كان الكتاب عبارة عن محاولة من مؤلفه ومحققيه لاضفاء طابع الشرعية على كل المواقف التي اتخذها الصحابة في الفتنة التي وقعت في خلافة عثمان وما بعدها، والاعتذار لهم عن كل ما بدا منهم.
لكن الأمر الذي أثار استغرابي هو أن المؤلف يلقي آراءه من خلال الروايات التي يستشهد بها دون الاشارة الى مصادرها، ودون ذكر أسانيدها كما هو متعارف عليه عند المصنفين القدامى، وذلك ما حاول المحققون وبخاصة محب الدين الخطيب تلافيه بالارجاع الى المصادر والتعليق عليها وتفصيل ما ذكره ابن العربي مجملا. الاّ أن القاضي ابن العربي يحاول فرض آرائه على القارئ ويطالبه بتصديقها دون مناقشة، وكأنه شاهد عيان يروي كل ما جرى على حقيقته، مع اعترافه بأن الفاصلة الزمنية بينه وبين تلك الحوادث هي خمسة قرون، وكما تبين في تاريخ وفاته من ترجمته.
كنت كلما استغرقت في قراءة الكتاب، تبين لي هفواته أكثر فأكثر، فهو يرفض جملة من الأخبار عن بعض الحوادث التاريخية التي هي في حكم المسلّمات عند جمهور المسلمين بكافة طوائفهم، مثل قضية الحوأب وغيرها.
____________
1- قال الذهبي في تذكرة الحفاظ 4: 1294: ذكره أبو يحيى اليسع بن حزم وبالغ في تعظيمه وتقريظه وقال: فولي القضاء فمُحِن وجرى في اعراض الامارة فلحق وأصبح تتحرك بآثاره الالسنة، نصب الشيطان عليه شباكه وسكن الادبار حراكه، فأبداه للناس صورة تُذم وسوءة تبلى، لكونه تعلق بأذيال الملك، ولم يجر مجرى العلماء في مجاهرة السلاطين وحربهم، بل داهن، ثم انتقل الى قرطبة معظماً مكرما حتى حوّل الى العدوة فقضى نحبه... قال ابن بشكوال: توفي ابن العربي بالعدوة بفاس في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وفيها أرّخه الحافظ ابن المفضل والقاضي ابن خلكان، وفي تاريخ ابن النجار في نسخة نقلت منها: سنة ست وأربعين، والأول صحيح.
"وأما معاوية: فعمر ولاّه، وجمع له الشامات كلها، وأمّره عثمان، بل إنما ولاّه أبو بكر الصديق(رضي الله عنه)، لأنه ولّى أخاه يزيد، واستخلفه يزيد، فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتعلق عثمان بعمر وأمّره; فانظروا الى هذه السلسلة ما أوثق عراها..."(1).
ولكن فات ابن العربي انّ السلسلة قد انقطعت بتولي علي بن أبي طالب الخلافة، ولو كان معاوية كما يصفه ابن العربي حقيقة، فلماذا لم يقرّه علي أيضاً تعلقاً بأسلافه، ولماذا أراد إزاحته عن ولاية الشام؟ اليس معنى ذلك ان معاوية قد ارتكب في خلافة عثمان اُموراً استحق عليها العزل؟ نعم، ربما كان معاوية مستقيماً في عهد أبي بكر وعمر، وبخاصة وأن عمر كان شديد الوطأة على ولاته وعمّاله يحاسبهم حساباً عسيراً، فاضطر معاوية للاستقامة خوف العزل، ولكن يبدو أن تساهل عثمان معه قد أطمعه ودفعه الى ارتكاب اُمور غير مشروعة دون خوف من عقاب أو عزل، مما حدا بعلي بن أبي طالب أن يعيد النظر في أمره ويقرر عزله فوراً عن ولاية الشام، إلاّ إذا قلنا أن علياً كان ظالماً لمعاوية دونما سبب وأراد عزله دون وجه حق، ولا أظن أن أحداً يقبل بمثل هذا القول، ولا حتى ابن العربي نفسه.
إلاّ أن عبارة للشيخ محب الدين الخطيب اعجبتني كثيراً وأفادتني فيما بعد، وهي قوله:
ومعيار الأخبار في تاريخ كل اُمة الوثوق من مصادرها، والنظر في
____________
1- العواصم من القواصم: 95.
ومن مزايا التاريخ الاسلامي -تبعاً لما جرى عليه علماء الحديث- أنه قد تخصص فريق من العلماء في نقد الرواية والرواة، وتمييز الصادقين منهم عن الكذبة، حتى صار ذلك علماً محترماً له قواعد، واُلفت فيه الكتب، ونظمت للرواة معاجم حافلة بالتراجم، فيها التنبيه على مبلغ كل راو من الصدق والتثبت والأمانة في النقل، وإذا كان لبعضهم نزعات حزبية أو مذهبية قد يجنح معها الى الهوى ذكروا ذلك في ترجمته ليكون دارس أخبارهم ملماً بنواحي القوة والضعف من هذه الأخبار. والذين يتهجمون على الكتابة في تاريخ الاسلام وتصنيف الكتب فيه قبل أن يستكملوا العدة لذلك - ولا سيما في نقد الرواة ومعرفة ما حققه العلماء في عدالتهم أو تجريحهم- يقعون في أخطاء كان في إمكانهم أن لا يقعوا فيها لو أنهم استكملوا وسائل العلم بهذه النواحي(1).
عبارة الشيخ الخطيب دفعتني الى التأمل والتساؤل: لماذا أظل معتمداً على آراء الآخرين وأنتظر منهم حلّ مشاكلي الفكرية؟ لماذا لا أبدأ العمل بنفسي وأحقق كتب التراث متبعاً الاُسلوب العلمي في عصر كثرت فيه البحوث والدراسات؟ أن بامكاني حتماً أن استفيد من تجارب الآخرين وبحوثهم
____________
1- العواصم من القواصم: 76 هامش: 66.
وبدأت فعلا عملية البحث التي قادتني في رحلة طويلة بين طيات كتب التراث، والتي ساُحاول تلخيصها في هذا الكتاب والله ولي التوفيق.
الفصل الثاني
التاريخ الإسلامي
التاريـخ الإسلامــي
من الاُمور التي باتت تلفت الانتباه، هي النداءات الكثيرة التي تطالب بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي وتنقيته مما قد علق به، بهدف الخروج بتاريخ صحيح يحفظ للاُمة الاسلامية تراثها العريق، ويقطع الطريق أمام محاولات الدس والتشويه فيه.
ولعل من حق الفرد المسلم أن يتساءل: أين يكمن الخلل في تاريخنا حتى بات من المحتّم إعادة كتابته من جديد؟!
لقد ظلت الاُمة تتلقى تاريخها من المصادر المعروفة التي دُوّنت قبل أكثر من ألف عام، وبالتحديد عندما ظهرت المدوّنات التاريخية الكبرى، وبخاصة (تاريخ الاُمم والملوك) للمؤرخ الكبير (محمد بن جرير الطبري) المتوفى سنة (310 هـ)، ومنذ ذلك اليوم أصبح هذا السِّفر الضخم، هو المصدر الرئيس الذي ينهل منه المؤرخون ويستقون معلوماتهم عن الفترة الأكثر أهمية وحساسية من تاريخ الاُمة الإسلامية، ألا وهي الفترة الممتدة من مبعث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم وفاته وبدء عصر الخلافة الراشدة، وما تبع وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) من خلاف بين المسلمين، أدّى الى وقوع الفتنة الكبيرة في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، والتي آلت في نهاية الأمر الى مصرع الخليفة نفسه، ثم ما تبع ذلك من حروب دامية بين المسلمين أنفسهم وللمرة الاولى
لقد كانت الخطوط العريضة لهذه الحوادث واضحة يتناقلها المؤرخون الذين جاءوا من بعد الطبري جيلا إثر جيل، دون تغيير مهم، حتى جاءت الموجة الجديدة من الغرب بعد نهضته، يركبها بعض الباحثين المتخصصين الذين اُصطلح على تسميتهم بالمستشرقين، فراحوا يجوبون أقطار الأرض -ومنها البلاد الاسلامية- ويستخرجون كنوزها الثقافية، منكبّين على دراستها وتمحيصها، متّبعين أساليب جديدة في البحث، أساسه النقد الموضوعي، ومن ثم تسطير آرائهم النقدية وتحليلاتهم هذه في كتب ألّفوها وقاموا بنشرها على نطاق واسع مستفيدين من تطوّر الطباعة في سرعة الانجاز والنشر.
وكانت أهداف هؤلاء المستشرقين من هذا العمل تنصبّ في اتجاهين: أحدهما نزيه يستهدف خدمة العلم وإغناء الثقافة البشرية بما يهيؤه ذلك العمل من تمازج في التراث الانساني، والاتجاه الآخر خبيث مدفوع من أوساط معيّنة تهيء للاستعمار الغربي وسيلة فعّالة للغزو الثقافي الذي هو أخطر أنواع الغزو، من خلال تنشئة جيل جديد من المسلمين، مقطوع الصِّلة بتراثه الأصيل عن طريق زرع بذور الشك في نفوس الناشئة، تمهيداً لسلخهم من تراثهم الإسلامي الأصيل، ذلك لأن "معظم المستشرقين النصارى هم من طبقة رجال الدين، أو من المتخرجين من كليات اللاهوت، وإنهم وان تطرقوا الى
وعلينا أن نعترف بأن اُولئك المستشرقين قد حققوا نجاحاً خطيراً في مسعاهم هذا، حيث إن البعثات العلمية التي خرجت من البلاد الإسلامية الى الغرب بهدف الدراسة في جامعاته، قد ضمّت عدداً غير قليل من الطلاب الذين وقعوا فريسة لهذا التغريب الثقافي الذي انعكس في مؤلفات العديد منهم، والتي كانت محض تعريب لأفكار وطروحات اُولئك المستشرقين الذين نجحوا في إيقاعهم في الشَّرَك.
أمام هذه الموجة الارتدادية الحضارية، بدأت تتعالى النداءات من قبل بعض الجهات في العالم الاسلامي - استجابة لنداءات المخلصين الذين راحوا يحذّرون من مكائد اولئك المستشرقين ويفضحون تخرصاتهم -تطالب باعادة كتابة التاريخ الإسلامي والمحافظة على هذا التراث الخالد، حفظاً للأجيال القادمة من عبث أعداء الإسلام بهم.
أهمية علم التاريخ
قد يعتقد بعض السطحيين أن التاريخ ليس إلاّ سرداً لوقائع ماضية قد عفا عليها الزمان، فما الحاجة الى الاهتمام به الى هذا الحد، بدلا من الالتفات الى الانجازات العلمية، ومحاولة اللحاق بالركب العالمي بدلا من الانشغال بملاحقة أحداث وقعت منذ قرون، لا يجدي البحث فيها شيئاً ولا يغني
____________
1- تاريخ الإسلام، جواد علي: 10.
لكن الحقيقة أن هذه النظرة الى التاريخ - وبخاصة التاريخ الاسلامي- قاصرة تماماً عن إستيعاب حركة الصراع الحضاري العالمي الذي يمثل التاريخ أحد أهم أوجهه، فالمسلمون ينظرون الى تاريخهم على أنه جزء لا يتجزأ من عقيدتهم الدينية نفسها، فأبطال هذا التاريخ ليسوا كأبطال التاريخ اليوناني والروماني وغيرهما من الاُمم، لأن دور اولئك الأبطال كان محدوداً بتلك الحقب التي عاشوها أو التي امتدت بعدهم الى حين، أما شخصيات التاريخ الإسلامي، فتتمثل أهميتهم في ارساء قواعد عقيدية لها ارتباط تام بفلسفة الفرد المسلم ومجتمعه الذي تتحكم فيه العقيدة الإسلامية وما يترتب على ذلك من آثار تتعلق بكافة النواحي الحياتية للفرد والمجتمع، وبما يكفل للمسلم نفحات روحية تجعل لوجوده على هذا الكوكب معنىً أسمى من مجرد بناء هياكل عمرانية واُسس حضارية خالية من القيم الروحية التي تشدّ أجزاء المجتمع الإسلامي بعرىً وثيقة لا تنفصم، تلك العرى التي تفتقر اليها معظم المجتمعات الغربية العلمانية المتحضرة، لأن تاريخها لا يمثل بالنسبة اليها جزءاً من عقيدتها الدينية.
أما بالنسبة للمسلمين، فإن لتاريخهم خصوصية خاصة بالنسبة لهم "لأن هذه الاُمة ذات وضع معين في التاريخ... إنها ليست مجرد اُمة من اُمم الأرض، إنها اُمة الرسالة الخالدة التي حملت رسالة الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) الذي اُرسل الى البشرية كافة، والى قيام الساعة"(1).
____________
1- كيف نكتب التاريخ، محمد قطب: 19.
نظرتان مختلفتان للتاريخ
قلنا إن الأصوات بدأت تتعالى للبدء بكتابة التاريخ الإسلامي من جديد، إلاّ أن هذه النداءات كانت ذات اتجاهين مختلفين: أحدهما اتجاه محافظ يحاول التشبث بالتاريخ الموروث الى حدّ التطرف ورفض أي مناقشة أو تعديل فيه، وبشكل انسحب فعلا على اُسلوب كتابات عدد من المؤلفين والباحثين الذين راحوا يرددون مقالات المؤلفين القدامى بعد صياغتها في قوالب جديدة من حيث الشكل، قديمة من حيث المحتوى، وتيار آخر يعتمد الاستفادة من مناهج البحث الحديثة في نقد التاريخ الإسلامي ومحاولة الكشف عن الحقائق التي يمكن استخراجها من خلال كمٍّ هائل من الروايات المتضاربة التي تميز التاريخ الإسلامي عن بقية الاُمم.
وقد وجد كل من التيارين أنصاراً يدعمونه، إلاّ أن التيار المحافظ كان أكثر رجحاناً، لأن بعض المؤسسات الدينية - التي تستمد نفوذها غالباً من الرأي العام- قد دعمته بكل قوة، ذلك لأن هذه المؤسسات غالباً ما تميل الى تقديس تراث الأسلاف، وتعتبر المساس بهذا التراث زيغاً عن العقيدة الإسلامية، وانطلاقاً من هذه النظرة المحافظة، تحولت بعض هذه المؤسسات الى ما يشبه الكنيسة في العصور الوسطى في الغرب، والتي كانت تضطهد أصحاب الأفكار التقدمية الجديدة حتى لو كانت صحيحة، مما جعل الباحث المسلم مقيداً، فإما أن يختار الطريق الذي تتبناه هذه المؤسسات دونما اعتراض، ودون توجيه أي نقد لهذا التراث، وإما أن يتحمّل ما يترتب على تمرده من تبعات، أقلها مواجهة حملة من التشنيع، ولعل السبب في موقف هذه المؤسسات المتشدد
وقد أدى كل ذلك الى ظهور ما يمكن تسميته بحالة (تملّق الجماهير) في كتابات كثير من المؤلفين، وفيهم من ذوي الأسماء اللامعة والمكانة العلمية عدد غير قليل، فتجد أحدهم يحوم حول موضوع البحث الحسّاس، فإذا شعر بأنه قد اقترب من منطقة الخطر، راح يفتعل التبريرات لأخطاء الماضي بشكل تظهر عليه سمات المجاملة بوضوح، وبشكل خاص عندما يكون مدار البحث حول الخلافات السياسية ذات الطابع الديني، فتجد المؤلف ينتقد بعض شخصيات هذه الأحداث، لكنه سرعان ما يتراجع قليلا بافتعال التبريرات.
لا شك أن مهمة الباحث في نقد التاريخ ليست سهلة، لكن الاخلاص للحقيقة يهوّن المصاعب دون شك، "ومما يسهّل النقد علينا، أن كثيراً مما كتب للدعاية، وضع بأشكال اُسطورية لا يقف أمام النقد، ولكن عقدة واحدة تقف أمامنا هنا، وهي اشتباك الدين بالسياسة، وإدخال اُمور لها أهميتها في فهم التاريخ في مجال العقيدة، وهذا مما يجعل المؤرخ حذراً في معالجتها لئلا يصطدم بسلك كهربائي لا يدري ماذا سيثير"(1).
وليس الباحث المعاصر هو وحده الذي يشكو من هذه العقبة، بل إن كبار المؤلفين القدامى -أمثال الطبري وغيره- قد وجدوا "أن هناك سلطاناً آخر يخضع المؤرخ في كثير من الأحيان إليه، هو سلطان الرأي العام، فالمؤرخ مضطر بحكم مقامه بين مواطنيه أن يراعي شعورهم وإلاّ عرّض نفسه
____________
1- مقدمة في تاريخ صدر الاسلام، عبد العزيز الدوري: 11.
ويستطيع الباحث أن يلاحظ أثر الرأي العام هذا على المؤلفين القدامى، فالطبري - مثلا - قد بدأ كتابه بالاعتذار عن كل ما لا يوافق ميول الرأي العام، فأخرج الأمر من عهدته وألقاه على عاتق الرواة الذين نقل عنهم، فقال في مقدمة سفره التاريخي: فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارؤه. أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنىً في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤتَ من قِبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا(2).
ومما تجدر الاشارة إليه، ان الطبري رغم اعتذاره مقدماً، وتهيئته ذهن القارئ الى وجود اُمور قد لا يرتضيها في هذا التاريخ، فإنه قد تنكّر أحياناً لمبدئه، ولم ينقل كثيراً من الروايات (لبشاعتها وشناعتها) على حد تعبيره، أو لأنه وكما يقول: (كرهت ذكرها)، أو (لأن العامة لا تحتمل سماعها) في أحيان اُخرى.
وغير الطبري من المؤلفين قد خضعوا أيضاً لسلطان الرأي العام، فإبن هشام -صاحب السيرة النبوية المعروفة- والتي رواها عن اُستاذه ابن إسحاق، قد اعترف بأنه قد اختصر سيرة ابن إسحاق وحذف منها اُموراً وصفها بأن (بعضها يشنع الحديث عنه) و (بعض يسوء بعض الناس ذكره) و (بعض لم يقرّ لنا البكائي بروايته)، وبهذا قدّم ابن هشام ـ المتوفّى سنة (210 هـ) ـ قبل الطبري بقرن من الزمان اعتذاره للقرّاء بأن سلطان الرأي العام يفرض عليه
____________
1- تاريخ العرب في الاسلام، جواد علي: 10.
2- تاريخ الطبري 1: 8.
الأول يفرض عليه مراعاة الأمانة العلمية والتجرد للحقيقة بإماطة اللثام عنها.
والاتجاه الآخر يفرض عليه الانحناء لرغبات الرأي العام الذي يطالبه بنمط معيّن من البحث يتماشى مع ميوله.
مصاعب البحث
إن أعقد ما يواجه الباحث المسلم من مصاعب في بحث التاريخ الاسلامي، هو الاتجاه الفكري الذي قد تكوّن عنده منذ نعومة أظفاره، لارتباط التاريخ الإسلامي بالعقيدة الإسلامية، فهو يدخل في مجال البحث برؤىً وقناعات سابقة قد يجد صعوبة كبيرة في التحرر من ربقتها، وهذه القناعات هي الاُخرى من افرازات الرأي العام الذي يفرض هذا القيد الثقيل على الباحث الذي يجد نفسه مضطراً في معظم الأحيان الى الاستسلام لهذه القيود الاجتماعية، فكيف السبيل للتوصل الى الحقيقة إذاً؟
نعود فنتساءل من جديد: هل نحتاج الى إعادة لكتابة تاريخنا من جديد؟
لقد قلنا فيما سبق إن النداءات قد تعالت مطالبة باعادة كتابة التاريخ الإسلامي، إلاّ ان الملاحظ ان هذه النداءات تنطلق في اتجاهين:
الأول، يستهدف تمحيص الروايات التاريخية، ولكن ليس باُسلوب نزيه يتوخى الحقيقة كما هي، بل هو يهدف الى حذف الروايات التي لا تتلاءم مع اتجاهات الرأي العام المتوارث، بغض النظر عن مدى صحة هذه الروايات
أما الأتجاه الثاني فهو يستهدف التوصل الى الحقيقة مهما كانت مرّة، لأن دفن الرؤوس في الرمال لا يجدي نفعاً، فلابد من الاستفادة من تجارب الماضي وأخطائه لتكون منطلقاً لتكوين رؤية صحيحة لتاريخنا على دعائم صحيحة وواعية، بعيداً عن المحاباة على حساب الحقائق، وعليه "فلابد أن نجعل أمام أعيننا أننا سندرس تاريخ اُمم إن كانت أخطأت في بعض تصرفاتها فليس علينا من تبعة ذلك الخطأ شيء، وليس لنا إلاّ ان نعرفه ونستفيد منه، وإن كانت أصابت المحجة فإن ذلك لا ينفعنا إذا لم يكن لنا مثل أعمالهم، لذلك يحتاج دارس التاريخ إلى سعة صدر يحتمل كل ما يرد على تاريخ قومه من نقد حتى لا تبقى حقائق الأشياء محجوبة بسُحب عاطفتي الحب والبغض"(1).
فلابد إذاً من دراسة الروايات التي جاءت في مصادرنا التراثية دراسة علمية نزيهة بعيدة عن الميول والأهواء والقناعات السابقة، ذلك "أن تاريخ العرب(2) وإن يكن ما دوّن فيه كثير من التحري والتدقيق ومحاولة الضبط بشكل قد يفوق فيه ما دوّن عند الاُمم الاُخرى، إلاّ أنه يشكو من أدوار خطيرة بعضها قديم، وبعضها يتصل بطريقة كتابته الآن، فقد عبثت برواياته الاتجاهات الحزبية والدينية، وربما ورث هذا من نشأته، لأن تلك وثيقة الصلة بعلم الحديث والسياسة، وأحسب أن القارئ يعلم كثرة ما وضعته الأحزاب والفرق من أحاديث لتثبيت كيانها ومهاجمة خصومها"(3).
إن مهمة إعادة كتابة التاريخ يجب أن تتصدر الأولوية من جهد الباحثين
____________
1- محاضرات في تاريخ الاُمم الاسلامية، الخضري: 3.
2- الأصح تاريخ المسلمين.
3- مقدمة في تاريخ الاسلام: 10.
"إن المؤرخ يجب أن يكون كرجل المختبر ذا استعداد عظيم في التحليل، وذا حظ عظيم من العلم في المواد التي يريد تحليلها، وذا ذكاء خارق يمكنه من الاستنباط والاستنساج، ومن اجراء المقابلات والمطابقات والمفارقات والمقارنات، لتكون أحكامه منطقية سليمة، وآراؤه معقولة مقبولة، وإلاّ صار قاصّاً من القصّاص، ومؤرخاً من هذا الطراز القديم الذي يرى أن التاريخ حفظ ورواية وتسجيل لما يرويه الناس"(1).
ورغم أن هذه الشروط يصعب توفرها في معظم المؤلفين الذين أعرض أكثرهم عنها، وذلك للأسباب التي ذكرناها سابقاً إضافة الى أسباب اُخرى سوف تتضح فيما بعد، إلاّ أنها بالغة الأهمية.
إن من أهم المشاكل التي تواجه الباحث وهو يستقرئ التاريخ الإسلامي هو ذلك الكم الهائل من الروايات المتعددة المصادر، والتي قد تصل أحياناً الى حد التناقض والتضارب، رغم كونها جميعاً تعرض لحادثة واحدة، مما قد يوقع بعض الباحثين في حيرة، فحاول بعضهم التخلص من هذه المشكلة بتحقيق أسانيد هذه الروايات، لأن معظم المؤرخين الذين نستقي منهم معلوماتنا التاريخية قد اسندوا رواياتهم، "فبسبب اشتغال كثير من المحدّثين
____________
1- مقدمة في تاريخ الإسلام: 10.
وهذه واحدة من المشاكل التي عانى منها تاريخنا، إضافة الى أن تطبيق منهج متابعة الأسانيد بشكل تفصيلي يبدو صعباً الى حد ما، لأسباب: منها إن آراء العلماء قد تختلف كثيراً وربما تتناقض أحياناً في أحوال الرواة، فبعضهم يوثّق أحد الرواة وغيرهم يطعن فيه، "إن ميلنا الى قبول الروايات المتواترة في البحث، أو تسليمنا بخبر إن تكرر وروده في عدة مصادر قد لا يفيدنا أحياناً، لأن هذه المصادر المتعددة قد تكون مستقاة من مصدر واحد متى
____________
1- بحوث في تاريخ السنة المشرّفة: 210.
وقد حاول بعض الباحثين استخراج الروايات التاريخية المؤيدة من كتب الحديث باعتبارها أوثق من كتب التاريخ، ولكن هذه الطريقة أيضاً قد لا تكون مجدية دائماً، لأن كتب الحديث أقل إحاطة بتفاصيل الأحداث مما عليه كتب التاريخ، فضلا عن أن كتب الحديث تحوي هي الاُخرى روايات عن الضعفاء والمجهولين، ويحتاج الكثير منها الى عملية تمحيص أيضاً، فلابد إذاً من دراسة التاريخ الإسلامي من جميع جوانبه دراسة شاملة آخذة بنظر الاعتبار كافة الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بالراوي والمؤرخ، "كما أن استعمال قواعد المصطلح في نقد الروايات التاريخية ينبغي أن يشتد على قدر تعلق المادة بالأحداث الخطيرة التي تؤثر فيها الأهواء وتشيط عندها الرواة، كأن تكون الروايات لها مساس بالعقائد كالفتن التي حدثت في جيل الصحابة، أو ذات صلة بالاحكام الشرعية كالسوابق الفقهية، فإن التشدد في قبولها يجعل استعمال قواعد النقد الحديث بدقة أمراً مقبولا"(2).
مراحل التدوين
من التصورات الخاطئة عند معظم القرّاء، أن التدوين - سواء في مجال التاريخ أو الحديث- لم يبدأ إلاّ بظهور المدوّنات التاريخية والحديثية الكبرى، كتاريخ الطبري والبلاذري وغيرهما، أو الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها من كتب الحديث، أي بعد أكثر من قرنين من بدء الهجرة النبوية الشريفة، وأن الروايات قد ظلت تتناقلها أجيال الرواة مشافهة طيلة هذه المدة
____________
1- مقدمة في تاريخ صدر الاسلام: 24.
2- بحوث في تاريخ السنة المشرفة: 210.
ولأجل توضيح الصورة، فلابد لنا من الاشارة الى الطرق التي اتبعت في تلقي الرواية ونقلها، والتي سمّيت (طرق التحمل)، حيث كان التلميذ يتلقى من شيخه الرواية وينقلها بدوره الى الذين سيصبحون فيما بعد تلاميذه، وطرق التحمل هي:
____________
1- التاريخ العربي والمؤرخون، شاكر مصطفى 1: 79.
1 - السّماع:
ويتضمن السماع من لفظ الشيخ املاءً من كتابه أو من حافظته، وفيه يقول السامع إذا روى: (حدثنا) و (أخبرنا) و (أنبأنا) و (قال لنا) و (ذكر فلان). قال الخطيب البغدادي: أرفع العبارات (سمعتُ) ثم (حدثنا) و(حدثني)(1).
2 - القراءة على الشيخ:
وأكثر المحدثين يسمونها عرضاً، من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كما يعرض القرآن على المقرئ(2)، سواء كانت قراءة الطالب عليه من كتاب أو حفظ، وسواء حفظ الشيخ ما قرئ عليه أم لا، إذا أمسك أصله هو أوثقة غيره(3)، ومن أمثلة ذلك قول عبدالله بن عمر: رأيت مالك بن أنس يقرأ على الزهري، قال: فحدثت بذلك سفيان بن عينية ففرح بذلك وجعل يقول: قرأ، قرأ(4).
3 - الاجازة:
وهي أنواع متعددة، أعلاها أن يجيز معيّن لمعيّن كقوله: أجزت لك الكتاب الفلاني، أو ما اشتملت عليه فهرستي هذه. وهذه الاجازة المجردة من المناولة، وقد قال بجوازها جماهير أهل العلم(5).
____________
1- الباعث الحثيث: 104، تدريب الراوي 2: 8، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث: 62، جامع الاُصول 1:70، قواعد التحديث: 203، المنهل الروي: 80.
2- مقدمة ابن الصلاح: 64.
3- قواعد التحديث: 203.
4- جامع بيان العلم 2: 414.
5- مقدمة ابن الصلاح: 272، المنهل الروي: 84، الباعث الحثيث: 114، جامع بيان العلم: 414، تدريب الراوي 2: 29، قواعد التحديث: 203.
4 - المناولة:
مع الاجازة، كأن يدفع له الشيخ أصل سماعه، أو فرعاً مقابلا به ويقول له: أجزت لك روايته عني(1)، وهي أعلى أنواع الاجازة على الإطلاق(2)، أما المناولة من غير إجازة، بأن يناوله الكتاب مقتصراً على قوله: هذا سماعي، ولا يقول له: اروه عني، ولا أجزت لك روايته(3).
5 - المكاتبة:
بأن يكتب إليه بشيء من حديثه، فإن أذن له في روايته عنه فهو كالمناولة المقرونة بالاجازة وإن لم تكن معها اجازة(4)، وهو المشهور بين أهل الحديث، وكثير من مصنفاتهم: (كتب إليّ فلان، قال: حدثنا فلان). والمراد هذا، وهو عندهم معمول به معدود في الموصول. وقال السمعاني: هي أقوى من الاجازة، ويكفي معرفة خط الكاتب، وشرط بعضهم البيّنة، وهو ضعيف(5).
6 - الإعلام:
وهو أن يُعلم الشيخ الطالب أن هذا الكتاب روايته أو سماعه مقتصراً على ذلك، فجوّز الرواية به كثير من أصحاب الحديث والفقه والاُصول والظاهر(6).
____________
1- قواعد التحديث: 203.
2- مقدمة ابن الصلاح: 79، تدريب الراوي 2: 44.
3- قواعد التحديث: 204، الكفاية: 322.
4- الباعث الحثيث: 120، تدريب الراوي 2: 55.
5- المنهل الروي: 90، الكفاية: 342.
6- المنهل الروي: 90، الباعث الحثيث: 121، تدريب الرواي: 58، الكفاية: 353.
7 - الوصية:
وهي أن يوصي الراوي عند موته أو سفره لشخص بكتاب يرويه(1).
وقد ترخّص بعض السلف في رواية الموصي له بذلك الكتاب عن الموصى، وشبهوا ذلك بالمناولة والاعلام بالرواية(2)، وقال السيوطي: وهو غلط، والصواب أنه لا يجوز(3).
8 - الوجادة:
وصورتها أن يجد حديثاً أو كتاباً بخط شخص باسناده، فله أن يرويه عنه على سبيل الحكاية(4)، فله أن يقول: وجدت بخط فلان، أو قرأت أو ما أشبههه(5)، ويسوق الاسناد والمتن، وهذا الذي استمر عليه العمل قديماً وحديثاً، وهو من باب المنقطع، وفيه شوب اتصال، وجازف بعضهم فأطلق فيها: حدثنا وأخبرنا، واُنكر عليه(6).
هذه طرق تحمل الرواية، ذكرتها بشيء من الاختصار، وهدفي من ذلك هو توضيح بعض الاُمور التي قد تُشكل على القارئ، لأن بعض الباحثين يصورون له أن الروايات التاريخية قد كتبت في العصر العباسي، لذا نجد فيها تحاملا على الاُمويين، ولإزالة ما قد يعلق بذهن القارئ من مقولات بعض الباحثين الذين صوروا له أن منشأ الزيف في التاريخ الإسلامي يعود الى أن
____________
1- المنهل الروي: 91.
2- الباعث الحثيث: 121.
3- تدريب الراوي 2: 60، قواعد التحديث: 204.
4- الباعث الحثيث: 122.
5- المنهل الروي: 91.
6- تدريب الراوي 2: 61، مقدمة ابن الصلاح: 86.