ج ـ المحدّث النوري الذي ذكر عبارة الشيخ المفيد(1) لم يوردها بعنوان تحريف القرآن، وفي الواقع فان الدكتور القفاري إنّما نقل تلك العبارة من "فصل الخطاب" لكنه حذف ما قبل العبارة وما بعدها لكي يصل إلى مقصوده، ويُضلّ الآخرين.
والآن حيث وصلنا إلى هذه النقطة اسمحوا لي أن أبحث أيضاً مع الدكتور القفاري في هذا المجال، فالدكتور في عدّة مواضع من كتابه أورد عبارة الشيخ المفيد معلقاً عليها بألفاظ يأباها البحث العلمي، وإليك هذه المواضع مرتبة وفق ما جاء في كتابه، ففي الصفحة "230" يقول:
"نرى شيخهم المفيد (ت 413 هـ) سجّل في كتابه "اوائل المقالات" إجماع طائفته على هذا المنكر ونقل بعض أخباره في بعض كتبه كالارشاد وهو من كتبهم المعتبرة" |
لاحظت بيان الشيخ المفيد الذي يؤكد إجماع الإمامية على مخالفة "تأليف القرآن" لا "تحريف القرآن"، ورأيت توضيح الشيخ المفيد نفسه، اما إخبار الدكتور القفاري عن كتاب الارشاد، فالذي جاء فيه:
"روى جابر، عن أبي جعفر عليه السلام انه قال: إذا قام قائم آل محمّد |
____________
1 ـ فصل الخطاب: ص 42.
عليه السلام ضرب فساطيط لمن يعلم الناس القرآن على ما انزل الله جلّ جلاله فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم لأنـّه يخالف فيه التأليف"(1).
|
فمتن هذه الرواية واضح لا يحتاج إلى تبيان فهي تقول: "فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم لأنه يخالف فيه التأليف" أي قد اَلِفَ الجمهور هذا النسج الحاضر، واعتادوا عليه خلفاً عن سلف طيلة عشرات القرون، فيصعب عليهم التعوّد على خلافه كما أشار إليه الحديث. فتأليف القرآن غير تحريفه وهذا لا يخفى على ذي مسكة من عقل وقد سبق لنا في المقام الأوّل أن ذكرنا، روايات الفساطيط وبسطنا الكلام فيها فراجع إن شئت.
وكتب الدكتور القفاري أيضاً في الصفحة 269:
"كانت دوائرُ الغلاة في القرن الثالث تعمل على الإكثار من صنع الرّوايات في هذا حتّى أنّ شيخهم المفيد الذي يلقبونه بركن الإسلام... يشهد باستفاضتها عند طائفته فيقول: إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان". وهذه الاستفاضة هي ثمرة الكذب... على يد شرذمة من شيوخهم. فكيف يعقل أنّ المفيد يقول باستفاضة هذا الكفر بين طائفته رغم أنّ شيخه ابن بابويه يقول: إن من نسب إلى الشيعة مثل هذا القول فهو كاذب..." |
هذا بعض كلام الدكتور القفاري المحرّف والمبعثر أورده تحت عنوان "حجم
____________
1 ـ الارشاد: ص 386.
وقال في كتاب "المسائل السروية" ما نصّه:
"فإن قال قائل كيف يصحّ القول بأنّ الذي بين الدفتين هو كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة فيه ولا نقصان وأنتم تروون عن الأئمة عليهم السلام أنـّهم قرأوا: "كنتم خير أئمة اُخرجت للناس" و"كذلك جعلناكم أئمة وسطاً". وقرأوا: "يسألونك الأنفال" وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس؟ قيل له: قد مضى الجواب عن هذا، وهو أنّ الأخبار التي جاءت بذلك; أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحّتها، فلذلك وقفنا فيها ولم نعدل عما في المصحف الظاهر على ما أُمرنا به حسب ما بيّناه مع أنه لا ينكر أن تأتي القراءة [يأتي بالقرآن] على وجهين منزلين: أحدهما: ما تضمنه المصحف. الثاني: ما جاء به الخبر، كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على أوجه شتّى..."(1).
|
____________
1 ـ المسائل السروية: ص 83 ـ 84.
قال الصدوق ما نصّ كلامه:
"... بل نقول إنه قد نزل الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن كان مبلغه مقدار سبعة عشر الف آية ـ ثم ذكر نماذج منه وقال ـ ومثل هذا كثير، كلّه وحي ليس بقرآن"(1).
|
وتلك العبارة ادامة لنفس عبارة الصدوق في كتاب الاعتقادات والتي أوردها الدكتور القفاري دون أن يذكر تتمتها. وهي تقول بأنّ أخبار الوحي الذي ليس بقرآن لو جمع مع آي القرآن صارت سبعة عشر ألف وهذه الأخبار هي التي توحي بعضها بتحريف القرآن.
اذن نستنتج أنه لا تفاوت بين آراء هذين العلمين اللّذين يعتبران من أركان التشيع وهما المفيد والصدوق رحمة الله عليهما في مسألة صيانة القرآن عن التّحريف، فكلاهما يقول باستفاضة أخبار الباب وكلاهما يقول بصيانة القرآن عن التّحريف لكنّ الدكتور القفاري الذي رأى تلكما العبارتين ـ على ما ادّعاه ـ حذف بعضهما كي يتمكن من اثبات مدّعاه، فحرّف استفاضة الأخبار الواردة في قول الشيخ المفيد إلى استفاضة القائلين بالتحريف فكتب قائلاً:
"هذا والمفيد يقول باستفاضة هذا الكفر بين طائفته رغم أن شيخه ابن بابويه [الشيخ الصدوق رحمه الله] يقول إن من نسب إلى الشيعة مثل |
____________
1 ـ الاعتقادات: ص 81.
هذا القول فهو كاذب..."(1).
|
وإذا ذهبنا إلى نفس مبنى الدكتور القفاري في تلك المسألة وقبلنا استبدال استفاضة الأخبار بالتحريف باستفاضة القائلين بالتحريف، فهذا سيكون حجّة عليه دامغة، حيث أنّ أهل السنّة رووا كثيراً من روايات التّحريف في كتبهم، بل إنّ الآلوسي يقول: "وأخبار تلك الباب أكثر من أن تحصى" وعلى هذا نستطيع ابدال العبارة بالشكل الآتي "عدد القائلين بالتحريف من علماء أهل السنّة أكثر من أن يحصى" ترى هل يقبل الدكتور القفاري بهذا؟ أم له مع الشيعة حسابات اُخرى خارجة عن المنطق والاستدلال؟
وأخيراً قال الدكتور القفاري في الصفحة 275 بعد أن أورد كلام الشيخ المفيد رحمة الله تعالى عليه باتفاق الإمامية على ان أئمة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن... ـ وقد سبق نصّ كلامه ـ إذ قال:
"وهذه شهادة مهمة واعتراف صريح من مفيد الشيعة بأن سائر الفرق الإسلامية لم تقع في هذا الكفر الذي وقعت فيه طائفته وهي شهادة تلجم اُولئك الروافض الذين يحاولون من منطق جبان أن يصموا أهل السنة بشيء من هذه الفرية. وعصمة أهل السنة من هذا الضلال لا تحتاج إلى هذا الاعتراف ولكن ذكرناه هنا لأنه صادر من المخالف وانصاف المخالف أشد وقعاً من انصاف الموافق، ولأنّ في هذا وأمثاله مايسكت اولئك المفترين الذين يفترون الكذب ولا يؤمنون. كما أنّ مفيدهم يعترف أيضاً بأن اجماع طائفته قائم على هذا الكفر البين ولم يذكر مفيدهم وجود خلاف بين علمائهم في هذا!! مع إن شيخه ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق (ت 381 هـ) قد |
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 269.
أنكر هذا في رسالته "الاعتقادات"... هل تجاهُلُ المفيد لذلك من قبيل اقتناعه بأن مخالفته بسبب التقية أم ماذا...".
|
يظن الدكتور القفاري بأنّ استعماله للألفاظ البذيئة ـ التي لا تليق بأيّ باحث ـ يسدل الستار على الحقائق فإنّ الله تعالى يقول: (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد) فإنّه يكتب من غير خوف من الله، وليت الدكتور القفاري عمل بهذه النكتة التي سقطت من لسانه: "انصاف المخالف أشد وقعاً من انصاف الموافق".
ونريد أن نحكّمك أنت أيها القارئ فيما إذا قال شخص بأنّ ترتيب القرآن الآن ليس على طبق النزول، ولكن يوجد فيه تقديم وتأخير كما هو نص كلام الشيخ المفيد:
"فأمّا القول في التأليف فالموجود يقضي فيه بتقديم المتأخر وتأخير المتقدم ومن عرف الناسخ والمنسوخ والمكي والمدني، لم يرتب بما ذكرناه"(1).
|
فهل هذا الشخص "كافر" أو "مفتر كاذب" أو "متجاهل" أو...
وجدير بالذكر أن نغمة الدكتور القفاري بعنوان "التقية" التي تكرّر سماعها في
____________
1 ـ قد اختلف العلماء في ترتيب السور والآيات هل هو اجتهادي أو توقيفي، فادعى "الآلوسي" ان الجمهور على ان ترتيب السور توقيفي، روح المعاني: ج 1، ص 26 ـ 27، وفي ادعائه نظر يعرف من قول "القاضي أبي بكر بن طيّب" راجع: المحرر الوجيز: ج 1، ص 66 و"ابن جزي" في التسهيل لعلوم التنزيل: ج 1، ص 4 ونقل "ابن عطيه" عن "الباقلاني" راجع: التحرير والتنوير: ج 1، ص 86 ـ 90 وغيرهم. بل ادّعى "عياض" بان جمهور العلماء اتفقوا على ان ترتيب السور وقع باجتهاد الصحابة راجع; التحرير والتنوير: ج 1، ص 87.
وأمّا في مجال ترتيب الآيات، فقد اصرّ أهل السنّة على أن ترتيبها توقيفي، فآيات المصحف المتداول اليوم وهو المصحف العثماني مرتبة على ما رتبها عليه النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم باشارة من جبريل، لكن رواياتهم في كيفية نزول البسملة وروايات الجمع الأوّل تدفع هذه الدعوى دفعاً صريحاً، ولمزيد من التوضيح انظر: الميزان في تفسير القرآن: ج 12، ص 126 ـ 132.
"... والتعرف على الحقيقة وسط هذا الرُّكام من الأقوال المتعارضة... ليس بسهل المنال... وإذا لاحظنا أنّ من أركان الدين عند هؤلاء ـ أي الشيعة ـ التقيّة... أدركنا أنّ الحقيقة محجوبة بغيوم من الكذب والتزوير..."(1).
|
وهذا ليس بشيء لأنّك سترى قريباً إنّ مَن له معرفة بأركان التقيّة ومفهومها، يتجلّى له أنّ الأقوال المتقدِّمة لا يمكن حملها على التقية بأيّ وجه من الوجوه، فإذا كانت مصادر لا تخلو من الروايات التي تدل بظاهرها التّحريف بل إنّه يوجد حتى القائل بالتحريف من بينهم، فاين هو موضع التقية؟ وسيأتي تفصيل أكثر لهذه المسألة فيما بعد إن شاء الله.
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 219.
بداية الافتراء كما يؤخذ من كتب الشيعة
الدكتور القفاري قبل ولوج هذا البحث ـ وكما فعل من قبل ـ ادّعى التزام كمال الصدق والأمانة العلمية في نقل الأقوال، وفي موقف الناصح المشفق والفقيه الناسك ليوحي إلى الآخرين صدق أقواله، وقال:
"سنبدأ بدراسة هذه القضية من بدايتها، والتحري في صدق الأقوال من تقيتها بتحليل الاقوال... وأسأل الله سبحانه أن يعصمنا من اتهام الآخرين بما ليس فيهم... وسنتناول هذه القضية الخطيرة التي يترتب على رمي الشيعة بها انفصالها عن المسلمين لمفارقتها للأصل الذي يتفقون عليه..."(1).
|
ثمّ قال:
"أول كتاب تسجل فيه هذه الفرية ـ أي فرية التّحريف ـ هو "كتاب سليم بن قيس" الذي رواه عنه أبان بن أبي عيّاش، لم يرو عنه غيره وهو "أول كتاب ظهر للشيعة" كما يقول ابن النديم وغيره. وقد أكثر الشيعة من مدحه وتوثيقه والثناء على كتابه رغم إنني لم أجد لمؤلفه ذكراً فيما رجعت إليه من مصادر... بل ان من متقدمي الشيعة من قال: "إنّ سليماً لا يعرف ولا ذكر في خبر" وإن كان هذا ليس بمرضي عند متأخري الشيعة. ورغم أنّ الكتاب يحمل أخطر آراء السبئية وهو تأليه علي [عليه السلام] ووصفه بأوصاف لا يوصف بها إلاّ ربّ العالمين... وسليم الذي يزعمون أنـّه مؤلف الكتاب مجهول. وقد لا يكون له وجود إلاّ في خيالات الشيعة... وجاء في الكتاب "إنّ الأئمة ثلاثة عشر" وهذه طامة كبرى تهدد |
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 220.
بنيان الاثنى عشرية بالسقوط... ولهذا كفونا مؤنة نقض هذا الكتاب..."(1).
|
فالدراسة التحليلية لـ "كتاب سليم بن قيس" المتداول بين الناس واسعة النطاق جداً وخارجة عن اطار بحثنا هذا، وما يتراءى من اختلاف آراء العلماء في هذا الكتاب يرجع أساساً الى اختلاف نسخه ـ شأنه شأن كل كتاب لم يوفّق المصنف لنشره بنفسه بل يقوم الآخرون بنشره بعد وفاته ـ ويقسم بعض الأفاضل نسخ الكتاب إلى ستّة أنواع وبيان طرقها ونذكر من جملة طرقها، طريق علماء أهل السنة إليه(2). وجملة القول عند علماء الإمامية رحمة الله عليهم أجمعين في شأن الكتاب: "إنْ تأيّد ما فيه بدليل من الخارج فهو وإلاّ فلا اعتبار بما يتفرد به"(3).
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 224.
2 ـ وهي النسخة المروية عن طريق محمّد بن صبيح بن رجاء (المترجم له في تاريخ مدينة دمشق: ج 53، ص 274 بالرقم 6464) عن عصمة بن أبي عصمة البخاري (المترجم له في تاريخ دمشق: ج 40، ص 351، بالرقم 4700) عن أبي بكر أحمد بن المنذر (المترجم له في تاريخ الإسلام: وفيات 221 ـ 230 هـ.، ص 55) عن عبدالرزاق بن همام (مؤلف كتاب المصنف، المترجم له في تهذيب الكمال: ج 18، ص 52، بالرقم 3415) عن معمر بن راشد البصري152 هـ. المترجم له في تهذيب الكمال: ج 28، ص 303 بالرقم 6104) عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي انظر كتاب سليم بن قيس: تحقيق الشيخ محمّد باقر الانصاري: ج 1، ص 151 و318.
3 ـ ومن اللازم ان نتوقف عند رأي العلامة أبي الحسن الشعراني ـ من أعلام الإمامية (ت 1392) ـ في كتاب سليم بن قيس، لأنّ الدكتور القفاري بعد تقطيع وتحريف رأي الشعراني، استنتج ما يحلو له فيقول:
"ان الزيادة امر ميسور عندهم كما بدا لنا ذلك في كتاب سليم بن قيس والذي اعترف بوضعه والتغيير فيه شيوخهم" |
اصول مذهب الشيعة: ص 287، ومراده من "شيوخهم" هو العلامة الشعراني كما نصّ عليه ثم جعل ذلك ـ زوراً وبهتاناً ـ معياراً لنقد جميع كتب الشيعة وخصوصاً الكتب الاربعة (التي سنبحث فيه مع دعاوي الدكتور القفاري بشيء من التفصيل في "التذييل") وقال مرّات:
"إنّ الشيعة يغيرون في كتب قدمائهم كما فعلوا في كتاب سليم بن قيس" |
انظر: اصول مذهب الشيعة: ص 291 و294 و286 و289 فهل الشعراني اعترف بوضع وتغيير في كتاب سليم بن قيس، انظر نص كلام الشعراني:
"...الحق ان هذا الكتاب موضوع لغرض صحيح نظير كتاب الحسنية وطرائف ابن طاووس والرحلة المدرسية للبلاغي وامثاله وان واضعه جمع اموراً مشهورة وغير مشهورة ولما لم يكن معصوماً أورد فيه اشياء غير صحيحة... وبالجملة ان تأيّد ما فيه بدليل من خارج فهو وإلاّ فلا اعتبار بما يتفرد به والغالب فيه التأيد وعدم التفرّد" |
حواشي الشعراني على شرح جامع الكافي: ج 2، ص 373 ـ 374.
هذا ومعلوم لدى كل مصنف ان مراد الشعراني في قوله "هذا الكتاب موضوع" ـ مع التنبه إلى القرائن في كلامه وأمثلته ـ بمعنى أنّ هذا الكتاب صُنف لغرض صحيح وليس بمعنى أنَّ هذا الكتاب مختلق مكذوب، قد تغيّر ما فيه كما استفاد الدكتور القفاري بعد ان قام بتقطيع عبارة الشعراني ووزّعها في كتابه. انظر: اصول مذهب الشيعة: ص 384 و224.
أ ـ إنّ سليم بن قيس غير موجود إلاّ في خيالات الشيعة(1).
ب ـ أول كتاب فيه هذه الفرية ـ وهي فرية تحريف القرآن ـ هو كتاب سليم بن قيس.
ج ـ إنّ الكتاب يحمل اخطر آراء السبئية وهو تأليه علي [عليه السلام].
د ـ جاء في الكتاب "إنّ الأئمة ثلاثة عشر" وهذه طامة كبرى...
سليم بن قيس شخص واقعي أم خيالي؟
هل أن سليماً موجود خيالي(2)؟ كيف يمكن للدكتور القفاري ادعاء أن سليم بن قيس مختلق؟ فهل يريد اخفاء جريمة الامويين ـ وسقوط الدولة الاموية التي
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 234.
2 ـ اصول مذهب الشيعة.
قال الدكتور القفاري:
"رجعت في البحث عنه إلى مصادر كثيرة من كتب أهل السنة فلم أجد له ذكراً..." |
ولكنك لو رجعت إلى كتاب "الجرح والتعديل" للحافظ شيخ الإسلام الرازي (327) لوجدت ما يلي:
"سليم بن قيس العامري روى عن سحيم بن نوفل روى عنه أبان سمعت أبي يقول ذلك"(3).
|
وسليم بن قيس هذا شهد صفين على ما نقله ابن عساكر إذ قال في كتابه "تاريخ مدينة دمشق" بسنده عن عبدالله بن اُذينة البصري عن أبان بن أبي عيّاش، عن سليمان بن قيس العامري، قال:
"رأيت اُوَيساً القَرَني بصفين صريعاً بين عمّار وخزيمة بن ثابت"(4).
|
هذا، و"سليمان بن قيس العامري" تصحيف "سليم بن قيس العامري" قطعاً، لقرينة اللّقب (العامري) والراوي (أبان ابن أبي عيّاش) وعدم وجود شخص
____________
1 ـ منهاج السنة: ج 4، ص 210 والمنتقى (مختصر منهاج السنة): ص 523.
2 ـ وكذلك يقول "ابن النديم" و"العقيقي": "كان سليم هارباً من الحجّاج لانه طلبه ليقتله فلجأ إلى أبان بن أبي عياش فآواه" وكذا أبان بن أبي عياش نفسه يقول: "لما قدم الحجّاج العراق سأل عن سليم بن قيس فهرب منه..." الفهرست لابن النديم: ص 275 وخلاصة الاقوال: ص 83.
3 ـ الجرح والتعديل: ج 4، ص 214، رقم الترجمة 930 وشيخ الإسلام الرازي هو: أبو محمّد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، قال الذهبي في التذكرة: "الإمام الحافظ الناقد شيخ الإسلام الرازي... كتابه في الجرح والتعديل يقضي له بالمرتبة المتقنة في الحفظ" وقال في الميزان: "الحافظ الثبت ابن الحافظ الثبت" انظر مقدمة كتاب "الجرح والتعديل": ص "ز".
4 ـ تاريخ مدينة دمشق: ج 9، ص 455.
و"سليم بن قيس" هذا، يوجد في طريق كثير من الرّوايات، فمن روى عنه من علماء الإمامية فكثير جداً(1) ومن علماء أهل السنة:
1. الفاضل المحدّث القاضي أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله النيسابوري المعروف بالحاكم الحسكاني (ت 483) في كتابه "شواهد التنزيل" (ص: 41، 129، 202، 345، 794).
2. الحافظ أبو المؤيد موفق بن أحمد المكّي الحنفي المعروف بخطيب خوارزم (568) في كتابه "مقتل الحسين" (ج 1، ص 146).
3. الشيخ أبو اسحاق إبراهيم بن سعد الدين محمّد بن محمّد المعروف بالحمويني (722) في كتابه "فرائد السمطين" (ج 1، ص 312، باب 58 ح 250).
4. المحدّث علي بن شهاب الدّين بن محمّد الهمداني (ت 786) في كتابه "مودة القربى" ورواه عنه "القندوزي" في "ينابيع المودة" (ص 114، 168، 258، 445، 492). وفيه كفاية ومثل هذا كثير(2).
ثمّ قام الدكتور القفاري تأييداً لآرائه التي قد سبقت ـ بأن لا يكون لسليم بن قيس وجود إلاّ في خيالات الشيعة ـ قال:
"بل إن من متقدمي الشيعة من قال: ان سليماً لا يُعرف ولا ذُكر في خبر"(3).
|
هذا الادعاء نقل عن "أبي عبد الله الحسين ابن الغضائري" (ت 411) عن بعض
____________
1 ـ انظر: كتاب سليم بن قيس: تحقيق الشيخ محمّد باقر الانصاري، ص 122 وما بعدها.
2 ـ انظر كتاب سليم بن قيس، تحقيق الشيخ محمّد باقر الأنصاري: ص 126 وما بعدها.
3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 222.
وبناء على هذا فإن الدكتور القفاري ـ وكعادته السالفة ـ قام بتقطيع عبارة ابن الغضائري وترك ما بعدها ليضفي على آرائه وخيالاته طابع الصحة.
فرية التّحريف في كتاب سليم بن قيس:
أمّا ما ادّعاه الدكتور القفاري بأنّ فرية التّحريف سجّلت في أول كتاب ظهر للشيعة وهو "كتاب سليم بن قيس". لا يكون إلاّ بوجود خبر مصحف الإمام علىّ ـ الذي جمعه الإمام بعد وفاة النبىّ ـ في كتاب سليم بن قيس.
هذا الادعاء ذكره الدكتور القفاري في أول الكتاب(2)، ثم ذكره أيضاً في الخلاصة في خاتمة كتابه(3)، وكذلك كرره في مواضع أُخر.
وقد تكلّمنا في مدخل بحثنا هذا بعض الشيء عن هذا الموضوع، وعرفنا ماهيّة تلك الاقاويل.
هذا وما ذكره الدكتور القفاري بعنوان بداية فرية التّحريف فلم تكن إلاّ ثلاث روايات ـ وإن ذكر الدكتور القفاري أنـّها روايتان اشتباهاً ـ في كتاب "سليم بن قيس" حول مصحف الإمام علي عليه السلام، وذكرنا أنّ مضمون هذه الرّوايات هو أنّ الإمام عليّاً عليه السلام بعد وفاة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جمع القرآن وجاء به إلى المسجد، ولكنّهم لم يقبلوا به، وقد وردت هذه القضية في كتب أهل
____________
1 ـ رجال العلامة الحلي المعروف بـ "خلاصة الاقوال في معرفة الرجال": ص 83.
2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 14.
3 ـ المصدر السابق: ص 1281.
وعلى هذا فعلى قبول كلام الدكتور القفاري، الذي مؤداه أنه لمجرّد وجود خبر عن مصحف الإمام علي عليه السلام في كتاب من الكتب يحكي عن فكرة السبئية، وتحريف القرآن، والطعن في كتاب الله، فيكون جميع كتب أهل السنة التي تحدثت عن مصحف الإمام علي عليه السلام وهي إلى القرن العاشر أربعة عشر كتاباً محكومة بهذه الأحكام.
نعم، الدكتور القفاري وهو في تفحص لآثار السبئية قال:
"هذه الوقفة عند كتاب سليم بن قيس أرى أنـّها ضرورية لمحاولة اكتشاف الأيدي السبئية التي افترت هذه الفرية [أي فرية تحريف القرآن] إذ أنـّنا نلاحظ ان الفرية بدأت من كتاب سليم بن قيس..."(1).
|
ولكنّه وبعد السعي اليائس والبحث الفاشل أقرّ قائلاً:
"فإذن لم تكن هذه القضية من مقالات السبئية بل حدثت فيما بعد"(2).
|
ولو سألنا الدكتور لِمَ لم تنجح في اكتشافك؟ لوجّه كلامه بتوجيه يضحك الثكلى، حيث يقول:
"وقد تتبعت الآراء المنسوبة إلى ابن سبأ وطائفة السبئية فلم أجد أن هذه المقالة [أي تحريف القرآن] قد نقلت عن ابن سبأ لأنـّها ـ فيما |
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 225.
2 ـ المصدر السابق.
يبدو ـ لم تخطر على باله لوضوح بطلانها امام الجيل الذي عاصر التنزيل ولأنـّها وسيلة سريعة لانكشاف كذبه فلم يتجرأ ابن سبأ على إشاعة هذه الفرية..."(1).
|
عجبا! كيف تجرّأ ابن سبأ ـ على فرض وجوده في العالم ـ وادعى النبوّة وزعم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الله ـ تعالى الله وتقدّس ـ واستتابه الإمام علي عليه السلام فلم يتب فَأحرقه بالنار(2)، لكن مع هذا، لم يتجرّأ على اظهار القول بهذه الفرية ـ أي فرية التّحريف ـ؟ هل هذا الادعاء اسرع لانكشاف كذبه أم دعوى النبوة وألوهية الإمام علي عليه السلام...؟؟
أظنّ أنّ الدكتور القفاري في الواقع ـ ويحتمل علمه بذلك ـ أعدّ مسرحية ثرثارة عرضها بصور مختلفة ليُوهم الناس صحّة ادعائه ولينال على هذا الاكتشاف الكبير وهو وجود قصّة السبئية في كتب الشيعة استحسان الجمهور!!
والطريف في الأمر أنّ الدكتور القفاري بعد علمه بفشله في هذا الاكتشاف وعدم الحيلة للخروج من هذا المأزق لجأ إلى اختراع عدّة ادعاءات اُخر، وهي كما سترى فاقدة لأيّ دليل، يقول:
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة.
2 ـ أورد الدكتور القفاري تلك القضية في كتابه: ص 75 ونحن هنا لسنا في مقام البحث حول شخصية عبد الله بن سبأ وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة وجوده أو عدم وجوده أصلاً بل وقد ظهر كتاب نفيس اسمه "عبد الله بن سبأ" من تأليف السيد مرتضى العسكري اثبت فيه بأدلة قويّة مقنعة ان هذا الاسم لا حقيقة له. وقبله الدكتور طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى": ج 2 "علي وبنوه" قال: ـ وهو يتحدث عن وقعة صفين وبعد ذكر الادلّة القويمة على أن عبد الله بن سبأ لم يكن إلاّ وهماً قال: انما هو شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ليدخلوا في اصول هذا المذهب عنصراً يهودياً امعاناً في الكيد لهم والنيل منهم..." ولم يشر الدكتور القفاري إلى كلام طه حسين مطلقاً ولا إلى أدلة السيد مرتضى العسكري بل ظلّت سجيته الشتم واستعمال الألفاظ البذيئة للوصول إلى مراده بدل الاستدلال العلمي المتين. اصول مذهب الشيعة: ص 72.
"فاذن لم تكن هذه القضية من مقالات السبئية بل حدثت فيما بعد، أمّا من هو الذي تولّى كبر وضع هذا الكفر بين الشيعة؟ فإن الاجابة المحددة قد لا تكون ميسرة ولا يجدي في هذا تتبع أسانيد روايات التّحريف لأنّ في أخبارها ماهو عار من السّند كالروايات التي جاءت في كتاب الاحتجاج للطبرسي، ولأنّ مسألة الإسناد عندهم قد وجدت بعض القرائن ـ كما سيأتي ـ التي تدل على انها صنعت متأخرة، كما ان من أساليبهم وضع الأسانيد الصحيحة لمتون مكذوبة فلا يؤدي سلوك هذا المنهج لنتيجة جازمة"(1).
|
إنّ ما قاله الدكتور القفاري: "ان مسألة الاسناد عندهم قد وجدت بعض القرائن كما سيأتي..." إلى آخر كلامه. هذه دعوى ذكرها الدكتور القفاري بدون ذكر أيّ دليل وبدون بيان الموضع الذي وعدنا بذكره في قوله كما سيأتي وهو أيضاً من الاشكالات المنهجية الواضحة في كتاب الدكتور القفاري.
ولكن نقول للدكتور القفاري على وجه المماشاة:
إن كان في روايات التّحريف ما هو عار من السند فهي غير معتبرة وغير صالحة لأن تعتمد أنت وغيرك عليها، ولكنّك حينما يقول الشيعة بعدم اعتبارها تقول: قولهم "تقية"؟! واختلط الحابل بالنابل.
وأما كتاب "الإحتجاج" للطبرسي الذي أشار إليه الدكتور القفاري، فهو من القرن السابع الهجري فقد ذكر مؤلّفه في مقدمة كتابه علة عدم ذكره الإسناد(2).
أخطر آراء السبئية في كتاب سليم بن قيس
هل الكتاب يحمل أخطر آراء السبئية؟
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 226.
2 ـ مقدمة الاحتجاج على أهل اللجاج: ص 4.
"إنّ كتاب سليم بن قيس يحمل أخطر آراء السبئية وهو تأليه علي ووصفه بأوصاف لا يوصف بها إلاّ ربّ العالمين فجاء في بعض روايات الكتاب مخاطبة علي بهذه الالقاب "يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن يا من هو بكل شيء عليم"... وهذه الأوصاف هي من الآثار السبئية التي تؤلّه علياً والتي ورثتها الاثنا عشرية... وهذه أوصاف لرب العالمين قال تعالى: (هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)"(1) |
هذا أيضاً كذب عظيم وأسوأ من الاكاذيب المتقدمة، فانظر أصل الخبر ومصدره:
قال محقق كتاب سليم بن قيس، في مقدمة الكتاب:
"الفائدة الخامسة: فيما أورده العلماء من الأحاديث المروية عن سليم ممّا لا يوجد في كتاب سليم بن قيس، ما رواه الشيخ عبد الوهاب بإسناده عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت أبا ذرّ جندب بن جنادة الغفاري. قال: رأيت محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد قال لأمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة إذا كان غداً اقصد إلى جبال البقيع وقف على نشز من الأرض فإذا بزغت الشمس فسلّم عليها فان الله تعالى قد أمرها أن تجيبك بما فيك فلمّا اطلعت الشمس قرنيها قال عليه السلام: السلام عليك يا خلق الله الجديد المطيع له. فسمعوا دويّاً من السماء وجواب قائل يقول: وعليك السلام يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن يا من هو بكل شيء |
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 224.
عليم، فلما سمع أبو بكر وعمر والمهاجرون والأنصار كلام الشمس صعقوا ثمّ أفاقوا بعد ساعات وقد انصرف أمير المؤمنين عليه السلام عن المكان فوافوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الجماعة وقالوا أنت تقول أنّ علياً بشر مثلنا وقد خاطبته الشَّمس بما خاطب به الباري نفسه فقال النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وما سمعتموه منها؟ فقالوا: سمعناها تقول: السلام عليك يا أوّل. قال: صدقت هو أول من آمن بي، فقالوا: سمعناها تقول: يا آخر قال: صدقت هو آخِرُ الناس عهداً بي يغسّلني ويكفّنني ويُدخلني قبري، فقالوا: سمعناها تقول: يا ظاهر، قال: صدقت ظهر علمي كلُّه له، فقالوا: سمعناها تقول: يا باطن قال: صدقت بَطُنَ سري كلُّه له قالوا: سمعناها: تقول يا من هو بكلّ شيء عليم، قال: صدقت هو العالم بالحلال والحرام والفرائض والسُّنن وما شاكل ذلك فقاموا كلهم..."(1).
|
على هذا، فإنَّ الرواية ليست من كتاب سليم بن قيس، بل من كتاب عيون المعجزات بسند مؤلفه الشيخ حسين عبد الوهاب ـ المعاصر للسيدين الرضىّ والمرتضى "رحمهما الله" في القرن الخامس ـ عن سليم بن قيس عن أبي ذر جُندب بن جنادة. وعلى فرض اعتبار كتاب عيون المعجزات وصحَّة تلك الرواية، فلا علاقة لها بتأليه الإمام علي عليه السلام.
فالدكتور القفاري ـ مع الأسف ـ خِلوٌ من الأمانة العلمية، وقد بلغت خيانته العلمية أوجها حينما اقتطع من الرّوايات ما لو ذكره لبطل استدلاله بها، فتتمة الرّواية تكمل المعنى المقصود منها، ولا يتم بذكر الصدر فقط، فانظر وتعجب!
وعلى هذا لا توجد في كتاب سليم بن قيس روايات تشتمل على طعن في كتاب
____________
1 ـ مقدمة كتاب سليم بن قيس: 38 ـ 39 ط. دار الفنون وعيون المعجزات: ص 14 ـ 15.