الصفحة 148

وإن كان لم يفعل والصحابة متوفرون والأمر في أوله.

وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر، وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه.

وكان قتل عبيدالله له وعثمان لم يلِ بعد.

وأيضاً فإنّ أحداً لم يقم بطلبه.

فكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح(1).

أما موقف الصحابة، فقد أعلن عدد منهم عن رأيه، فأشار بعضهم على عثمان بقتل عبيدالله، فقد ذكر اليعقوبي أن الناس قد أكثروا في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيدالله بن عمر، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ثم قال: ألا إني وليّ دم الهرمزان، وقد وهبته لله ولعمر وتركته لدم عمر.

فقام المقداد بن عمرو فقال: إن الهرمزان مولى لله ولرسوله، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله، قال: فننظر وتنظرون.

ثم أخرج عثمان عبيدالله بن عمر من المدينة الى الكوفة، وأنزله داراً، فنسب الموضع إليه (كوفية ابن عمر)، فقال بعضهم:


أبا عمرو وعبيدالله رهنفلا تشكك بقتل الهرمزان(2)

أما البلاذري فذكر أن عثمان صعد المنبر فقال:

أيها الناس، إنا لم نكن خطباء، وإن نعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله. وقد كان من قضاء الله أن عبيدالله بن عمر أصاب الهرمزان، وكان الهرمزان من المسلمين ولا وارث له الاّ المسلمون عامة، وأنا إمامكم وقد عفوت، أفتعفون؟ قالوا: نعم. فقال علي: أقِد الفاسق فإنه أتى عظيماً، قتل

____________

1- العواصم من القواصم: 116.

2- تاريخ اليعقوبي 2: 163.


الصفحة 149
مسلماً بلا ذنب، وقال لعبيدالله: يا فاسق، لئن ظفرت بك يوماً لأقتلنك بالهرمزان(1).

وعند ابن أبي الحديد أنه لما بلغ خبر عفو عثمان عن عبيدالله، علي بن أبي طالب، تضاحك وقال: سبحان الله، لقد بدأ بها عثمان، أيعفو عن حق امرئ ليس بوليه! تالله إن هذا لهو العجب.

قالوا: فكان ذلك أول ما بدأ من عثمان مما نُقم عليه(2).

أما عمرو بن العاص فقد جعل عثمان في حل من أمر عبيدالله لأنه لم يكن قد ولي الخلافة بعد، وهو الرأي الذي مال اليه القاضي ابن العربي.

ولا أدري كيف يكون ابن العربي قاضياً، واُولى مهمات القضاء رد المظالم وإقامة الحدود على الجناة، ولكنا نجده هنا يتسامح مع عبيدالله بن عمر تجاوباً مع رأي ابن العاص، وتبريراً لموقف عثمان.

إن الأخذ برأي عمرو بن العاص يعني أن كل وال ليس مطالباً باقامة الحدود إذا وقعت الجرائم قبل توليه منصبه. فلو تأخر تنصيب الخلافة -تبعاً لهذا الرأي- بضعة أيام، واستغل بعض أصحاب النفوس المريضة الفرصة وارتكبوا جرائم قتل وانتهاك حرمات المسلمين، فالخليفة ينبغي أن لا يكون مسؤولا عن رد المظالم ومعاقبة الجناة وإقامة حدود الله لأنها وقعت قبل توليه الخلافة، فتذهب الدماء والحقوق هدراً.

إننا ونحن ننقل رأي عمرو بن العاص هذا، نذكر المتحمسين له، بأن قتل عثمان بن عفان قد وقع قبل تولي علي بن أبي طالب الخلافة، فلماذا لم يعتذر عمرو بن العاص بهذا العذر لعلي ويقنع معاوية بذلك، بدلا من أن ينظم الى

____________

1- أنساب الأشراف 6: 130.

2- شرح نهج البلاغة 9: 55.


الصفحة 150
فئته ويشن الحرب على علي ويريق دماء عشرات الاُلوف من المسلمين بدم عثمان.

ومثل هذا يقال أيضاً لاُم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، وهم الذين خرجوا يطالبون علياً بإقامة الحدّ على قتلة عثمان، ولم يعذروه بأن الحادثة وقعت قبل توليه مهام الخلافة!

بقي أن نناقش الرواية التي أورد ابن العربي طرفاً منها حول تآمر الهرمزان على قتل الخليفة عمر، وقضية الخنجر المزعوم الذي وجد تحت ثيابه... الخ، ومعرفة مصدرها، وكيف يتشبث البعض بها لتزييف الحقيقة، وهي الرواية التي أوقع واضعها نفسه في تناقضات مضحكة، وكذلك الذين جاءوا بعده وأخذوا بها.

نقل محب الدين الخطيب رواية عن سعيد بن المسيب: أن عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق قال غداة طعن عمر: مررت على أبي لؤلؤة عشي أمس ومعه جفينة (وكان نصرانياً من أهل الحيرة ظئراً لسعد بن أبي وقاص)، والهرمزان وهم نُجّى، فلمّا رهقتهم ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه... فانظروا بأي شيء قتل؟ وخرج في طلبه رجل من بني تميم، فرجع اليهم التميمي، وكان قد ألظّ بأبي لؤلؤة منصرفه عن عمر حتى أخذه، وجاء بالخنجر الذي وصف عبدالرحمان بن أبي بكر، فسمع بذلك عبيدالله بن عمر، فأمسك حتى مات عمر، ثم اشتمل على السيف فأتى الهرمزان فقتله(1).

هذه الرواية التي يذكرها الخطيب، سندها في الطبري: كتب الي السري، عن شهيب، عن سيف، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب!

____________

1- هامش 139 من كتاب العواصم من القواصم.


الصفحة 151
ولا أجد حاجة لمناقشة هذا السند الذي أصبح يعرفه القارئ، وهي محاولة فاشلة من سيف لتبرأة عبيد الله ومن خلفه عثمان، وإلقاء اللوم على الهرمزان. وإضافة لما تقدم، فقد حاول البعض نفي اسلام الهرمزان مقدمة لاهدار دمه لأنه لا يقتل مسلم بكافر، كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد قال الذهبي: ويروى أن الهرمزان لما عضّه السيف قال: لا إله الاّ الله(1).

ولكن الذهبي كان قد قال في ترجمة الهرمزان -قبل ذلك بقليل-:

والهرمزان هو ملك تُستر، وقد تقدم إسلامه، قتله عبيدالله بن عمر لما اُصيب عمر، فجاء عمار بن ياسر فدخل على عمر فقال: حدث اليوم حدث في الاسلام.

قال: وما ذاك؟ قال: قتل عبيدالله الهرمزان. قال: (إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون)، عليَّ به، وسجنه(2).

فهذا يثبت اسلام الهرمزان، خصوصاً إذا تذكرنا قول المقداد وعلي بن أبي طالب وردهما على عثمان فيما أوردنا عن البلاذري واليعقوبي.

كما وتثبت هذه الرواية عدم صحة إدعاء سيف بن عمر أن عبيدالله تريث الى أن توفي عمر ثم باشر قتل الهرمزان.

ولم يكتف الشيخ الخطيب بكل ما سبق، بل استشهد برواية غريبة عجيبة -كما أوردها الطبري عن سيف- وتخالف كل ما أخرج المؤرخون من روايات، قال سيف فيها نقلا عن أحد شيوخه: سمعت القماذبان يحدّث عن قتل أبيه... قال: فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني منه (أي من عبيدالله بن

____________

1- تاريخ الاسلام 3: 307.

2- تاريخ الإسلام 3: 306.


الصفحة 152
عمر بن الخطاب)(1).

ثم قال: يا بني، هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله.

فخرجت به وما في الأرض أحد الاّ معي، الاّ أنهم يطلبون إلي فيه; فقلت لهم: إليَّ قتله؟ قالوا: نعم. وسبّوا عبيدالله، فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبّوه. فتركته لله ولهم، فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلاّ على رؤوس الرجال وأكفّهم.

قال الخطيب: هذا كلام ابن الهرمزان، وان كل منصف يعتقد (ولعل ابن الهرمزان كان يعتقد) أن دم أمير المؤمنين عمر في عنق الهرمزان، وأن أبا لؤلؤة لم يكن إلاّ آلة في يد هذا الفارسي، وأن موقف عثمان واخوانه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هذا الحادث لا نظير له في تاريخ العدالة الانسانية(2).

لا شك أن ذلك الموقف بالغ العظمة لو صدقت الرواية التي جاءت عن شيخ الوضاعين سيف، فضلا عن أن الخطيب نسي أنه ينقض أقوال استاذه ابن العربي الذي كان من جملة تبريراته لعمل عثمان، أن الهرمزان لم يكن له ولي يطلب بدمه ـ وكما أكد عثمان نفسه على المنبر - فمن أين جاء هذا القماذبان الذي لم تذكره رواية اُخرى، مما يثبت أن القماذبان ليس له وجود إلاّ في خيال سيف الواسع.

إن هذه الرواية التي يوردها سيف بن عمر، تؤكد أن سيف نفسه كان مقتنعاً بخطأ موقف عثمان، فحاول أن يصححه بوضع هذه الرواية، ولقد ذكر ابن الاثير هذه الرواية، وردّها، فقال بعد ايرادها:

والأول أصح، في اطلاق عبيدالله، لأن علياً لما ولي الخلافة أراد قتله،

____________

1- هذا التعليق من الخطيب.

2- العواصم من القواصم: الهامش 137.


الصفحة 153
فهرب الى معاوية بالشام، ولو كان اطلاقه بأمر ولي الدم، لم يتعرض له علي(1).

بقي لنا أن نناقش الحساب اولئك الذين أهدروا دم الهرمزان (لأنه ليس له ولي)،أو كما قال ابن العربي: (أن أحداً لم يقم بطلب دمه)، والذي يعني أن كل ضعيف في المجتمع الإسلامي، ليس له ولي، فلا ينبغي النظر في مظلمته إذا تعرض للقتل، طالما أن ليس هناك من يطلب بدمه.

ولا أدري كيف يسمح القاضي ابن العربي لنفسه أن يصدر مثل هذا الحكم الذي يضع في أيدي أعداء الإسلام ومنتقديه سلاحاً ماضياً للطعن في قوانينه وشرائعه، والتي من اُولى مهامها ردّ المظالم، وهو الأمر الذي يشكل مصدر فخر للمسلمين، مع العلم أن القانون الذي يطلب ابن العربي تطبيقه، تأنف منه حتى القوانين الوضعية التي لا يرتضيها الاسلام، فكيف يرضى بهذا القانون!

فعثمان بتعطيله إقامة الحد على عبيدالله، قد فتح الباب للمجترئين على الشريعة، ولم يكتف بذلك، بل قام بتهريب عبيدالله الى الكوفة وأنزله داراً فيها، حتى نسب الموضع إليه -كما ذكر اليعقوبي ـ.

"فعبيدالله لم يعاقب على شيء مما أتى، وإنما احتمل العقوبة عنه عثمان حين أدى الديّة من ماله هو، ولو قد عفا فحقن دم عبيدالله، ثم فرض عليه وعلى اُسرته ديّة القتلى، لأقام الحدّ في غير ريبة، ولما استطاع أحد أن ينكر من قضائه شيئاً.

ولو أنه إذ أدى الديّة من ماله رفقاً بآل الخطاب، أمسك عبيدالله في السجن تعزيراً له وتأديباً حتى يتوب الى الله من إثمه ويندم على إراقة الدم في غير

____________

1- الكامل في التاريخ 3: 76.


الصفحة 154
حقه، وعلى الاستخفاف بالسلطان استجابة للحفيظة الجاهلية، لو قد فعل ذلك لكان له مخرج من هذا الحرج، ولأعلم فتيان قريش من أمثال عبيدالله أن دماء المسلمين والذميين أعظم حرمة عندالله وعند السلطان من أن تراق بغير الحق، ثم لا يعاقب من اراقها عقاباً يسيراً أو خطيراً(1).

وهذا الذي طالب الدكتور طه حسين، هو في الحقيقة أضعف الإيمان، ولكن عثمان لم يعمل به، على الأقل تثبيتاً لهيبة الخلافة في أول يوم من توليه ناصيتها، وهكذا ذهب دم الهرمزان -كما قال سعيد بن المسيب- هدراً(2).

إتمام الصلاة

من الاُمور الثابتة، أن عثمان بن عفان كان أول من أتمّ الصلاة في السفر، خلافاً لما كان عليه في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وزمن الخليفتين أبي بكر وعمر.

فعن ابن عباس: إن أول ما تكلم الناس في عثمان ظاهراً، أنه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين، حتى إذا كانت السنة السادسة أتمّها. فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) وتكلم في ذلك من يريد أن يكثر عليه، حتى جاءه عليٌّ فيمن جاءه فقال: والله ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت نبيك (صلى الله عليه وآله) يصلي ركعتين، ثم أبا بكر، ثم عمر، وأنت صدراً من ولايتك، فما أدري ما ترجع إليه!

فقال: رأي رأيته(3).

ولقد أورث عثمان الفقهاء مشكلة، وهم يحاولون أن يخرّجوا عمله الذي

____________

1- الفتنة الكبرى: 263 ضمن المجموعة.

2- الاصابة 3: 619، طبقات ابن سعد 5: 108.

3- تاريخ الطبري: 4 ـ 267.


الصفحة 155
هو مخالفة صريحة للسنة النبوية المتواترة، ولا يمكن الادعاء أن عثمان قد اطّلع على ما لم يطّلع عليه غيره من سنة النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن صلاة النبي في الموسم كانت مشهودة من عشرات الاُلوف من المسلمين، فضلا عن أن استمرار أبي بكر وعمر، بل وحتى عثمان نفسه شطراً من خلافته على قصر الصلاة يثبت ذلك.

وأمام هذه الحقيقة، لم يجد بعض العلماء من عذر لعثمان سوى دعوى الاجتهاد، ومن القائلين بذلك، أبو بكر بن العربي، إذ قال:

وأما ترك القصر، فاجتهاد، إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا ذلك في منازلهم، فرأى أن السنّة ربما أدت الى إسقاط الفريضة، فتركها مصلحة خوف الذريعة، مع أن جماعة من العلماء قالوا: إن المسافر مخيّر بين القصر والاتمام، واختلف في ذلك الصحابة(1).

لكن هذه الأعذار التي يسوقها ابن العربي لا تبرر عمل عثمان، وهي كلها من التأويلات التي استحدثت فيما بعد تصحيحاً لموقف عثمان، إذ ما وجه الاجتهاد أمام سنة نبوية لا تقبل شكاً ولا جدلا، وخوف عثمان من إفتتان الناس بالقصر - لو صح ذلك- لا يبرر تغيير هذه السنّة، بل كان في مقدوره أن يجمع الناس في الموسم ويلقي عليهم خطبة يبين فيها الوجه الصحيح، ويؤيده الصحابة في ذلك، وفيه الكفاية، وهذا هو في الحقيقة واجب الخليفة الذي قام مقام النبي (صلى الله عليه وآله).

وموقف الصحابة من عثمان يكفي لاثبات خطئه،وإن كانت هذه المواقف قد تعرضت لبعض التزييف أيضاً، كما سوف يتبين بعد قليل.

____________

1- العواصم من القواصم: 90.


الصفحة 156
لقد اعترض علي بن أبي طالب على عثمان الذي لم يجد تبريراً لعمله سوى أنه كما قال: رأي رأيته، وقد جابهه عبدالرحمان بن عوف أيضاً بما يدحض حججه، قائلا له:

ألم تصلِّ في هذا المكان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ركعتين؟ قال: بلى. قال: أفلم تصلِّ مع أبي بكر ركعتين؟ قال: بلى. قال: أفلم تصل مع عمر ركعتين؟ قال: بلى. قال: ألم تصلِّ صدراً من خلافتك ركعتين؟ قال: بلى.

قال: فاسمع مني يا أبا محمد، اني أخبرت أن بعض من حج من أهل اليمن وحفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، وقد اتخذت بمكة أهلا، فرأيت أن أُصلي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس. واُخرى، قد اتخذتُ بها زوجة، ولي بالطائف مال، فربما اطلعته فأقمت فيه بعد الصدر.

فقال عبد الرحمان بن عوف: ما من هذا شي لك فيه عذر.

أما قولك: اتخذت أهلا، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت، وتقدم بها إذا شئت; إنما تسكن بسكناك.

وأما قولك: ولي بالطائف مال، فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال، وأنت لست من أهل الطائف.

وأما قولك: يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وهو مقيم، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل، ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر. فضرب الاسلام بجرانه، فصلى بهم عمر حتى مات ركعتين.

فقال عثمان: هذا رأي رأيته.


الصفحة 157
فخرج عبدالرحمان فلقي ابن مسعود، فقال: أبا محمد غير ما يعلم. قال: لا، قال: فما أصنع؟ قال: اعمل أنت بما تعلم.

فقال ابن مسعود: الخلاف شر، قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت بأصحابي أربعاً، فقال عبدالرحمان بن عوف: قد بلغني أنه صلى أربعاً، فصليت بأصحابي ركعتين. وأما الآن فسوف يكون الذي تقول -يعني نصلي معاً أربعاً(1).

يمكن أن نلاحظ مما سبق، أن عبدالرحمان بن عوف قد أسقط جميع الحجج التي تذرع بها عثمان لإتمام صلاته، الاّ أن الغريب في هذه الرواية، هو المقطع الأخير منها، والذي لاشك أنه قد زيد عليها، إذ ما معنى أن يصلي ابن مسعود بأصحابه، وعبدالرحمان بن عوف بأصحابه، فهل كان كل صحابي يصلي (في موسم الحج) بمجموعة من الناس كأنهم أتباع له؟

وماذا كان يفعل عثمان إذاً، وبمن كان يصلي؟!

إن من المعلوم لدى الجميع، أن المسلمين قديماً والى يومنا هذا يصلّون جميعاً خلف أمير الحج، الذي يكون إما الخليفة - من بعد النبي- أو من ينوب عنه بأمره، حيث يأتم المسلمون جميعاً وبكافة طوائفهم ومذاهبهم - التي ظهرت فيما بعد- بأمير الحج هذا، ويصلون صلاة واحدة قصراً، كما كانت على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، ولم نعلم أن كل مجموعة من المسلمين تصلي بمفردها ويؤمّها شخص ما غير أمير الحج!

____________

1- الطبري 4: 267.


الصفحة 158

الصفحة 159


الفصل الرابع

تصاعد الأحداث





الصفحة 160

الصفحة 161

تصاعد الأحداث


تبين مما سبق أنه كانت هناك جملة من الاُمور التي كانت أسباباً غير مباشرة في تسريع الأحداث باتجاه الثورة على عثمان، وإن كانت هذه الاُمور متفاوتة من حيث أهميتها وتأثيرها في ذلك.

إلاّ أن من المؤكد أن تصرف ولاة عثمان وعماله تجاه الناس -وفيهم بعض كبار الصحابة- كانت أهم الأسباب التي أدت الى إحداث حالة من الغليان الشعبي، بعدما تبين للجميع أن عثمان بن عفان كان متقاعساً في الأخذ على أيدي هؤلاء الولاة، ومن ثم جاء حادثة تسيير أهل بعض الأمصار الى الشام لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير.

إن عدم مباشرة عثمان الاُمور بنفسه، وعدم تصديه لحلها، وإعراضه عن استشارة كبار الصحابة، بل والاعراض عن نصائحهم، واعتماده على ولاته في معاقبة المتذمرين - مع العلم ان اولئك الولاة كانوا على الأغلب، هم السبب في موجة التذمر السائدة- كانت كلها تزيد من تعقيد الوضع وتفاقم المشاكل- ففي الوقت الذي كان عثمان يبدي لولاته جانب اللين والتغاضي عن أعمالهم، وعدم الاهتمام بشكاوى الناس منهم، نجده يعالج مشكلة هؤلاء الناقمين بتسييرهم الى معاوية ليتولى تأديبهم بدلا من أن يباشر الخليفة معالجة الموقف بنفسه، بعد الاستماع الى شكاواهم مباشرة. ولقد كان تسيير أهل

الصفحة 162
الأمصار الى الشام مع أفدح الأخطاء التي ارتكبها عثمان، وكان سبب المشكلة تافهاً وعلاجها بسيطاً، ولكن تصرف عثمان فيها جعلها تتضخم بشكل صارت معه خطراً حقيقياً على وحدة الصف الاسلامي.

وخلاصة هذه الحادثة - التي تعرضت هي الاُخرى للتزييف ومزايدات المؤلفين- يعرضها لنا القاضي ابن العربي من وجهة نظره التي تمثل وجهة نظر تيار بأكمله، قائلا: وأمثل ما روي في قصته، أنه - بالقضاء السابق- تألّب عليه قوم لأحقاد اعتقدوها ممن طلب أمراً فلم يصل إليه، وحسد حساده أظهر داءها، وحمله على ذلك قلة دين وضعف يقين، وإيثار العاجلة على الآجلة. وإذا نظرت اليهم، دلَّك صريح ذكرهم على دناءة قدرهم وبطلان أمرهم.

كان الغافقي المصري أمير القوم، وكنانة بن بشر التجيبي، وسودان بن حمران، وعبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وحكيم بن جبلة من أهل البصرة، ومالك بن الحارث الأشتر في طائفة هؤلاء رؤوسهم، فناهيك بغيرهم.

وقد كانوا أثاروا فتنة، فأخرجهم عثمان بالاجتهاد! وصاروا في جماعتهم عند معاوية، فذكّرهم بالله وبالتقوى لفساد الحال وهتك حرمة الاُمة، حتى قال له زيد بن صوحان يوماً - فيما يروى- كم تكثر علينا من الإمرة وبقريش، فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريش تجاهد. فقال له معاوية: لا أُم لك، أُذكّرك بالاسلام، وتذكرني بالجاهلية! قبّح الله من كثر على أمير المؤمنين بكم، فما أنتم ممن ينفع أو يضر، أخرجوا عني.

وأخبره ابن الكوا بأهل الفتنة في كل بلد ومؤامرتهم; فكتب الى عثمان يخبره بذلك، فأرسل إليه بإشخاصهم إليه، فأخرجهم معاوية; فمروا بعبدالرحمان بن خالد بن الوليد، فحبسهم ووبخهم وقال لهم: اذكروا لي ما كنتم

الصفحة 163
تذكرون لمعاوية، وحصرهم وأمشاهم بين يديه أذلاء حتى تابوا بعد حول.

وكتب الى عثمان يخبرهم، فكتب اليه أن سرحهم اليّ، فلما مثلوا بين يديه جددوا التوبة، وحلفوا على صدقهم، وتبرأُوا مما نسب إليهم، فخيّرهم حيث يسيرون، فاختار كل واحد ما أراد من البلاد: كوفة، وبصرة، ومصر.

فأخرجهم; فما استقروا في جنب ما ساروا حتى ثاروا وألّبوا، حتى انضاف اليهم جمع...(1).

فسبب تسيير هؤلاء الكوفيين الى الشام -كما يعرضه ابن العربي- هو أنهم كانوا قوماً حاسدين حاقدين، وكانوا من شرار الناس الأدنياء، وانهم كانوا قد أثاروا فتنة - لم يذكرها ابن العربي- مما اضطر عثمان الى نفيهم من بلادهم الى الشام -كما كان يفعل بكل المنفيين- حيث استقبلهم معاوية ووعظهم ونصح لهم، ولكنهم صمّوا آذانهم، واستشهدوا على دعاواهم باُمور جاهلية تدل على ضعف يقينهم وقلة ورعهم، مما اضطر معاوية - الذي لم يحتمل منهم ذلك- الى إخراجهم الى الخليفة نفسه، فمروا في طريقهم على عبدالرحمان بن خالد الذي قمعهم وأذلهم حتى تابوا، فعفا عنهم عثمان وأرجعهم الى بلادهم، إلاّ أنهم بدلا من أن يرتدعوا ويرعوا، راحوا يؤلبون الناس ويسعّرون نار الفتنة!

هذه الأحداث التي يذكرها ابن العربي، ما هي الاّ ملخص لما جاء في تاريخ الطبري الذي بدأها بقوله:

اختلف أهل السير في ذلك، فأما سيف فإنه ذكر فيما كتب به الى السري عن شعيب...الخ(2).

____________

1- العواصم من القواصم: 121.

2- تاريخ الطبري: 4 ـ 317.


الصفحة 164
وقد تناقل معظم المؤرخين والمؤلفين الذين جاءوا بعد الطبري هذه الرواية عنه بدرجات متفاوتة.

وقد حاول ابن كثير التلفيق بين الروايات التي جاءت من طرق متعددة، ولكنه مال في النهاية الى تغليب رواية سيف من خلال الآراء والملاحظات التي أبداها أثناء نقله الروايات، حيث يقول - عند ذكره حوادث سنة ثلاث وثلاثين ـ:

وفيها سيّر أمير المؤمنين جماعة من قرّاء أهل الكوفة الى الشام. وكان سبب ذلك أنهم تكلّموا بكلام قبيح في مجلس سعيد بن عامر(1).

فكتب الى عثمان في أمرهم، فكتب إليه عثمان أن يجليهم عن بلده الى الشام، وكتب عثمان الى معاوية أمير الشام أنه قد خرج اليك قرّاء من أهل الكوفة فأنزلهم وأكرمهم وتألّفهم.

فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم واجتمع بهم ووعظهم ونصحهم فيما يعتمدونه من اتّباع الجماعة وترك الانفراد والابتعاد، فأجابه متكلمهم والمترجم عنهم بكلام فيه بشاعة وشناعة، فاحتملهم معاوية لحلمه، وأخذ في مدح قريش - وكانوا قد نالوا منهم- وأخذ في المدح لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والثناء عليه، والصلاة والتسليم، وافتخر معاوية بوالده وشرفه في قومه، وقال فيما قال: وأظن أبا سفيان لو ولد الناس كلهم لم يلد الاّ حازماً. فقال صعصعة بن صوحان: كذبت، قد ولد الناس كلهم لمن هو خير من أبي سفيان، من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر والفاجر، والأحمق والكيّس.

____________

1- الصحيح سعيد بن العاص. المؤلف.


الصفحة 165
ثم بذل لهم النصح مرة اُخرى، فإذا هم يتمادون في غيهم، ويستمرون على جهالتهم وحماقتهم، فعند ذلك أخرجهم من بلده ونفاهم من الشام لئلا يشوشوا عقول الطغام، وذلك أنه كان يشتمل مطاوي كلامهم على القدح في قريش، كونهم فرّطوا وضيّعوا ما يجب عليهم من القيام به من نصرة الدين وقمع المفسدين.

وكانوا عشرة، وقيل تسعة، وهو الأشبه(1).

وقد ناقض ابن كثير ابن العربي حين وصف اولئك المسيّرين بأنهم جماعة من قرّاء الكوفة، في الوقت الذي يوحي وصف ابن العربي لهم بما يدعو الى النفور منهم، الاّ أن ابن كثير سرعان ما يعود فيناقض نفسه، فيصفهم بأهل الجهالة.

وقد أوضح ابن كثير معنى قول ابن العربي (وقد كانوا أثاروا فتنة)، بأنهم قد تكلموا في حضرة واليهم سعيد بن العاص بكلام قبيح، دون أن يذكر ابن كثير شيئاً من ذلك الكلام حتى يمكن الحكم على مدى قبحه، الاّ أن ابن كثير قد بنى استنتاجه هذا على ما ورد عن الطبري برواية سيف الذي قال:

كان سعيد بن العاص لا يغشاه الاّ نازلة أهل الكوفة ووجوه أهل الأيام وأهل القادسية وقراء أهل البصرة والمتسمّتون. وكان هؤلاء دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس للناس فإنه يدخل عليه كل أحد.

فجلس للناس يوماً; فدخلوا عليه، فبينا هم جلوس يتحدثون، قال خنيس ابن فلان: ما أجود طلحة بن عبيدالله.

فقال سعيد بن العاص: إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جواداً،

____________

1- البداية والنهاية 7: 165.


الصفحة 166
والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله عيشاً رغداً.

فقال عبدالرحمان بن خنيس - وهو حدث- والله لوددت أن هذا الملطاط لك -يعني ما كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة-.

قالوا: فض الله فاك! والله لقد هممنا بك.

فقال خنيس: غلام فلا تجازوه.

فقالوا: يتمنى له سوادنا!

قال: ويتمنى لكم أضعافه.

قالوا: لا يتمنى لنا ولا له. قال: ما هذا بكم. قالوا: أنت والله أمرته بها، فثار اليه الأشتر وابن ذي الحبكة وجندب وصعصعة وابن الكواء وكميل بن زياد وعمير بن ضابي، فأخذوه، فذهب أبوه ليمنع منه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطراً.

فسمعت بذلك بنو أسد، فجاءوا وفيهم طليحة! فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل فعاذوا بسعيد وقالوا: أفلتنا وخلصنا...(1).

فرواية الطبري عن سيف هذه، تظهر سعيد بن العاص - والي عثمان على الكوفة بعد الوليد بن عقبة- بمظهر الرجل الطيب الذي يختار جلساءه من القرّاء والصلحاء، لكن اُولئك النفر الذين أثاروا تلك الفتنة لم يكونوا من اُولئك، بل كانوا من العوام، بينما نجد ابن كثير يختار - رغم تعصبه لعثمان ومعاوية كما سوف يتبين أكثر فيما بعد- يصفهم بقراء أهل الكوفة، وهو الوصف الذي ورد عند البلاذري الذي يقول: فكان يجالس قراءها ووجوه أهلها ويسامرهم، فيجتمع عنده منهم: مالك بن الحارث الاشتر النخعي، وزيد

____________

1- الطبري 4: 317.