الصفحة 329
الله، ولا توجد رواية في تأليه الإمام علي عليه السلام.

الطامة الكبرى!

5 ـ وأخيراً ما ذكره الدكتور القفاري مسمّياً إيّاه بـ "الطامة الكبرى التي تهدد بنيان الاثني عشرية بالسقوط" وهو ما جاء في بعض نسخ "كتاب سليم بن قيس" بأنّ "الأئمة ثلاثة عشر" فنرجىء تفصيل الكلام فيه إلى مبحث "الإمامة" ونكتفي هنا بذكر ملخّص ما قاله محقق "كتاب سليم بن قيس":

1 ـ النصوص التي وردت في "كتاب سليم" نفسه في حصر عدد الأئمة الطاهرين في اثني عشر، واحد وعشرون مورداً(1)، وموارد كثيرة أخرى فيها تلويحات واشارات إلى الموضوع عينه، وعلى هذا لا مجال للتمسك بمورد واحد.

2 ـ ورد في بعض نسخ "كتاب سليم بن قيس" مورد واحد هذا نصه:

"سليم بن قيس بسنده [عن سلمان] عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "... الا وان الله نظر إلى أهل الأرض فاختار منهم رجلين أحدهما أنا... والآخر علي بن أبي طالب... ألا وإن الله نظر نظرة ثانية فاختار بعدنا اثني عشر وصيّاً من أهل بيتي فجعلهم خيار أُمتي واحداً بعد واحد..."(2).

وترتكز المناقشة في رجوع الضمير في "بعدنا" إلى رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وذكر "اثني عشر" بعدهما.

قال: الاجابة على هذه الشبهة بوجوه:

____________

1 ـ فقد أورد محقق الكتاب نص كل مورد على حدة فراجع مقدمة "كتاب سليم بن قيس": ص 173 وما بعدها، وإليك أرقام الأحاديث: 1، 10، 11 (في الرقم 11 جاء في اربعة موارد)، 14، 16، 21، 25 (في الرقم 25 جاء خمسة موارد)، 37، 42 (في الرقم 42 جاء موردان)، 49، 61 (في الرقم 61 جاء موردان)، 67 و77.

2 ـ كتاب سليم بن قيس: ص 245. ط. دار الفنون، وص 857 ط. الهادي، قم، رقم الحديث: 45.


الصفحة 330

"الأوّل: إنه لا اشكال في العبارة بأن تكون فاطمة الزهراء عليها السلام داخلة في الاثني عشر وذلك ان موضوع الحديث من اختارهم الله وليّاً لنفسه عند ابتداء خلقه من بين جميع أهل الأرض والذين جعلهم خيار اُمة الرسول صلّى الله عليه وآله... فانا نعتقد عصمتها وانها صاحبة الولاية الإلهيّة إلاّ انها ليست بامام.

ويؤيد ذلك ما في الحديث 25 من كتاب سليم في تفسير آية التطهير حيث قال صلّى الله عليه وآله: "انما نزلت فيّ وفي أخي عليّ وابنتي فاطمة وابنيَّ الحسن والحسين وفي تسعة أئمة من ولد الحسين ابني خاصة ليس معنا غيرنا"(1).

الثاني: ان "بعدنا" تصحيف "بعدي" على تقدير ان يكون المراد عدد الأئمة وقد وجدنا في بعض النسخ "بعدي" من دون تصحيف، خاصة وان الكلمة مما يقبل التصحيف مطمئنّين إلى وقوع ذلك من الراوي أو الناسخ عند الكتابة أو السماع. ويؤيد ذلك استعمال ضمير المتكلم بعد ذلك في قوله "أهل بيتي" و"امتي" وكذلك يحتمل تصحيف كلمة "احد عشر" إلى "اثني عشر" كما أشار العلاّمة المجلسي إلى ذلك في البحار(2) ويؤيد ذلك انّ هذا الحديث بعينه مذكور في الحديث 14 من الكتاب أيضاً بهذه العبارة: "ان الله نظر نظرة ثالثة فاختار منهم بعدي اثني عشر وصيّاً من أهل بيتي وهم خيار امّتي، منهم احد عشر إماماً بعد أخي واحداً بعد واحد..." وأورد في آخر الحديث ذكر أسمائهم بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "أول الأئمة علىّ خيرهم ثم ابني الحسن...".

الثالث: إذا علمنا باشتهار كتاب سليم بن قيس في التنصيص على الأئمة الاثني

____________

1 ـ كتاب سليم بن قيس: طـ الهادي، ص 761.

2 ـ بحار الأنوار: ج 22، ص 150.


الصفحة 331
عشر عليهم السلام وذكر أسمائهم في كثير من موارده وعلمنا أيضاً ان هذه العبارة المبحوث عنها ليست نصّاً في الثلاثة عشر بل فيه ايهام لذلك يحصل اليقين من جميع ذلك انها من قبيل سوء تعبير الرواة في النقل... يعني ان الراوي لم يُرد إلاّ ذكر التنصيص على الاثني عشر فعبّر بـ "الإثني عشر" وغفل عن كلمة "بعدنا" التي ذكرها قبله ونظائر هذا في الكتب كثيرة(1).

أقول: اضف إلى ذلك ما جاء في الكتب المعتبرة عند أهل السنة من روايات كثيرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بان الأئمة إثنا عشر وفي بعضها كلهم من قريش.

فمن تلك الكتب: صحيح البخاري: ج 2، ص 101 وصحيح مسلم: ج 3، ص 1453 وسنن الترمذي: ج 4، ص 501 وسنن أبي داود: ج 4، ص 472 والبزّاز وغيرهم. وفي "الصواعق المحرقة" أورد ثمانية من هذه الأحاديث، والسيوطي في "تاريخ الخلفاء": ص 11 وقد أورد السيوطي آراء العلماء حول الحديث المذكور.

فإن كان حديث كتاب سليم بن قيس يهدد بنيان الإثنا عشرية، فإنّه يهدد أيضاً بنيان هذه الكتب ومؤلفيها حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة.

____________

1 ـ كتاب سليم بن قيس: ص 180 ـ 182.

وقد تعرّض محقق كتاب سليم في مقدمته لشبهة اُخرى أثارها بعضهم وهي أنه: كيف وعظ محمّد بن أبي بكر أباه وتكلّم معه عند موته مع صغر سنه؟ الأمر الذي ورد ذكره في الحديث بالرقم 37 من كتاب سليم، ثم أدّى في الجواب عنها ما ملخصّه: "ان رواية تكلّم محمّد بن أبي بكر مع أبيه عند موته قد وردت في كتب أهل السنّة أيضاً، فقد أورد الغزالي في اوائل كتابه "سر العالمين": ص 11 وسبط ابن الجوزي في "تذكرة خواص الاُمّة": الباب الرابع: ص 62. ثم قال: إنّ تاريخ ولادة محمّد بن أبي بكر ممّا اختلف فيه أصحاب السير والتواريخ، ففي بعض الرّوايات انه ولد في حجة الوداع، وفي بعضها انه ولد في سنة ثمان من الهجرة وفي بعضها ما يدلُّ على ان ميلاده كان قبل ذلك. ثم أورد دليل كل منها وقال في آخر المطاف: ان سن محمّد بن أبي بكر كان في حد يمكن معه صدور الكلام منه عند موت ابيه." مقدمة كتاب سليم: ص 187 وما بعدها.


الصفحة 332

شيوع هذه المقالة في كتب الشيعة

إن جميع الكتب التي اعتمد عليها الدكتور القفاري في هذا الفصل هي كتب الحديث والتفسير بالمأثور لدى الشيعة، وقد سبق أن ذكرنا وأكدنا مراراً وتكراراً بما لا يقبل الشك بأنّ الكتاب الذي جمع الرّوايات من مصادر شتى شيء، وتمحيص تلك الرّوايات والحكم عليها بالصحّة والفساد شيء آخر، وهذا الأمر لا يخصّ مذهب الشيعة بل يشمل جميع المذاهب الاسلامية، فاننا لا نحكم على طائفة بحكم مّا لمجرّد وجود رواية في كتبهم الروائية، وإلاّ فما الفائدة من وجود علم الرّجال وعلم الدرّاية وفقه الرّوايات وغيرها؟ فهل هو إلاّ للتأكُّد من صحّة وفساد الراوي والرّواة وصحّة مدلول الرواية؟ فكيف يحقّ للدكتور القفاري وأضرابه الحكم على الشيعة بحكم ما وتكفيرهم؟ في حين أنّ الشيعة أنفسهم لا يصحّحونها بل يعتبرونها باطلة الدلالة، وهذا هو الإنصاف، فما يحكم به الدكتور القفاري علينا من خلال كتب حديثنا عليه أن يحكم به على سائر الفرق لوجود نفس تلك الرّوايات قال تعالى: (إنّ الله يأمركم بالعدل...) ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام هو أن الدكتور القفاري ـ تعمّداً أو جهلاً ـ كثيراً ما يخلط بين مدلول الرواية وفقهها، ولذا وقع في أخطاء عديدة أشرنا إلى بعضها وسنشير إلى بعضها الآخر.

كما ينبغي الاشارة إلى أن الدكتور القفاري كثيراً ما يبتعد عن فقه الرواية بل عن الرواية نفسها وينشغل بالألفاظ البذيئة البعيدة كل البعد عن روح البحث العلمي، وإذا ضاقت به السبل وتعذّر عليه الدليل تشبث بفكرة التقية التي في هذا المبحث لا معنى معقول ـ كما ستعرف بعد ذلك ـ ولأن مباحث هذا الفصل تكرّر بعضها، فنحن هنا نوجز مناقشة آراء الدكتور القفاري في هذه المسألة ضمن عدّة نقاط. قال الدكتور القفاري:

"إن البداية لهذه الفرية كانت بكتاب سليم وبدأت القضية بروايتين


الصفحة 333

فقط... ولم يكثر الوضع والكذب حولها... وجاء في القرن الثالث من تلقف هذه الاسطورة وزاد عليها... [وهو] علي بن إبراهيم القمِّي وحشا تفسيره بهذه الاسطورة وصرّح بها في مقدمة تفسيره; ولهذا قال شيخهم الكاشاني: "فإنّ تفسيره مملوء منه وله غلو فيه" وكذلك قال شيخهم الآخر النوري الطبرسي... ومع أنّ الكتاب قد مُلىء بهذه الزندقة فإن كبير علماء الشيعة اليوم "الخوئي" يوثّق روايات القمّي كلّها ـ كما سلف ـ "(1).

ثم أورد الدكتور القفاري عدة روايات من تفسير القمّي وقال:

"تلك على سبيل المثال وغيرها كثير".

قد مرّ عليك سابقاً قول الدكتور القفاري حول كتاب سليم في هذا المقام وأنـّه لا علاقة له بمسألة تحريف القرآن. وأمّا تفسير القمّي واُسطورة تحريف القرآن.

تفسير القمّي واسطورة تحريف القرآن:

إن هذا التفسير منسوب الى القمّي من غير ان يكون من صُنعه، وإنّما هو تلفيق من املاءاته على تلميذه "أبي الفضل العباس بن محمّد العلوي" من سورة الفاتحة والبقرة وشطر قليل من سورة آل عمران (الآية 45) وقسط وافر من تفسير أبي الجارود، ضمّه إليها أبو الفضل وأكمله بما رواه هو عن سائر مشايخه تتميماً للفائدة.

اذن فهذا التفسير بهذا الشكل، هو من صنع أبي الفضل العلوي وإنّما نسبه إلى شيخه القمّي لأنه الأصل من روايات هذا التفسير(2). والشاهد عليه تصريح مؤلف هذا التفسير في بعض الموارد بأنّ ما أورده في تفسيره ليس في رواية علىّ بن إبراهيم

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 226.

2 ـ انظر تفصيل الكلام كتاب "كليات في علم الرجال" للشيخ جعفر السبحاني: ص 309 ـ 320.


الصفحة 334
القمّي(1). فعلى هذا نقول:

أولاً: إن ما قاله الدكتور القفاري بأنّ "علىّ بن إبراهيم صرّح في مقدمة تفسيره بهذه الفرية" خطأ، فان مقدمة التفسير ليست من صنع علىّ بن إبراهيم لأنـّا نجد في آخر المقدمة هذا الكلام: "أقول: تفسير بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني أبو الفضل العبّاس بن محمّد بن القاسم العلوي قال حدثنا أبو الحسن علىّ بن إبراهيم القمّي قال حدّثني أبي رحمه الله عن..."(2).

فمقدمة التفسير ليست لعلي بن إبراهيم رحمه الله كي نتهمه بالتحريف بل ان المقدمة من شخص قد جمع هذا التفسير وهو مجهول. أي الشخص الذي روى عن أبي الفضل العباس بقوله: "حدثني"، فهو غير معلوم شخصه وأوصافه كما أنّ أبا الفضل العباس أيضاً لا يوجد له أثر في الاصول الرّجالية أصلاً.

ثانياً: إذا أردنا أن نأخذ بما قاله سيّدنا الخوئي رحمه الله بتوثيق روايات تفسير القمي، لَزمَنا حينئذ توثيق ما روى القمّي بسنده في تفسيره لا ما روى جامع تفسير علي بن إبراهيم ـ وهو أبو الفضل العباس ـ عن مشايخه، فان شهادة القمّي تكون حجّة في ما يرويه نفسه لا ما يرويه تلميذه عن مشايخه. وما يرويه علي بن إبراهيم عن المعصومين باسناده قليل جداً أي لا يتجاوز "17" رواية.

فذاك خطأ آخر من الدكتور القفاري الذي ينسب وثاقة روايات القمي كلها إلى السيد الخوئي رحمه الله. ولو سلمنا بذلك، فان وثاقة الرواة عند السيد الخوئي لا تساوق قبول متن الرواية واعتبارها عنده مطلقاً(3). هذا وقد أخطأ الدكتور

____________

1 ـ كعبارته هذه: "... فيه زيادة أحرف لم تكن في رواية علىّ بن إبراهيم": ج 2، ص 360.

2 ـ التفسير [المنسوب إلى] القمي: ج 1، ص 5.

3 ـ وهذا معلوم من منهج السيد الخوئي فقد صرح رحمه الله باسقاط روايات التّحريف وقال في جملة ما قال: "ان حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال لا يقول به إلا من ضعف عقله..." البيان: ص 259 فهذا منه رحمه الله يعني عدم كفاية وثاقة الرواة في قبول مضمون الرّوايات وهذه قاعدة علمية لدى كل محقق، فَوثاقة الراوي لا توجب قبول متن روايته بدون الدرّاية والفحص عن معارضها والتطبيق مع الموازين القطعية وغيره... وهذا معلوم بأدنى تأمل.


الصفحة 335
القفاري أيضاً حيث يقول: "هذا التفسير يحظى بتقدير الشيعة كلّها"(1).

ثالثاً: ما أورده الدكتور القفاري على سبيل المثال(2) من تفسير [منسوب الى ]القمي لتأييد اتهاماته، ينقسم إلى أربعة اقسام:

القسم الأوّل: ما جاء في التفسير بدون إسناد، فبعضه من آراء كاتبه ـ وهو شخص غير معلوم كما سبق ـ كقوله: قال الله (فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فانزلنا على الذين ظلموا ـ آل محمّد حقّهم ـ رجزاً من السّماء بما كانوا يفسقون)(3).

وبعضه عن علي بن إبراهيم كما في قوله تعالى: (...وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس والشجرة الملعونة في القرآن) قال ـ أي علي بن إبراهيم ـ نزلت لمّا رأى النبىّ في نومه كأنّ قروداً تصعد منبره فساءه ذلك وغمّه غمّاً شديداً فأنزل الله: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس ـ ليعمهوا فيها ـ والشجرة الملعونة في القرآن" قال: كذا نزلت وهم ـ أي الشجرة الملعونة ـ بنو امية(4).

وقد قال الدكتور القفاري عن ابن تيمية ما لفظه:

"جاء تأويلها ـ أي تأويل الشجرة الملعونة ـ عند الاثني عشرية بانها بنو أمية في أكثر من اثنتي عشرة رواية... وهذا من التأويلات

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 269.

2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 226، وقد ذكر الدكتور القفاري في الحاشية أرقام تلك الرّوايات.

3 ـ تفسير [المنسوب إلى] علي بن إبراهيم: ج 1، ص 48; والآية 59 من سورة البقرة (2).

4 ـ نفس المصدر: والآية التي أوردها 60 من سورة الاسراء (17).


الصفحة 336

المنحرفة التي ورثتها طائفة الاثني عشرية"(1).

وإذا كانت تلك التأويلات وردت في بعض مصادر الشيعة بدون أسانيد(2) فإنّها في كتب أهل السنة وردت بأسانيدها(3).

ولابدّ أن يكون أهل السنة ـ بناءً على زعم الدكتور القفاري وابن تيمية ـ قد ورثوا تلك التأويلات المنحرفة أيضاً، بل قد ورثتها عائشة التي قالت لمروان: "سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأبيك وجدّك: إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن"(4).

القسم الثاني: ما جاءت في التفسير وهي مرسلة، كالرواية التي رويت عن العالم عليه السلام في ذيل الآية (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) وقال العالم عليه السلام: نزل: "وآل عمران وآل محمّد على العالمين" فاسقطوا آل محمّد من الكتاب(5).

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 155.

2 ـ تفسير العياشي: ج 2، ص 298.

3 ـ انظر: شواهد التنزيل: ج 2، ص 457 والدرّ المنثور: ج 5، ص 308 و309 و310 والجامع لاحكام القرآن (تفسير القرطبي): ج 10، ص 283 و286 وروح المعاني: ج 9، ص 155 وتاريخ مدينة دمشق: ج 57، ص 340 ـ 342 وتاريخ ابن الاثير: ج 3، ص 407.

والعجب من ابن جرير الطبري، فانه بدل كلمة "بني امية" في رواية سهل بن سعد ـ بقوله ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يرى بني اميّة ينزون على منبره (تفسير القرطبي: ج 10، ص 283 وروح المعاني: ج 9، ص 155)ـ بـ "بني فلان"!! (جامع البيان: ج 15، ص 77) واعجب منه توجيه الآلوسي الضعيف لتلك الرّوايات للدفاع عن بني امية، لكن العلامة الطباطبائي ردّ كل تلك الدفاعات الهزيلة بجواب متين واستدلالي. انظر: تفسير الميزان: ج 12، ص 63 ـ 64. ولمزيد من التفصيل حول تلك المسألة عليك بمراجعة الغدير للشيخ العلامة الاميني: ج 8، ص 49 وما بعدها.

4 ـ الدرّ المنثور: ج 5، ص 310 وروح المعاني: ج 9، ص 155 وبهذا المعنى كذلك في تفسير القرطبي: ج 10، ص 281.

5 ـ تفسير [منسوب إلى] علي بن إبراهيم: ج 1، ص 100 والآية 31 من سورة آل عمران (3).


الصفحة 337
وهذه الرواية مضطربة المتن، وقد جاءت بعدّة طرق في كتب أهل السنة وسيأتي تحقيقها ان شاء الله في بحث "الطبرسي وانكاره لهذه الفرية".

ومنها ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام مرسلة أيضاً في قوله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) قال أبو عبد الله عليه السلام: "ما كانوا أذلة وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنّما نزل "لقد نصركم الله ببدر وأنتم ضعفاء"(1).

فعلى فرض صحّة الرواية، يحتمل انّه عليه السلام يفسّر أنتم أذلّة، بأنتم ضعفاء في هذا المكان للعلّة التي ذكرها عليه السلام.

القسم الثالث: الرّوايات التي لا تمتُّ إلى مسألة التّحريف بصلة على الإطلاق بل من باب المخالفة في التأليف.

فمنها: ما أورد في شأن نزول الآية: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه...) قال: "بأنها نزلت في حنظلة بن أبي عامر واستئذانه رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثم عقّب بقوله: فهذه الآية في سورة النور وأخبار اُحد في سورة آل عمران فهذا دليل على ان "التأليف" على خلاف ما انزله الله"(2). وقد قلنا فيما سبق ان التأليف غير التّحريف كما هو واضح.

ومنها ما أورده أيضاً في شأن نزول الآية: (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) وقال: "فهذه الآية في سورة النّحل وكان يجب ان تكون في هذه السورة التي فيها أخبار اُحُد (وهي سورة آل عمران)"(3).

القسم الرابع: روايات مسندة في ظاهرها:

____________

1 ـ تفسير [منسوب إلى] علي بن إبراهيم: ج 1، ص 122 والآية 123 من سورة آل عمران.

2 ـ المصدر السابق: ج 1، ص 118.

3 ـ المصدر السابق: ج 1، ص 123.


الصفحة 338
فمنها: ماروي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن سنان قال: "قرأت عند أبي عبد الله عليه السلام (كنتم خير أُمّة اخرجت للناس) فقال أبو عبد الله عليه السلام (خير أمّة) يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام؟ فقال القاري جعلت فداك كيف نزلت؟ قال: نزلت "كنتم خير أئمة اُخرجت للناس" ألا ترى مدح الله لهم (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)(1).

ومنها: ما روي أيضاً بسند علي بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه السلام; قال: "(ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ـ يا علي ـ فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً) هكذا نزلت"(2).

ومنها: ما روي أيضاً بسند علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام; قال: "انما انزلت (لكن الله يشهد بما أنزل إليك ـ في علي ـ أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً)(3).

ومنها: ما روي أيضاً بسند علي بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه السلام قال: "نزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذه الآية هكذا: (وقال الظالمون ـ لآل محمّد حقّهم ـ إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً * انظر كيف ضربوا لك الأمثال...)(4).

صحيح أنّ تلك الرّوايات مسندة في الظاهر، ولكنها ـ كما ذكرنا سابقاً ـ تعتبر مقطوعة الاسناد; لأنَّ الراوي عن علي بن إبراهيم في هذا التفسير مجهول، وأمّا من جهة المتن فإنه يوجد بعض مضامينه في كتب أهل السنّة(5) أيضاً، ولكن عند التنبّه

____________

1 ـ تفسير [منسوب إلى] علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 110 والآية 110 من سورة آل عمران (3).

2 ـ المصدر نفسه: ج 1، ص 142 والآية 64 من سورة النساء (4).

3 ـ المصدر السابق: ج 1، ص 159 والآية 166 من سورة النساء (4).

4 ـ المصدر الاسبق: ج 2، ص 111 والآيتان 8 ـ 9 من سورة الفرقان (25).

5 ـ انظر: شواهد التنزيل: ج 1، ص 152 و153.


الصفحة 339
إلى التعابير الواردة فيها كـ "نزلت هكذا" والقرائن الاُخرى، حمل على المعنى التفسيري والتأويلي أو بيان شأن نزول أو مصداق أتم و... ـ كما فصّلنا ذلك في المقام الأوّل ـ وإذا لم نستطع حمل تلك الرّوايات على المعاني المتقدمة فانّا نحكم بسقوطها أيضاً لمعارضتها الأدلة القطعية على صيانة القرآن عن التّحريف.

وعلى كلّ حال فإنّا أوردنا نصوص تلك الرّوايات التي أوردها الدكتور القفاري كنموذج للتحريف من تفسير علي بن إبراهيم، أوردناها بكاملها لتكون مقدّمة لفهم كلام المحدّث الكاشاني الذي يقول:

"فإنّ تفسيره ـ [منسوب إلى] علي بن إبراهيم ـ مملوء منه وله غلوٌّ فيه"(1).

والدكتور القفاري حين أورد هذا القول بوصفه شاهداً على كلامه(2); قد غفل تماماً عن أنّ مراد المحدث الكاشاني منه هو أن تفسير علي بن إبراهيم مليء بروايات التّحريف بمعناه الأعم (يعني الشامل لكلّ أنواع التغيير كالاختلاف في القراءة أو الاختلاف في التأليف وغيره) واشتمل هذا المعنى الأعم ـ على الأقل ـ على أربعة أقسام من الرّوايات التي أوردناها، ويؤيد ما نذهب إليه من كلام المحدّث الكاشاني رحمه الله نصّ كلامه حيث قال:

"... إن بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان ولم يكن من أجزاء القرآن فيكون التبديل من حيث المعنى... فمعنى "كذا انزلت" ان المراد به التفسير والبيان لا انها نزلت مع هذه الزيادة في لفظها فحذف منها ذلك اللفظ، ومما يدل على هذا..."(3).

____________

1 ـ تفسير الصافي: ج 1، ص 47.

2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 226.

3 ـ تفسير الصافي: ج 1، ص 46 والوافي: ج 7، ص 1778.


الصفحة 340
وكذلك المحدّث النوري القائل:

"وقوع التغيير والنقصان في القرآن وهو مذهب الشيخ الجليل علي بن إبراهيم القمي وملأ كتابه من أخباره..."(1).

كان مراده أعمّ من كل نوع من انواع التغيير والنقصان والتغيير في التأليف والقراءة و...، ومعلوم أنّ التغيير والنقصان في تلك المعاني أعمّ من التّحريف بمعنى النقصان في نصوص آيات الوحي القرآني الذي هو محلّ البحث والنزاع.

وشاهد كلامنا ان ما أورده المحدث النوري من روايات تفسير القمي كلها تندرج ضمن المعاني المتقدمة اجمع ولا تختص بالتحريف بمعنى النقصان في نصوص آيات الوحي(2).

ثمّ قال الدكتور القفاري:

"ومن بعد القمّي جاء تلميذه الكليني (ت 328) الملقّب عند الشيعة بـ "ثقة الإسلام"... فقد روى الكليني في الكافي من أخبار هذه الاسطورة الشيء الكثير مع أنـّه التزم الصحّة فيما يرويه ولهذا قرر الكاتبون عنه من الشيعة: "انه كان يعتقد التّحريف والنقصان في القرآن، لانه روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي ولم يتعرض لقدح فيها مع إنه ذكر في أول كتابه انه يثق بما رواه"... ولكن يلاحظ ان ابن بابويه القمي حكم بوضع ما روي في تحريف القرآن مع وجودها في الكافي الذي يصفونه بهذا الوصف.

وقد رجعت إلى مرآة العقول للمجلسي فرأيته يحكم على بعض

____________

1 ـ فصل الخطاب: ص 25.

2 ـ وقد اعترف الدكتور القفاري نفسه بانّ الرّوايات التي أوردها المحدث النوري شاملة للقراءات الواردة، وتفسير الآيات أيضاً. انظر: اصول مذهب الشيعة: ص 214.


الصفحة 341

أحاديث الكافي بالضعف ولكنه حكم على روايات في التّحريف بالصحّة وكذلك الشافي في شرح اصول الكافي"(1).

فنقول: لو دققنا النظر في قول الدكتور القفاري لتبادرت إلى أذهاننا الأسئلة الآتية:

1 ـ هل الكليني يعتقد بالتحريف والنقصان في القرآن؟

2 ـ هل يوجد تهافت بين رأي ابن بابويه (الشيخ الصدوق) وروايات الكافي؟

3 ـ هل إنّ العلامة المجلسي وكذا صاحب كتاب "الشافي" حكما على روايات التّحريف بـ "الصحّة"؟

وإليك الجواب.

موقف الكليني من روايات التّحريف

هل إنّ الكليني رحمه الله قائل بالتحريف ـ بالمعنى المتنازع فيه ـ أو لا؟

إننا لو فتّشنا الكافي من أوّله إلى آخره لم نعثر على قول صريح للشيخ الكليني بتحريف القرآن، ومن قال ـ وهو المحدّث النوري ـ بإنّ الكليني يقول في كتابه بتحريف القرآن الكريم ينحصر دليله في طريقين لا ثالث لهما:

أ ـ إنّه روى روايات في معنى التّحريف في كتابه الكافي ولم يتعرض لقدح فيها، مع التزامه بأنه يثق بما رواه كما قاله المحدّث الكاشاني(2) وأوردها الدكتور القفاري هنا تأييداً لرأيه.

ب ـ استظهار هذا المعنى من عناوين أبواب الكافي فمنها: باب "انه لم يجمع القرآن كله إلاّ الأئمة عليهم السلام" كما استظهر المحدث النوري ذلك تبعاً لشارح

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 227 ـ 228.

2 ـ تفسير الصافي: ج 1، ص 47.


الصفحة 342
كتاب الوافية(1).

لكن نقول: هذه الاستفادة غير تامّة.

أولاً: انه مرّ عليك مكرراً بما لا مزيد عليه بأنّ ذكر الراوي لرواية في كتابه لا يعني أنه يقول بها، فكثير من الرواة يروون روايات معتبرة، ولكن لا من حيث الدلالة بل من حيث السند، واعتبار سند الرواية لا يعني اعتبار متنها مطلقاً، وخصوصاً إذا كان متن هذه الرّوايات متعارضاً مع روايات اُخرى اقوى منها سنداً ومتناً، وإلاّ لصار أصحاب الصحاح الستّة وكتب التفسير بالمأثور من أهل السنة والذين ختموا على كتبهم بخاتم الصحّة صاروا جميعهم متهمين بالقول بالتحريف وهذا تكرر كثيراً.

ثانياً: على فرض ان هذه المجموعة من روايات الكافي وردت في التّحريف بالمعنى المتنازع فيه فإنها معارضة بروايات اُخرى في كتاب الكافي نفسه وهي أكثر عدداً وأقوى متناً ووردت تحت عناوين أكثر وضوحاً حول القرآن من تلك(2).

وهناك قاعدة قطعية أخذها الكليني من الأئمة الطاهرين وجعلها في بداية كتابه وهي اننا حينما تتعارض الرّوايات ولا يوجد لها محمل صحيح يمكن حمل الرواية عليه أي ان التعارض من نوع التعارض المستقر، فهنا نعرض الروايتين على القرآن الكريم، فما وافق القرآن اُخذ به وما خالفه ضرب عرض الجدار وسقط عن الحجية، قال ثقة الإسلام الكليني:

"فاعلم يا أخي ـ أرشدك الله ـ إنّه لا يسع أحداً تمييز شيء ممّا اختلف

____________

1 ـ فصل الخطاب: ص 25.

2 ـ مثل باب فضل حامل القرآن، باب من يتعلّم القرآن بمشقة، باب من حفظ القرآن ثم نسيه، باب ثواب قراءة القرآن، باب قراءة القرآن في المصحف، باب البيوت التي يقرأ فيها القرآن و... انظر: الكافي: كتاب فضل القرآن، ج 2، ص 596 وما بعدها.


الصفحة 343

الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلاّ على ما أطلقه العالم عليه السلام [أي الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام ]بقوله: اعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه..."(1).

والكليني رحمه الله وان لم يكن دأبه من كتابه الردّ والقدح في الرّوايات، بل كان قصده ذكر الرّوايات المعتبرة فقط وهو ملتزم قطعاً وبشكل لا يقبل الشكّ بقاعدة عرض الرّوايات المتعارضة على القرآن وعلى هذا تكون روايات التّحريف ساقطة عنده عن الحجّية.

ونقصد بما ذكرنا أنّ كلام المحدّث الكاشاني الذي يقول في المرحوم الكليني: "إنّه كان يعتقد التّحريف والنقصان لأنّه روى روايات في هذا المعنى"... غير تام إن كان مراده من لفظة "التّحريف والنقصان" المعنى المتنازع فيه ـ يعني إسقاط آيات القرآن ـ وإلاّ فانّ الكاشاني في تتمة كلامه المتقدّم قال:

"إنّ بعض المحذوفات ـ التي سقطت من القرآن ـ كان من قبيل التفسير والبيان ولم يكن من أجزاء القرآن فيكون التبديل من حيث المعنى أي حرَّفوه وغيروه في تفسيره وتأويله أعني حملوه على خلاف ما هو به.

ومما يدل على هذا مارواه في الكافي باسناد صحيح عن أبي جعفر عليه السلام، أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير: "وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية..." الحديث.

____________

1 ـ الكافي: ج 1، ص 8.


الصفحة 344

وما رواه العامة من أنّ علّياً عليه السلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ. ومعلوم ان الحكم بالنسخ لا يكون إلاّ من قبيل التفسير والبيان ولا يكون جزءاً من القرآن..."(1).

وهذا يدلّنا على ان مراد المحدث الكاشاني من لفظة التّحريف والنقصان في عبارته المتقدمة غير المعنى المتنازع فيه.

ومن هذا المنطلق، فإنّ أحداً من كبار علماء الشيعة كالشيخ الصدوق رحمه الله والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي رحمة الله عليهم أجمعين وقد كان لديهم كتاب الكافي(2) ووقع نظرهم على عناوين أبوابه لكنهم لم يستنتجوا من هذه الرّوايات والأبواب تحريف القرآن في رأي الكليني، بل إنّك تراهم أوّلوا ما ورد في التّحريف بأنه إمّا "حديث قدسي" أو "تأويل الآيات" أو "القراءة الواردة" كما ذكرنا نصوص عباراتهم فيما تقدم.

ب ـ استظهار معنى التّحريف من عناوين أبواب الكافي:

لو أننا تمكنّا من استظهار عناوين أبواب الكافي لأمكن القول بأنّ المرحوم الكليني معدود في القائلين بالتحريف(3) ولكن قبل البحث في عناوين الكافي يتحتم علينا الجلوس مع القدامى من العلماء لنسألهم عن معنى التّحريف والتنزيل و... ما هو؟ فانهم سيقولون لنا: إنّ "التّحريف" يقصد به الأعم من التغيير في المعنى

____________

1 ـ تفسير الصافي: ج 1، ص 67.

2 ـ جميع هؤلاء العلماء الكبار رأوا كتاب "الكافي" كالصدوق رحمه الله حيث ذكره في "من لا يحضره الفقيه": ج 4، ص 51. وأيضاً ج 4، ص 165 ذيل الحديث: 578 من الباب 115. والسيد المرتضى علم الهدى حينما سئل عنه: "حول الحديث المروي في الكافي في قدرة الله تعالى" فاجابه (قدس سره) راجع: رسائل الشريف المرتضى: المجموعة الاولى، ص 409. والشيخ الطوسي رحمه الله راجع: الفهرست للشيخ الطوسي: ص 161.

3 ـ لان الظاهر من طريقته انه انما يعقد الباب لما يرتضيه وهو مذهب القدماء غالباً.


الصفحة 345
واللفظ، و"التنزيل" أيضاً بمعنى مطلق ما نزل من الوحي من آيات القرآن أو تفسيره وبيانه(1) ـ ومع تلك الحال فلو فتشنا الكافي من أوله إلى آخره، لما وجدنا باباً تحت عنوان "تحريف القرآن" أو شيئاً من هذا القبيل، والذين أرادوا الايقاع بالكليني رحمه الله واتهامه بفرية التّحريف لم يجدوا إلاّ عنواناً واحداً ليتشبثوا به في دعواهم وهو باب "لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمة عليهم السلام وإنّهم يعلمون علمه كلَّه"(2) ولكن هذا العنوان لا يدلُّ على التّحريف بالمعنى المتنازع فيه وشاهد ذلك وجود (6) روايات في ذيل ذلك العنوان.

ورد في هذه الرّوايات أنّ جميع القرآن ظاهره وباطنه عند الأئمة الطاهرين عليهم السلام، فالروايتان الأوليان مجملتان والأربعة الباقيات في مقام شرح وتفصيل الأوليين(3)، وقد يعطي نفس عنوان الباب، الاجمال والتفصيل(4)، وفي المجموع فإنّ هذه الأحاديث تثبت أنّ القرآن الكريم من جهة تنزيله وتأويله وعلوم ظاهره وباطنه عند الأئمة الطاهرين(5)، ولا غرو في ذلك فإنّهم أحد الثقلين اللّذين أوصى بهما النبىّ صلّى الله عليه وآله، وهما إمامان لا يختلفان وأخوان لا يتخاذلان ومجتمعان لا يفترقان.

____________

1 ـ قد بحثنا هذه النكتة في المقام الأول.

2 ـ وهو المحدث النوري في فصل الخطاب: ص 25 وعنوان الباب من الكافي، كتاب الحجة: ج 1، ص 228.

3 ـ انظر الرواية الثالثة حيث قال: "... ان من علم ما اُوتينا تفسير القرآن واحكامه" والرّوايات الرابعة والخامسة والسادسة حيث فسّر فيها "من عنده علم الكتاب" بالائمة عليهم السلام. الكافي: ج 1، ص 229.

4 ـ وهو قوله: "لم يجمع القرآن كله... وانهم يعلمون علمه كله".

5 ـ وهو ما افادهُ العلامة الطباطبائي في حاشية الكافي: ج 1، ص 228.


الصفحة 346

التهافت بين حكم الشيخ الصدوق وروايات الكافي:

هل يوجد تهافت بين رأي ابن بابويه (الشيخ الصدوق ت 386) وروايات كتاب "الكافي"؟

إنّ القفاري في كلّ موضع يحاول وبألفاظ رنّانة طنّانة أن يثبت وجود تعارض بين رأي الصدوق وأحاديث الكافي واستنتج من هذا التباين المزعوم نتائج غريبة سيأتي بعضها، قال الدكتور القفاري:

"فقد روى الكليني في الكافي: "إنّ القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، سبعة عشر ألف آية"... وهذا يقتضي سقوط ما يقارب ثلثي القرآن فما أعظم هذا الافتراء!

وقال ابن بابويه: "... إنّه قد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبع عشرة ألف آية وذلك مثل قول جبرائيل... عش ما شئت فإنّك ميت..." فانظر إلى هذا الاختلاف والتباين بين نصّ الكليني ونصّ ابن بابويه... ان ابن بابويه يقول: ان النقص في غير القرآن والكليني يصرح بأن النقص في القرآن"(1).

أنا في الواقع لا أدري لماذا يتجاهل الدكتور القفاري نفسه، وما هو غرضه في الحقيقة؟ فقد قطّع فيما مضى كلام الشيخ المفيد وحرّفه ليحصل له ما يريد، ثمّ بدأ يقارن ويوازن بين قولي الصدوق والكافي، وظلّ يعزف على هذا الوتر ولا أدري ماذا سيحصل له بعد ذلك، هل أنّ الدكتور القفاري حقاً لا يفرق بين الكتاب الحديثي الذي غرض مؤلفه وصاحبه جمع الأحاديث من المصادر المعتبرة (كالكافي) وهو يهتمّ بأن يودع في كتابه من الأحاديث ما هو معتبر السند، ويكون

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 246 ـ 247.


الصفحة 347
أميناً في نقله ومتثبتاً فيما يرويه ـ والكتاب الذي أُلـّف لبيان الاعتقادات و"دراية الحديث" (كرسالة الاعتقاد للشيخ الصدوق رحمه الله) الذي يهتم بتحصيل العقائد ويعطي رأيه في فقه الرّوايات مع الدرّاسة والتّأني وحل المتعارضات والأجوبة للمناقشات وغير ذلك فلا يجد الدكتور القفاري فرقاً بين هذين النوعين من الكتب؟

وإذا كان في كتب الشيعة تباين وتناقض بين كتب الحديث وكتب دراية الحديث، فهذا الاختلاف والتناقض أيضاً موجود في كتب أهل السنة.

فعلى سبيل المثال انظر إلى التباين والاختلاف بين ما روى مالك في الموطأ(1)ومسلم(2) في صحيحه وغيرهما من قول عائشة: "كانت فيما اُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن..." وهذا صريح بحصول النقص في القرآن لأنـّها قالت: كانت فيما اُنزل من القرآن، وقد اجتهد لحلّ تلك المعضلة بعض العلماء كالحافظ العاصمي (المولود سنة 378) وابن قتيبة وغيرهما، قال العاصمي:

"إنّه ـ أي عشر رضعات معلومات ـ من جنس ما كان ينزل عليه على جهة التبليغ والرسالة لا على جهة أنـّه قرآن يتلى أو يكتب ومن نحو هذا ما روي عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنـّه قال حكاية عن ربِّه عزّ وجلّ أنـّه قال: كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فانه لي وأنا أجزي به. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: أنا عند ظن عبدي بي فليظنّ بي ما شاء وما نحوها أخبار كثير"(3).

____________

1 - الموطأ: كتاب الرضاع: ص 608، الحديث: 17.

2 ـ صحيح مسلم: ج 4، ص 167.

3 ـ المباني لنظم المعاني المخطوط: الورقة 62، 63، 64، ومقدمتان في علوم القرآن: ص 85 ـ 86، عن المباني، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: ص 292 فقد أوردنا نص كلامه في المقام الأوّل وقد عزا ابن حزم أيضاً هذا القول في آية الرجم والرضاع إلى قوم: عن فتح المنان في نسخ القرآن: 226 ـ 227.


الصفحة 348
وهذا تصريح بأنّ النقص في غير القرآن وذاك ـ أي قول مالك في موطأه ومسلم في صحيحه ـ تصريح بأنّ النقص في القرآن!! ومثل هذا التباين والاختلاف كثير جداً(1).

وعلى كلّ حال يبدو أنّ الدكتور القفاري يرى التفاوت بينهما ولكنّه يتجاهل هذه المسألة، بل يلجأ إلى الكذب ويقول: "انّ ابن بابويه القمّي حكم بوضع ما روي في تحريف القرآن مع وجودها في الكافي الذي هو عند شيوخ الرافضة في أعلى درجات الصحّة"(2).

والحال إنّ ابن بابويه لم يقل قط، أولا: إنّ تلك الرواية من الكافي وثانياً: إنّها موضوعة، بل لم يتعرض لصحّة سندها أو سقمه، فابن بابويه عالج متن الرواية فقط وقال: "إنّه قد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن..."(3).

موقف المجلسي من روايات التّحريف:

هل إنّ العلامة المجلسي رحمه الله وصاحب كتاب "الشافي" قد حكما بصحّة روايات تحريف كتاب "الكافي"؟ هذا بعض ما ادّعاه الدكتور القفاري قائلاً:

"وقد رجعت إلى مرآة العقول للمجلسي فرأيته يحكم على بعض أحاديث الكافي بالضعف ولكنّه حكم على روايات في التّحريف بالصحَّة وكذلك الشافي في شرح اُصول الكافي"(4).

هذا كتاب "مرآة العقول" للمجلسي رحمه الله، فعمدة ما في الباب على ما صرّح به الدكتور القفاري الرّوايات التي توجد في باب "فيه نكت ونتف من التنزيل في

____________

1 ـ انظر: المقام الأوّل، فصل: أجوبة أهل السنة لروايات التّحريف.

2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 227 ـ 228.

3 ـ الاعتقادات: ص 85.

4 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 228 و353.