الصفحة 256

كتب فحينئذ يجب كشف المبطل وباطله... ومن حاول المساس بكتاب الله والنيل من قدسيّته فإنّه بعيد عن الإسلام وإن تسمّى به، وإنّه يجب كشفه لتعرف الأمّة عداوته لأنّه يحارب الإسلام عن أصله العظيم وركنه المتين..."(1).

لابدّ أن نيّة الدكتور القفاري هي فقط الدفاع عن حريم القرآن وحفظ قداسته ولهذا تراه مضطرب البال مكسور الخاطر كثير المعاناة، وحكم بكفر أصحاب الكتب الذين أوردوا فيها روايات التّحريف!

ثمّ ذكر انّه ينبغي الاحتياط أشدّ الاحتياط في هذه المسألة قائلاً:

"ومن هنا فإن العدل يقتضي ان نحتاط في دراستنا لهذه المسألة أبلغ الاحتياط وان نعدل في القول، فلا نرمي طائفة بهذه المقالة اِلاّ بعد الدرّاسة والتثبت..."(2).

وأخيراً، وبعد الدرّاسة والبحث في أطراف هذه المسألة توصل إلى النتيجة الآتية:

"فرية التّحريف ابتدأ القول بها الروافض في القرن الثاني ونسبت إلى هشام بن الحكم وشيطان الطاق... وإنّ بعض أهل العلم ينسب هذه العقيدة إلى الباطنية في حين أنّ الباطنية لم تخص بهذه المقالة والذي تولى كبرها وأكثر الوضع فيها هم الاثنا عشرية، وقد سجلت هذه المقالة في... كتاب سليم بن قيس..."(3).

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 200 ـ 201.

2 ـ نفس المصدر السابق.

3 ـ نفس المصدر: ص 1281، وقوله: "قد سجلت هذه المقالة...." لان سليم أورد في كتابه خبر مصحف علي عليه السلام وسيأتي الكلام فيها مفصلاً.


الصفحة 257
وقد بلغ احتياطه وعدالته في الحكم أوجَه!! حين حكم على كتب حديث الشيعة كالكافي وتفسيرهم بالمأثور كتفسير علي بن إبراهيم بقوله:

"أنّ أصحاب هذه المقالة والكتب التي حوت هذا الكفر ـ أي تحريف القرآن نعوذ بالله ـ هي محل تقدير عند هؤلاء [أي الإمامية] وصدق الموقف يقتضي البراءة من معتقديها كالكليني وكتابه الكافي والقمّي وتفسيره وغيرهما ممّن ذهب إلى هذا الكفر"(1).

وبالتالي فإنّ في كتابه مواضع من هذه الأحكام والقضايا ليست بالقليلة وكنموذج لذلك قوله:

"إنّه لا ثقة برواياتهم بعد هذا وإنّ كتبهم هي المحرفة المفتراة... وقد انكشف أمرها بهذه الفرية...

وكثرة الأخبار في هذا الباب تدل على أن دين الشيعة سداه ولحمته الكذب والكيد للإسلام بمحاربة ركنه العظيم وأصله الذي يقوم عليه وهو القرآن..."(2).

وقال أيضاً:

"... وهذا بلا شك دليل بطلان أخبارهم كلِّها... وكان من أعظم الأدلة والبراهين على سقوط أخبارهم وتهافت رواياتهم..."(3).

بعد كلّ هذا نسأل:

هل أنّ الدكتور القفاري عادل في احكامه تلك؟

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1001 وقال أيضاً: "الصفار وإبراهيم القمي والكليني هم من الغلاة الذين يجب اعتبارهم خارج الصف الاسلامي لنقلهم اساطير نقص القرآن وتحريفه"، ص 671 ومثله ص 697 و751 و993.

2 ـ نفس المصدر: ص 1039 وقال بعده: "... وإذا لم تستح فاصنع ما شئت وليس بعد الكفر ذنب".

3 ـ نفس المصدر: ص 1050.


الصفحة 258
وهل أنّ الدكتور القفاري يراعي الموازين العلمية في هذا البحث الذي يعد من البحوث المهمة جداً عند المسلمين؟

وهل أنّ الدكتور القفاري تحلّى بالأمانة العلمية في نقل روايات وعبارات الشيعة من مصادرهم؟

وهل؟

وهل؟

وسيأتيك عن قريب الجواب الشافي عن كلّ تلكم الأسئلة، وأنت تحكم بنفسك عليه، وقبل أن نبحث في أجوبة تلك الأسئلة، علينا أن نقف وقفة قصيرة مع الدكتور القفاري ونسأل السؤال الذي يدور في الخاطر، وهو: ماذا يقول الدكتور القفاري في روايات أهل السنّة في هذا المقام؟ إذ أنـّه لابدّ أن يكون قد اطلع على الأنواع المختلفة لتلك الرّوايات في كتب أهل السنة، من حيث العدد (حيث يقول الآلوسي إنّها أكثر من أن تحصى(1)، ويقول السيوطي وأمثلة هذا الضرب كثير(2)) ومن حيث كيفية المصادر (فهي من كتب الصّحاح والكتب الأخرى المعتبرة عندهم) ومن حيث قوّة متونها وتنوع مدلولها (بأنها من خطأ الكتّاب، وإلقاء الشياطين في الوحي، وتغيير الحجّاج في كلمات القرآن، والرّوايات الدالة على الزيادة والنقيصة في القرآن، وإسقاط آيات بعد وفاة الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله) والدكتور القفاري يعلم علم اليقين أنـّهم رووا بمثل ما رواه الكليني وغيره وبعضه أكثر صراحة وأشدّ ظهوراً في التّحريف وأصح سنداً وأقوى حجة وأبعد عن التأويل الظاهر والمقبول وقد لاحظ هو بنفسه أجوبة علماء أهل السنة

____________

1 ـ روح المعاني: ج 1، ص 45.

2 ـ الاتقان: ج 1، ص 81 وقد عبّر ابن سلاّم بعد ذكر بعض تلك الرّوايات: "فهذه الحروف واشباهٌ له كثير" فضائل القرآن: ص 195.


الصفحة 259
المتناقضة عن تلك الرّوايات ومع ذلك فقد أصدر تلك الأحكام على الشيعة مع كونه محتاطاً أبلغ الاحتياط حسبما ادّعى!!

فإذا كان الدكتور القفاري عادلاً في حكمه وبقصد الدفاع عن الدين وقد توصل إلى تلك النتائج الموهومة على طبق الموازين العلمية، فيجب عليه أن يطبق النتائج التي توصل إليها في كتب الشيعة على كتب أهل السنة: كموطأ مالك، صحيحي البخاري ومسلم، سنن الترمذي والنسائي وأبي داود والبيهقي، ومسند أحمد والطيالسي، ومستدرك الحاكم ومعجم الطبراني ومصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة والمحلى لابن حزم الأندلسي وفضائل القرآن لابن سلام وتفسير الطبري والدرّ المنثور والقرطبي وغير ذلك من كتب الحديث وعلوم القرآن والتفسير من تأليف كبار العلماء والأئمة من أهل السنة.

فعلى الدكتور القفاري أن يتبرأ من هذه الكتب والمؤلفات ويحكم بأنّ كثرة الأخبار في هذا الباب يدل على الكيد والكذب على الإسلام والمحاربة لركنه العظيم ـ وهو القرآن ـ وفي نهاية المطاف ليقل: "لا ثقة بروايات أهل السنة بعد هذا..."!! حتّى يثبت عدالته ونثق بكلامه وإلاّ فالتعصب في المجال العلمي لا يؤدّي إلاّ إلى التفرقة وتضييع الحقائق وإضلال العباد كما لا يخفى.


الصفحة 260

اتهام مفضوح

الدكتور القفاري وهو ينكر روايات أهل السنة قد اتّهم الشيخ الطوسي بالكذب حيث قال الشيخ الطوسي:

"رويت روايات كثيرة من جهة العامة والخاصة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع لكن طريقها الآحاد لا توجب علماً، فالأوْلى الاعراض عنها... لأنّه يمكن تأويلها"(1).

فقال الدكتور القفاري:

"إنّ ما زعمه الشيخ الطوسي أنّ العامة قد شاركوا طائفته في رواية هذا الكفر، كذب..."(2).

وتعليقاً على كلام الطبرسي الذي قال:

"روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً..."(3).

قال الدكتور القفاري:

"يحاول الطبرسي ـ كعادة هؤلاء ـ أن يشرك بعض أهل السنة الذين عبر عنهم "بحشوية العامة" في هذا الكفر كنوع من الدفاع عن المذهب وحفظ ماء الوجه ولون من النقد المبطن لاهل السنة"(4).

ولكنّ انكار الدكتور القفاري واتهامه للطوسي والطبرسي لا وجه له فإنّ روايات أهل السنة التي أوردنا شطراً منها تصدّق قولهما.

____________

1 ـ التبيان في تفسير القرآن: ج 1، ص 3.

2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 292.

3 ـ مجمع البيان: ص 83.

4 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 295.


الصفحة 261

محاولة فاشلة

نعم الدكتور القفاري يقول في موضع آخر في مقام قبوله لتلك الرّوايات: إنّ الرّوايات الموجودة في كتب أهل السنة من جنس "روايات القراءات" أو "نسخ التلاوة" بخلاف روايات الشيعة التي هي من جنس التّحريف، وقد كرّر الدكتور القفاري هذا القول عشرات المرات ودافع عنه دفاعاً مريراً، فمثلاً تراه يقول:

"فكيف يجعل نسخ التلاوة كالقول بالتحريف إنْ ذلك إلاّ ضلال مبين وكيد متين... لان غاية ما تدل عليه تلك الآثار ان ذلك كان قرآناً ثمّ رفع في حياة الرسول والوحي ينزل..."(1).

وقال أيضاً:

"فمن يقل من الشيعة إنّ رواياتهم الواردة في كتبهم من جنس روايات القراءات ونسخ التلاوة فهو يتستر على هذا الكفر ويساوي بين الحق والباطل"(2).

ولكن كيف يمكن حمل كل روايات أهل السنة ـ التي أوردناها في المقام الأوّل "مبحث دراسة أحاديث التحريف في مصادر أهل السنة" ـ على القراءات أو نسخ التلاوة؟ وإذا كانت نظرية نسخ التلاوة من عند الله، وتعطي جواباً شافياً لقسم من الرّوايات، فلماذا هذا الترديد والإنكار من أهل السنة أنفسهم لهذه النظرية؟ وكيف تبطل نصوص تلك الرّوايات تلك النظرية؟ وإشكالات متعددة اُخر ذكرناها في المقام الأوّل، وعلى فرض المحال فلو قبلنا بأن القراءات أو نسخ التلاوة كلها من عند الله فإن الرّوايات الموهومة التي تقول بوجود اللّحن في القرآن والزيادة في القرآن وإلقاء الشياطين في الوحي القرآني وتغيير بعض الحكام في كلمات القرآن

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1019 وأيضاً ص 1044، 1054.

2 ـ اصول مذهب الشيعة: ج 1، ص 300 وأيضاً ص 248.


الصفحة 262
وغيرها من الرّوايات هل هي من جنس القراءات أو من جنس نسخ التلاوة؟؟

والأعجب من هذا، الإدّعاء الآخر الذي ذكره الدكتور القفاري بقوله:

"الإقرار بنسخ التلاوة أمر مشترك بين الفريقين وهو شيء آخر غير التّحريف"(1).

أولاً: من هو الذي أقرّ بنظرية نسخ التلاوة المزعومة من الأساطين الإمامية؟ ذكر الدكتور القفاري أسماء ثلاثة من علماء الإمامية وهم "شيخ الطائفة الطوسي" و"الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي مؤلف مجمع البيان" و"الشريف المرتضى علم الهدى" وقال: الاقرار بنسخ التلاوة أمر مشترك بين الفريقين...".

ثانياً: ما المقصود من "نسخ التلاوة" في عبارة الدكتور القفاري هل هو نسخ التلاوة دون الحكم أو نسخها مع الحكم؟ فالأول ورد مرّة واحدة وهي آية الرجم، والشيخان الطوسي والطبرسي قبلا هذا المورد فقط، ولكنّ تمام الرّوايات المزعومة والتي هي أكثر من أن تحصى ـ ما عدا هذا المورد ـ هي من باب نسخ التلاوة مع الحكم، ولا يوجد أحد من الإمامية يشترك مع غير الإمامية في هذا الأمر البيّن الغيّ وإليك تفصيل ذلك: قال شيخ الطائفة:

"ما نسخ لفظه دون حكمه كآية الرجم فإنّ وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه والآية التي كانت متضمنة له منسوخة بلا خلاف وهي قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا..."(2).

وفي موضع آخر يقول شيخ الطائفة:

"وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن وفيما ذكرناه دليل على بطلان

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1021، وتابع الدكتور القفاري في ادّعائه هذا أفراد آخرون أمثال: "محمّد عبد الرحمن السيف" في كتابه "الشيعة الاثني عشرية وتحريف القرآن": ص 22.

2 ـ التبيان: ج 1، ص 13.


الصفحة 263

قولهم"(1).

وهذه العبارات بعينها ذكرها الدكتور القفاري عن الشيخ ولم يورد ما بعده.

فالشيخ الطوسي حينما ذكر جواز النسخ فإنّما أراد به الاستدلال على جواز النسخ في عالم الثبوت والإمكان ـ مقابل قول بعض المعتزلة بعدم جواز النسخ حتى في عالم الثبوت(2) ـ ولم ينظر الشيخ في كلامه إلى عالم الإثبات والوقوع، فقال الشيخ بعد استدلاله: "وفيما ذكرنا دليل على بطلان قولهم".

ثم قسّم الشيخ رحمه الله النسخ في الشّرع إلى ثلاثة أقسام، وقال في القسم الثالث (نسخ التلاوة مع الحكم) ما نصّه:

"الثالث ـ هو مجوّز وإن لم نقطع بأنـّه كان. وقد روي عن أبي بكر أنـّه

____________

1 ـ التبيان: ج 1، ص 394.

2 ـ اتفق أكثر الاصوليين على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس ونسخهما معاً في عالم الثبوت والامكان واستدلوا على ذلك بدليل العقل والنقل وخالفهم شواذٌّ من المعتزلة حيث نسب إليهم بأنه لا يجوز نسخ الحكم وبقاء التلاوة لانّه يبقى الدليل ولا مدلول معه فحكى الزرقاني عن جماعة في منسوخ التلاوة دون الحكم أنـّه مستحيل عقلا. مناهل العرفان: ج 2، ص 125. وقال بعض: لا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء حكمها لان الحكم تابع لها فلا يجوز ارتفاع الأصل وبقاء التّابع.

انظر: الأحكام للآمدي: ج 3، ص 128، اللُّمع: ص 58، شرح اللّمع: ج 1، ص 495 ـ 496. الذريعة (للسيد المرتضى): ج 1، ص 428 ـ 429 والمنخول: ص 297.

وامّا حديث آية الرجم ونسخ تلاوتها وبقاء حكمها فقد أخرجه الشيعة والسنة في كتبهم الحديثية في أبواب الحدود. والأصل في هذه القضية هي تفرد عمر بن الخطاب بنقله فالخبر واحد لا يثبت به نص القرآني ولا نسخه وإنَّ مقارنة الخبر بسياق بقيّة الآيات القرآنيّة واسلوبها تؤدي إلى انكار كونها قرآناً، هذا فضلاً عن أنّ عليّاً عليه السلام قد أنكر ـ بالملازمة وليس بالصراحة ـ كونها آية قرآنية فانه عليه السلام لمّا جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة قال:

      ((حددتها بكتاب الله ورجمتها بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.))

انظر: جواهر الكلام: ج 41، ص 30، عوالي اللآلي: ج 2، ص 152 وج 3، ص 553 ورواه أحمد والبخاري والنسائي والحاكم وغيرهم فلو كان عليه السلام يرى أن حكم الرجم ثابت بآية قرآنية قد نسخت تلاوتها كما رأى عمر لم يقل ذلك.


الصفحة 264

كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر"(1).

ولو دققنا في قول الشيخ: "هو مجوّز" فإنه يعني امكان حدوث النسخ ثبوتاً لكنّه في مقام الإثبات قال: "لم نقطع بأنـّه كان" أي لم يثبت النسخ في عالم الإثبات والوقوع، وما ورد في الرّوايات ليس آية قرآنية حتى يمكن اعتبارها قسماً من النسخ وإنما هي روايات آحاد لا حجّة فيها في المقام.

هذا الكلام كان في مورد شيخ الطائفة، وأمّا الشيخ الطبرسي فهو كالشيخ الطوسي ذهب إلى أنّ الآية الوحيدة التي جرى فيها نسخ التلاوة دون الحكم هي آية الرجم(2).

أمّا السيد المرتضى رحمه الله فهو منكر لكلا هذين القسمين من النسخ; ولا أدري من أين جاء الدكتور القفاري بهذه النسبة للسيد المرتضى إذ يقول:

"وهو (أي السيد المرتضى) يقرّ بنسخ التلاوة ففي كتابه الذريعة قال: "فصل في جواز نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دونه ثم تكلّم عن ذلك"(3).

ونحن نعجب من الدكتور القفاري كيف فهم من عبارة المرتضى القول بجواز نسخ التلاوة في عالم الوقوع والإثبات، والحال إنا ننقل لك نصّ عبارته لتتضح لك واقعية الدكتور القفاري. قال السيد المرتضى:

"فصل في جواز نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دونه... مثال نسخ الحكم دون التلاوة نسخ الاعتداد بالحول وتقديم الصدقة أمام المناجاة ومثال نسخ التلاوة دون الحكم غير مقطوع به لأنـّه من جهة

____________

1 ـ التبيان: ج 1، ص 398.

2 ـ مجمع البيان: ج 1، ص 180.

3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1021.


الصفحة 265

خبر الآحاد... وهكذا مثال نسخ الحكم والتلاوة معاً موجود ـ أيضاً ـ في أخبار الآحاد..."(1).

فالسيد المرتضى ـ كالشيخ الطوسي ـ في مقام بيان أنّ نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دونه ثبوتاً جائز أو لا، فمثال نسخ الحكم دون التلاوة هنا موردان من الآيات يمكن الاتيان بهما لأنـّه مقطوع به وأمّا في مقام نسخ التلاوة دون الحكم أو معه فهو غير مقطوع به لانّ طريقه هو خبر الواحد، إذ ان نسخ الآيات القرآنية ـ كالآيات القرآنية نفسها ـ يجب أن يكون متواتراً ومقطوعاً به، وعلى هذا يكون نسخ التلاوة بكلا قسميه مردوداً عنده لأن أخبارهما آحاد وبناء على هذا فكيف يمكن للقفاري أنْ يقول بأنّ السيد المرتضى يذهب إلى قبول نسخ التلاوة؟

على هذا فإنَّ كل ما عند الدكتور القفاري من جواب لروايات أهل السنَّة هو نسخ التلاوة أو القراءة الواردة فنسخ التلاوة موهوم لا غير وادّعاؤه بأنـّه مشترك بين الفريقين كذب لا غير وأمّا القراءة الواردة فإنّها من عند الله إذا كانت تلك الرّوايات في كتب أهل السنة فقط لا في كتب الآخرين. قال الدكتور القفاري:

"الأحاديث الصريحة الدلالة في أنّ كلّ واحد من القرّاء قد أخذ قراءته من الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهي مخالفة لقراءة صاحبه وأنّ النبىّ أقرّ كلاً منهم وأخبر بأنها هكذا نزلت فبان أنّ الجميع نازل من عند الله"(2).

____________

1 ـ الذريعة إلى اصول الشريعة: ج 1، ص 429.

وهما آيتان، الاولى من سورة البقرة: الآية 240 وهي آية نسخ الاعتداد بالحول، والاخرى من سورة المجادلة: الآية 12 وهي آية نسخ الصدقة أمام المناجاة. فعلى هذا فإمكان النسخ وجوازه، أمر متفق عليه بخلاف وقوعه ووروده، والمنقول من جمهور الاصوليين هو الجواز ونسب بعض الخلاف إلى شاذ من المعتزلة. انظر: البيان: ص 206 و279 و284.

2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1035.


الصفحة 266
فعلى هذا كل قراءة في زعم الدكتور القفاري من عند الله لكن إذا كانت نفس تلك الرّوايات في كتب الشيعة فإنها من باب كذب وافتراء.

فعلى سبيل المثال جاءت في بعض مصادر الشيعة(1) قراءة الآية بدون كلمة "عن" في الآية الشريفة (يسألونك عن الأنفال...) فقال الدكتور القفاري:

"وغرض الرافضة من هذا الزعم أنّ الأنفال كانت خاصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم هي للأئمة الاثني عشر المعصومين من بعده والصحابة إنما كانوا يسألون الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم منها على سبيل الصدقة ولم يكن سؤالهم عن حكمها وهذا لا يتأتى للرافضة إلاّ بحذف كلمة "عن"(2).

لكن هذه القراءة توجد في مصادر أهل السنة عن كثير من الصحابة والتابعين(3)بل نقل "ابن جرير" عن بعض انهم قالوا:

"نزلت الآية لأنَّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر فأعلمهم الله أنَّ ذلك للّه ولرسوله دونهم"(4).

____________

1 ـ وردت هذه القراءة عن ائمة الهدى عليهم السلام: الإمام علي بن الحسين والصادقين عليهم السلام. انظر التبيان للطوسي: ج 5، ص 86 ـ 87.

2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1011. ورأى في موضع آخر أن قراءة الآية بدون كلمة "عن" من وحي الشيطان وحقد على الإسلام وأهله. اصول مذهب الشيعة: ص 1007، الهامش رقم 2.

3 - كابن مسعود و سعد بن ابي وقاص وزيد بن علي وعطاء والضحاك وغيرهم راجع: الاعراب للنحاس: ج 1، ص 664، البحر المحيط: ج 4، ص 456، التبيان للشيخ الطوسي: ج 5، ص 86 - 87 وجامع البيان للطبري: ج 6، ص 176.

4 ـ جامع البيان: ج 6، ص 174.


الصفحة 267
فهل يريد الدكتور القفاري أصرح من هذا، فلماذا افترى على الشيعة وقال: "وهذا لا يتأتّى للرافضة إلاّ بحذف كلمة "عن".

ومثله كثير وسيأتي بعضه(1).

وهنا نستعرض نكاتاً قصيرة في أصل وجود روايات أهل السنة، وموقف الدكتور القفاري منها، ونقف هنا وقفة قصيرة لمقارنة "أجوبة" أهل السنة ـ عن رواياتهم ـ بمعايير الدكتور القفاري وموازينه.

____________

1 ـ انظر على سبيل المثال مبحث: "مضامين روايات التّحريف في كتب الشيعة" و"هل انكار المنكرين لهذا الكفر من قبيل التقية".


الصفحة 268

نظرة إلى أجوبة أهل السنّة وموازين الدكتور القفاري

لو وازنّا بين أجوبة علماء أهل السنة ومعيار الدكتور القفاري لتوصّلنا إلى نتائج عجيبة غريبة، فمثلاً حينما قال العلاّمة البلاغي (ت / 1352 هـ.) في أسانيد روايات الشيعة التي ظاهرها يدل على وقوع التّحريف في القرآن ما نصّه:

"منها ما لا يتيسر احتمال صدقها ومنها ما هو مختلف باختلاف يؤول إلى التناقض والتعارض... هذا مع أنّ القسم الوافر من الرِّوايات ترجع أسانيدها إلى بضعة أنفار وقد وصف علماء الرجال كلاًّ منهم إمّا بأنـّه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية وإمّا بأنـّه مضطرب الحديث والمذهب... وإمّا بأنـّه كذّاب متهم... وإمّا بأنـّه ضعيف لا يلتفت إليه و..."(1).

وهو ما ذهب إليه الميرزا مهدي الشيرازي (ت / 1381 هـ.) في مجال هذه الأخبار(2).

ردّ عليهم الدكتور القفاري بعد نقل عباراتهم بقوله:

"هذا قول البلاغي والشيرازي في رجالهم وأسانيدهم.

ولسنا بحاجة إلى حكم الروافض ولكن نذكرها لبيان تناقض أقوالهم وشعورهم بتفاهة قولهم وسقوطه ومحاولتهم التستر على مذهبهم أو نفي هذا الكفر والعار الذي ألحقه بالطائفة شيوخهم الأوائل"(3).

أقول: إذا كان تقييم الدكتور القفاري صحيح ومنصف بالنسبة لحكم العلماء

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ج 3، ص 1038 عن آلاء الرحمن: ص 26 وقد أوردنا سابقاً تمام عبارة العلاّمة البلاغي في المقام الأوّل.

2 ـ المعارف الجلية: ص 18.

3 ـ اصول مذهب الشيعة: ج 3، ص 1039.


الصفحة 269
المعاصرين من الشيعة كالبلاغي والشيرازي على رواة وروايات التّحريف فهل يمكن للدكتور القفاري تطبيق هذا الحكم ـ العادل والصائب!! ـ على بعض العلماء المعاصرين من أهل السنة الذين حكموا بضعف رواة وروايات التّحريف ووضعها وجعلها ويقول:

"هذا قول الآلوسي ومصطفى زيد ورشيد رضا ومحمد أبو زهرة و... في رجال أهل السنة وأسانيدهم... نذكرها لبيان تناقض أقوالهم وشعورهم بتفاهة قولهم وسقوطه ومحاولتهم التستر على مذهبهم أو نفي هذا الكفر والعار الذي الحقه بأهل السنة شيوخهم الأوائل..."(1).

وهل أذعن الدكتور القفاري إلى أنّ ما حكم به على جواب العلاّمة الطباطبائي من الإمامية قد شمل أجوبة بعض علماء أهل السنة إذ يقول العلاّمة:

"المراد في كثير من روايات التّحريف من قولهم عليهم السلام كذا اُنزل، هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل..."(2).

فقال الدكتور القفاري:

"فهذا تأكيد للاُسطورة وليس دفاعاً عنها، ذلك أنّ من حرّف وردّ وأسقط النصوص النازلة من عند الله والتي تفسر القرآن وتبيّنه هو لردّ وتحريف الآيات أقرب..."(3).

ألم يكن هذا هو نفس جواب علماء أهل السنّة عن رواياتهم؟ ألم يعدّ جمع من علمائهم أمثال "أبو عبيد القاسم بن سلاّم" و"الحافظ أحمد العاصمي" و"ابن حزم الاندلسي" و"بدر الدين الزركشي" وغيرهم تلك الرّوايات من باب التفسير

____________

1 ـ انظر المقام الأوّل: أجوبة أهل السنّة عن روايات التّحريف.

2 ـ الميزان في تفسير القرآن: ج 12، ص 108.

3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 998.


الصفحة 270
والسنّة؟

ففي هذه الصورة وطبق معيار الدكتور القفاري أليست أقوال هؤلاء أقرب إلى رد وتحريف الآيات، وتأكيداً للاُسطورة...!؟

فلو ركنّا إلى معيار وموازين الدكتور القفاري في البحث والدرّاسة عن تلك الرّوايات لصار علماء كلّ من الفريقين ممّن يقول بالتحريف بحسب نظره، وسنشير لاحقاً الى بعض المقاييس الاُخر للدكتور القفاري.

هذا، ولو اتّبع الدكتور القفاري وأضرابه الموازين العلمية وابتعدوا عن التعصبات ثمّ وَلَجوا في مثل هذه الأبحاث لتوصلوا قطعاً إلى النتيجة التي تستفاد من روح تعاليم الوحي والتي اعترف بها محققو الفريقين واستدلوا عليها، وهي: "إذا وجدنا لهذه الرّوايات تأويلاً صحيحاً متّفقاً مع السليقة القرآنية فهذا أمر مقبول لا محالة وإلاّ فيجب تبرئة ساحة القرآن المقدسة عن هذه الأوهام لوجود الأدلة القاطعة على صيانة القرآن عن التّحريف; سيـّمـا وأنّ نصوص بعض تلك الرّوايات يعتبر خير شاهد على أنـّها أجنبية بالمرّة عن كلام الله تعالى." فلا ينبغي لاحد نسبة القول بتحريف القرآن لأيّة طائفة بسبب وجود بعض الرّوايات في كتبهم أو وجود عدّة قليلة ممّن قبلت هذه الرّوايات، والقاء مسؤولية تلك الرّوايات والقائلين بها على عهدة تلك الطائفة بأجمعها.


الصفحة 271

حديث مصحف الإمام علي عليه السلام في سطور

وهناك مطلب آخر ذكره الدكتور القفاري في مدخل موضوع بحثه، يرتبط بمصحف الإمام علي عليه السلام حيث قال:

"ومن أمر هذه الدعوى والتي وجدت في محيط الشيعة... أنـّها ولدت وفي أحشائها أسباب فنائها وبراهين زيفها وكذبها... فهي تقوم على دعوى أنّ القرآن ناقص ومغير... وان القرآن الكامل المحفوظ من أي تغيير هو عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ثم أورثه الأئمة من بعده...

ولو كان لدى أمير المؤمنين غيره لأخرجه للناس ولم يجز أن يتعبّد الله بكتاب محرّف وناقص، ولتدارك الأمر حين أفضت إليه الخلافة; لأن من أقرّ الخائن على خيانته كان كفاعلها...

لم يجد أصحاب هذا الافتراء ما يجيبون به عن هذا السؤال الكبير الذي ينسف بنيانهم من القواعد سوى قولهم على لسان عالمهم نعمة الله الجزائري...

كما أنـّهم ربطوا ـ والكلام للقفاري ـ وجود المصحف بإمامهم المنتظر... والإمام الغائب والمصحف الغائب كلاهما وهم وخيال..."(1).

فالدكتور القفاري في موارد متعددة تحدّث عن مصحف الإمام علي عليه السلام، وكل مرة يستعمل أقبح الألفاظ وأهجنها، التي هي في الواقع بعيدة كلّ البعد عن ذوق كلّ محقق يطلب الحقيقة والدفاع عن دين الله.

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ج 1، ص 202.


الصفحة 272
بل إنّه يفرد بحثاً مستقلاً(1) تحت عنوان "مصحف [الإمام] علي" يستنتج في نهايته أنّ:

"... أوّل كتاب تعرض لهذه الفرية هو كتاب سليم بن قيس حيث نجد الصورة لهذه الفرية في بدايتها فترد هذه المسألة في أثناء روايتين... وفيها "أن عليّاً لزم بيته حتى جمع القرآن وكان في المصحف والرِّقاع..."(2).

وهذا الخبر لمصحف الإمام علي عليه السلام في كتاب سليم بن قيس، يوجب عند الدكتور القفاري أن يحكم ويقول:

"وقد سجلت هذه المقالة ـ أي تحريف القرآن ـ في أول كتاب ظهر لهم... وهو كتاب سليم بن قيس"(3).

ونحن قد تكلمنا عن جميع الخطوط العامة لمسألة مصحف الإمام علي عليه السلام من مصادر الفريقين في المقام الأوّل، وسترى قريباً "في مبحث مصحف الإمام علىّ" أن خبر مصحف الإمام علي عليه السلام في كتب أهل السنة فاق روايات الشيعة وبعضها وردت بأسانيد صحيحة ومتضافرة.

وعلى هذا، فقول الدكتور القفاري بأنّ خبر هذا المصحف وجد منحصراً في محيط الشيعة وهذا المصحف وَهم وخيال وكذلك قوله بأنّ هذا المصحف في نظر الشيعة خال من التغيير والتّحريف بخلاف المصحف الموجود، وكذلك قوله: الوحيد الذي أجاب عن ذلك السؤال الكبير ـ وهو إذا كان عند الإمام علي عليه السلام مثل هذا المصحف فلماذا لم يخرجه للناس ـ السيد نعمة الله الجزائري، كل هذه

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 339 و1022 و...

2 ـ نفس المصدر: ص 235 ـ 236.

3 ـ نفس المصدر: ص 1281.