هذه هي حقيقة موقف أبي ذر، وليس كما يصورها بعض المؤلفين كابن العربي وغيره، ممن يميلون الى مناصرة موقف السلطة، مقتفين أثر سيف بن عمر الذي يبدو واضحاً أنه يقلب الحقائق رأساً على عقب، فانتصاره للصحابة لا يشمل جميعهم، بل بعضهم كما نلاحظ.
"لقد جاءت انتفاضة أبي ذر ضد طغيان الأقلية، أول مصادمة علنية بين الاتجاه الإسلامي، وبين الخلافة التي فقدت مع عثمان هالتها الكبيرة، بعد ما أصبحت مظلة لأصحاب الاتجاه القبلي(1).
عثمان وعمار بن ياسر
لقد كان عمار أحد أقطاب المعارضة في زمن عثمان، لذا فقد نال نصيبه الأوفى من التشنيع والحط من المكانة وذلك في الروايات التي أخرجها الطبري في تاريخه بطريق سيف، وتابعه على ذلك جمع من المؤلفين قديماً وحديثاً.
فتارة نجد عمار بن ياسر وقد أصبح هو الآخر ذيلا لعبد الله بن سبأ، يشاركه في حياكة المؤامرات للاطاحة بالخلافة الاسلامية المتمثلة بعثمان بن عفان، وليس من سبب وجيه تذكره هذه الروايات لتفسير انقلاب عمار بن ياسر على السلطة، سوى أن عثمان قد اقتصّ منه لسبب تافه أيضاً، وهو: أن عماراً قد عارك عتبة بن أبي لهب، مما دفع عثمان - وهو الخليفة- الى الاقتصاص منهما وتأديبهما بالضرب.
هذه القصة المتهافتة التي تصوّر لنا عمار بن ياسر - وهو من السابقين
____________
1- من دولة عمر إلى دولة عبدالملك، إبراهيم بيضون: 107.
تقول رواية الطبري عن السري عن شعيب عن سيف بن عمر عن شيوخه:
كان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء، اُمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقّل في بلدان المسلمين، يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام!! فأخرجوه حتى أتى مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول:
العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذّب بأن محمداً يرجع، وقد قال
قال: فقُبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة، فتكلموا فيها.
ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد. ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء.
ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يُجز وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ووثب على وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتناول أمر الاُمة!
ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدؤا بالطعن على اُمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تستميلوا الناس، وادعوهم الى هذا الأمر.
فبث دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر الى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون الى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم الى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه اُولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرّون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما فيه الناس.
قالوا: فأتوا عثمان، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟
قال: لا والله، ما جاءني إلاّ السلامة.
قالوا: فإنا قد أتانا... وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم.
قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم الى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم.
فدعا محمد بن مسلمة، فأرسله الى الكوفة، وأرسل اُسامة بن زيد الى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر الى مصر، وأرسل عبدالله بن عمر الى الشام، وفرّق رجالا سواهم، فرجعوا جميعاً قبل عمار! فقالوا: أيها الناس، ما أنكرنا شيئاً، ولا أنكره أعلام المسلمين، ألا إن اُمراءهم يقسطون بينهم، ويقومون عليهم.
واستبطأ الناس عماراً، حتى ظنوا أنه قد اُغتيل، فلم يفجأهم إلاّ كتاب من عبدالله بن سعد بن أبي سرح، يخبرهم أن عماراً قد استماله قوم بمصر، وقد انقطعوا إليه، منهم عبدالله بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر(1).
هذه القصة أصبحت مستنداً لمعظم المؤرخين وحتى المؤلفين في الفرق والمذاهب أيضاً قديماً وحديثاً، واستغلها بعض المستشرقين الحاقدين على الاسلام للطعن عليه.
وما هو سرّ سكوت عبدالله بن سعد بن أبي سرح -والي عثمان على مصر- على ابن سبأ وعصابته وهو يرى ما يكيدون للاسلام وللخليفة، كما سكت معاوية قبله عندما قبض أبو الدرداء عليه وأخذه الى معاوية؟!
هذه بعض الأسئلة التي لن تجد عند اولئك المروجين لهذه القصة جواباً عليها، إلاّ أن يغالطوا أنفسهم ويُلغوا عقولهم وينفوا حقائق التاريخ.
____________
1- الطبري 4: 340.
إن الطبري روى أنه كان بين عمار وعباس بن عتبة بن أبي لهب خلاف حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب (وبعد أن يستشهد برواية الطبري) يعلق قائلا:
ولما نظم السبئيون حركة الاشاعات، وصاروا يرسلون الكتب من كل مصر الى الأمصار الاُخرى بالأخبار الكاذبة، فأشار الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالا ممن يثق بهم الى الأمصار حتى يرجعوا إليه بحقيقة الحال، تناسى عثمان ما كان من عمار، وأرسله الى مصر ليكون موضع ثقته في كشف حاله، فأبطأ عمار في مصر، والتفت السبئيون ليستميلوه إليهم، فتدارك عثمان وعامله في مصر هذا الأمر، وجيء بعمار الى المدينة مكرماً. وعاتبه عثمان لما قدم عليه فقال له - على ما رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق-: يا أبا اليقظان، قذفت ابن أبي لهب أن قذفك... وغضبت على أن أخذت لك بحقك وله بحقه. اللهم قد وهبت ما بيني وبين اُمتي من مظلمة، اللهمّ إني متقرب اليك بإقامة حدودك في كل أحد، ولا اُبالي، اُخرج عني يا عمار! فخرج، فكان إذا لقي العوام نضح عن نفسه وانتفى من ذلك، وإذا لقي من يأمنه أقرّ بذلك وأظهر الندم، فلامه الناس وهجروه وكرهوه...(1).
فالخطيب لم يكفه أن يكون عمار تابعاً لابن سبأ، بل هو يظهره هنا منافقاً ذا وجهين، يصرّح للعوام بما في نفسه - بشكل يوحي بأنه أحد أفراد التنظيم السبئي فعلا ـ محاولا استدراج اُولئك السذج وجرّهم للإنخراط في ذلك التنظيم
____________
1- العواصم من القواصم: 87 الهامش.
والدكتور العش أيضاً يتابع المؤرخين، ويدلي في القضية بدلوه ويضيف الى المتآمرين عنصراً جديداً وهم اتباع عمرو بن العاص، فيقول:
اجتمع في مصر بعض الحانقين على عثمان من اتباع عمرو بن العاص الذي اُقيل من ولاية مصر، واجتمع فيها اتباع محمد بن أبي حذيفة وعمار ابن ياسر وكثير من الاعراب، فجمعوا أمرهم وخرجوا من مصر يريدون أمراً في المدينة، وخرج من الحانقين والأعراب من الكوفة والبصرة جمع غفير أيضاً يريدون نفس الشيء، وابن سبأ يجمع بين الطرفين(2).
والحافظ شمس الذهبي - من القدماء- يورد في كتابه قصة اُخرى عن الطبري بطريق سيف، ولكن دون أن يشير الذهبي الى مدى صحة هذه الرواية من عدمها، كما هي عادته في معظم الروايات الاُخرى التي يوردها في تاريخه، يقول عن محمد بن سعد: قدم عمار بن ياسر من مصر، وأبي شاك، فبلغه فبعثني اليه أدعوه، فقام معي وعليه عمامة وسخة وجبة فراء، فلما دخل على سعد قال له: ويحك أبا اليقظان، إن كنت فينا لمن أهل الخير، فما الذي بلغني عنك من سعيك في فساد بين المسلمين والتأليب على أمير المؤمنين، أمعك عقلك أم لا؟
____________
1- البقرة: 104.
2- الدولة الاُموية: 69.
فقال سعد: ألا في الفتنة سقطوا، اللهم زد عثمان بعفوه وحلمه عندك درجات منه، فإنه من الأمانة، وإني أكره أن يتعلق به الناس يتناولونه، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الحق مع عمار مالم تغلب عليه دلهة الكبر" فقد دله وخرف(1).
يورد الذهبي هذه الرواية دونما إشارة الى أن في إسنادها سيف بن عمر الوضاع، ومبشر بن المفضل الضعيف(2)، كما يفعل مع بعض الروايات الاُخرى، حيث يذكر مدى صحتها من عدمه، ولكنه هنا يسكت عن ذلك، في الوقت الذي نجده يورد ترجمة وافية لعمار بن ياسر في نفس ذلك الجزء من تاريخه الذي يحوي هذه الرواية -تستغرق أكثر من خمسة عشر صفحة ـ يورد فيها مجموعة كبيرة من الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة في الثناء على عمار، أكتفي برواية واحدة منها، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عمار ما عُرض عليه أمران إلاّ اختار أرشدهما"(3).
فالنبي (صلى الله عليه وآله) يخبر أن عماراً لا يختار إلاّ الطريق الأرشد والأقوم، لكن سيف بن عمر - ومن تبعه من بعده- يجعله ضالا يختار طريق ابن اليهودية.
فهذا هو الجزاء الأوفى لعمار من اُولئك المؤلفين، بسبب تصديه للسلطة، ولم تشفع له صحبته وسابقته ولا أقوال النبي (صلى الله عليه وآله) فيه، وهذه نقطة اُخرى نثبتها
____________
1- تاريخ الاسلام 3: 434.
2- الضعفاء الكبير للعقيلي 4: 236.
3- تاريخ الاسلام 3: 569.
إننا إذا غضضنا الطرف عن سند رواية الطبري حول ابن سبأ وافترضنا أن الرواية قد جاءت بأسانيد مقبولة، فاننا حينما نحاكم متن الرواية ـ وهو الأمر الذي يغفله المؤرخون والباحثون غالباً ـ فسوف نجد أنفسنا أمام تساؤلات واستنتاجات غريبة جداً، إذا لماذا يختار عبدالله بن سبأ علي بن أبي طالب دون غيره من الصحابة ليقول فيه مقالته عن الوصية؟ أهي قرابته من النبي (صلى الله عليه وآله)؟ إن هناك أقرباء آخرين من عمومته وابنائهم، أم هي سابقته وفضله ـ مع أن هذه لا يمكن أن تكون مما يتوخاه ابن سبأ لتحقيق أهدافه ـ فان في الصحابة سابقون وأفاضل يقدّمهم الجمهور حتى على علي أو يساوونه بهم على الأقل، فلماذا علي إذاً؟
إن الاستنتاج الذي يُفترض الخروج به من ذلك، هو أن يكون ابن سبأ من أتباع علي بن أبي طالب، وربما يكون على هو الموجّه له في هذه المؤامرة وقد يكون هو الرأس المدبّر لها، وابن سبأ ينفذ تعليماته في هدم الإسلام.
وفي هذه الحالة يجب إعادة النظر في علي بن أبي طالب وفي كل ما يقال عنه وعن فضله وسابقته وإلاّ فلماذا يسكت على ابن سبأ وخبره قد ملأ الأمصار؟
أو أن يكون الاستنتاج الثاني الي يفترض أن يكون عبدالله بن سبأ على عكس الصورة التي تصورها الرواية، فهو رجل صالح قد اقتنع بشكل من الأشكال أن علياً مظلوم وأن هناك وصية حقيقية من النبي العلي وأنه كان يسعى لاعادة الحق لأصحابه. ولا اعتقد أن أيّاً من الرأيين يمكن أن يكون مقبولاً من أحد من المسلمين.
أن قضية الخلاف بين عمار وبين ابن أبي لهب ليست مبرراً يستحق الثورة ضد عثمان، فماهي الأسباب والدوافع الحقيقية لذلك يا ترى؟
أورد البلاذري بعض هذه الأسباب في روايته عن عباس بن هشام، قال:
كان بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر، فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك، وكلّموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه، فخطب فقال:
لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت اُنوف أقوام.
فقال له علي: إذاً تُمنع من ذلك ويحال بينك وبينه.
وقال عمار بن ياسر: اُشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك.
فقال عثمان: أعليَّ يا بن المتكاء تجترئ؟ خذوه، فأخذوه، ودخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه، ثم أخرج فحمل فأتي به منزل اُم سلمة زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم يُصلّ الظهر والعصر والمغرب. فلما أفاق توضأ وصلى وقال: الحمد لله، ليس هذا أول يوم اُوذينا فيه في الله.
وقام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان عمار حليفاً لبني مخزوم فقال: يا عثمان، أما عليّ فاتقيته وبني أبيه، وأما نحن فاجترأت علينا وضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف...
ويقال: إن المقداد بن عمرو وعمار بن ياسر وطلحة والزبير في عدّة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتبوا كتاباً عددوا فيه أحداث عثمان وخوفوه ربه،
فأخذ عمار الكتاب وأتاه به، فقرأ صدراً منه، فقال له عثمان:
أعليَّ تقدم من بينهم؟
فقال عمار: لأني أنصحهم لك.
فقال: كذبت يابن سمية!
فقال: أنا والله ابن سيمة وابن ياسر.
فأمر غلماناً له فمدوا بيديه ورجليه، ثم ضربه عثمان برجليه وهي في الخفّين على مناكيره، فأصابه الفتق، وكان ضعيفاً كبيراً فغشي عليه.
وقد قيل: إن عثمان مرّ بقبر جديد فسأل عنه، فقيل: قبر عبدالله بن مسعود، فغضب على عمار لكتمانه إياه موته، إذ كان المتولي للصلاة عليه والقيام بشأنه، فعندها وطئ عماراً حتى أصابه الفتق.
وقد روي أيضاً أنه لما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال:
رحمه الله، فقال عمار بن ياسر: نعم، فرحمه الله من كلُ أنفسنا، فقال عثمان: أتراني ندمت على تسييره؟
وأمر فدفع في قفاه وقال: الحق بمكانه.
فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم الى علي فسألوه أن يكلم عثمان فيه، فقال له علي: يا عثمان، اتق الله، فإنك سيّرت رجلا صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره.
وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان: أنت أحقّ بالنفي منه.
فقال علي: رُم ذلك إن شئت.
واجتمع المهاجرون فقالوا: إن كنت كلّما كلّمك رجل سيّرته ونفيته، فإن
فالروايات مختلفة في سبب أو مناسبة ضرب عثمان لعمار، ولكنها متفقة تقريباً على قضية الضرب، وأعتقد أن اعتراضات عمار على عثمان قد تكررت، حتى غضب عثمان في إحدى المرات غضباً شديداً فأمر بضربه. إلاّ أن السؤال هو: بماذا استحق عمار أن يُضرب! هل ارتكب أمراً محرّماً أو جناية يستحق عليها العقاب؟ أم أن ذلك كان بسبب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ونصحه لعثمان، وهو أمر كان ينبغي أن يشكره له عثمان لا أن يبادر الى ضربه عليه.
إن الروايات الأكثر وثاقة من رواية سيف غير المعقولة، تبدي لنا أن اعتراضه كان إما على تصرف عثمان بن عفان في بيت المال بغير حق، أو لأنه استاء من نفي أبي ذر الى الربذة، أو أنه أراد أن ينصح لعثمان وبالاتفاق مع عدد من الصحابة لصرفه عن بعض الأعمال التي كانت من أسباب النقمة عليه ولعله يجدر بنا بهذه المناسبة أن نُذكّر القارئ برواية الصحيحين المتفق عليها حول نصح اُسامة بن زيد لعثمان وللأسباب نفسها بتحريض ودفع من بعض الصحابة، إلاّ أن الفرق ان عماراً كان أكثر جرأة في إبداء رأيه والاعتراض على الخليفة من اُسامة، فكان جزاؤه على ذلك الضرب الموجع.
فمبقارنة هذه الروايات مع رواية سيف، وبالنظر الى مجمل الأحداث في عهد عثمان يمكننا أن نكتشف الخلل في رواية الطبري عن سيف، والتي يبدو واضحاً منها أن نفس تأييد السلطة كان غالباً عليها، فهي رواية العاذرين لعثمان، ولكن على حساب صحابي كبير من السابقين الأولين، فكان الدفاع
____________
1- أنساب الأشراف 6: 161، تاريخ اليعقوبي 2: 173.
عثمان وولاته وعمّاله
إن من جملة الأسباب التي أدت الى النقمة على عثمان هو الولايات، والولاة الذين كان يختارهم عثمان لإدارتها، وفي الحقيقة فإنّ هذا المطلب يرتبط بشكل من الأشكال بالمطالب السابقة. ألا وهو سوء الإدارة الذي أدى الى اعتراض عدد من كبار الصحابة كابن مسعود وأبي ذر وعمار وغيرهم. ذلك لأن أكثر الذين كانوا سبباً في الفساد المالي والإداري، هم ولاة عثمان أنفسهم، وقد رأينا كيف تصدى أبو ذر لمعاوية الذي جعله عثمان والياً على بلاد الشام كلها، كما وكان اعتراض ابن مسعود على تولية الوليد وتصرفه في بيت المال سبباً في اعتزال ابن مسعود العمل لعثمان، كما سوف نبيّن. لقد ولّى عثمان أقاربه على أهم الولايات وأكثرها غنىً في العالم الإسلامي، فمعاوية على الشام كلها - بعد أن كان على بعضها-، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح -أخا عثمان من الرضاعة- على مصر، والوليد بن عقبة على الكوفة، كما اتخذ عثمان مروان بن الحكم بن أبي العاص وزيراً وأغدق عليه الأموال، الى غير ذلك من الاُمور التي أثارت نقمة الناس، ولم يكن لعثمان ما يعتذر به عن ذلك، الاّ إدعاؤه محبته لأقاربه وأرحامه.
ولربما يكون هذا عذراً وجيهاً ومقبولا ويتماشى مع روح الإسلام، لو
ولقد اتبع عثمان سياسة مغايرة لسياسة سلفيه أبا بكر وعمر اللذان لم يكونا يولّيان من أقاربهما إلاّ عدداً ضئيلا جداً، أو لم يكونا يوليان أحداً منهم بتاتاً، وذلك بالقياس الى العدد الكبير الذي استعمله عثمان من أقاربه وعشيرته، "فمن بين إحدى عشرة ولاية، لم يكن لاُمية سوى ولاية واحدة، ولم يكن لقريش سوى ثلاث ولايات، ولم يكن لعدي - فرع عمر- ولاية واحدة من هذه الولايات"(1).
إلاّ أن ذلك كلّه تغيّر بعد استلام عثمان مهام الخلافة بفترة قصيرة، فبدأ يعزل ولاة عمر - من غير الاُمويين- وكان فيهم بعض الصحابة، كسعد بن أبي وقّاص الذي عزله عثمان عن ولاية الكوفة، وعمرو بن العاص الذي عزله عن ولاية مصر، فقد "كان هناك في عهد عثمان انعكاس تام للأوجه الأساسية في سياسة سلفه العظيم، ذلك انه لم يكتف بعزل الأكفاء الذين ولاّهم عمر على الولايات فحسب، بل إنّه عهد الى تعيينات جديدة إرضاء لمطالب أقاربه"(2).
لقد كان عثمان يحب أفراد عشيرته حقاً، ولكن الحب قد يتحول الى ضعف يؤدّي بدوره الى عواقب وخيمة، وهذا ما حدث فعلا. فقد استسلم عثمان لرغبات أقاربه الذين كانوا يلحّون عليه -فيما يبدو- لتسليطهم على الولايات والأمصار المهمة، مما يتيح لهم التحكم في البلاد واكتساب النفوذ
____________
1- الخلافة ونشأة الأحزاب السياسية، محمد عمارة: 96.
2- مختصر تاريخ العرب: 66.
وفي الحقيقة فإنّ انبعاث الروح القبلية قد بدأ يتجدد في تلك الفترة، وأصبح التنافس على المفاخر أمراً مألوفاً، خصوصاً عند بني اُمية - الذين تأخر إسلام أكثرهم الى ما بعد فتح مكة - فكان ذلك سبباً في الرغبة لدى هؤلاء لكبح جماح الصحابة الذين كانوا يُدلون بسابقتهم وفضلهم من القبائل الاُخرى ومن بعض المستضعفين والموالي، وكان بنو اُمية يرون اُولئك جميعاً دونهم في الفضل والسؤدد من وجهة النظر القبلية.
"إن بني اُمية وآل أبي مُعيط كانوا يتعجلون الولاية ويحتالون في الوصول إليها، ويلحون على عثمان في أن يمهد لهم إليها الطريقة، وآية ذلك أن عثمان حينما عزل سعداً لم يول على الكوفة أحداً من كبار أصحاب النبي، لا من المهاجرين ولا من الأنصار، لم يرسل إليها طلحة ولا الزبير ولا عبدالرحمان ولا محمد بن مسلمة ولا أبا طلحة، وإنما أرسل إليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط"(1).
فمن هو الوليد بن عقبة، وما هي مكانته، وما مقدار كفاءته وورعه حتى يولّيه عثمان مكان سعد بن أبي وقاص؟
الوليد بن عقبة
لابد لنا أن نستعرض أوّلا آراء بعض المؤلفين من القدامى والمعاصرين في الوليد، لننقل مختلف وجهات النظر -كما هو منهجنا- ثم المقارنة بين هذه الآراء على ضوء الأدلة التي نضعها بين يدي القارئ، حتى يتمكن من
____________
1- الفتنة الكبرى: 288 ضمن المجموعة.
قلنا فيما سبق إن المؤلفين الأوائل قد نقلوا إلينا أخباراً متضاربة فيما يتعلق بسير الأحداث التاريخية في تلك الفترة، وقد انقسم المؤلفون فيما بعد الى تيارين، أحدهما تيار محافظ يتشبث بروايات معينة لا يريد تجاوزها الى غيرها، بينما راح آخرون يستعرضون روايات اُخرى قد تختلف أو تتعارض مع روايات الاتجاه الأول.
فممن يمثل الاتجاه الأول المحافظ، القاضي ابن العربي الذي ينبري للدفاع عن الوليد بن عقبة، ويتهم كل من يخالف رأيه بأنّه فاسد النية، إذ يقول:
وأما تولية الوليد بن عقبة، فلأن الناس - على فساد النيّات- أسرعوا الى السيئات قبل الحسنات. فذكر الاسفرائيون أنه إنما ولاّه للمعنى الذي تكلم به.
قال عثمان: ما ولّيته لأنه أخي، وإنما ولّيته لأنه إبن اُم حكيم البيضاء عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتوأمة أبيه...(1).
وقبل الاسترسال في عرض الآراء حول الوليد، فإنّه تستوقفنا بعض عبارات القاضي ابن العربي، فهو يتّهم الناس - لفساد نياتهم- بأنهم يسارعون الى ذكر السيئات قبل الحسنات، ويعبر عن هذه الآراء بعبارة - للمعنى الذي تكلم به- الغامضة.
ولم يذكر ابن العربي أسماء الناس من أصحاب النوايا الفاسدة، فهل هم اُناس عاديون، أم هم جملة من الائمة العلماء الذين ذكروا أخبار الوليد وأدلوا بآرائهم فيه -كما سوف يتبين فيما بعد- فهل كل هؤلاء من أصحاب النوايا
____________
1- العواصم من القواصم: 98.
وأما احتجاج ابن العربي، بأن عثمان قد ولّى الوليد لأنه ابن البيضاء عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، -وهذا هو ما ادعاه عثمان- فهو احتجاج شديد التهافت، لأن في الصحابة من هو أكثر قرابة وأمس رحماً بالنبي من الوليد بن عقبة، ولو أننا أعرضنا عن أقارب النبي المقربين، كعلي بن أبي طالب أو ابن عباس أو غيرهما، فالزبير بن العوام كان ابن صفية، وهي عمة النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً، فضلا لما للزبير من فضل على الوليد في الصحبة والسابقة!
أما العذر الآخر الذي يحاول ابن العربي أن يلتمسه لعثمان في تولية الوليد، فهو:
" إن الولاية اجتهاد، وقد عزل عمر بن سعد بن أبي وقاص وقدّم أقل منه درجة "(1).
ولكن عمر بن الخطاب لم يكن ليعزل والياً كسعد بن أبي وقاص، إلاّ أن اشتكى منه أهل الكوفة وطلبوا الى الخليفة عزله عنهم، وكان عمر يراعي مشاعر الناس، فلا يفرض عليهم والياً وهم له كارهون. "وكانت الأمصار في عهد عمر تسخط أحياناً على ولاتها، ولا سيما في العراق، غير أن حنكة عمر وسياسته الصائبة كانت لا تسمح للامتعاض أن يتحول الى فتنة وعصيان، حيث كان الخليفة عمر يسارع الى عزل غير المرغوب فيه من ولاته - الذين كانوا يرهبون جانبه، مهما كانت مكانتهم- بعد التأكد من عدم جدوى بقائهم، ولكن عثمان رغم علمه بسوء تصرف ولاته وموظفيه، أصرّ على بقائهم مما زاد في نقمة الساخطين عليه"(2).
____________
1- العواصم من القواصم: 100.
2- موجز تاريخ العرب والاسلام، د. حسين قاسم العزيز: 158.
وعند استعراض آراء المؤلفين نجد بعضهم أو معظمهم يكيلون للوليد ابن عقبة من المدائح ما يفوق التصور، ويظهرونه في صورة البطل الاُسطوري صاحب المآثر الخالدة، معتقدين بأن ذلك يمكن أن يكون عذراً وجيهاً يبين صحة موقف الخليفة من توليته للوليد بن عقبة، وإلقاء اللوم كله على الذين ثاروا على هذه التولية، وبالتالي يصبح المسؤول الأول عن سير الأحداث المأساوية التي أدت الى إشعال نار الفتنة، هم الرعية، ولا دخل للسلطة في وقوع شيء من ذلك، ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: عثمان ما حاد عن الحق في سيرته، ولا فارق الجادة في خلافته، ولا خالف قواعد العدل في سياسته(1).
قلنا: أن الأعذار التي ساقها ابن العربي لتصحيح تولية الوليد بن عقبة، لم تكن مقنعة على الاطلاق، لذا انبرى الشيخ محب الدين الخطيب -كعادته- الى إعطاء تفصيلات أكثر عن الوليد بن عقبة بقوله:
قد يظن من لا يعرف صدر هذه الاُمة، أن أمير المؤمنين عثمان جاء بالوليد بن عقبة من عرض الطريق فولاّه الكوفة. أما الذين أنعم الله عليهم بنعمة الاُنس بأحوال ذلك العصر وأهله، فيعلمون أن دولة الإسلام الاُولى من خلافة أبي بكر، تلقفت هذا الشاب الماضي العزيمة! الرضي الخلق! الصادق الإيمان! فاستعملت مواهبه في سبيل الله، الى أن توفي أبو بكر.
وأول عمل له في خلافة أبي بكر، أنه كان موضع السر في الرسائل الحربية
____________
1- تاريخ الدولة العربية. ثابت الراوي: 242.
وفي سنة (13 هـ) كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات قضاعة.
ثم لما عزم الصديق على فتح الشام، كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة، فكتب الى عمرو بن العاص والى الوليد ابن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد، فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين، وسار الوليد بن عقبة قائداً الى شرق الأردن.
ثم رأينا الوليد في سنة (15 هـ) أميراً على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة، يحمي ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا من خلفهم، فكانت تحت قيادته ربيعة وتنوخ، مسلمهم وكافرهم.
وانتهز الوليد بن عقبة فرصة ولايته وقيادته على هذه الجبهة التي كانت لا تزال مليئة بنصارى القبائل العربية - فكان مع جهاده الحربي وعمله الإداري- داعياً الى الله، يستعمل جميع أساليب الحكمة والموعظة الحسنة لحمل نصارى أياد وتغلب على أن يكونوا مسلمين كسائر العرب. وهربت منه أياد الى الأناضول وهو تحت حكم البيزنطين، فحمل الوليد خليفة عمر على كتابة كتاب تهديد الى قيصر القسطنطينية بأن يردهم الى حدود الدولة الإسلامية.
وحاولت تغلب أن تتمرد على الوليد في نشر الدعوة الإسلامية بين شبابها وأطفالها، فغضب غضبته المضرية المؤيدة بالإيمان الإسلامي، وقال فيهم كلمته المشهورة:
إذا ما عصبت الرأس مني بمشوذ | فغيّك مني تغلب ابنة وائل |
وبلغت هذه الكلمة عمر، فخاف أن يبطش قائده الشاب بنصارى تغلب،
وبهذا الماضي المجيد، جاء الوليد في خلافة عثمان فتولى الكوفة له، وكان من خير ولاتها عدلا ورفقاً وإحساناً، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة ظافرة موفقة...(1).
على الرغم من أن المصدر الذي اعتمده الشيخ محب الدين الخطيب، هو تاريخ الطبري برواية سيف بن عمر، فإن الدور الذي قام به الوليد في المراسلات الحربية بين خالد بن الوليد وبين الخليفة أبي بكر ليس بمثل هذا التهويل الذي يوحي به الشيخ الخطيب، فعندما نراجع رواية الطبري - في ذكر حوادث سنة (12 هـ) - نجد ما يلي:
ولما انتهى الخبر الى خالد عن قارن، قسّم الفيء على من أفاءه الله عليه، ونفَّل من الخمس ما شاء الله، وبعث ببقيته وبالفتح الى أبي بكر، وبالخبر عن القوم وباجتماعهم الى الثني المغيث المغاث، مع الوليد بن عقبة...(2).
وعلى الرغم من أن سيف بن عمر قد انفرد بذكر دور الوليد بن عقبة في هذه الواقعة - خلافاً لجميع المؤرخين- فإنّ الدور لو صحّ للوليد، لوجدناه دور مراسل حربي مكلف بإيصال رسالة من قائد عسكري الى الخليفة يخبره بسير المعركة ونتائجها، وهو دور قد قام به آلاف المسلمين على مرّ العصور، فلم يستحقوا عليه هذا التكريم الذي يخص به الشيخ الخطيب الوليد بن عقبة.
أما الاعمال الاسطورية التي يذكرها الخطيب للوليد، فهي أيضاً مما انفرد به سيف بن عمر، وخالفه فيها بقية المؤرخين.
____________
1- العواصم من القواصم: 98 هامش: 108.
2- تاريخ الطبري 3: 351.