فيما جمعه عثمان نفسه، وهذا حد لا يبلغ إليه محصل"(2).

أو كما قال من المتأخرين السيد الخوئي رحمه الله:

"1 ـ لأن الإسلام قد انتشر في زمان عثمان على نحو ليس من إمكان عثمان أن ينقص من القرآن شيئاً ولا في إمكان من هو أكبر شأناً من عثمان.

2 ـ ولأن تحريفه إن كان للآيات التي لا ترجع إلى الولاية، ولا تمس

____________

1 ـ فصل الخطاب: ص 149.

2 ـ الذخيرة في علم الكلام: ص 363.


الصفحة 108

زعامة سلفه بشيء، فهو بغير سبب موجب وإن كان للآيات التي ترجع إلى شيء من ذلك فهو مقطوع بعدمه، لأن القرآن لو اشتمل على شيء من ذلك وانتشر بين الناس لما وصلت الخلافة إلى عثمان.

3 ـ ولأنّه لو كان محرّفاً للقرآن لكان في ذلك أوضح حجة وأكبر عذر لقتلة عثمان في قتله علناً، ولما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين وإلى ما سوى ذلك من الحجج.

4 ـ ولكان من الواجب على الإمام علىّ عليه السلام بعد عثمان أن يردّ القرآن إلى أصله... ولكان ذلك أبلغ أثراً في مقصوده وأظهر لحجته على الثائرين بدم عثمان ولا سيّما إنّه عليه السلام قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان(1).

... هذا أمر علىّ عليه السلام في الأموال فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرّفاً فيكون إمضاؤه عليه السلام للقرآن الموجود في عصره دليلا على عدم وقوع التحريف فيه..."(2).

ثمّ قال السيّد الخوئي في نهاية المطاف:

"نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه، [لكن] لا بمعنى إنّه جمع الآيات والسور في مصحف بل بمعنى إنّه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف ذلك المصحف"(3).

____________

1 ـ انظر: نهج البلاغة: الخطبة 15، قول الأمام علىّ عليه السلام: "والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته...".

2 ـ البيان: ص 218.

3 ـ نفس المصدر: ص 257 ـ 258.


الصفحة 109
ومن وجهة نظرنا، فإن الدافع الذي حدا بعثمان لتوحيد المصاحف، لم يكن اختلافاً في متن آيات الوحي المنزل إذ الآيات كانت متواترة، وإنما الاختلاف في تفسيرها حيث سجّل كل واحد من الصحابة في مصحفه أحياناً ما سمعه في محضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وما رزقه من التوفيق في السماع منه، وبناء عليه فما أقدم عليه عثمان لم يكن سوى طرح ما زاد على القراءات المعروفة عن النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلم وإلقاء التأويلات التي كانت موجودة في المصاحف لا النص القرآني نفسه.

الزعم الثامن: الأخبار الكثيرة في كتب أهل السنة

قال النوري:

"الأخبار الكثيرة التي رواها المخالفون زيادة على ما مرّ في المواضع السابقة الدالة صريحاً على وقوع التغيير والنقصان في المصحف الموجود..."(1).

وقد أورد النوري هنا ما يقرب من مئة حديث من مصادر أهل السنة، وسيأتي موقف علماء أهل السنة من أسانيد هذه الروايات ومضامينها، فقد ناقشوها بضعف السند تارة وبكون مضامينها من باب التفسير والقراءة الواردة والمنسوخ التلاوة و... تارة أخرى، وقد أورد النوري هنا "سورة مكذوبة" تسمى بسورة النورين أو الولاية سنفصل الكلام حولها عندما نصل إلى البحث المعنون بـ "هل لدى الشيعة مصحف سري يتداولونه" في المقام الثاني فلاحظ إن شئت.

الزعم التاسع: ذكر أسماء أوصياء النبىّ في الكتب السالفة

يقول المحدث النوري:

"إنّه تعالى قد ذكر أسامي أوصياء خاتم النبيين وابنته الصديقة

____________

1 ـ فصل الخطاب: ص 171.


الصفحة 110

الطاهرة عليهم السلام وبعض شمائلهم وصفاتهم في تمام الكتب المباركة التي أنزلها على رسله... فكيف يحتمل أن يهمل الله تعالى ذكر أساميهم في كتابه المهيمن على جميع الكتب الباقي على مر الدهور الواجب التمسك به إلى قيام الساعة..."(1).

ونحن مسبقاً درسنا هذا الادّعاء في مناقشة الطائفة الخامسة من طوائف روايات التحريف في كتب الشيعة دراسة تحليلية نقدية، وحيث أوردنا هناك روايات الفريقين على هذا الصعيد، وتمّ نقدها وتسجيل الملاحظات عليها(2) ولا حاجة بنا لتكرار ذلك البحث.

لكن ما تجدر الإشارة إليه هنا والتعرض لبحثه هو التناقض الذي وقع فيه المحدث النوري من حيث لا يشعر.

فقد ذكر أنـّه لا بدّ من وجود أسماء الأوصياء في القرآن الكريم، معترفاً بأن هذا القرآن مهيمن على جميع الكتب الباقية، مر الدهور، والتمسك به واجب إلى قيام الساعة، وانطلاقاً من ذلك رأى بأن أسماء الأوصياء قد جرى إسقاطها من القرآن الكريم في عملية تحريف مسبقة، وفي هذه الحالة لا يعود القرآن مهيمناً على الكتب السابقة الأخرى ولا واجب التمسك والأخذ، بل في هذه الحالة ـ على الأقل ـ تصبح تلك الكتب السماوية الأخرى واجبة التمسك لتأخذ من ثم موقع الهيمنة الذي كان للقرآن وتكسبه لنفسها ولتحدد بنفسها تكليف القرآن في هذا المجال وهذا الكلام لا يستبطن سوى التناقض بل هو مخالف لصريح القرآن الكريم نفسه; وبناء عليه فمضافاً إلى الآيات التي تردّ التحريف في القرآن العظيم، تثبت هذه الآية الشريفة

____________

1 ـ نفس المصدر: ص 183.

2 ـ انظر: مبحث "دراسة روايات التحريف في كتب الشيعة" وللتفصيل انظر: صيانة القرآن عن التحريف: ص 214 ـ 219.


الصفحة 111
هذا الأمر بعينه، وهي قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه)(1) نعم، إن الكتب السابقة ـ كما أقرّه المحدث النوري نفسه في هذا الفصل على تقدير تمامية السند ـ لم تتعرض سوى لأوصاف الأوصياء وشمائلهم كما هو الحال في القرآن تماماً، ولو حصل أن صرحت هذه الكتب باسم من أسماء الأوصياء فإنما ذلك من باب التفسير الذي قام به الأنبياء لأممهم لا جزءاً من النص الكتابي نفسه.

الزعم العاشر: اختلاف القراء السبعة أو العشرة

قال النوري ما حاصله:

"إنه لا إشكال ولا خلاف بين أهل الإسلام في تطرق اختلافات كثيرة وتغييرات غير محصورة في كلمات القرآن وحروفه وهيئاته من ناحية القراء السبعة أو العشرة بما فيه من الاختلاف وحيث أن القرآن نزل في جميع مراتبه بنحو واحد لا تغيير فيه ولا اختلاف كان جميع ما ذكروه غير الوجه الواحد المجهول المردد فيه غير مطابق لما أنزل على الرسول صلّى الله عليه وآله إعجازاً وهو المقصود".

ثم قال:

"وهذا الدليل وإن كان غير واف لإثبات نقصان سورة بل آية والكلمات أيضاً لعدم شمول تلك اختلاف القراءات لها إلاّ أنه يمكن تتميمه بعدم القول بالفصل..."(2).

إن ما ذكره المحدث النوري في هذا الدليل بعضه حق وبعضه باطل، ولذلك وقع في هذا البحث ـ كما في مزعوماته الأخرى ـ في تناقض فاحش نتيجة ذلك.

____________

1 ـ المائدة (5): الآية 48.

2 ـ فصل الخطاب: ص 209.


الصفحة 112
فإنّ أصل وجود الاختلافات الكثيرة والتغييرات غير المحصورة في كلمات القرآن وحروفه وهيئاته من ناحية القراء السبعة أو العشرة حق لا ريب فيه، كما هو مشهور، لأن منشأ بعض تلك الاختلافات يعود إلى تقصير أو قصور في أنفسهم، لا إلى إذن ورضا من نبيهم صلّى الله عليه وآله، وهذا هو قول المحققين من علماء الفريقين، فإنهم يقولون: إن تلك القراءات متواترة إلى نفس القراء لا إلى النبىّ صلّى الله عليه وآله، قال الزركشي:

"... التحقيق أن القراءات متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواترها عن النبىّ ففيه نظر، فإن إسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات وهي نقل الواحد عن الواحد لم تكمل شروط التواتر..."(1).

ومثله ابن الجزري في "النشر"(2) وقال أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز":

"إنا لسنا ممن يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء..."(3).

وغيرهم كثير(4).

وعليه فإذا كانت القراءات غير متواترة وإنما تثبت بخبر الواحد وتنقل إلينا عن هذا الطريق، فهذا يعني أن احتمال القصور أو التقصير من جانب القراء أنفسهم هو احتمال وارد، لكن الكلام كل الكلام في أنه هل ثمة تلازم ما بين تواتر القراءات وتواتر القرآن أو لا؟ وبالتالي فهل يستلزم تواتر القرآن تواترها وبالعكس أو لا يستدعي ذلك؟

____________

1 ـ البرهان: ج 1، ص 319.

2 ـ النشر: ج 1، ص 13 ـ 14.

3 ـ المرشد الوجيز: ص 178 ومثله عن كتابه "البسملة" كما نقل عنه التبيان للجزائري: ص 102.

4 ـ انظر: البيان: ص 153 ـ 156 فقد أورد ـ رحمه الله ـ تصريحات علماء أهل السنة الذين نفوا تواتر القراءات السبعة.