4 ـ ادعاء محمّد بن عبد الوهاب ونقده:
وقس على هذا محمّد بن عبد الوهاب (ت 1204) وما ذكره عن كتب الشيعة من القول بنقص القرآن، وأورد الدكتور القفاري نصّ كلامه وقال:
ويذكر بأنّ شيعة زمنه ـ على ما قيل ـ أظهروا سورتين مزعومتين أنهما من القرآن الذي أخفاه عثمان كل سورة مقدار جزء وألحقوهما بآخر المصحف احداهما سورة النورين والاُخرى سورة الولاية.
|
أيُّ مصحف في آخره تلكما السورتان؟ وأين تلك السورتان في كتب الشيعة؟ نعم لا أثر لهما في أي كتاب من كتب الشيعة بل إن المحدث النوري مع كثرة تتبعه قال:
"لم أجد لها ـ أي لسورة الولاية ـ أثراً في كتب الشيعة سوى ما يحكى عن كتاب "المثالب" للشيخ محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني."(1) |
فترى إنّ المحدث النوري يقول: "سوى ما يحكى عن كتاب المثالب" والحاكي عنه هو الآلوسي صاحب تفسير روح المعاني ومفتي الدولة العثمانية ببغداد، وقد نسب الآلوسي ذلك إلى ابن شهرآشوب والحال أن كتاب "المثالب" لابن شهرآشوب لا يوجد فيه مما قال الآلوسي عين ولا أثر! وسيأتي البحث في تلك السورة قريباً في مبحث "هل لدى الشيعة مصحف سرّي يتداولونه" إن شاء الله.
ولعلّ محمّد بن عبد الوهاب يقول "إن شيعة زمنه ـ على ما قيل ـ أظهروا سورتين" قال ذلك تحت تأثير السيوطي الواقع تحت تأثير كثرة روايات أهل
____________
1 ـ فصل الخطاب: ص 179 ـ 180.
5 ـ ادعاءات الآلوسي البغدادي (ت 1270) ونقدها
قال الدكتور القفاري عن الآلوسي:
"لعل الآلوسي أول من كتب بالعربية عن هذه القضية بذلك الاستيعاب (النسبي) حيث عرض لهذه الفرية مقرونة بالاستشهاد المباشر من كتبهم وعرض أحاديثهم كما جاءت في اصول الكافي وغيره وذكر الجناح الآخر من الشيعة الذي أنكر هذه الفرية واستشهد بكلامه وناقشه".
|
وقال الآلوسي بعد ذكر روايات من الكافي وغيره:
"ولما تفطّن بعض علمائهم ـ أي علماء الشيعة ـ لما من قولهم هذا ـ أي تحريف القرآن! ـ من الفساد جعله قولاً لبعض أصحابه قال الطبرسي في مجمع البيان: أما الزيادة فيه ـ أي القرآن ـ فمجمع على بطلانها وأما النقصان فقد روى قوم من أصحابنا وقوم من حشوية العامة والصحيح خلافه وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات".
|
ثم أورد كلام السيد المرتضى بتمامه وعقّبه بالقول:
"وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال... إلاّ إن الرجل ـ أي السيد المرتضى ـ قد دسّ في الشهد سماً، وأدخل الباطل في حمى حق الأحمى، فلأنّ نسبة ذلك إلى قوم من حشوية |
العامة (الذين يعني بهم أهل السنة والجماعة) فهو كذب أو سوء فهم... نعم أسقط زمن الصديق ما لم يتواتر وما نسخت تلاوته وكان يقرأ من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة...".
|
وبعدها أورد من موارد اختلاف مصحف عائشة مع المصحف الموجود وقال:
"إنّ ذلك قبل أن يغيّر عثمان المصاحف و..."(1).
|
ثم يعرّج الآلوسي على أساطير أهل السنة للروايات التي نسبت إلى أُبي بن كعب في شأن سورة "البيّنة" واسقاط آيات منها وما روي عنه أيضاً أنه كتب في مصحفه سورتي الخلع والحفد ـ وأورد السورتين بتمامهما ـ وقال:
"فهو من ذلك القليل ومثله كثير وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر قال: لا يقولَنَّ أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر والرّوايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى إلاّ إنها محمولة على ما ذكرناه..."(2).
|
وللآلوسي هنا عدّة ادّعاءات:
أ ـ إن وجود روايات تدلّ على التّحريف في بعض كتب الحديث كالكافي وغيره يدلّ على أن صاحب الكتاب أيضاً يقول بالتحريف.
ب ـ إن جميع علماء الشيعة قالوا بالتحريف إلى القرن السادس زمان المرحوم الطبرسي (ت 542) ـ أو القرن الخامس زمان المرحوم السيد المرتضى (ت 438) ـ وحيث تفطن إلى فساد هذا القول ولعدم وجود الحيلة والمخرج نسبوا القول بالتحريف إلى عدّة من الإمامية ـ لا إلى جميعهم ـ حتى ينأوا بأنفسهم عن هذا
____________
1 ـ روح المعاني: ج 1، ص 43 ـ 47 وعنه اصول مذهب الشيعة: ص 211 ـ 213.
2 ـ روح المعاني: ج 1، ص 43.
ج ـ ما قال الطبرسي تبعاً للسيد المرتضى من أن قوماً من حشوية العامة نقلوا أخباراً ضعيفةً ظنوا صحتها، فهو كذب أو سوء فهم لانهم أجمعوا على عدم وقوع النقص فيما تواتر قرآناً كما هو موجود بين الدفتين اليوم.
د ـ اسقط زمن أبي بكر ما لم يتواتر من القرآن وما نسخت تلاوته وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة.
هـ ـ الرّوايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى إلاّ أنه محمول على نسخ التلاوة.
الجواب عن ادعاءات الآلوسي:
أ ـ من الواضح لدى كل محقق منصف أنّ وجود روايات يمكن حملها على التّحريف في كتب الحديث أو التفسير بالمأثور هو غير القول بالتحريف، فأصل الرواية شيء، ودراية الرواية وفقهها شيء آخر، وعلى هذا لو فرضنا جدلاً أننا نحكم على كل راو لروايات التّحريف بأنّه متهم بالقول بالتحريف لتحتَّم علينا القول بأنّ أهل السنّة هم أول من يُتّهم بتحريف القرآن وفساد القول، ودليلنا على ذلك الرّوايات الكثيرة المبثوثة في كتبهم بل الأدهى من ذلك أن بعضهم أورد هذه الرّوايات وهو معتقد بصحّتها وملتزم بها، وعلى هذا فادعاء الآلوسي خطأ محض، وهو ادعاء انّ علماء الشيعة كلهم متهمون بالتحريف بمحض وجود روايات التّحريف في كتبهم.
ب ـ في بيان كذب ادعاء الآلوسي نكتفي بذكر فحوى كلام فضل بن شاذان (260 هـ) فهو قد أنكر على أهل السنة قولهم بالتحريف وعدّ ذلك من المطاعن عليهم وهذا يعني براءة الشيعة من تلك الفرية في عصره بالفحوى(1).
____________
1 ـ الايضاح، لابن شاذان: ص 213 وما بعدها.
ولو ان الشيعة كانوا يقولون بذلك، لما استقام ذلك للفضل، ولا لغيره ولكان قد واجه هجوماً عنيفاً ويقولون له: انك لترى الشعرة في عين غيرك ولاترى الخشبة في عينك.
"روى الكليني منهم عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله، ان القرآن الذي جاء به جبرئيل إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم سبعة عشر ألف آية".
|
قال الصدوق رحمه الله ضمن بيان قسم من آرائه:
"... بل نقول انه قد نزل الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن كان مبلغه مقدار سبعة عشر ألف آية و..."(1).
|
وعلى هذا فان قول الآلوسي بأن علماء الإمامية وحتى القرن السادس تقول بالتحريف مدفوع بما ذكرنا وفاسد من أصله. فالصدوق سبق الطبرسي بعشرات السنين وهو صراحةً ينكر التّحريف. وهذا إن دلّ على شيء فانما يدل على جهل الآلوسي بآراء الشيعة وعلمائها في هذا المجال أو تعصبه المرير ضدهم(2). وإن شئت
____________
1 ـ الاعتقادات: ص 82.
وطبعاً هذه الاجوبة في حال ما لو قبلنا تلك الرّوايات مع نسخة "سبعة عشر ألف آية" وإلاّ ففي نسخة اُخرى من الكافي: "سبعة الف آلاف" وهو مطابق تقريباً لعدد آي القرآن الكريم، وسنبحث في ذلك فيما بعد.
2 ـ فمثلاً في تفسير آية (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر...)يقول: "ان الإمامية يجوزون فعل المحظورات بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس". روح المعاني: ج 2، ص 101 ولست ادري إلى ماذا استند في هذه النسبة وهو مفتي بغداد عاصمة العراق مقرّ الشيعة قديماً وحديثاً.
فلنقف الآن مع الآلوسي في قاعدته تلك ونسأله: إن كانت تلك القاعدة صحيحة لا غبار عليها برأيكم فلماذا تطبقونها فقط على روايات السنة ولا تطبقونها على روايات الشيعة!؟ وحكم الامثال فيما يجوز أو لا يجوز واحد. وبهذا يتضح أن أقوال الآلوسي في الشيعة لا قيمة علمية لها عند أهل التحقيق، فاذا قال السيد المرتضى: "... إن قوماً من حشوية العامّة نقلوا أخباراً ضعافاً ظنّوا صحّتها" إتَّهمه الآلوسي بدون تدبّر وقال: "فهو كذب أو سوء فهم!" ونقول: أيـّها الآلوسي
____________
1 ـ السيوطي عن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر، الدرّ المنثور: ج 6، ص 590.
2 ـ شواهد التنزيل: ج 2، ص 160.
3 ـ روح المعاني: ج 12، ص 217.
وكذلك نسب الآلوسي وغيره(1) سورة الولاية إلى كتاب المثالب لابن شهرآشوب وهو كذب محض، وستعرف عمّا قريب بأنّ الشيعة لم يذكروا هذه السورة أبداً لا في هذا الكتاب ولا في غيره، وإنّما مصدرها فقط وفقط كتاب "دبستان مذاهب" فمؤلف هذا الكتاب ـ وهو من القرن الحادي عشر ـ ذكر هذه السورة والحال أنّ المؤلف من الزردشتيين (أي يعبدون النار) ولا يعلم من أين أخذ تلك الرّواية، حيث إنّه لم يشر إلى أىّ مصدر في كتابه، ولذلك فهو محكوم بالافتراء والكذب عندنا أيّاً كان مذهبه، فيكون الكتاب المذكور المصدر الوحيد لكل من نقل ذلك من الشيعة وغيرهم.
ج ـ لا بدّ أن الآلوسي في ادّعائه الثالث من قوله "فهو كذب أو سوء فهم" يريد أنّ الطبرسي تبعاً للسيد المرتضى فى قوله: "إنّ قوماً من حشوية العامة نقلوا أخباراً ضعيفةً ظنّوا صحّتها" يقصد أنّ الناقل لهذه الأخبار ليس الحشوية فقط وإنّما أهل السنَّة عامة، وانّ هذه الأخبار ليست ضعيفة بل قويّة ـ واعترفوا هم أنفسهم بقوتها أيضاً ـ ولكن في رأي الآلوسي أولاً: إنّ هذه الأخبار في مورد الآيات التي ليست متواترة. وثانياً: إنّ تلك الآيات منسوخة. وثالثاً: الأشخاص الذين كانوا يقرأونها لا يعلمون أنها منسوخة التلاوة. فالآلوسي يظنّ أن طرح نظرية "نسخ التلاوة" و"عدم التواتر" في بعض آيات القرآن يحلّ مشكلة كل تلك الرّوايات، ولكنّه غفل عن انه كالمستجير من الرمضاء بالنار حيث لاحظت في المقام الأوّل بأنّه لا يمكن
____________
1 ـ مثل رشيد رضا في رسالته "السنة والشيعة": ص 43 ومحب الدين الخطيب في "الخطوط العريضة": ص 10 ـ 19.
____________
1 ـ تهذيب الكمال: ج 35، ص 236.
2 ـ المصدر السابق: ص 235 والطبقات الكبرى: ج 2، ص 374.
3 ـ المصدر السابق: ج 21، ص 325.
4 ـ الطبقات الكبرى: ج 2، ص 373.
5 ـ تاريخ مدينة دمشق: ج 31، ص 114.
6 ـ تهذيب التهذيب: ج 1، ص 188، اسد الغابة: ج 1، ص 49 وغيرهما.
د ـ الادعاء الخامس: ذكر الآلوسي أنّ هذه الرّوايات كثيرة، بل إنّها أكثر من أن تحصى، ولكنّها جميعاً تحمل على نسخ التلاوة ونحن نقول: إنّ الشطر الأوّل من ادعائه صحيح ـ كما لاحظت في المقام الأوّل ـ فإنّ أيّ شخص يسبر كتب الحديث والتفسير والتأريخ وغيرها من كتب أهل السنة يرى كثيراً من تلك الرّوايات وبصور مختلفة، ولكن الشطر الثاني باطل لأنّ "نسخ التلاوة" سراب ليس إلاّ. وعلى هذا فإذا لم نجد جواباً شافياً عن تلك الرّوايات، فإنّها ستكون ساقطة لا محالة
____________
1 ـ الموطأ: ج 2، كتاب الرضاع باب "ما جاء في الرضاعة بعد الكبر" ص 605.
2 ـ صحيح مسلم، كتاب الرضاع: باب "رضاعة الكبير"، ح رقم 26 و27 و28 و29 و30.
3 ـ مثل هذا الجواب في مورد زيد بن ثابت يقول: "ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف... فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الانصاري (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ألحقناها في سورتها في المصحف.
قال الآلوسي: فانه بظاهره يستدعي أن في المصاحف العثمانية زيادة لم تكن في هاتيك الصحف والأمر في ذلك هين، اذ مثل هذه الزيادة اليسيرة لا توجب مغايرة يُعبأ بها... ولا تقدح أيضاً في الجمع السابق اذ يحتمل أن يكون سقوطهما منه من باب الغفلة... وذكره من تكفّل بحفظ الذكر ـ أي الله تبارك وتعالى ـ فتدارك ما نساه" وهذا يعني بنظر الآلوسي أن زيادة آية من القرآن أمر يسير ليس فيه اشكال!! فعلى هذا سقطت في الفترة الواقعة بين جمع أبي بكر للقرآن وجمع عثمان بحدود 10 سنوات لكن لا اشكال فيه لانه من باب الغفلة!! والله تعالى يذكرهم!! فانظر واعجب!
6 ـ ادعاء الشيخ موسى جار الله (ت 1369) ونقده:
ومن مدّعياته في هذا المقام قوله:
"عاش بين الشيعة فترة وتجوّل في مدنها وحضر حلقات دروسها في البيوت والمساجد والمدارس وقرأ في العديد من اُمّهات كتبها."(1) |
ثمّ يقول في مسألة التّحريف عند الشيعة:
"القول بتحريف القرآن باسقاط كلمات وآيات قد نزلت، وبتغيير ترتيب الكلمات والآيات أجمعت عليه كتب الشيعة..."(2) "وأخبار التّحريف مثل أخبار الإمامة متواترة عند الشيعة ومن ردّ أخبار التّحريف أو أوّلها يلزم عليه ردّ أخبار الإمامة والولاية، ونسب إلى المجلسي وصاحب الوافي، أنّ أخبار التّحريف متواترة مثل أخبار الولاية وأخبار الرّجعة"(3).
|
ولمعرفة تفصيل أجوبة تلك المسائل والأكاذيب للشيخ جار الله يمكنك مراجعة كتاب "نقض الوشيعة"(4) و"أجوبة مسائل جار الله"(5) ونحن نتعرض هنا لمسألتين منها على نحو الاختصار:
أ: إذا كان مراد "موسى جار الله" أنّ تلك الرّوايات موجودة في جميع كتب الشيعة، فاضافة إلى أن دعواه هذه باطلة فإنّ هذه الرّوايات موجودة في كتب
____________
1 ـ الوشيعة: ص 25 ـ 26.
2 ـ المصدر السابق: ص 104.
3 ـ المصدر الاسبق: ص 62 ـ 63.
4 ـ نقض الوشيعة للسيد محسن الامين العاملي: ص 159.
5 ـ أجوبة مسائل جار الله للسيد عبد الحسين شرف الدين: ص 28.
ب: إنّ الشيخ موسى يقول: "أخبار التّحريف مثل أخبار الإمامة متواترة عند الشيعة..." ونسب هذا إلى "المجلسي" و"صاحب الوافي" وهذا يعد خيانة في البحث العلمي إذ الأمانة تقتضي نقل العبارة حرفيّاً من غير تلاعب. وقد تابع جار الله في طريقته الفاسدة آخرين(2). وإليك نصّ عبارة المجلسي قال:
"وعندي أنّ الأخبار في هذا الباب متواترة معنى..."(3) |
ومثله في "الوافي"(4)، إنّ من الواضح الفرق الشاسع بين لفظ "متواتر" بصورة مطلقة، ولفظ "متواتر" مع قيد "معنى" فالمجلسي وصاحب الوافي يقولان بأنّ أخبار التّحريف متواترة معنى، وهو يعني أنّ جميع تلك الأخبار في معنى مشترك متواتر، وهذا المفهوم المشترك أعم من: "اختلاف القراءات" و"التّحريف في المعنى" و"تفسير وتأويل الآيات" و"نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره" وكلّ تغيير، وواضح أنّ تلك المعاني المشتركة بعيدة عن محلّ النزاع، وسيأتيك توضيح
____________
1 ـ وقد تقدم بعض كلامه رحمه الله تعالى وسيأتي تفصيله.
2 ـ انظر: اصول مذهب الشيعة: ص 273.
3 ـ مرآة العقول: ج 2، ص 526.
4 ـ الوافي: ج 5، ص 220.
وقد سار على هذه الشاكلة "احسان إلهي ظهير" و"محمّد مال الله" وغيرهما، إذ قال أولهما:
"إنّ الشيعة كلَّها على هذا الكفر... ويعدّ إنكار المنكرين لهذه المسألة تقية لا حقيقة"(1).
|
وجاء الدكتور القفاري ليعضد "احسان الهي" فتشبث بكلام صاحب "فصل الخطاب" وقد حرّف في الواقع كلام النوري وقال:
"وعزا ـ أي صاحب "فصل الخطاب" ـ إنكار التّحريف من شيوخه السابقين إلى التقية أو إلى عدم توفّر المصادر عندهم ـ كما سيأتي ـ فذهب احسان الهي إلى مذهب صاحب "فصل الخطاب" نفسه"(2).
|
وقال محمّد مال الله:
"إنّ شيوخ الشيعة اتفقوا على القول بهذه الفرية..." |
وعلّق عليه الدكتور القفاري:
"لم يشر محمّد مال الله إلى وجود خلاف بينهم في هذا مع أنّ طائفة من شيوخهم أنكروه"(3).
|
وقال الدكتور القفاري في موضع آخر:
"إنّ فيها ـ أي في الرّوايات التي جمعها مال الله من كتب الشيعة في هذا الباب ـ ما ليس بصريح في هذا الأمر، بل هو يندرج بشكل واضح في باب التأويل كما انه وقع ـ كما وقع إحسان من قبله ـ بذكر بعض |
____________
1 ـ نقلاً عن كتاب اصول مذهب الشيعة: ص 214.
2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 214.
3 ـ المصدر السابق: ص 214.
الرّوايات للشيعة والتي ذكر فيها قراءة للآية مروية عن السلف واعتبرها بجهل من قبيل التّحريف، والسبب في ذلك هو اعتمادهم بدون تدبّر على كتاب فصل الخطاب"(1).
|
أقول: وهذا أدلّ دليل على سوء فهم وجهل ـ على حد تعبير الدكتور القفاري ـ محمد مال الله وإلهي ظهير وأمثالهما وسيأتي البحث حول آراءهما.
ويبقى هذا السؤال وهو: هل المحدث النوري، صاحب كتاب "فصل الخطاب" اعتقد بأنّ جميع علماء الشيعة إلى عصره يقولون بالتحريف وانكارهم لذلك من قبيل التقية؟ كما نسب إليه الدكتور القفاري تبعاً لمحب الدين الخطيب واحسان الهي ظهير وهل النوري عزا إلى الشيوخ السابقين بعدم توفر المصادر عندهم وسيأتي إن شاء الله نصّ كلام المحدث النوري وحينئذ يتبين لك مدى أمانتهم وصدقهم في دعاويهم.
نستنتج من مجموعة البحوث المتقدمة في هذا القسم إنّ هذه المجموعة من الباحثين لو سلكوا العدالة والانصاف لوصلوا إلى نفس ما توصل إليه "محمّد المديني" عميد كلية الشريعة بجامعة الأزهر، والجدير بالذكر ان الدكتور القفاري لم ينقل عن المديني حرفاً واحداً، وإليك خلاصة كلامه:
"وأمّا الإمامية فيعتقدون نقص القرآن فمعاذ الله وإنّما هي روايات رويت في كتبهم كما روي مثلها في كتبنا وأهل التحقيق من الفريقين قد زيفوها وبيّنوا بطلانها... ويستطيع من شاء أن يرجع إلى مثل كتاب الاتقان للسيوطي ليرى فيه أمثال هذه الرّوايات التي نضرب عنها |
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 289.
ولا يخفى ان الدكتور القفاري في كلامه هذا يعترف بان الرّوايات في فصل الخطاب لم تكن باجمعها في التّحريف بل قسم منها من قبيل التأويل والقراءة الواردة.
صفحاً".
|
ثم ذكر قضية تأليف أحد المصريين في سنة 1498 كتاباً اسمه "الفرقان" والذي حشاه بكثير من أمثال هذه الرّوايات السقيمة المدخولة المرفوضة ناقلاً لها عن كتب ومصادر أهل السنة ورفض العلماء لذلك ومصادرة الحكومة هذا الكتاب وقال:
"أفيقال إنّ أهل السنة ينكرون قداسة القرآن؟ أو يعتقدون نقص القرآن لرواية رواها فلان؟ أو لكتاب ألّفه فلان، فكذلك الشيعة الإمامية، إنّما هي روايات في بعض كتبهم كالروايات التي في بعض كتبنا..."(1).
|
لقد خلا الآن الميدان للدكتور القفاري ليصول فيه ويجول فهو بعد أن جمع أطراف البحث في آراء أهل السنة عرّج على بعض مصادر الشيعة فقال:
"وبعد هذا نرجع إلى مصادر الشيعة المعتمدة عندها نستنطقها علّنا نعرف جلياً الخبر عندها... والعدل والانصاف واجب ولازم (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)".
|
فيتعهد لنا الدكتور بأنّ مبناه هنا أيضاً هو الاعتماد على المصادر المعتمدة عند الشيعة، وسيسلك طريق العدل والإنصاف، فهل هو وعد بقوله أم لا؟ فيصدر بحثه بالعنوان "ما تقوله مصادر الشيعة في هذه الفرية".
____________
1 ـ مقال الاستاذ المديني عميد كلية الشريعة في الجامع الازهر، مجلة رسالة الاسلام، العدد الرابع من السنة الحادية عشرة، ص 382 ـ 383.
ما تقوله مصادر الشيعة في هذه الفرية
ثم يُتبع ذلك بقوله:
"وقبل أن نأخذ بيد القارئ في رحلة تبدأ من نقطة الصفر من أول كتاب وضعه الشيعة وألّفوه، نعرض لصوتين مختلفين ومتعارضين، هذان الصوتان المتعارضان كان لهما ـ في الغالب ـ وجود وصدى في كل الكتب الشيعية التي تعرضت لهذه القضية فلنستمع إليهما ليتسنى إدراك وتصور هذه المسألة عند هؤلاء حتّى لا يحصل غبش في تصورها... يقول شيخ الشيعة في زمنه ابن بابويه القمِّي [الشيخ الصدوق] (ت 381 هـ.): اعتقادنا ان القرآن الذي انزله الله تعالى على نبيه محمّد وهو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك... ومن نسب إلينا أنا نقول اكثر من ذلك فهو كاذب. هذا... ويقول المفيد [محمّد بن محمّد بن النعمان] (ت 413 هـ.): "إن أخباراً قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الطاعنين فيه من الحذف والنقصان" ويقول: "واتفقوا ـ أي الإمامية ـ على أنّ أئمة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنّة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم". هذا قولان مختلفان ومتعارضان صدرا من شيخين من شيوخهم يجمعهما وحدة الزمان والمكان! فمن نصدِّق منهما؟ وأيّ القولين يعبّر عن مذهب الشيعة؟... والتعرف على الحقيقة وسط هذا الركام من الاقوال المتعارضة والمتناقضة ليس بسهل المنال... وإذا لاحظنا أن |
من أركان الدين عند هؤلاء التقية ولا دين لمن لا تقية له أدركنا أنّ الحقيقة محجوبة بغيوم من الكذب والتزوير وركام من التناقضات والتعارضات..."(1) |
الدكتور القفاري وتحريفه لكلام الشيخ المفيد:
أوردنا كلام الدكتور القفاري برغم طوله ليتبين للقارئ، تحريف الدكتور القفاري فهل هذا القول الذي نسبه الدكتور القفاري إلى الشيخ المفيد رحمه الله حقّ، أم أنّ الدكتور القفاري ـ مع الأسف ـ خان الأمانة وحذف ما قبل وما بعد كلام الشيخ المفيد؟ ثم حمله على ما أراد وعقّبه بما قال مع بشاعة قوله وما يليق بسوء أدبه، كما سبق منه.
قال الشيخ المفيد رحمه الله ما نصُّهُ:
"إنّ الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان، فأمّا القول في التأليف فالموجود يقضي فيه بتقديم المتأخر وتأخير المتقدّم ومن عرف الناسخ والمنسوخ والمكّي والمدني لم يرتب بما ذكرناه. وأمّا النقصان فإنّ العقول لا تحيله ولا تمنع وقوعه وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز... وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس |
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 219 ـ 220.
القرآن على الحقيقة دون التأويل وإليه أميل والله أسأل توفيقه للصواب."(1) |
هذا نصّ كلام الشيخ رحمه الله في كتابه "أوائل المقالات" وقال في موضع آخر من الكتاب نفسه:
"اتّفقوا ـ الإمامية ـ على أنّ أئمة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية والمرجئة وأصحاب الحديث على خلاف الإمامية"(2).
|
هل أراد الشيخ المفيد رحمه الله من قوله "... خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل..."، تحريف القرآن ونقصانه؟ فهذا ما أراد الدكتور القفاري لكن خاب في صفقته، فكلام الشيخ في قوله السابق يفسّر كلامه هنا حيث قال:
"فأمّا القول في التأليف فالموجود يقضي فيه بتقديم المتأخر وتأخير المتقدم ومن عرف الناسخ والمنسوخ والمكّي والمدني لم يرتب بما ذكرناه".
|
وهذا لا مساس له بمسألة التّحريف اطلاقاً والشيخ المفيد نفسه اعترف بصيانة القرآن عن التّحريف مطلقاً وقال: "عندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل وإليه أميل" كما رأيتم في عبارته السابقة.
ولمزيد من التوضيح نقول:
____________
1 ـ اوائل المقالات ومذاهب المختارات: ص 80 ـ 81.
2 ـ اوائل المقالات: ص 46.
"تأليف القرآن أي جمع آيات السورة الواحدة أو جمع السور مرتبة في المصحف"(1).
|
فمراد الشيخ المفيد رحمه الله من مخالفتهم في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل أي في ترتيب آيات القرآن من جهة التقديم والتأخير والناسخ والمنسوخ وغير ذلك على حسب نزول الوحي، فانهم لا يرتّبون الآيات على حسب نزولها والقرآن الموجود شاهد عليه(2).
وتأليف القرآن على غير تأليف المصحف الموجود لا تستغرب فإنّ مصاحف بعض الصحابة مغايرة للمصحف الموجود من حيث التأليف، قال شمس الدين الذهبي في ترجمة عُقبة بن عمر:
"قال أبو سعيد بن يونس: مصحف عقبة بن عامر الآن موجود بخطه، رأيته عند علىّ بن الحسين بن قُديد على غير التأليف الذي في مصحف عثمان... ولم أزل أسمع شيوخنا يقولون: إنّه مصحف عقبة..."(3).
|
ب ـ في مصنّفات الشيخ المفيد رحمه الله رسالة مشهورة باسم "تصحيح الاعتقادات" وهذه الرسالة مشتملة على تعليقات قيّمة على رسالة "الاعتقادات"
____________
1 ـ فتح الباري: ج 9، ص 8.
2 ـ فعلى سبيل المثال، آية اعتداد الحول قد نُسخت بآية تربص أربعة أشهر وعشراً، والآية المنسوخة هي الآية 240 من سورة البقرة والآية الناسخة هي الآية 234 من سورة البقرة وهما متقدمة ومتأخرة لان الناسخة لابد وان تكون بعد المنسوخة لا قبلها. وهل ذاك الترتيب توقيفي أو اجتهادي. فالشواهد تدل على أنه اجتهادي من الصحابة، لمزيد التفصيل انظر تفسير الميزان: ج 12، ص 127 وما بعدها.
3 ـ تاريخ الإسلام، حوادث ووفيات (41 ـ 60 هـ.): ص 272 ـ 273.