الصفحة 581

خامساً: كل من يطّلع على ما ذكره السيد الخوئي في مقدمة كتابه "معجم رجال الحديث" من مسلكه ومبناه ـ وقد أشار إلى تلك المقدمة الدكتور القفاري أيضاً ـ يعرف عدم الملازمة على نحو الإطلاق بين صحة السند وبين قبول متن الرواية عند السيد الخوئي.

والسيد الخوئي نفسه عند ردّ دعوى تحريف القرآن وبيان الوجه الصحيح للروايات بأدلة قويّة يرفض أيّة حديث يدل على التحريف ولو فرض صحّة سندها ويقول في نهاية المطاف:

"وممّا ذكرنا قد تبيّن للقارىء أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال ولا يقول به إلاّ من ضعف عقله أو من يتأمل في أطرافه حق التأمل أو من ألجأه إليه بحب القول به والحب يعمي ويصم وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشكّ في بطلانه وخرافته"(1).

*  *  *

____________

1 ـ البيان: ص 259.


الصفحة 582

الصفحة 583

تذييل:
دراسة ادعائي الدكتور القفاري الآخرَيْن

رغم أن بحثنا الأساسي يختص بنقد الأراء والافتراءات التي ذكرها الدكتور القفاري فيما يخص مسألة تحريف القرآن الكريم، ومن وجهة نظرنا فإن المقدار الذي ذكرناه يكفي لمعالجة هذا الموضوع ودراسته لكي يتمكن القارىء من تحديد المنهاج الذي سار عليه القفاري في سائر المواضيع التي عالجها في كتابه "أصول مذهب الشيعة" وفهم طبيعة الآليات التي استخدمها، بيد أن بعض ادعاءات الدكتور القفاري في هذا الكتاب تشكل ضربة قاصمة وخطيرة بحيث لا يتسنى للإنسان أن يمضي عليها دون اعتناء أو يتجاهلها دون اهتمام، وذلك نظراً للآثار البالغة السوء التي تتركها هذه الادعاءات في أذهان الآخرين.

ومن هذه الجهة سوف أحاول في هذا الملحق معالجة نقطتين أثارهما الدكتور القفاري على سبيل الاختصار والإيجاز.

الإدعاء الأول: يقول الدكتور القفاري:

"نحوت في دراسة الموضوع منحىً علمياً تكشفت فيه معالم جديدة


الصفحة 584

ولعل من أبرزها... اكتشاف صلة شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهاج السنة بأكبر تحول في تقويم النصوص عندهم وتقسيمها إلى صحيح وضعيف وموثق..."(1)

فهل صحيح أن التحول في تقويم الشيعة للنصوص كان مرتبطاً بابن تيمية وكتابه أو لا؟

الادعاء الثاني: وهو ادعاء كثيراً ما يكرّره الدكتور القفاري في كتابه وهو قوله: "... إنّ الشيعة يغيرون من كتب قدمائهم..."(2).

هل أنّ الشيعة فعلا غيرت من كتب قدمائها مضيفة أو منقصة شيئاً مما فيها؟

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 14.

2 ـ نفس المصدر: ص 291 وانظر أيضاً: ص 286، 287، 289، 291، 294 و...


الصفحة 585

الإدعاء الأوّل: صلة ابن تيمية بتقويم النصوص عند الشيعة

فهنا ندرس كشف القفاري للصلة ما بين ابن تيمية ومنهاج السنة وأكبر تحول في تقويم النصوص عند الشيعة، وتقسيمها إلى صحيح وضعيف وموثق.

قال الدكتور القفاري:

"يلحظ أن بداية تقويم الشيعة للحديث وتقسيمه إلى صحيح وغيره قد كانت في القرن السابع، وجاءت متوافقة مع حملة ابن تيمية عليهم في منهاج السنة حينما شنع على الشيعة قصورهم في معرفة علم الرجال.

إن التوافق الزمني بين ردّ ابن تيمية ووضعهم لهذا الاصطلاح قد ينبىء عن تأثرهم بنقد ابن تيمية لهم حيث اعترفوا بـ "أن هذا الاصطلاح (وهو تقسيم الحديث عندهم إلى صحيح وموثق وضعيف) مستحدث من زمن العلاّمة"(1).

والعلاّمة إذا أطلق في كتب الشيعة يقصد به ابن المطهر الحلي الذي ردّ عليه ابن تيمية، بل هناك ما يؤكد الموضوع أكثر، وهو أن ابن مطهر الحلّي هذا هو ـ كما يقول صاحب الوافي ـ "أول من اصطلح على ذلك وسلك هذا المسلك"(2). إذن ألا يدل هذا على أن لابن تيمية ومنهاج السنة أثراً في ذلك، وأن بدء ابن المطهر في وضع هذه المقاييس للشيعة إنما هو بسبب النقد الموجه له من ابن تيمية؟"(3)

لكن اكتشاف الدكتور القفاري هذا ليس سوى ادعاء موهوم، بعيد عن الأدلة

____________

1 ـ عن وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي: ج 20، ص 102.

2 ـ عن الوافي، المقدمة الثانية: ج 1، ص 11.

3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 385.


الصفحة 586
والإثباتات، وليس له أساس عدا تلك الرغبة الجامحة التي تشد الدكتور القفاري نحو إمامة في التعصب ومخالفة أهل البيت ابن تيمية.

إن الدليل الوحيد الذي يقدمه لنا الدكتور القفاري على ادعائه هذا هو التوافق الزمني ما بين ابن تيمية والعلاّمة الحلي (ت 762 هـ.)، وأن كتاب منهاج السنة لابن تيمية هو نقد على كتاب منهاج الكرامة في معرفة الإمامة الذي ألفه العلامة الحلي.

إننا نوافق الدكتور القفاري على مدعاه القول بأن ابن تيمية ترك أثره في العلامة الحلي نفسه عندما يثبت أمامنا بالدليل:

أ ـ أن العلاّمة الحلي كان قد قرأ كتاب منهاج السنة المخصص للردّ على منهاج الكرامة في معرفة الإمامة للعلاّمة الحلي نفسه.

ب ـ أن يكون العلامة الحلي قد استند في كتابه منهاج الكرامة على الروايات الشيعية حتى يؤدي انتقاد ابن تيمية له إلى التفتيش عن مخلص يضع النصوص الروائية الشيعية في دائرة الميزان والمقياس.

ج ـ أن يثبت أن أول شخص ابتكر فكرة وضع المقاييس لروايات الشيعة هو العلامة الحلي، وأنه هو الذي قام بتقسيم هذه الروايات إلى صحيح وحسن وموثق وضعيف.

هذا، ولكن إثبات هذه القضايا الثلاث أمر غير ممكن وذلك:

أولاً: إن الدكتور القفاري كأنه يغفل أو يتغافل عن أن الكتب السنية ـ وبقطع النظر عن الكتب الشيعية ـ قد ذكرت بأن كتاب منهاج السنة لابن تيمية لم يتعرض للرد من طرف العلامة الحلي، وأنه بمجرد أن لاحظ العلامة الحلي عنوان كتاب ابن تيمية "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية" قال: "لو كان يفهم ما

الصفحة 587
أقول أجبته"(1)، وذلك كناية عن أن الشيعة لم تكن قدرية في يوم من الأيام، أي أن العلامة الحلي كان يريد القول بأن نفس عنوان كتاب منهاج السنة الذي يعرّف الشيعة على أنهم قدريون يدلل على أن ابن تيمية لم يفهم حتى الآن المعتقدات الشيعية ولم يتعقلها جيداً حتى يقدم على نقده أو ردّه.

وبناء عليه فإننا نسأل الدكتور القفاري إن الكتاب الذي لم يقرأه العلامة الحلي على الإطلاق كيف يمكن أن يقع تحت تأثيرات مؤلفه حتى يكون ذلك باعثاً له على تأسيس تقسيم جديد لروايات الشيعة يضعها تحت أقسام أربعة؟

ثانياً: على تقدير قراءة العلامة الحلي الانتقادات التي سجلها ابن تيمية عليه في كتاب منهاج السنة، لكن ابن تيمية نفسه لم يتمسك في نقده هذا على كتاب منهاج الكرامة بروايات الشيعة أبداً، حتى يقع العلامة تحت تأثير ابن تيمية في هذه الردود ليضع على أساس ذلك مقاييس لتمييز الروايات الشيعية فيما بعد، ولتبقى مصوناً من تلك الهجمات التي قام بها ابن تيمية عليه، بل إن كافة روايات العلامة الحلي التي استند إليها إنما هي من كتب أهل السنة، فابن تيمية نفسه ـ كما يقول ابن حجر ـ هو الذي ردّ الكثير من الروايات السنية المعترف بها في أوساط أهل السنة والتي شكلت معتمداً للعلامة الحلي لإثبات الأفكارالشيعية، وقد وجه ابن تيمية إهانات كثيرة جداً إلى العلامة الحلي بحيث بلغت به الحال أن تعرض لنفس الإمام علي عليه السلام كما قاله ابن حجر(2).

____________

1 ـ لسان الميزان: الجزء الثاني، ص 587، رقم الترجمة: 2841، الدرر الكامنة: ج 2، ص 71، رقم الترجمة 1618، قال في الدرر الكامنة: ولما وصل إليه كتاب ابن تيمية في الرد عليه كتب أبياتاً أولها:

لو كنت تعلم كل ما علم الورى طراً لصرت صديق كل العالم
لكن جهلت فقلت أن جميع من يهوى خلاف هواك ليس بعالم

2 ـ قال ابن حجر في ترجمة ابن المطهر الحلي:

"طالعت الرد المذكور ـ أي رسالة منهاج السنة لابن تيمية ـ فوجدته... كثير التحامل إلى الغاية في ردّ الأحاديث التي يوردها ابن المطهر، وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد.. وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدته أحياناً على تنقيص علىّ عليه السلام". لسان الميزان: ج 7، ص 520، رقم الترجمة 9465.

وقال السيد محسن الأمين في تعليقه على كلام ابن حجر:

"... فهو قد أنصف بعض الإنصاف في قوله إن ابن تيمية تحامل في مواضع، وردّ أحاديث موجودة بأنها مختلقة، لكنه ما أنصف في قوله إنّها ضعيفة، فإن فيها المتواتر والمستفيض، وما روته الثقات وأودعته في كتبها الرواة". انظر أعيان الشيعة: ج 5، ص 398.

وأكتفي هنا بذكر هذا المثال فإنه يكفي.

هذا وحق ابن تيمية على أمثال الدكتور القفاري كبير حيث جرّأهم على ردّ وإبطال الأحاديث الجياد، ومرّنهم على استخدام أساليب الفحش والإهانات والسباب أكثر فأكثر.


الصفحة 588
ثالثاً: لقد وقع خلاف بين علماء الإمامية حول تحديد الشخصية الأولى التي قامت بتقسيم الأحاديث إلى أقسام أربعة، وهو ما بعث بعض العلماء للوقوف موقف الشك والترديد، وهل أن من قام بذلك هو أحمد بن طاووس أستاذ العلامة الحلي أو أنه نفس العلامة الحلي؟(1) ويضم المحدث الحر العاملي (م 1104 هـ.) نفسه إلى هذه الفئة ـ أي المترددين ـ قائلا:

"إن هذا الاصطلاح مستحدث في زمن العلامة أو شيخه أحمد بن

____________

1 ـ انظر معالم الدين وملاذ المجتهدين: ص 216 وما بعدها، وكذلك تلخيص مقباس الهداية: ص 23، وأيضاً منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان: ج 1، ص 4، بل يرى البعض أن هذه المصطلحات كانت موجودة في أوساط المتقدمين ولو بشكل آخر، ومن هذه الجهة كان القدماء يقولون: لفلان كتاب صحيح، أو "أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن فلان"، أو "فلان ضعيف"، وضعيف الحديث ونحو ذلك، راجع تلخيص مقباس الهداية: ص 24، ولمزيد من التفصيل يمكن مراجعة تعليقات محمد إسماعيل الخواجوئي (م 1173 هـ.) على مشرق الشمسين للشيخ البهائي: ص 31 ـ 33.


الصفحة 589

طاووس كما هو المعلوم"(1).

والملاحظ أنّ الدكتور القفاري قد استند إلى نفس هذه العبارة لإثبات مدعياته، بيد أنّه ـ ومع الأسف ـ قام بحذف الفقرة التي تقول "أو شيخه ابن طاووس" علّه بهذا التقطيع لكلمات الحرّ العاملي أن يبلغ ذاك الكشف الذي ادّعاه.

وإنّما أقدم على هذه الخيانة التي فعلها في عبارة الحر العاملي بتقطيعه النص ليستنتج منها بعد ذلك قائلا:

"وكأنّ... رواياتهم (أي الشيعة) كانت بلا زمام ولا خطام حتى شنع الناس عليهم بذلك فاتجهوا حينئذ لذكر الاسناد..."(2).

وهي نتيجة كاذبة نجمت عن ذاك التقطيع القبيح(3).

____________

1 ـ وسائل الشيعة: ج 20، ص 96 و102..

2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 385.

3 ـ ذلك أن الحر العاملي لم يقل أبداً بأن روايات الشيعة كانت بلا زمام ولا خطام ما قبل هذا الاصطلاح الجديد، بل ـ وفقاً لمشربه الأخباري ـ قائل بصحة (بالمعنى القديم لهذا المصطلح) الروايات في كتابه وسائل الشيعة، وقد استفاد منها وتحدث حول هذا الموضوع بالتفصيل، راجع وسائل الشيعة: ص 96 وما بعدها.


الصفحة 590

الإدعاء الثاني: تغيير الشيعة في كتب قدمائهم

فهنا ايضاً ندرس ادعاء الدكتور القفاري فيما يتعلّق بتغيير الشيعة ما في كتب قدمائهم، يقول الدكتور القفاري فيما يتعلق بكتاب من لا يحضره الفقيه:

"زادوا في روايات كتاب من لا يحضره الفقيه لابن بابويه أكثر من الضعف كما سيأتي في فصل اعتقادهم في السنة"(1).

إن كتاب القفاري بين أيدينا، وها هو الفصل المعنون بعنوان "اعتقادهم في السنة" لا نجد فيه عيناً ولا أثراً لهذا البحث بل ولا نجد ذلك في أي فصل آخر، ومن ثم فلا نجد ما يدفعنا للبحث في ردّ هذا الادعاء الذي أقامه الدكتور القفاري(2).

أما فيما يتعلق بالكتب الأخرى فيكتب قائلا:

"إن كتبهم الأربعة الأولى (أي الكافي، وتهذيب الأحكام، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه) لم تخل من دسّ وزيادة، وآية ذلك أن تهذيب الأحكام للطوسي بلغت أحاديثه (13950) حديثاً كما ذكر آغا بزرك الطهراني في الذريعة ومحسن العاملي في أعيان الشيعة وغيرهما من شيوخهم المعاصرين، في حين أن الشيخ الطوسي نفسه صرح في كتابه عدة الأصول بأن أحاديث التهذيب وأخباره تزيد على (5000)، ومعنى ذلك أنها لا تصل إلاّ إلى (6000) في أقصى الأحوال، فهل زيد عليها أكثر من الضعف في

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 289.

2 ـ نعم، إن للدكتور القفاري الكثير من هذه الإحالات التي لا اسم لها ولا عنوان، وكنموذج من هذا الأمر قوله: "إن مسألة الاسناد عندهم قد وجدت بعض القرائن ـ كما سيأتي ـ التي تدل على أنها صنعت متأخرة كما أن من أساليبهم وضع الأسانيد الصحيحة لمتون مكذوبة". اصول مذهب الشيعة: ص 226، وهذا الادعاء الذي يحيل إليه الدكتور القفاري بقوله (كما سيأتي) لم يتعرض له في أي مكان من كتابه حتى نبحث عنه ونحلله.


الصفحة 591

العصور المختلفة؟! الدليل المادي الملموس أمامنا يؤكد ذلك.

وأيضاً تراهم اختلفوا هل كتاب الروضة ـ وهو أحد كتب الكافي التي تضم مجموعة من الأبواب وكل باب يتضمن عدداً كبيراً من الأحاديث ـ هل هو تأليف الكليني أم مزيد فيما بعد على كتابه الكافي، فكأنّ أمر الزيادة شيئاً طبيعياً ووارد في كل حال.

بل الأمر أخطر من ذلك، فإن شيخهم الثقة عندهم حسين بن حيدر الكركي العاملي (م 1076 هـ.) قال: إن كتاب الكافي خمسون كتاباً بالأسانيد التي فيه لكل حديث متصل بالأئمة بينما نرى شيخهم الطوسي (م 360 هـ. هكذا في كتاب الدكتور القفاري، والصحيح 460 هـ.) يقول: "كتاب الكافي مشتمل على ثلاثين كتاباً أخبرنا بجميع رواياته الشيخ....".

فهل زيد على الكافي للكليني فيما بين القرن الخامس والحادي عشر عشرون كتاباً، مع أن كل كتاب يضم عشرات الأبواب، وكل باب يشمل مجموعة من الأحاديث؟! لعل هذا أمراً طبيعياً فمن كذب على رسول الله والصحابة والقرابة فمن باب أولى أن يكذب على شيوخه... وشواهد هذا الباب كثيرة"(1).

النقد:

أولا: لنفرض المحال، أن الدكتور القفاري كان مصيباً في دعواه التحريف هذه، فهي مرتبطة بكتابين من الكتب الأربعة، وهما التهذيب والكافي، إذن فلماذا يعمم القفاري حكمه مدعياً شمول التغيير للكتب الأربعة قائلا: "إن كتبهم الأربعة الأولى لم تخل من دسّ وزيادة"؟!

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 260 ـ 261.


الصفحة 592
ثانياً: إن قول الدكتور القفاري: "إن الشيخ الطوسي نفسه صرح في كتابه عدّة الأصول بأن أحاديث التهذيب وأخباره تزيد على (5000)" مستنتجاً عقب ذلك أنه "زيد على كتاب التهذيب أكثر من الضعف في العصور المختلفة"، هذا القول هو من أساسه نتيجة عملية خيانة علمية تورط فيها الدكتور القفاري، فنص عبارة الشيخ الطوسي في عدة الأصول ليس كذلك، بل هو على الشكل التالي:

"وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث المختلفة التي تختص الفقه في كتابي المعروف بـ "الاستبصار" وفي كتاب "تهذيب الأحكام" ما يزيد على خمسة آلاف حديث"(1).

وبناء عليه فإن كلام الشيخ الطوسي إنما يتعرض لبيان كمية الأخبار المختلفة (أي الأحاديث المتعارضة) في كتابي تهذيب الأحكام والاستبصار، ولا علاقة لكلامه بحجم الأحاديث الواردة في هذين الكتابين بأجمعهما(2)، وهنا نجدد مرة

____________

1 ـ عدة الأصول: ج 1، ص 137، قال الشيخ الطوسي لدى بيانه أدلة جواز العمل بخبر الواحد: "ومنها... ما ظهر بين الفرقة المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بتلك الأخبار المختلفة... يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه ولم ينته إلى تضليله... وفي ذلك دليل على جواز العمل بما عملوا به الأخبار" ثم تعرض الشيخ لكمية الأخبار المختلفة (أي المتعارضة) ليقول: "وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث المختلفة... ما يزيد على خمسة آلاف حديث".

2 ـ إن عدد روايات كتاب "تهذيب الأحكام" هو ما ذكره آغا بزرك الطهراني والسيد محسن الأمين العاملي، وهو ما يقارب (13950) من بينها حوالي (5000) حديث من الأخبار المتعارضة، وقد أفرد الشيخ الطوسي لهذه الأخبار كتاباً مستقلا أسماه "الاستبصار فيما اختلف من الأخبار" محاولا في هذا الكتاب إزاحة شبح التعارض عنها وتقديم توفيقات فيما بينها وفقاً للقواعد المقررة في علم أصول الفقه، ويصرح الشيخ الطوسي في مقدمة الاستبصار (1: 2 ـ 3) وفي آخره بعدد تلك الروايات المختلفة ويقول: "أبواب الكتاب تسعمائة وخمسة وعشرون باباً تشتمل على خمسة آلاف وخمسمائة وأحد عشر حديثاً حصرتها لئلاّ يقع فيها زيادة أو نقصان". انظر الاستبصار: ج 4، ص 343.

والأمر المثير للدهشة والتعجب هو إقرار الدكتور نفسه ـ في موضع آخر من كتابه (ص 359) ـ بأنه رأى كتاب الاستبصار ومقدمته وعلى أساس من ذلك يكتب: "وهو (أي كتاب الاستبصار) لا يعدو أن يكون اختصاراً لكتاب تهذيب الأحكام للطوسي كما صرح بذلك الطوسي في مقدمة الاستبصار"، ومع أن الدكتور القفاري قد رأى نفس عبارة الشيخ الطوسي وفهمها واعياً أن كتاب الاستبصار كما يفيده اسمه مخصص للبحث حول الأخبار المتعارضة، لكنه هنا يرتكب خيانة جديدة بحذفه عبارة "الأحاديث المختلفة" من كلام الشيخ الطوسي.


الصفحة 593
أخرى سؤالنا للدكتور القفاري، لماذا لا تراع أيها الدكتور الأمانة العلمية؟ ولماذا حذفت عبارة الأحاديث المختلفة ووضعت مكانها عبارة "أحاديث التهذيب وأخباره تزيد على (5000)..." هل هذه طريقة علمية ودفاع عن الدين؟!

ثالثاً: إن كتاب "الروضة من الكافي" من وجهة نظر علماء الإمامية من تأليفات ثقة الإسلام أبي جعفر الكليني رحمه الله(1)، والشخص الوحيد الذي أثار الشكّ ووقف موقف المتردد من هذا الأمر هو "خليل بن الغازي القزويني" (م 1089 هـ.)، وإنّه أيضاً بل إنه لم يشكك في أصل كون كتاب الروضة من تأليفات الكليني وإنما تردد في كونه جزءاً من كتاب الكافي أم لا، أي أنه تردد في كونه كتاباً مستقلا أو جزءاً من الكافي، يقول القزويني في هذا الصدد في شرحه على الكافي ما معربه:

"اشتمل كتاب الكافي ثلاثة وثلاثين كتاباً، فإن كان كتاب الروضة من الكافي فحينئذ يكون كتاب الكافي أربعة وثلاثين كتاباً"(2).

وهنا نسأل الدكتور القفاري على سبيل فرض المحال، لو فرضنا أن شخصاً واحداً أثار تشكيكاً في صحة نسبة كتاب الروضة إلى الكليني فهل يحق لنا سوق الكلام مساقاً عاماً والقول بأنهم "تراهم اختلفوا هل كتاب الروضة من تأليف

____________

1 ـ منهم أبو العباس أحمد بن علىّ النجاشي (م 450 هـ.) في رجال النجاشي: ج 2، ص 291، وشيخ الطائفة الطوسي (م 460 هـ.) في الفهرست: ص 165 وغيرهما.

2 ـ الصافي، شرح الكافي، الملا خليل القزويني: ص 31.


الصفحة 594
الكليني... فكان أمر الزيادة شيء طبيعي ووارد في كل حال" فهل هذا الحكم حكم عادل؟!

هذا ويسرني أن أستحضر هنا ما ذكره الدكتور حسين علي محفوظ(1) حول الموضوع فيما كتبه استجابة للفاضل علي أكبر الغفاري محقق كتاب الكافي:

"وقد سألتني عن الروضة... أقول: صنف الكليني رحمه الله كتاب (الكافي) في الأصول والفقه... ولما أكمل الكليني كتابه هذا، وأتم ردّ موارده إلى فصولها، بقيت عنده زيادات كثيرة من خطب أهل البيت ورسائل الأئمة وآداب الصالحين وطرائف الحكم وأبواب العلم، ممّا لا ينبغي تركه، فألّف هذا المجموع الانف وسماه "الروضة" لأن الروضة منبت أنواع الثمار ومعدن ألوان الزهر..."(2).

رابعاً: إن كتاب الكافي كتاب معروف من زمن الكليني إلى عصرنا الراهن، وهو كتاب متصل الاسناد والرواية مع تغير الأزمان وتبدل الدهور والأيام، وقد كان شيوخ أهل عصره يقرؤونه عليه ويروونه عنه سماعاً وإجازة، قال النجاشي:

"... جماعة من أصحابنا يقرؤون كتاب الكافي على (تلميذه) أبي الحسين أحمد بن أحمد الكوفي الكاتب"(3).

وروى هذا الكتاب جماعة من أفاضل علماء الشيعة عن طائفة من كملة حملة.

ومـن رواته من الأقدمين أبـو جعفر الصـدوق(4) (م 381 هـ.) والشـيخ

____________

1 ـ كتب مقدمة قيمة علمية حول الكافي ومؤلفه ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني الرازي، انظر مقدمة كتاب الكافي، بقلم الدكتور حسين علىّ محفوظ.

2 ـ مقدمة الروضة من الكافي، تصحيح علي أكبر الغفاري: ص 9 ـ 10.

3 ـ رجال النجاشي: ج 2، ص 291.

4 ـ من لا يحضره الفقيه: ج 4، الباب 99، ص 151، والباب 115، ص 165.


الصفحة 595
المفيد(1) (م 413 هـ.)، والسيد المرتضى(2) (م 436 هـ.)، وأبي العباس أحمد بن علىّ النجاشي(3) (م 450 هـ.)، وشيخ الطائفة الطوسي(4) (م 460 هـ.) وغيرهم.

وممن روى عن الكافي من أهل السنة عبد الكريم الشهرستاني(5) (م 548 هـ.) في تفسيره، وغيره من العلماء...(6) أما ما نسبه إلى السيد حسين بن السيد حيدر الكركي العاملي (م 1076 هـ.) من قوله: "إن كتاب الكافي خمسون كتاباً..." فهو ـ بالتأكيد ـ إما من سهو القلم أو اشتباه من النساخ أو على أبعد التقادير حساب من جانب السيد الكركي يجعل فيه بعض الأبواب أبواباً مستقلة، ودليلنا على هذا الأمر هو:

أ ـ لم يقل أحد من علماء الإمامية بأن كتاب الكافي مشتمل على خمسين كتاباً، فها هم علماء الإمامية وكبارهم من القدماء والمتأخرين حتى من كان منهم معاصراً للسيد الكركي وحتى أولئك الذين أتوا على سرد فهرس كتاب الكافي بشكل مفصل(7)، لم يذكر أحد منهم على الإطلاق أمراً من هذا القبيل، وهو أن كتاب

____________

1 ـ تفصيل وسائل الشيعة: ج 3، ص 519. (من الطبعة المكونة من عشرين مجلداً).

2 ـ رسائل الشريف المرتضى: ج 1، ص 291.

3 ـ رجال النجاشي: ج 2، ص 291.

4 ـ تهذيب الأحكام: ج 2، ص 480، والاستبصار: ج 2، ص 353، وخلاصة الأقوال: ص 136.

5 ـ مفاتيح الأسرار ومصابيح الأنوار، مخطوط، الورقة 2 (ب) و29 (ب)، والمطبوع: ج 1، ص 70 و89.

6 ـ انظر مقدمة الكافي للدكتور حسين محفوظ.

7 ـ انظر: رجال النجاشي لأبي العباس النجاشي (م 450 هـ.): ج 2، ص 291، والفهرست للشيخ الطوسي (م 460 هـ.): ص 165، ومعالم العلماء لابن شهرآشوب (م 588 هـ.): ص 99، وذكرى الشيعة في أحكام الشريعة لأبي عبد الله محمد بن مكي الشهيد الأول (م 784 هـ.): ص 6، ووصول الأخبار إلى أصول الأخبار للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي (م 984 هـ.) ومشرق الشمسين واكسير السعادتين لشيح الإسلام بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي (م 1030 هـ.): ص 102 ـ 104، وهكذا عدد كتب الكافي الموجودة في شروحه كشرح الجامع لمحمد صالح المازندراني (م 1080 هـ.) والصافي في شرح أصول الكافي للملا خليل بن الغازي القزويني (م 1089 هـ.): ص 31، ومرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول لمحمد باقر المجلسي (م 1110 هـ.)...


الصفحة 596
الكافي مكوّن من خمسين كتاباً.

ب ـ إن كتاب الكافي موجود بأيدينا اليوم، وقد تم تحقيقه وطباعته لمرات كثيرة وعليه فبإمكاننا نحن والدكتور القفاري حساب عدد كتبه، هل هي فعلا خمسون كتاباً أو لا؟ وعليه، إنه لأمر مثير للعجب والاستغراب أن يكون كتاب الكافي أحد المصادر التي اعتمدها الدكتور القفاري في دراساته والتي رجع إليها في تحقيقاته مرات ومرات ناقلا عنها العديد من الروايات، أفهل كان هذا الكتاب ـ والسؤال موجه إلى الدكتور القفاري ـ مؤلفاً من خمسين كتاباً؟ هلا حسبها بنفسه ليتأكد من هذا الأمر.

إن الدكتور القفاري كأنه ملتفت إلى هذا الحكم غير العادل الذي يصدره في هذا الموضوع وهو لكي يقنع قارئه، يكتب في خاتمة ادعائه هذا: "وشواهد هذا الباب كثيرة"(1) فأية شواهد هذه؟ ولماذا لم يأت على ذكرها في كتابه؟

إننا نطالبه بالإتيان بشاهد على هذا الادعاء الذي تقدم به، وأن يذكر لنا أسماء تلك الكتب العشرين التي تمت إضافتها إلى الكافي نفسه وتحديد مواضعها من الكتاب مهما كانت، بل إذا أمكنه أن يأتينا برواية واحدة في المصادر الشيعية أو السنية منقولة عن كتاب الكافي دون أن تكون هذه الرواية موجودة في كتاب الكافي الذي بأيدينا فهذا أمر جيد يمكنه من القول: إن هذه الرواية جزء من تلك الكتب العشرين التي أسقطت من كتاب الكافي!!

إن الغرض الذي ابتغاه الدكتور القفاري وسعى إليه عبر إثباته وجود دس

____________

1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 361.


الصفحة 597
وزيادة في الكتب الشيعية الأربعة الأولى ـ وهو أمر لم يوفق فيه ـ وكان الأجدر به أن يتطرّق لما ذكره الكثير من أعلام السنة حول كتبهم ومناقشتها ففيها المجال الكثير من أمثال هذه الحكايات. وهنا نكتفي بذكر بعض الأمثلة على هذا الأمر:

أ ـ اختلاف روايات الموطأ لمالك بن أنس(1).

قالوا:

"روي عن مالك روايات مختلفة تختلف في ترتيب الأبواب وتختلف في عدد الأحاديث حتى بلغت هذه الروايات عشرين نسخة، وبعضهم قال: إنها ثلاثون"(2).

وقالوا أيضاً:

"وبين الروايات اختلاف كبير من تقديم وتأخير وزيادة ونقصان، ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب، قال ابن حزم: في رواية أبي مصعب زيادة على سائر الموطآت نحو مائة حديث، وقال السيوطي: في رواية محمد بن الحسن الشيباني أحاديث كثيرة يسيرة زيادة على الموطآت"(3).

____________

1 ـ وهو عند الشافعي أصح الكتب بعد كتاب الله، وأطلق جماعة على الموطأ اسم الصحيح، راجع شرح الزرقاني على الموطأ: ج 1، ص 9، وتنوير الحوالك: ص 8.

2 ـ شرح الزرقاني على الموطأ: ج 1، ص 7، وفيه: "عن ابن الهياب أنه خمسمائة حديث... وعن الكيالهراسي أنه سبعمائة، وعن سليمان بن بلال أنه ألف ونيف وعن أبي بكر الأبهري المسند منها ستمائة حديث، وعن الغافقي مسند الموطأ ستمائة حديث وستة وستون".

3 ـ أضواء على السنة المحمدية: ص 312، هذا، وقال أحمد أمين في سبب هذا الاختلاف: "إن مالكاً لم ينته من نسخة يؤلفها ويقف عندها، بل قد كان دائم التغيير فيها... وحذف ما لم يثبت صحته منها، فالذين سمعوا الموطأ سمعوه من مالك في أزمان مختلفة..." انظر ضحى الإسلام: ج 2، ص 215.

وهذا التعليل عليل لا محالة; ذلك أنه لو كان صحيحاً لكان لا بدّ أن يكون عدد روايات الموطأ برواية أبي مصعب أقل من الآخرين، لأن أبا مصعب كان آخر من روى الموطأ عن مالك لصغر سنه، وعاش بعد مالك 63 سنة، والحال أن الأمر على العكس من ذلك تماماً، وكما قال ابن حزم: في رواية أبي مصعب زيادة على سائر الموطآت نحو مائة حديث.


الصفحة 598

ب ـ اختلاف روايات صحيح البخاري.

قال ابن الصلاح في عدد أحاديث صحيح البخاري:

"سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً بالأحاديث المكررة، وقد قيل إنها بإسقاط المكرر أربعة آلاف حديث"(1).

وقال ابن خلدون في المقدمة:

"إنها 9200 تسعة آلاف ومائتان"(2).

وتبعه ابن حجر، قال في كشف الظنون عن ابن حجر:

"وجملة ما فيه المكرر تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثاً خارجاً عن الموقوفات على الصحابة والمقطوعات على التابعين"(3).

وقد حرره في مقدمة كتاب فتح الباري:

"إن عدة ما في البخاري من المتون الموصولة بلا تكرار 2602، ومن المتون المعلقة المرفوعة 159، فمجموع ذلك 2761"(4).

وقال في شرح البخاري إن عدته على التحرير 2513 حديثاً!!(5) وفي كتاب شروط الأئمة الخمسة قال:

"عدد أحاديث البخاري يزيد في رواية الفربري على عدده في رواية

____________

1 ـ مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث: ص 23.

2 ـ مقدمة ابن خلدون: ج 3، ص 1039.

3 ـ كشف الظنون: ج 1، ص 544.

4 ـ مقدمة فتح الباري: ص 477.

5 ـ نفس المصدر: ج 1، ص 70، آخر كتاب التوحيد.


الصفحة 599

إبراهيم بن معقل النسفي بمائين ويزيد عدد النسفي على عدد حماد بن شاكر النسفي بمائة كما ذكره العراقي"(1).

وقالوا:

"مات البخاري قبل أن يتم تبييض كتابه، قال أبو الوليد الباجي: ويدل عليه اختلاف رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشميهني ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع أنهم استنسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما، فأضافه إليه ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث"(2).

واعترف بعض أهل السنة كابن قتيبة(3) والآلوسي(4) بوجود الدس والزيادة في مسند أحمد وغيره.

*  *  *

____________

1 ـ ص 58، نقلا عن أضواء على السنة المحمدية: ص 322.

2 ـ فتح الباري: ج 1، ص 5.

3 ـ عن أضواء على السنة المحمدية: ص 347.

4 ـ روح المعاني: ج 12، ص 216.


الصفحة 600