الصفحة 512

وعلاوة على هذا فإنّ هذه العبارة للسيد المرتضى من كتابه "الشافي" منقولة من كتاب "المغني"(1) للقاضي عبد الجبار الهمداني(2)، وليست من السيد المرتضى نفسه حتى يحرّفها الدكتور القفاري ويقول: "هذا بلا شك يناقض إنكاره... وإنه طعن في كتاب الله و..." إن السيد المرتضى ذكر في كتابه "الشافي"(3):

"ثم ابتدأ ـ أي القاضي عبد الجبار ـ بذكر أحداث عثمان قال: فمن ذلك قولهم: إنّه ولّى المسلمين ما لا يصلح لذلك... ومن ذلك انه اقدم على كبار الصحابة بما لا يحل نحو اقدامه على ابن مسعود عندما أحرق المصاحف... ثم من عظيم ما أقدم عليه من جمعه الناس على قراءة زيد واحراقه المصاحف وابطاله ما شك [لما شك ـ ن] انه منزل من القرآن وانه مأخوذ عن الرسول عليه السلام ولو كان مما يسوغ لسبق إليه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولفعله أبو بكر وعمر..."(4).

وبعد هذه العبارة قال صاحب المغني في مقام الدفاع عن عثمان في احراقه للمصاحف:

"إنّ فيه ـ أي في إحراق المصاحف ـ تحصين القرآن وقطع المنازعة

____________

1 ـ المغني: ج 20، ق 2/ 38 ـ 44.

2 ـ انظر ترجمته في: طبقات المعتزلة المسمى بالمنية والامل: ص 16 وطبقات الشافعية للسبكي: ج 3، ص 469 ولسان الميزان لابن حجر: ج 3، ص 386 وتاريخ بغداد: ج 11، ص 18 وغيرها من الكتب.

3 ـ لا يخفى ان كتاب "الشافي في الامامة" ردّ على القاضي عبد الجبار، فقد الّف علي بن الحسين الموسوي المشتهر بعلم الهدى السيد المرتضى، ذاك الكتاب وابطل حجج القاضي ونقض كتابه باباً باباً بروح علمية وادب في التعبير يتجلى واضحاً لمن قارن بين الكتابين.

4 ـ الشافي في الامامة: ج 4، ص 229.


الصفحة 513

والاختلاف فيه."(1)

ثم إنّ السيد المرتضى في مقام الحكم بين كلام القاضي عبد الجبار ومخالفيه بصورة المجادلة بالتي هي أحسن، قال:

"لا شك في أنّ ابن مسعود كره احراق المصاحف كما كرهه جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتكلموا فيه، وذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك بالتفصيل...

فأمّا اختلاف الناس في القراءة والأحرف فليس بموجب لما صنعه عثمان لأنـّهم يروون أنّ النبىّ صلّى الله عليه وآله قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف" فهذا الاختلاف في القرآن مباح مسند عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فكيف يحظر عليهم عثمان من التوسّع في الحروف وهو مباح؟ فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادّعى، لما أباح النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأصل إلاّ القراءة الواحدة لأنـّه أعلم بوجوه المصالح من جميع اُمّته من حيث كان مؤيداً بالوحي مُوَفّقاً في كلّ ما يأتي ويذر..."(2).

وهكذا استمر بدراسة ونقد استدلالات القاضي عبد الجبار في كتابه "الشافي".

والسيد المرتضى هنا ـ كما قلنا ـ في مقام الجدال بالتي هي أحسن، وقد أثبت بالأدلة القاطعة أنّ القرآن الموجود زمان النبىّ صلّى الله عليه وآله هو القرآن الموجود هنا، وروايات جمع القرآن في عهد أبي بكر إضافة إلى أنّ روايات توحيد المصاحف في زمان عثمان متعارضة مع هذا الأمر القطعي ولذا تكون ساقطة عن الاعتبار، قال السيد المرتضى في بعض استدلالاته:

____________

1 ـ المصدر السابق: ص 284.

2 ـ الشافي في الامامة: ص 285 وما بعدها.


الصفحة 514

"...إنّ القرآن كان على عهد النبىّ صلّى الله عليه وآله مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن... ولا يقطع من قال غير ذلك. على ان هذا القرآن الموجود بيننا هو الذي جمعه عثمان وأن لا يأمن ان يكون بعضه قد وقع فيه تغيير وتبديل عما سطره عثمان وجمعه بعده، لانه إذا جاز فيما أدّاه النبىّ صلّى الله عليه وآله نيفاً وعشرين سنة وتداوله الناس ونشره أن يتم فيه لعثمان النقص والحذف، جاز ذلك فيما جمعه عثمان نفسه، وهذا حدّ لا يبلغ إليه محصّل."(1)

فمن أراد تمام استدلال الشريف المرتضى ودفع الشبهات فليراجع "الذخيرة في علم الكلام"(2) ومقدمة تفسير مجمع البيان فان الطبرسي أورد استدلال السيد المرتضى بتمامه نقلاً عن كتاب المسائل الطرابلسيات(3).

والحاصل أنّ الدكتور القفاري قد اُلقم حجراً مرة أخرى، وانتفى بانتفاء موضوعه سعيه لكشف التناقض في كلام السيد المرتضى واخذه النتائج من ذلك كقوله:

"هذا النص مدسوس عليه... انكاره على سبيل التقية... انه طعن في كتاب الله سبحانه... هذا بهتان عظيم."

وجميعها لا مورد لها.

الطبرسي وانكاره لهذه الفرية:

قال الدكتور القفاري بعد ذكر كلام الطبرسي في مورد صيانة القرآن عن التّحريف:

____________

1 ـ الذخيرة في علم الكلام: ص 363.

2 ـ المصدر السابق: ص 361 وما بعدها.

3 ـ مجمع البيان: ج 1، ص 15.


الصفحة 515

"فهو يشير هنا إلى أنّ جماعة من أصحابه رووا روايات في نقص كتاب الله وتغييره، وأنّ مذهب محققي الشيعة على خلافه ويحاول ـ كعادة هؤلاء ـ أن يشرك بعض أهل السنة الذين عبر عنهم "بحشوية العامة" في هذا الكفر كنوع من الدفاع عن المذهب وحفظ ماء الوجه ولون من النقد المبطن لاهل السنة وهو كما قال الآلوسي كذب أو سوء فهم"(1).

ثم أورد الدكتور القفاري كلام الآلوسي وقال:

"وقد ناقش الآلوسي ما قاله الطبرسي وبيّن أوهامه"(2).

إنّ الدكتور القفاري أنكر الواقعيات هنا وتخيل أنـّه بهذه الألفاظ البذيئة والاتهامات الساذجة ـ المبتنية على أنّ الطبرسي لحفظ ماء وجه المذهب أو الدفاع عنه قد نسب ذلك إلى بعض من "حشوية العامّة" ـ أو بالتشبث بقول الآلوسي يمكن له اظفاء الطابع العلمي على انكاره، والحال انّ كتب السنّة موجودة بين يديك، ويمكنك الآن مراجعتها وقد أوردنا نحن قسماً منها في المقام الأوّل، وهي بخلاف ما يدعيه الدكتور القفاري تماماً، وأمّا فيما يرتبط بـ "الآلوسي" واتهاماته فقد فصلنا القول في ذلك فيما مضى، ولاحظت أن الآلوسي جانب الانصاف بشكل كبير، وحكم علينا حكماً جائراً. بل وقع في التناقض في كلامه من حيث لا يشعر(3)، وعلى هذا فانكار ما هو واقع، أو التشبث بأقوال الآلوسي لا ينفع الدكتور القفاري شيئاً في هذا المقام.

نعم. الحل الناجع لهذه المشكلة هو أن نقول ان المرحوم الطبرسي ذهب إلى أنه

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 295.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ انظر نقد مبحث: "شيوع هذه المقالة عند الشيعة كما تقول أهل السنة" من هذه الرسالة.


الصفحة 516
توجد روايات في المقام رواها بعض الإمامية وأيضاً قوم من حشوية أهل السنة، ولكنّها في نظر المحققين لا محل لها من الصحّة، وقد أبطلها محققو الفريقين بأدلّة دامغة.

ثم قال الدكتور القفاري:

"وقد اكتشفت أثناء قراءتي في مجمع البيان أنّ الطبرسي قد قام بحيلة أو محاولة لستر هذا العار فأتى إلى بعض روايات أصحابه في هذه الاسطورة والتي فيها أنّ الآية كذا ثم غُيِّرت إلى كذا، فغير صورة عرضها بما ينخدع به أهل السنَّة أو بما لا تتضح به صورة هذا الخزي فعبّر عن بعض هذه الأساطير بأنها قراءة واردة.

جاء في تفسير القمّي في قوله سبحانه: (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) قال العالم [عليه السلام] نزل: "وآل عمران وآل محمّد على العالمين" فأسقطوا آل محمّد من الكتاب.

وفي تفسير فرات عن حمران قال: سمعت أبا جعفر يقرأ هذه الآية: "إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل محمّد على العالمين" قلت ليس يقرأ هكذا قال: أُدخل حرف مكان حرف.

وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله عن قوله تعالى: (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) قال: هو آل إبراهيم وآل محمّد على العالمين فوضعوا اسماً مكان اسم.

والهدف من هذا الافتراء والتزوير هو محاولة اثبات قولهم باثني عشر إماماً من كتاب الله...

نلاحظ أنّ صاحب مجمع البيان يعبر عنها بقوله: "وفي قراءة أهل


الصفحة 517

البيت وآل محمّد على العالمين" وكذلك فعل في عدة من مفترياتهم جعلها قراءات. كما في قوله سبحانه: (يا أيّها النبىّ جاهد الكفار والمنافقين) [التوبة، آية: 73] فان الطبرسي قال: "وروي في قراءة أهل البيت جاهد الكفار بالمنافقين" وهي اُسطورة وضعت لتوافق مذهب الرافضة في الصحابة من رميهم بالنفاق... ولم يقم الجهاد في الإسلام بالمنافقين..."(1).

لماذا يتهم الدكتور القفاري الشيخ الطبرسي بـ "الحيلة" و"الافتراء" و"التزوير" و"خدعة أهل السنة" والحال أولا: إنّ هذه القراءة وردت أيضاً في كتب أهل السنة أنفسهم، ولعلّ الطبرسي استند إلى كتب الفريقين في هذه الرّوايات، فعلى هذا لا يكون قول الدكتور القفاري إلاّ مجرد اتهام. فعلى سبيل المثال:

روى "الحاكم الحسكاني" بسنده عن شقيق قال: قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمّد على العالمين)(2).

وروى بسند آخر له مثله(3).

وروى "الثعلبي" أيضاً بسنده عن "أبي وائل" قال: قرأت في مصحف ابن مسعود مثله(4).

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 296.

2 ـ شواهد التنزيل: ج 1، ص 152.

3 ـ المصدر السابق: ص 153.

4 ـ الكشف والبيان، وأهل البيت في تفسير الثعلبي: ص 46، والبحر المحيط: ج 2، ص 435، وهكذا رواه عن تفسير الثعلبي "يحيى بن الحسن المعروف بابن البطريق الاسدي" في الفصل الخامس من كتابه خصائص الوحي المبين: ص 54.


الصفحة 518
ثانياً: إنّ الرّوايات التي استشهد بها الدكتور القفاري على موضوعه ـ وكذلك الرّوايات الاخرى في هذا المقام ـ هي روايات مضطربة متناً، وعلى فرض صحّة سندها فلا صلاحية فيها لإثبات وجود الوحي القرآني.

ثالثاً: إنّنا يمكن لنا ـ مع الاخذ بنظر الاعتبار القرائن والشواهد ـ أن نستفيد من تلك الرّوايات لمعنى الآية وبيان مصداق تعبير "آل إبراهيم" وخصوصاً إنّ بعض التعابير الواردة في هذه الآية يستفاد منها أنّ الإمام عليه السلام في مقام "الإقراء" ـ وذكرنا بأنّ الإقراء معناه القراءة مع تعليم المعنى وتفسير الآية ـ وبيان أنّ مصداق آل إبراهيم في هذه الآية شامل لـ "آل محمّد" قطعاً، فهم داخلون في الآية، ولكن لا بصورة الوحي التنزيلي القرآني وإنّما بصورة الوحي التنزيلي التفسيري.

ويؤيده ما أخرجه السيوطي عن ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي [عليه السلام] عن ابن عباس في قوله تعالى: (... وآل إبراهيم وآل عمران)قال: "هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين، وآل محمّد"(1).

وفي أمالي الصّدوق رحمه الله باسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام. قال: قال محمّد بن أشعث بن قيس الكندي للحسين عليه السلام: يا حسين بن فاطمة! أيَّة حرمة لك من رسول الله ليست لغيرك؟ فتلا الحسين عليه السلام هذه الآية (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) قال والله إنّ محمّداً لمن آل إبراهيم والعترة الهادية لمن آل محمّد..."(2).

وفي "عيون الأخبار" في باب ذكر مجلس الإمام الرضا عليه السلام مع المأمون في الفرق بين العترة والاُمة حديث طويل وفيه: فقال المأمون هل فضّل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن الرضا عليه السلام: ان الله تعالى أبان فضل

____________

1 ـ الدرّ المنثور: ج 2، ص 179 ـ 180.

2 ـ المجلس الثلاثون، الحديث الأوّل: ص 221 ـ 222.


الصفحة 519
العترة على ساير الناس في محكم كتابه فقال له المأمون: أين ذلك من كتاب الله تعالى؟ فقال الرضا عليه السلام: "في قوله تعالى: (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)(1) أي العترة من آل إبراهيم".

ومثله كثير(2).

وعلى أساس هذه الرّوايات قال الشيخ الطبرسي في تتمة كلامه:

"وقالوا (أي أهل البيت) أيضاً: إنّ آل إبراهيم هم آل محمّد الذين هم أهله ويجب أن يكون الذين اصطفاهم الله تعالى مطهّرين معصومين منزّهين عن القبائح لأنه تعالى لا يختار ولا يصطفي إلاّ من كان كذلك ويكون ظاهره مثل باطنه في الطهارة والعصمة. فعلى هذا يختص الاصطفاء بمن كان معصوماً من آل إبراهيم وآل عمران سواء كان نبيّاً أو إماماً"(3).

رابعاً: قول الدكتور القفاري في مقام قراءة "جاهد الكفّار بالمنافقين" الذي صاحبه الغضب والانكار ففي الواقع ليست من أجل القراءة الواردة، فهي لو صحّت فإنّما تمس بعقيدة الدكتور القفاري وتحط من قدر بعض الصحابة الذين لا مجال للطعن فيهم عند الدكتور القفاري والسلفيين جميعاً ولعلّه هو ما جعل الدكتور القفاري يستشيط غضباً فيقول:

"وهي اسطورة وضعت لتوافق مذهب الرافضة في الصّحابة من

____________

1 ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 1، باب 45، ص 448.

2 ـ راجع "تفسير نور الثقلين": ج 1، ص 328 وما بعدها، وأيضاً انظر: الرّوايات الواردة في ذيل الآية الشريفة (ام يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم مُلكاً عظيماً) النساء (4): الآية 54; في نور الثقلين: ج 1، ص 49، وشواهد التنزيل: ج 1، ص 187.

3 ـ مجمع البيان: ج 1، ص 735.


الصفحة 520

رميهم بالنفاق وزعمت أنّ الله يأمر رسوله بالاعتماد على المنافقين في الجهاد وجعلت الجهاد في الإسلام قائماً على أكتاف المنافقين فهي جهل فاضح بالإسلام وتاريخ المسلمين وتفسير القرآن أو زندقة والحاد..."(1).

كيف يمكن أن تكون أحكامٌ كهذه ـ من الدكتور القفاري بقوله: "جهل فاضح بالإسلام وتاريخ المسلمين و..." ـ علمية وبعيدة عن التعصب؟! وهل يكفي للقفاري قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظّنونا * هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً)(2).

فالمنافقون في صفوف المسلمين يوم الأحزاب.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: قال المنافقون يوم الأحزاب حين رأوا الأحزاب قد اكتنفوهم من كل جانب فكانوا في شك وريبة من أمر الله... فأنزل الله (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً)(3) وأيضاً في معركة تبوك وهو تصريح محمّد بن اسماعيل البخاري في صحيحه أيضاً بحضور أعيان المنافقين في جيش المسلمين في معركة تبوك، وهو ما ذكره ابن تيمية أيضاً وأمضاه بقوله:

"...فقد ثبت في الصحيح أنّ حذيفة كان يعلم السرّ الذي لا يعلمه غيره وكان ذلك ما أسرّه إليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عام تبوك من أعيان المنافقين فانه روى أنّ جماعة من المنافقين أرادوا أن يحلوا

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 297.

2 ـ سورة الأحزاب (33): الآية 10 ـ 12.

3 ـ الدرّ المنثور: ج 6، ص 577.


الصفحة 521

حزام ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالليل ليسقط من بعيره فيموت وإنّه اُوحي إليه بذلك وكان حذيفة قريباً منه فأسرّ إليه أسماءهم"(1).

وهذا مثال واحد فقط من حضور المنافقين في جيش المسلمين وشاهد مقالي على أنّ قراءة: "وجاهد الكفار بالمنافقين" ليست اسطورة وضعت لتوافق مذهب الرافضة. وهناك شواهد اُخر لا تخفى على من سبر التاريخ والسير وراجعهما وما ذكرناه فيه الكفاية.

____________

1 ـ التفسير الكبير: ج 2، ص 69 ـ 70 عن صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمار وحذيفة، الرقم 3743.


الصفحة 522

الصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين

قد تصدى الدكتور القفاري في هذا البحث، دراسة آراء المعاصرين من الشيعة حول موضوع تحريف القرآن. وبعد أن أفصح الدكتور القفاري عن هدفه من ذكر هذا الفصل قال:

"لا بدّ من الاستماع لما يقوله شيوخ الشيعة المعاصرون في عقائدهم الخطرة التي تفصل بينهم وبين المسلمين"(1).

فلننظر الآن على أىِّ العقائد الخطرة التي تفصل الشيعة عن المسلمين تلك التي وضع الدكتور اصبعه عليها فكتب تحت عنوان "المبحث الأوّل: عقيدة المعاصرين في كتاب الله":

"المجال الأوّل... فماذا يقول شيعة العصر الحاضر عن هذه القضيّة [أي: إنّ في كتاب الله نقصاً وتحريفاً] التي تحول بينهم وبين الإسلام وهم ينشطون في الدعوة إلى التقارب مع أهل السنّة، ويرفعون شعار الوحدة الإسلامية"(2)؟

ثمّ قسّم ـ بزعمه ـ آراء المعاصرين حول فرية التحريف إلى أربعة أوجه:

الوجه الأول ـ إنكار وجودها في كتبهم أصلا.

الوجه الثاني ـ الاعتراف بوجودها ومحاولة تبريرها.

الوجه الثالث ـ المجاهرة والاحتجاج على هذا الافتراء.

الوجه الرابع ـ التظاهر بإنكار هذه الفرية، ومحاولة إثباتها بطرق ماكرة خفية.

ولنبدأ الآن بمناقشة الدكتور القفاري في الأوجه الأربعة فنقول:

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 988.

2 ـ المصدر السابق: ص 990.


الصفحة 523

الوجه الأول: إنكار وجودها في كتبهم أصلا

قال الدكتور القفاري:

"لقد اتّجه صنف من شيوخهم إلى إنكار وجودها أصلا، ومن هؤلاء عبد الحسين الأميني النجفي في كتابه الغدير... وعبد الحسين شرف الدين... ولطف الله الصافي"(1).

ثمّ قال الدكتور القفاري:

"إنّ إنكار ما هو واقع لا يجدي شيئاً في الدفاع، و سيؤوّل من جانب المطّلعين على كتبهم من أهل السنّة بأنـّه تقيّة... وهذا المسلك في الإنكار يسلكونه في كلّ مسألة ينفردون بها عن المسلمين... وبهذا المبدأ هدموا كلّ الروايات التي تتفق مع المسلمين، وعاشوا مع المسلمين بالخداع والتزوير"(2).

أقول: وهل إنّ الأميني رحمه الله منكر لأصل وجود هذا النوع من الروايات في كتب الشيعة أم إنّه منكر لوجود قائلين بالتحريف من علماء الشيعة الذين يقيم لهم المجتمع وزناً، لأنـّه فرق واضح بين وجود الروايات ووجود القائلين بها.

إنّ المرحوم الأميني في معرض الردّ على الاتهام الذي نسبه ابن حزم للشيعة من غير دليل والذي جاء فيه: "من قول الإمامية كلها قديماً وحديثاً إنّ القرآن مبدّل زيد فيه ما ليس منه ونقص منه كثير وبدّل منه كثير" قال: "إنّ أيّاً من كبار علماء الإمامية ـ القدامى منهم والمتأخرين ـ لم يُعِرْ هذه الروايات اهتماماً، ولا اعتقد بتحريف القرآن" ليقول ابن حزم: "من قول الإمامية..." ولكنّه لم ينكر الأميني

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 992.

2 ـ المصدر السابق: ص 993 ـ 994.


الصفحة 524
أصل وجود هذه الروايات في كتب الإمامية(1).

وعلى هذا فماذا يقصد الدكتور القفاري من ترديد نغمته البالية بقوله: "هذه هي التقية" ويتشبّث بكلام شيخ الطائفة لإثبات نظريته(2)، في حين إننا فصّلنا القول في هذا المجال وأصبح من الواضح أنـّه لا محل للتقية هنا، كما ـ قلنا مراراً وتكراراً ـ إنّ أصل وجود الروايات في الكتب شيء، والإقرار بمحتواها شيء آخر. وعلى هذا لو أردنا أن نماشي الدكتور القفاري في معاييره هذه إذ يقول:

"فالأميني النجفي الذي طلب في ردّه على ابن حزم أن يثبت دعواه بكلام أىّ فرد من أفراد الشيعة; هل يجهل ما جاء في كتاب الكافي والبحار، وما صرّح به شيوخهم في هذا الضلال ممّا مضى ذكره..."(3).

للزمنا القول بأنّ الدكتور القفاري الذي ادّعى في مواطن كثيرة من كتابه أنّ صيانة القرآن موضع إجماع أهل السنّة، ولا يوجد منهم من يقول بهذه الفرية; هل يجهل ما جاء في الصحيحين والكتب الأخرى، وما صرّح به شيوخ أهل السنة في

____________

1 ـ وقد سبق نقد دعاوي ابن حزم، انظر: مبحث: "شيوع هذه المقالة عندهم كما تقول كتب أهل السنة".

قال الأميني:

"ليت هذا المجترىء أشار إلى مصدر فريته من كتاب للشيعة موثوق به أو حكاية عن عالم من علمائهم يقيم لهم المجتمع وزناً أو طالب من روّاد علومهم... لكن القارىء إذا فحص، ونقّب لا يجد في طليعة الإمامية إلاّ نفاة هذه الفرية كالشيخ الصدوق في عقائده، والشيخ المفيد وعلم الهدى...". الغدير في الكتاب والسنة والأدب: ج 3، ص 101.

2 ـ يقول الدكتور القفاري: "وقال شيخهم الطوسي في الاستبصار في أكثر من موضع بأنّ ما كان في موضع إجماع من أهل السنة تجري فيه التقية". اصول مذهب الشيعة: ص 994، وشيخ الطائفة بالنسبة لبعض الروايات الفقهية الفرعية ـ التي كان الأئمة الأطهار عليهم السلام يفتون بها شيعتهم في الظروف الحرجة لإنقاذهم من حكام الجور ـ كان يقول: يمكن حمل هذه الروايات على التقية. فما علاقة التقية في هذه المسائل الفرعية بأمر عظيم جداً كتحريف القرآن؟!

3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 994.


الصفحة 525
هذا الضلال مما مضى ذكره؟(1) فهل ينبغي لنا أن نكتب نفس قوله ونقول الدكتور القفاري وأتباعه قد عاشوا مع المسلمين بالخداع والتزوير؟!

ثمّ قال الدكتور القفاري:

"ومن العجيب أنـّه ـ أي الأميني ـ وهو ينكر وجود تلك المقالة في كتبهم في الجزء الثالث من كتابه، نراه في الجزء التاسع من الكتاب نفسه يصرّح هو بهذا الكفر حيث قال ـ وهو يتحدّث عن بيعة المهاجرين والأنصار لصدّيق هذه الأمة...: "بيعةٌ عمّت شؤمها الاسلام، وزرعت في قلوب أهلها الآثام... وحرّفت القرآن وبدّلت الأحكام"، بل أورد آية مفتراة في الكتاب نفسه وهي: (اليوم أكملت لكم دينكم بإمامته [أي بإمامة علىّ عليه السلام]، فمن لم يأتمّ به وبمن كان من ولدي من صلبه إلى يوم القيامة فأولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون... وفي علىّ نزلت سورة: والعصر...) وهي واضحة الافتراء لركاكة لفظها ومعناها ومع ذلك يزعم هذا الرافضي أنّ رسول الله قال: إنّها نزلت في علىّ، وحاول أن يموّه ويخدع القرّاء فنسب هذا الافتراء إلى محمد بن جرير الطبري السنّي وهو محمد بن جرير الطبري الرافضي إن صحّت النسبة إليه... فالرجل ـ أي الأميني ـ افترى على الله وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين"(2).

ومن المؤسف أنّ الدكتور القفاري هنا لم يتخلّ عن عادته البذيئة التي درج عليها في عدم الأمانة العلمية في النقل وفي الابتعاد عن التقوى التحقيقية حيث:

أولا ـ إنّ المرحوم الأميني نفسه قد أوضح قصده من قوله: "بيعة... حرفت

____________

1 ـ انظر مبحث: "دراسة روايات التحريف في كتب أهل السنّة" في المقام الأول.

2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 994.


الصفحة 526
القرآن" بقوله:

"وإن دارت بين شدقي أحد من الشيعة كلمة التحريف فهو يريد بها التأويل بالباطل بتحريف الكلم عن مواضعه، لا الزيادة والنقيصة، ولا بتبديل حرف بحرف"(1).

مثل هذا التحريف (تحريف المعنى) موجود في القرآن، وإنّ البيعة كذلك قد أصبحت موجباً لتحريف معنى آيات الله، لأنّ الآيات التي وردت حول ولاية أمير المؤمنين عليه السلام ـ ومنها آية الولاية: (إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) ـ قد أهملت وحملت على التأويل بالباطل وقد سبق منّا التحقيق آنفاً في تحريف المعنى لآيات القرآن.

ثانياً ـ أين ذكر المرحوم الأميني أنّ: "اليوم أكملت لكم... بإمامته فمن لم يأتمّ به..." آية قرآنية ليقول الدكتور القفاري: فالرجل افترى على الله وكتابه ورسوله؟ فانظر إلى نصّ عبارة الأميني ـ التي نقلها بالنصّ من "كتاب الولاية" لابن جرير الطبري ـ ولاحظ ـ مع الأسف ـ عدم أمانة الدكتور في النقل.

الأميني رحمه الله يكتب قول النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن كتاب الولاية بقوله:

"اللّهمّ إنّك أنزلت عند تبيين ذلك في علىّ، اليوم أكملت لكم دينكم بإمامته فمن لم يأتم به..."(2).

لماذا يخون الدكتور القفاري الأمانة العلمية في النقل فيحذف صدر كلام الأميني الذي نقل عن الرسول صلّى الله عليه وآله بقوله صلّى الله عليه وآله: "اللّهمّ إنّك أنزلت عند تبيين ذلك...".

____________

1 ـ الغدير: ج 3، ص 101.

2 ـ نفس المصدر: ج 1، ص 215.


الصفحة 527
ترى هل أنّ معنى "اللّهمّ إنّك أنزلت عند تبيين ذلك في علىّ" في قول الرسول صلّى الله عليه وآله غير معلوم لدى الدكتور القفاري؟!

ثالثاً ـ كيف يقول الدكتور القفاري: "وحاول أن يموّه ويخدع القرّاء فنسب هذا الافتراء لمحمد بن جرير السنّي وهو محمد بن جرير الطبري الرافضي إن صحّت النسبة إليه..." ثمّ يستنتج منه افتراء الأميني على أئمّة المسلمين؟

فانظر إلى نصّ كلام الأميني فهو بعد أن أورد آية: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك...) قال: هذه الآية نزلت في ولاية علىّ بن أبي طالب يوم غدير خمّ، ثمّ قال:

"إنّا نحتجُّ في المقام بأحاديث أهل السنّة في ذلك فإليك البيان:

1 ـ الحافظ أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (المتوفى 310 هـ.) أخرج بإسناده في كتاب الولاية (أو الفضائل) في طرق حديث الغدير عن زيد بن أرقم... لمّا نزل النبىّ صلّى الله عليه وسلم بغدير خم... فخطب خطبة بالغة إلى أن قال صلّى الله عليه وآله: إنّ علىّ بن أبي طالب أخي ووصيّي وخليفتي والإمام بعدي... اللّهمّ إنّك أنزلت عند تبيين ذلك في علىّ اليوم أكملت لكم دينكم بإمامته...".

فنسب الأميني كتاب الولاية لابن جرير السني وهذا ما لا طريق إلى إنكاره إلاّ من غمض عينيه عن الحق، فاستمع الآن لاعترافات كبار علماء أهل السنّة لما نسب إلى ابن جرير الطبري السنّي في المقام:

قال ياقوت في ترجمة محمد بن جرير الطبري السنّي من معجم الأدباء عند عدّ مؤلفاته:

"وكتاب فضائل علىّ بن أبي طالب رضي الله عنه تكلّم في أوله بصحة


الصفحة 528

الأخبار الواردة في غدير خم ثم تلاه بالفضائل ولم يتمّ"(1).

وقال في موضع آخر في سبب تأليف محمد بن جرير الطبري السنّي لهذا الكتاب:

"وكان قد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب غدير خم!!... ولما بلغ أبا جعفر ذلك فابتدأ بالكلام في فضائل علىّ بن أبي طالب وذكر طرق حديث خمّ فكثر الناس لاستماع ذلك..."(2).

وذكر الذهبي في ترجمة الطبري من تذكرة الحفاظ وحكى عن الفرغاني أنـّه قال:

"ولمّا بلغه أنّ ابن أبي داود تكلّم في حديث غدير خم! عمل كتاب الفضائل وتكلّم على تصحيح الحديث".

ثمّ قال الذهبي:

"قلت: رأيت مجلّداً من طريق هذا الحديث لابن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق!"(3).

وقال ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة الطبري:

"وقد رأيت له كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خمّ في مجلدين

____________

1 ـ معجم الأدباء: ج 18، ص 80، طبعة دار الفكر.

2 ـ المصدر السابق: ص 84.

3 ـ تذكرة الحافظ: ج 2، ص 710 ـ 713، رقم الترجمة 728.

قال المحقق الطباطبائي:

"يظهر من كلام الذهبي هذا إنّ الكتاب في أكثر من مجلد، وإنّما رأى الذهبي مجلداً منه وكان فيه من الطرق الصحيحة كثرة هائلة بحيث أدهش حافظاً مثل الذهبي.

ويظهر من رسالة الذهبي في حديث: "من كنت مولاه..." إنّه حصل فيما بعد على المجلد الثاني من كتاب الطبري، فقد جاء فيها في الحديث (61): "قال محمّد بن جرير الطبري في المجلد الثاني من كتاب غدير خمّ له..." وروى الذهبي في رسالته عن كتاب الطبري هذا في الأرقام: 20، 33، 41، 72، 108. (الغدير في التراث الإسلامي: ص 35 ـ 37).