الصفحة 495

أيّها الدكتور: هل إن أحمد بن حنبل والحافظ أحمد الطبراني والحافظ سعيد بن منصور(1) والحافظ شيرويه الديلمي جاءوا بالالحاد في كتبهم؟؟

بالرغم من أنّ هذه الرواية إذا كانت بصورة "حرّفوني ـ بالفاء ـ" ـ وهي الأصحّ ظاهراً(2) ـ فلا تتأتّى أيّة مشكلة أيضاً.

نحن في المقام الأوّل بحثنا في الرّوايات التي وردت في متنها لفظة "تحريف" واتّضح آنذاك أن المراد من التّحريف هناك هو التّحريف المعنوي المساوق للتفسير بالرأي لا اللفظي. ولكن طائفة كبيرة من الباحثين تشبّثوا بلفظة "تحريف" ليثبتوا مقصودهم ـ وهو إنّ الشيعة تقول بتحريف القرآن ـ بغض النظر عن الشواهد والقرائن الداخلية والخارجية لهذه الرّوايات، وعدّوا هذه الرّوايات من باب التّحريف بالزيادة أو النقيصة في ألفاظ الآيات القرآنية، ويحتمل كثيراً أنـّهم يفهمون المقصود من هذه الرّوايات إلاّ أنهم أغمضوا أعينهم وتجاهلوا هذا الأمر لحاجة في نفوسهم.

وإن مجيء القرآن يوم القيامة وشكايته إلى الله قائلاً: "ياربّ حرفوني [أو حرقوني] ومزقوني" ـ هذه الشكاية الموجودة في كتب الفريقين ـ وهي شكوى النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم القيامة إذ يقول: (يا رب إنّ قومي اتخذوا هذا

____________

1 ـ انظر ترجمته في مقدمة كتابه "سنن سعيد بن منصور" لحبيب الرحمن الاعظمي وأيضاً: تهذيب الكمال: ج 11، ص 77 الرقم، 2361.

2 ـ في حديث حذيفة بن يمان ـ وقيل في سنده انقطاع ـ قيل له حدِّثنا يا أبا عبد الله، قال: "لو حدّثتكم أنّكم تحرّفون كتاب ربّكم، صدقتموني أنّ ذلكم كذلكم" (ذم الكلام وأهله: ج 2، ص 23).


الصفحة 496
القرآن مهجوراً)(1). كلّ ذلك بمعنى هجر القرآن وتركه جانباً ومخالفة أوامره ونواهيه وتحريف معاني آياته وحملها على غير ما أراد الله، وهذا النوع من التّحريف موجود منذ صدر الإسلام وإلى الآن وسيظل بعد هذا كما في حديث ابن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان يكون عامتهم يقرؤون القرآن... يأكلون الدنيا بالدين هم أتباع الدجال الأعور. قلت: يا رسول الله كيف ذلك وعندهم القرآن؟ قال: يحرفون تفسير القرآن على ما يريدون كما فعلت اليهود والنصارى..."(2).

ويدلّ على هذا أيضاً روايات كثيرة وردت عن النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كروايات "الحوض":

ففي صحيح البخاري بسنده عن عبد الله بن عباس:

قال النبىّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: "أنا فرطكم على الحوض... فأقول: يا ربِّ أصحابي فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك"(3).

وفي رواية أخرى عن أبي هريرة عن النبىّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم مثله باضافة:

"... إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى"(4).

____________

1 ـ سورة الفرقان (25): الآية 30.

2 ـ ذم الكلام وأهله: ج 1، ص 79، الرقم 66، وأورده الديلمي في مسند الفردوس: ج 5، ص 443 مختصراً.

3 ـ صحيح البخاري، كتاب الدعوات: ج 8، ص 149 باب الحوض، وبمعناه عن حذيفة وانس وسهل بن سعد و...

4 ـ المصدر السابق: ص 150.


الصفحة 497
وهذا المضمون ورد بطرق كثيرة جداً(1) واعترف ابن حجر بأنّها متواترة(2).

أليس ارتداد بعض الصحابة، والأحداث السيئة التي حصلت بعد النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ التّحريف المعنوي في القرآن والانفصال عن أحكام الوحي وليست شيئاً آخر؟

ثمَّ انظر بعد هذا كله ما قاله الدكتور القفاري:

"إنّ الزيادة أمر ميسور عندهم كما بدا لنا ذلك في كتاب "سليم بن قيس" والذي اعترف بوضعه والتغيير فيه شيوخهم ـ كما سلف ـ وكما زادوا في روايات كتاب: "من لا يحضره الفقيه" لابن بابويه نفسه اكثر من الضعف كما سيأتي في فصل: "اعتقادهم في السنة"(3).

وقد بحثنا مسألة وضع كتاب "سليم بن قيس" الذي كررها الدكتور القفاري مراراً، ولاحظت ـ مع الأسف ـ أنّ الدكتور القفاري حينما نقل عبارة "العلاّمة الشعراني" حول كتاب سليم قطّعها وحذف منها ما طاب له(4)، وأدهى منه قوله هنا، بأنهم ـ أي الشيعة ـ زادوا أكثر من الضعف في روايات كتاب "من لا يحضره الفقيه"، وأحال الكلام في ذلك إلى فصل "اعتقادهم في السنّة" إلاّ أنـّه في ذلك الفصل لم يورد أي شيء عن هذا الموضوع، فيتعجب الإنسان ممّن يدّعي إحياء سنّة السلف!!

____________

1 ـ انظر: صحيح مسلم: ج 7، ص 66 و67 و68 و70، السنن للترمذي: ج 5، ص 329 والسنن للنسائي: ج 1، ص 94 وج 2، ص 95 ومستدرك الحاكم: ج 1، ص 93 وج 3، ص 124 والسنن الكبرى: ج 1، ص 83 وج 4، ص 79 ومجمع الزوائد: ج 1، ص 17 وج 3، ص 183 وج 4، ص 279 وج 9، ص 165 وغيرها من المصادر.

2 ـ فتح الباري: ج 11، ص 474.

3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 289.

4 ـ انظر: المقام الثاني، مبحث "بداية الإفتراء كما يؤخذ من كتب الشيعة".


الصفحة 498
وحاصل القول: إنّ "ابن بابويه" هو ممّن يقولون بصيانة القرآن عن التّحريف، وليس هناك محل للشك والشبهة فيه، وإذا كان "المحدّث الجزائري" قد ذكر بعنوان الاحتمال أنّ القول بعدم التّحريف تقية من علماء الشيعة فهذا توهّم منه ناشئ من مشربه الأخباري ليس إلاّ، كما بينّا لك سابقاً.

الطوسي وانكاره للتحريف:

بعد أن أورد الدكتور القفاري نصّ كلام الشيخ الطوسي وهو واضح بشكل لا يقبل الشك، وقف حائراً لا يدري ماذا يقول أمام المنطق الاستدلالي القوي والمتين للشيخ في مسألة صيانة القرآن من التّحريف، ولذا نراه بعد نقله قول الشيخ يسأل نفسه:

"هذا كلام شيخهم الطوسي صاحب كتابين من كتبهم المعتمدة في الحديث عندهم وكتابين من كتبهم المعتمدة في الرجال فهل هذا الإنكار تقيّة...؟"(1).

ثم يخرج بالبحث عن موضوعه الأصلي ويتكلم عن امارات التقية دون إقامة دليل عليها أو إمكان تطبيقها على رأي الشيخ الطوسي، ثمّ لم يلتفت إلى أنّ لازم كلامه هو أمر لا يقبله هو ولا من سار على خطّه لأنه قال:

"إنّ التقية من اماراتها التناقض والاختلاف في الرّوايات والآراء، وقضية الاختلاف هي ظاهرة لكل دين ليس من شرع الله (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)"(2).

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 290.

2 ـ المصدر السابق. ان معيار الدكتور القفاري فاسد من أساسه إلاّ ان استدلاله بهذه الآية (ولو كان من عند غير الله...) خطأ آخر، لأنّ احتمال الخطأ في الرّوايات وارد كخطأ الراوي، ونسيانه، والنقل بالمعنى، وعدم ذكر شرائط وظروف صدور الرواية و... ممّا يؤدي إلى اختلاف نقل الرواية الواحدة، فليزم حينئذ وجود معيار للصحة والسقم كما هو الحال في الأخبار العلاجية. بخلافه في آيات القرآن التي تكفل الله تعالى بحفظها فلا ينطبق هذا المعيار عليها.


الصفحة 499
فإن كانت التقية من اماراتها التناقض والاختلاف الخ فهذا المعيار أشد وأوضح تطبيقاً في أخبار أهل السنة ولا سيّما الرّوايات التي دلت على التّحريف، ويكفينا في المقام النظر إلى أجوبة أهل السنَّة عن رواياتهم في باب التّحريف وشعورهم بتناقض آرائهم.

ثمّ قال الدكتور القفاري:

"لقد لوحظ أنّ الطوسي هذا نقل في تهذيبه لرجال الكشّي بعض روايات هذه الاسطورة كنقله للرواية التي تقول: "لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا فإنّك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين... الذين اؤتمنوا على كتاب الله جلّ وعلا فحرّفوه وبدّلوه..." كما إنّه نقل بعض أخبار هذه الاسطورة على أنـّها قراءة في تفسير التبيان، [ثم قال الدكتور القفاري في الهامش] كما في تفسيره لقوله تعالى: (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) قال: وفي قراءة أهل البيت "وآل محمّد على العالمين" وهذا تلطف في التعبير أو محاولة للتغيير في أساطيرهم... وهذا التغيير قد يكون الهدف منه التستر على الفضيحة..."(1).

وقد مرّ عليك بحث هذه المسألة وهي أن المراد من لفظة "تحريف" هو التّحريف المعنوي في الآيات والمساوق للتفسير بالرأي وحمل الآية على غير المعنى الظاهري لها لا ما توهّمه الدكتور القفاري وغيره.

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 290 ـ 291.


الصفحة 500
وأمّا قراءة "وآل محمّد على العالمين" فسنبحثها في فصل "الطبرسي وانكاره لهذه الفرية".

وعلى فرض أنّ هذه الرواية وأمثالها تدل على التّحريف بمعنى الاسقاط فإنّ الشيخ الطوسي صرّح بأنّ هذه أخبار آحاد، وهي ساقطة لتعارضها مع الرّوايات المتضافرة التي توجب العمل بالقرآن، وكذلك الرّوايات التي أعطتنا ميزان قبول الأخبار. والطريف أنّ الدكتور القفاري نقل عبارة شيخ الطائفة المتضمنة للمعنى المتقدم وقال:

"ولكن يرى الشيخ الطوسي أنّ كل هذه الرّوايات من قبيل روايات الآحاد التي لا يعتمد عليها ولا تدفع ما تضافر من رواياتهم التي توجب العمل بالقرآن والرجوع إليه عند التنازع"(1).

وعلى هذا فإنّ الدكتور القفاري بعد ما رأى بأنّ هذه الرّوايات لم تنفعه في كشف التناقض في كتب وآراء شيخ الطائفة لم يبق له إلاّ ان يتشبث بقول "المحدث النوري" أي صاحب فصل الخطاب ـ رغم اعتراف الدكتور القفاري نفسه باختلاف رأي المحدث النوري في هذا المقام حيث قال:

"أمّا صاحب فصل الخطاب فقد اختلفت أقواله في توجيه هذا الانكار..."(2).

ومع هذا فالدكتور القفاري قد تشبّث بقول المحدِّث النوري وهو قوله: إنّ الشيخ الطوسي استعمل التقيّة، فتعال معي ندقّق في عبارة "المحدّث النوري" لنرى ما الذي أراد:

أولاً: انّ "المحدّث النوري" أورد هذا القول في توجيه كلام شيخ الطائفة على نحو

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 291.

2 ـ المصدر السابق.


الصفحة 501
"الاحتمال" لا القطع وقال:

"فمن المحتمل إعراض شيخ الطائفة عن الرّوايات الكثيرة التي رويت من جهة العامّة والخاصّة بنقصان كثير من آي القرآن يكون على نحو المماشاة ونهاية المداراة مع المخالفين..."(1).

إذاً فالمحدّث النوري أورد هذا القول بعنوان الاحتمال، ولو أردنا استفادة قطعية القول بالتقية من هذا الكلام ثم نسبنا ذلك ـ أي استعمال التقية في مسألة التّحريف ـ إلى جلّ علماء الطائفة لابتعدنا عن جادّة الحقّ وجانبنا الطريقة العلمية في البحث.

ثانياً: ان "المحدث النوري" أخطأ حتى في احتماله نسبة التقية إلى الشيخ الطوسي، فإنّه لا يمكن لنا تقبل فكرة استعمال الشيخ للتقية في مسألة التّحريف، والدليل على ذلك أنّ الشيخ نفسه قد صرّح بأنّ الرّوايات الدالة على التّحريف بنقصان القرآن رويت بكثرة من جهة العامة (أي أهل السنة) بالاضافة إلى الخاصة، بل ان نفس "المحدث النوري" قال بعد ذكر روايات كثيرة من أهل السنة في باب التّحريف ما نصُّه:

"ويوجد في كتب العامّة أخبار كثيرة غير ما نقلناه"(2).

فمع وجود هذه الرّوايات عند أهل السنة وكون المتمسكين بها قد عاشوا قبل ولادة الشيخ الطوسي كـ "ابن شنبوذ" (ت 328) ينتفي موضوع التقية عند الطوسي بالمرّة.

ثالثاً: ما الحاجة إلى التقية مع وجود الدليل؟ فالشيخ استدلّ في ردّ هذه الأخبار بقوله:

"... لكنّ طريقها الآحاد التي لا توجب علماً... ويمكن تأويلها،

____________

1 ـ فصل الخطاب: ص 34.

2 ـ نفس المصدر: ص 34.


الصفحة 502

ورواياتنا متناصرة بالحث على قراءته والتمسّك بما فيه، وردّ ما يرد من اختلاف الأخبار..."(1).

واستمرّ بذكر أدلّة "السيد المرتضى" في مقام صيانة القرآن عن التّحريف مؤيداً لها، فمع وجود الدليل والاعتراف بردّ ما يرد من اختلاف الأخبار أيّة حاجة للتقية في هذه المسألة؟ وعلاوة على ذلك فإننا أثبتنا أنه لا إشكال ولا شبهة في أنّ مسلك شيخ الطائفة هو التمسُّك بصيانة القرآن عن التّحريف ولم يأت بهذا الرأي لإسكات الخصم إذ إنّه يعتبر القرآن هو المعيار لصحّة أو سقم الرّوايات المتعارضة فيقول:

"... ورد عنهم عليهم السَّلام ما لا خلاف فيه من قولهم: "إذا جاءكم عنّا حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وإن خالف فردّوه..." وذلك صريح بالمنع عن العمل بما يخالف القرآن"(2).

كما أنـّه في مقام الافتاء يُلزم نفسه بهذا المعيار، فمثلاً فتواه في "دية القتل" التي هي في ظاهر تلك الرّوايات مخالفة لظاهر القرآن فأسقط تلك الرّوايات(3).

وقال في باب "نسخ السنّة بالقرآن":

"... والذي يعتمد في ذلك، جواز نسخ السنة بالقرآن والذي يدل على ذلك انه قد ثبت أنّ القرآن أقوى في باب الدلالة من السنة على الأحكام فإذا كان أقوى منها جاز نسخها"(4).

فإذا كان الشيخ الطوسي معتقداً بالتحريف فكيف يمكن أن يقول ذلك؟

وهل من الممكن أن يعتبر شيخ الطائفة القرآن مقياساً وميزاناً في صحة وسقم

____________

1 ـ التبيان: ج 1، ص 3.

2 ـ العدّة في الاصول: ج 2، ص 350.

3 ـ انظر المقام الأوّل، مبحث مزعومة التّحريف وروح تعاليم الوحي.

4 ـ العدّة في الاصول: ج 2، ص 552.


الصفحة 503
الرّوايات مع أنـّه يعتقد بوجود التّحريف في القرآن؟

رابعاً: إنّ المحدّث النوري أخطأ في نسبة التقية إلى الشيخ الطوسي في مسألة التحريف زاعماً ـ أي المحدث النوري ـ أنّ "علي بن طاووس" يذهب إلى أنّ الشيخ يستعمل التقية في مسألة التّحريف، والحال إنّ "علي بن طاووس" صرّح بأنّ "طريقة" شيخ الطائفة في تفسير التبيان هي أنه:

"يقتصر فيه من تفصيل المكّي من المدني والخلاف في أوقاته و..."

وفي هذه الطريقة مماشاة مع أهل السنة ولم يذكر ـ أي علي بن طاووس ـ شيئاً عن رأي الشيخ الطوسي في مورد صيانة القرآن عن التّحريف، فالمحدّث النوري أخطأ في احتماله هذا، ولا يمكن الاعتماد على قوله، ورغم خطأ المحدث النوري في احتماله فإنه أهون بكثير من ادعاءات الدكتور القفاري التي من جملتها إنه نسب إلى النوري القطع بأنّ شيخ الطائفة استعمل التقية في مسألة التّحريف، بل نسب إلى النوري بأنّ جميع علماء الإمامية الذين نفوا التّحريف ـ أمثال السيد المرتضى وابن بابويه القمّي والطبرسي وغيرهم ـ استعملوا التقية بنظر المحدث النوري، وهو افتراء على المحدث النوري، ولنستمع إلى نص الدكتور القفاري في هذا المقام:

"من أعظم مصائب الشيعة وبلاياها: أساطير نقص القرآن وتحريفه والتي سرت في مذهبهم وفشت في كتبهم وحينما تصدى لذلك شيخهم المرتضى وابن بابويه القمي والطبرسي و... ونفوا عن مذهب الشيعة هذه المقالة حمل ذلك طائفة من متأخري شيوخهم كنعمة الله الجزائري والنوري الطبرسي حملوا ذلك على التقية"(1).

فنعمة الله الجزائري كما رأيتم نصّ كلامه متردد في القول بالتقية، والمحدث النوري لم يقل بحمل أقوال السيد المرتضى وابن بابويه الصدوق والطبرسي

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1123.


الصفحة 504
صاحب مجمع البيان والآخرين على التقية، وإنّما نسب قول الشيخ الطوسي فقط إلى التقية بعنوان الاحتمال.

والآن ينبغي أن نتأمل في عدّة نقاط حتى نتعرّف وبصورة أوسع على "الدرّاسة المتأنية والبرهانية" للدكتور القفاري:

أ: يقول الدكتور القفاري عن "المحدِّث النُّوري":

"يقول ـ أي المحدث النوري ـ إنّ الطوسي معذور في انكار التّحريف لقلة تتبعه الناشئ من قلة الكتب عنده."(1).

فقد اعتبر الدكتور القفاري هذا القول "شهادة هامّة" أو "وثيقة تأريخية" وقال:

"بل نحن نأخذ من قول الطوسي هذا شهادة هامة أو وثيقة تاريخية تثبت أنّ الوضع لهذه الاُسطورة لم يتسع ويصل إلى هذا المستوى الموجود..."(2).

والحال إن هذه العبارة ذكرها المحدّث النوري حول "المحقق البغدادي" (1227) وقال فيه: إنه "لقلة تتبعه الناشئ..." ولكن الدكتور القفاري عمداً أو جهلاً جعل هذا القول في حقّ شيخ الطائفة (ت 460) واعتبره "شهادة هامّة" أو "وثيقة تاريخية"(3).

ب: يقول الدكتور القفاري:

"يشير النوري إلى أنّ في كلام الطوسي تناقضاً يشعر أنه تقية، فقال النوري: "إنّ إخباره ـ أي إخبار الشيخ الطوسي ـ بأنّ ما دلّ على

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 292 نقلاً عن فصل الخطاب: 315.

2 ـ المصدر السابق: ص 271.

3 ـ مرّ تفصيل هذه النكتة في بحث "حجم أخبار هذه الاسطورة في كتب الشيعة ووزنها عندهم".


الصفحة 505

النقصان روايات كثيرة يناقض قوله لكنَّ طريقه الآحاد إلاّ أن يحمل على ما ذكرنا" أي من التقية."(1).

فهل في كلام الشيخ الطوسي تناقض يشعر أنه تقية؟

هل المراد من كلام النوري "إلاّ ان يحمل على ما ذكرنا" حمل الكلام على التقية؟

هذا ما أراده الدكتور القفاري نفسه فحمل كلام النوري على المعنى الذي لا يرضى به صاحبه، فإنّ المراد من كلام النوري "إلاّ أن يحمل على ما ذكرنا" أي يحمل كلام شيخ الطائفة على أنّ "النزاع في قرآنية ما روي بالآحاد لا في أصل وجود النقص" كما صرح به النوري نفسه(2)، وهذا غير حمل كلامه على التقية على حد زعم الدكتور القفاري.

ج: قد أصرّ الدكتور القفاري على أن روايات التّحريف هي من جعل شيوخ الدولة الصفوية(3)، ولكنّه تنبّه إلى فساد كلامه فاستدرك قائلاً:

"ولكن يرد على ذلك أن تلك الرّوايات موجودة في كتب معاصرة للطوسي أو أقدم كتفسير القمّي والعياشي وفرات"(4).

ولكي لا يفتضح أمره بشكل أكبر فإنّه لجأ إلى دعاية أخرى قائلاً:

"إلاّ إذا قلنا أنّ الشيعة يغيّرون في كتب قدمائهم".

وقد تكلمنا مسبقاً "في دراسة رأي الشيخ الصدوق" عن وضوح الفساد فلا نعيد.

د: والآن بدأ الدكتور القفاري بتوجيه عدّة اتهامات مستعملاً أخس الألفاظ،

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 290.

2 ـ فصل الخطاب: ص 34.

3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 271 ـ 272.

4 ـ المصدر السابق: ص 291.


الصفحة 506
واستمر في عثراته قائلاً:

"والطوسي كما يلاحظ في إنكاره قد دس في الشهد سمّاً، وتناقض في حكاية مذهبه كما لا يخفى، من ذلك زعمه أنّ العامّة ـ يعني بهم أهل السنّة ـ قد شاركوا طائفته في رواية هذا الكفر، وهذا كذب، وقد شهد شيخهم المفيد بتفرّد طائفته بهذا البلاء"(1).

ثمّ أورد الدكتور القفاري آراء علماء التفسير من أهل السنّة حول الآية: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(2) وقولهم بصيانة كتاب الله عزّ وجلّ وسلامته من التّحريف.

وحينئذ يحقّ لنا أن نسأل الدكتور القفاري هل إنّ شيخ الطائفة الذي يقول: "ورويت روايات كثيرة من جهة العامّة والخاصّة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع..." كاذب في قوله ـ والعياذ بالله ـ حتّى يتّهمه الدكتور القفاري بالكذب؟!! إذاً فماذا يقول الدكتور في الرّوايات الكثيرة المختلفة في كتب أهل السنة التي نقلت هذا "الكفر!!" والتي قد ذكرنا بعضاً منها في المقام الأوّل؟ وعلى هذا فانكار ما هو واقع، واتّهام الآخرين لا يجدي شيئاً، وإذا أردنا أن نحكم كما حكم الدكتور القفاري فيجب علينا القول: هذه "شهادة هامّة" و"وثيقة تأريخية" لأنّه بناءً على قول الدكتور القفاري، لو تنزّلنا وقلنا بصدق مدّعاه بانه في عصر الشيخ الطوسي لم توجد رواية واحدة في كتب أهل السنة تقول بالتحريف، وأنّ الشيخ ـ وحاشاه من ذلك ـ كذب في ادعائه حيث قال "رويت روايات كثيرة من جهة العامّة"، فاننا نرى كتب أهل السنة الآن مشحونة بهذه الرّوايات، وهذا

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 292.

2 ـ سورة الحجر (15): الآية 9، وإن كان بعض أهل السنّة قد شكّك في الاستدلال بالآية الشريفة بأنه يلزم منه الدور، راجع مفاتيح الغيب للفخر الرازي: ج 1، ص 161.


الصفحة 507
يدلّ على أنّ تلك الرّوايات دسّت وجعلت في كتب أهل السنة الحديثية والتفسيرية بعد زمان الشيخ الطوسي، ممّا يعني أن أهل السنة قد دسّوا وحرفوا في كتب قدمائهم، فهل يقبل الدكتور بهذا القضاء؟!

وعلاوة على ذلك، فلو كانت آراء علماء التفسير وغيرهم من أهل السنة حول الآية الكريمة: (إنّا نحن نزّلنا الذكر...) يختم كلّ شيء في مسألة التّحريف، فإذاً لماذا لا يتعامل الدكتور القفاري مع آراء علماء الإمامية بنفس هذا التعامل ويريد اخفاء الحقائق على الآخرين حيث إنّ آراء علماء الإمامية حول هذه الآية ـ التي ذكرت بعضها في المقام الأوّل ـ لم يقع موقع القبول لدى الدكتور القفاري وأضرابه، وإنّما لجأوا إلى الاستناد إلى بعض روايات الإمامية الضعيفة في نظرهم أو آراء بعض علماء الأخباريين ليعمموا الحكم بكفر الشيعة!! فهل هذا من الانصاف؟

وأمّا ما ذكره الدكتور القفاري حول شهادة الشيخ المفيد، فقد فصلنا القول فيه سابقاً وقلنا بأنّ الدكتور القفاري قام بتقطيع عبارة الشيخ المفيد، ثم حرّفها وإلاّ فنحن قد عرضنا عليك نصّ عبارة الشيخ المفيد وبيّنا ما هو الحق فيها(1).

وعلى أية حال فالنص الذي ذكره الشيخ الطوسي حول صيانة القرآن من التّحريف كلام وزين واستدلال قويم ويثبت بشكل واضح لا غبار عليه موقف الشيخ من التّحريف ورفضه له رفضاً قاطعاً، ولا ينفع الدكتور القفاري التشبث بقول النوري والآخرين لإثبات مطلوبه السقيم.

الشريف المرتضى وإنكاره لهذه الفرية:

لقد أثبت السيد المرتضى علم الهدى (ت / 436 ق.) رحمه الله صيانة القرآن عن التّحريف مستدلاً بالعقل والشواهد التاريخية مستوفياً لاطراف البحث، وقد نقل

____________

1 ـ انظر: مبحث "ما تقوله مصادر الشيعة في هذه الفرية".


الصفحة 508
الدكتور القفاري لنا نصّ عبارته وأتبعها بمناقشات سخيفة، وحينما عجز عن ردّ الكلام المتين للسيد المرتضى عمد إلى تخريج كلام المرتضى بانّه استعمل التقية وطبعاً من دون أن يذكر دليلاً على قوله، وإليك بعض ما ورد في كلام السيد ومناقشاته.

أ: قال السيد المرتضى بعد بيان استدلاله على نفي التّحريف ما نصّه:

"إن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فان الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحتها لا يرجع مثلها عن المعلوم المقطوع على صحته"(1).

فاستنتج الدكتور القفاري من هذه العبارة:

"وكأن الجملة الأخيرة تشير إلى ما ذهب إليه الإخباريون من الشيعة من القول بهذا الضلال"(2).

فهل إنَّ اصطلاح "الحشوية" غير معلوم لدى الدكتور القفاري؟ إنّه يريد وبأىّ شكل من الأشكال انكار وجود أية رواية من روايات التّحريف في كتب أهل السنّة، فعمد هنا إلى تحريف معنى كلام السيد المرتضى; فاصطلاح "الحشوية" الذي ذكره السيد المرتضى حرّف الدكتور القفاري معناه إلى الإخباريين من الشيعة، كما فعل حرّف كلام الشيخ الطوسي.

وعلى أية حال فان اصطلاح "الحشوية" معلوم لدى العلماء، كقول القاضي عبد

____________

1 ـ نقلاً عن مجمع البيان: ج 1، ص 31.

2 ـ علق الآلوسي على عبارة السيد المرتضى بقوله: "وهو كذب أو سوء فهم". روح المعاني: ج 1، ص 24 ـ 25، وقد فصلنا القول في ذلك وأوضحنا للملأ اتهام الآلوسي وردّه، فراجع ان شئت مبحث "شيوع هذه المقالة عندهم كما تقول كتب أهل السنة".


الصفحة 509
الجبّار في كتابه:

"الحشوية، النوابت من الحنابلة"(1).

فأراد الشريف المرتضى اُولئك القوم من أهل السنة بلا شك، فإنّهم حشدوا النقول والحكايات في حقائبهم حشداً، ونقلوا أخباراً ضعيفة في المقام متوهّمين صحّتها كما فعل ثلّة من محدّثي الإمامية(2).

ب: قال الدكتور القفاري في مصدر كلام السيد المرتضى:

"لم يقع لنا هذا الكتاب، ولم أجد منه ـ فيما اطّلعت عليه ـ إلاّ هذا النص الّذي حفظه الطبرسي في مجمع البيان... ولو كانت هذه عقيدة الرجل لكثر حديثه عنها"(3).

فاعتبر الدكتور القفاري ذلك الاشكال أساسياً، واستنتج منه:

"فإمّا أن يكون هذا النص مدسوساً عليه... وإمّا أن يكون..."(4).

أقول:

____________

1 ـ ص 527. وقال بعض: "وسميت الحشوية حشوية; لأنّهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية، والجميع يقولون بالجبر والتشبيه، وأنّ الله موصوف عندهم بالنفس واليد والسمع والبصر وقالوا: كلّ ثقة من العلماء يأتي بخبر مسند عن النبىّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم هو حجّة. المنية والأمل لابن المرتضى: ص 11، وتعريفات الجرجاني: ص 341. ويعتقد "الصفدي" بأن غالب الحنبلية من الحشوية. الغيث المسجم: ج 3، ص 47.

2 ـ وامّا مصطلح "الأخباريون" فقد ظهر في عصور متأخرّة، وأول من سمّوا أنفسهم بهذا الاسم المحدّث الجزائري (ت 1112) في رسالته "منبع الحياة": ص 32، ط. بغداد. والدكتور القفاري نفسه أورد عبارة البحراني وقال: "محمّد امين الاسترآبادي (ت 1023 هـ) هو اول من قسّم الفرقة... إلى أخباري ومجتهد". اصول مذهب الشيعة: ص 118، فعلى هذا كيف يقول الدكتور القفاري ان الأخباريين موجودون في عصر السيد المرتضى (ت 436 هـ)؟!

3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 294.

4 ـ المصدر السابق.


الصفحة 510
أولاً: هذا النص منقول عنه أيضاً في تفسير ملا فتح الله الكاشاني (ت 988 هـ.) المسمى بتفسير "منهج الصادقين" بل موجود بعينه في كتاب "الذخيرة في علم الكلام" للشريف المرتضى نفسه، جواباً عن إشكال من قال: "الإمامية تدّعي التغيير في القرآن نقصاناً، وكذلك حشوية أصحاب الحديث" حيث قال:

"قلنا: قد بيّنا صحّة نقل القرآن في المسائل الطرابلسيات وانه غير منقوص ولا مبدّل ولا مغيّر... وذكرنا ان العناية اشتدت بالقرآن... وقد كنا ذكرنا في جواب المسائل المتقدم ذكرها عند الكلام في صحة نقل القرآن... وقد بينا في الموضع الذي أشرنا إليه... وذكرنا أيضاً أن من يخالف هذا الباب من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم..."(1).

ثانياً: إن كان هذا النصّ مدسوساً على السيد المرتضى فيما بعد كما زعم الدكتور القفاري فكيف يقول ابن حزم (ت 456) الذي كان معاصراً للسيد المرتضى:

"... وكان الشريف المرتضى إمامياً يظاهر بالاعتزال، ومع ذلك كان ينكر هذا القول ـ أي تحريف القرآن ـ ويكفّر من قاله وكذلك صاحباه"(2).

فعلى زعم الدكتور القفاري إما أن يكون كتاب "الفصل" لابن حزم قد دسّ فيه فيما بعد، أو أن ابن حزم قال ذلك من دون الاعتماد على مستمسك ودليل، وفي هاتين الحالتين لا يبقى مجال للاستدلال بكتب "ابن حزم"!

ج ـ زعم الدكتور القفاري وجود التناقض في كلام السيّد المرتضى واستنتج منه "التقية" في رأي السيد المرتضى رحمه الله. قال الدكتور القفاري:

____________

1 ـ الذخيرة في علم الكلام: ص 364 ـ 365، وقد أوردنا في المقام الأوّل نص عبارة السيد المرتضى رحمه الله بتمامها.

2 ـ الفصل في الملل والاهواء والنحل: ج 5، ص 40.


الصفحة 511

"ولكن قيل إنّ هذا الانكار ـ من السيد المرتضى ـ تقية لأنـّه كما قال صاحب فصل الخطاب: "قد عدّ هو في الشافي من مطاعن عثمان ومن عظيم ما أقدم عليه جمع الناس على قراءة زيد واحراقه وابطاله ما شك أنه من القرآن".

وهذا بلا شك يناقض انكاره لهذه الفرية، وبيانه بالدليل العقلي والتاريخي استحالة حصولها; فإمّا أن يكون هذا النص مدسوساً عليه... وإمّا أن يكون الإنكار على سبيل التقية... وهذا النص علاوة على إنّه طعن في كتاب الله سبحانه فهو حكم بالضلال على الأمّة بما فيهم علي ـ رضي الله عنه ـ من قوم يزعمون التشيع له وموالاته...

إنّ هذا لبهتان عظيم بل الحق إنّ عمل عثمان هذا من أعظم مناقبه ووقع باجماع من الأمّة..."(1).

لابد للقارئ الكريم أن يتساءل ماذا يريد الدكتور القفاري أن يقول هنا؟ وعمّن يريد أن يدافع أعن "عثمان" أم عن "القرآن"؟! فإحراق المصاحف بأمر عثمان وكراهة جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله أمر لا شك فيه(2)، والآن إمّا أن نعدّ ذلك من عظيم مثالب عثمان أو من عظيم مناقبه، لكنّ السؤال الوارد هنا إنّه إذا كان إحراق المصاحف يعد من المطاعن فكيف يوجب ذلك التناقض في كلام السيد المرتضى ويتحصل من قوله التقية، ولابد أن يكون بزعم الدكتور القفاري إنه إذا كان عمل عثمان من عظيم المناقب فهو تأييد لكلام السيد المرتضى ولا مجال للمناقشة في كلامه!!

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 294.

2 ـ قال ابن شبّة في تاريخه: "مسألة احراق المصاحف وكراهة جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم امر لا شك فيه". تاريخ المدينة المنورة: ج 3، ص 1004.