أما سبب خلافهم مع سعيد بن العاص، فهو كما رواه البلاذري وغيره، من أن هؤلاء الذين ذكرناهم، قد جلسوا عند سعيد كعادتهم "فإنهم لعنده وقد صلّوا العصر، إذ تذاكروا السواد والجبل، ففضلوا السواد وقالوا: هو ينبت ما ينبت الجبل، وله هذا النخل. وكان حسان بن محدوج الذهلي الذي ابتدأ الكلام في ذلك، فقال عبدالرحمان بن خنيس الاسدي صاحب شرطه: لوددت أنه للأمير وأن لكم أفضل منه، فقال له الأشتر: تمنَّ للأمير أفضل منه ولا تمنَّ له أموالنا.
فقال عبدالرحمان: ما يضرك من تمنّي حتى تزوي ما بين عينيك؟ فوالله لو شاء كان له.
فقال الأشتر: والله لو رام ذلك ما قدر عليه.
فغضب سعيد وقال: إنما السواد بستان لقريش!
فقال الأشتر: أتجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بستاناً لك ولقومك! والله لو رامه أحد لقُرع قرعاً يتصأصأ منه.
ووثب بابن خنيس فأخذته الأيدي.
فكتب سعيد بن العاص بذلك الى عثمان وقال: إني لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يدعون القراء - وهم السفهاء- شيئاً.
فكتب إليه أن سيّرهم الى الشام(2).
فسبب الخلاف هو سعيد بن العاص نفسه الذي استفزّ مشاعر القوم حينما
____________
1- أنساب الأشراف 6: 152.
2- أنساب الأشراف 6: 152.
وليس من شك في أن جميع ولاة عثمان الاُمويين كانوا يحملون نفس التصور للأمر، ولقد مرّت بنا مقولة الوليد بن عقبة لسعد بن أبي وقاص حينما ولاّه عثمان الكوفة.
ومن أغرب الأكاذيب التي لفّقها سيف بن عمر في روايته هذه، أنه ذكر اسم طليحة الذي خرج على رأس بني أسد، مع العلم أن طليحة الأسدي هذا - وهو المتنبي- قد "قُتل في خلافة عمر بن الخطاب"(1).
ويستكمل الطبري سرد حادثة تسيير أهل الكوفة كما جاءته عن سيف، قائلا: ولما انقطع رجاء اُولئك النفر من ذلك، قعدوا في بيوتهم، وأقبلوا على الاذاعة حتى لامه أهل الكوفة في أمرهم، فقال: هذا أميركم وقد نهاني أن اُحرك شيئاً، فمن أراد منكم أن يحرك شيئاً فليحركه.
فكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم الى عثمان في إخراجهم، فكتب: إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فالحقوهم بمعاوية.
فأخرجوهم، فذلّوا وانقادوا حتى أتوه -وهم بضعة عشر- فكتبوا بذلك الى عثمان، وكتب عثمان الى معاوية: إن أهل الكوفة قد أخرجوا اليك نفراً خُلقوا للفتنة، فرعهم وقم عليهم، فإن آنست منهم رشداً فاقبل منهم، وإن أعيوك فآرددهم عليهم. فلما قدموا على معاوية، رحب بهم وأنزلهم كنيسة تسمى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري بالعراق، وجعل لا يزال
____________
1- بيعة علي: 306.
فقال رجل من القوم: أما ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا، وأما ما ذكرت من الجُنة فإن الجُنة إذا اخترقت خُلص إلينا.
فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلا، اُعظم عليك أمر الاسلام واُذكرك به، وتذكرني الجاهلية! وقد وعظتك، وتزعم لما يُجنّك أنه لا يُخترق، ولا يُنسب ما يخترق الى الجُنة... أخزى الله أقواماً اعظموا أمركم، ورفعوا الى خليفتكم. إفقهوا - ولا أظنكم تفقهون- إن قريشاً لم تعز في جاهلية ولا إسلام الاّ بالله عزّوجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً وأمحضهم أنساباً، وأعظمهم أخطاراً، وأكملهم مروة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضاً الاّ بالله الذي لا يُستذل من أعز، ولا يوضع من رفع، فبوأهم حرماً آمناً يُتخطف الناس من حولهم. هل تعرفون عرباً أو عجماً أو سوداً أو حمراً الاّ قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولته، الاّ ما كان من
____________
1- جُنّة: أي وقاية.
ثم قام وتركهم، فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم، فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال: إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم، لا والله لا ينفع الله بكم أحداً ولا يضره، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، ولكنكم رجال نكير. وبعد، فإن
وكتب معاوية الى عثمان: إنه قدم عليَّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أثقلهم الاسلام، وأضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة، إنّما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالذين ينكون أحداً الاّ مع غيرهم، فآنْهَ سعيداً ومن قبله عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير(2).
فمعاوية كان يتحدث باسم قريش ويفاخر بها، في الوقت الذي يذم هؤلاء النفر ويصفهم بأقبح الأوصاف، بينما ادعى ابن كثير أنه كان ينصحهم ويتألفهم، وأنهم هم الذين كانوا يتكلمون بكلام فيه بشاعة، وذلك كله اتفاقاً مع وصف سعيد بن العاص لهم بالسفهاء، ووصف معاوية لهم بأنهم يتكلمون
____________
1- العنكبوت: 1 و 2.
2- الطبري 4: 317.
أورد البلاذري خبر إرسال بعض قرّاء أهل الكوفة الى عثمان يطلبون منه ردّ هؤلاء النفر الى بلادهم كتاباً قالوا فيه: أن سعيداً أكثر على قوم من أهل الورع والفضل والعفاف، فحملك في أمرهم على مالا يحل في دين، ولا يحسن في سماع.
وإنّا نذكرك الله في اُمّة محمّد، فقد خفنا أن يكون فساد أمرهم على يديك، لأنك قد حملت بني أبيك على رقابهم، واعلم أن لك ناصراً ظالماً، وناقماً عليك مظلوماً، فمتى نصرك الظالم ونقم عليك الناقم، تباين الفريقان واختلفت الكلمة، ونحن نُشهد عليك الله وكفى به شهيداً، فإنك أميرنا ما أطعت الله واستقمت، ولن تجد دون الله ملتحداً ولا عنه منتقداً.
ولم يُسمِّ أحد منهم نفسه في الكتاب، وبعثوا به مع رجل من عنزة يكنى أبا ربيعة، وكتب كعب بن عبدة كتاباً من نفسه تسمى فيه ودفعه الى أبي ربيعة.
فلما قدم أبو ربيعة على عثمان، سأله عن أسماء القوم الذين كتبوا الكتاب، فلم يخبره، فأراد ضربه وحبسه، فمنعه علي من ذلك وقال: إنما هو رسول ادّى ما حمل.
وكتب عثمان الى سعيد أن يضرب كعب بن عبدة عشرين سوطاً، ويحوّل
فعثمان بن عفان لم يكن يكتفي باطلاق أيدي عماله في الولايات بالمظالم، بل كان يقرّهم على أفعالهم، ويشجعهم على التمادي بانزال العقوبة بمخالفيهم، بدلا من محاسبة هؤلاء العمال والولاة، ورد المظالم الى أهلها، فكانت تلك من أقوى مظاهر ضعف سياسة عثمان وتخبطه في الادارة، مما كان له الأثر الكبير في تعجيل النقمة والانتقاض عليه.
أما ما يمكن استخلاصه من رواية سيف - التي تبناها معظم المؤلفين- فهو ظهور معاوية بن أبي سفيان بمظهر الرجل الذي تحركه روح الإسلام وتعاليمه، في الوقت الذي نجد هؤلاء النفر من أهل الكوفة يظهرون بمظهر أهل جاهلية ضعاف الأحلام، إلا أن الرواية الاُخرى التي أوردها الطبري بغير طريق سيف - والتي نقل ابن كثير طرفاً منها- تظهر لنا معاوية على حقيقته، فنجده يفخر بمآثر آبائه الذين أفنوا أعمارهم في الشرك، فيمجد أباه الذي كان رأس المشركين وقائدهم في مناصبة المسلمين الحرب بكل أشكالها، ولم يسلم الاّ عام الفتح، فلم تكن له قدم في الاسلام ولا سابقة، بل هو من الطلقاء الذين منَّ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا أدري هل كان معاوية حاضراً يوم فتح مكة، وهل سمع النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالآباء"(2).
الاّ أن معاوية قد تعظّم بأبيه -كما يفعل الجاهليون- بينما نجد صعصعة بن صوحان يرد عليه رداً يتفق مع روح الاسلام حين يخبره أن آدم (عليه السلام) قد ولد الناس جميعاً - برهم وفاجرهم- وهو قطعاً أفضل من أبي سفيان!
____________
1- أنساب الاشراف 6: 153.
2- سنن أبي داود: ح 5116.
وصعصعة هذا هو القائل لعمر بن الخطاب حين قسم المال الذي بعث به إليه أبو موسى... وكان ألف ألف درهم... وفضلت منه فضلة، فاختلفوا عليه حيث يضعها، فقام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس، قد بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس، فما تقولون فيها؟
فقام صعصعة بن صوحان -وهو غلام شاب- فقال: يا أمير المؤمنين، إنما تشاور الناس فيما لم ينزل الله فيه قرآناً، أما ما أنزل الله به القرآن ووضعه مواضعه، فضعه في مواضعه التي وضع الله تعالى فيها.
فقال: صدقت، أنت مني وأنا منك، فقسمه بين المسلمين(1).
فهذه الحادثة تؤكد وفور عقل صعصعة وصواب رأيه الذي أخذ به الخليفة عمر بن الخطاب ومدحه عليه.
أما أخوه زيد بن صوحان -وهو أيضاً من الذين سيّرهم عثمان الى معاوية- فهو: "ممن أدرك النبي (صلى الله عليه وآله) " بسنّه مسلماً، وكان فاضلا ديّناً سيداً في قومه، هو وإخوته.
وروي من وجوه أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان ميسرة له، فبينما هو يسير، إذ هوَّم
____________
1- الاستيعاب 2: 717.
"رجلان من اُمتي، أما أحدهما فتسبقه يده، أو قال: بعض جسده الى الجنة، ثم يتبعه سائر جسده. وأما الآخر فيضرب ضربة يفرق بها بين الحق والباطل". قال أبو عمرو: اُصيبت يد زيد يوم جلولاء، ثم قتل يوم الجمل مع علي..."(1).
وأما جندب الذي أخبر عنه النبي (صلى الله عليه وآله)، فهو:
جندب بن زهير، ويسمى (جندب الخير) الأزدي العامري، قاتل الساحر، يكنى أبا عبدالله، له صحبة. روى عن النبي (صلى الله عليه وآله): "حد الساحر ضربة بالسيف". كان على رجالة علي بصفين...
وقال البخاري وابن منده: جندب بن كعب قاتل الساحر(2).
كان جندب بن زهير إذا صلّى أو صام تصدّق، فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك القالة من الناس، فأنزل الله تعالى في ذلك (فمنْ كانَ يَرجُو لِقاءَ ربّهِ فليَعملْ عملا صالحاً وَلا يُشركْ بعبادَةِ ربّهِ أحداً).
وكان فيمن سيّره عثمان من الكوفة الى الشام... وقُتل مع علي بصفين(3).
فمما سبق نستطيع الخروج بنتيجة أولية مفادها: أن سيف بن عمر يتحامل بشدة على عدد غير قليل من خيار الصحابة والتابعين ويصفهم بأقبح الأوصاف - وسيأتي المزيد من ذلك- بينما نجده يرفع من شأن عدد آخر ممن لم يُعرفوا بسابقة أو فضل، بل ويبدو جلياً أنه يمتدح مجموعة عُرفوا بقلة الدين، وبالفسق أيضاً، وقد سار على نهجه عدد كبير من المؤلفين، فراحوا
____________
1- أسد الغابة 3: 714.
2- تهذيب التهذيب 8: 402.
3- اسد الغابة 1: 261.
ولم يكتف سيف بذلك، بل انه اخترع أحداثاً وشخصيات وهمية لا حقيقية لها، ومع ذلك فقد صدّقه اُولئك المؤلفون، أو تظاهروا بتصديقه لغاية في النفس قضيت، فقد مرّ بنا فيما سبق، أن ابن العربي عدّ من بين الشخصيات التي خرجت على عثمان (الغافقي المصري) مدعياً أنه كان أمير الخارجين على عثمان، وتابعه محب الدين الخطيب الذي ذكر مقطعاً من رواية الطبري بطريق سيف، مصوراً الغافقي هذا كشخصية حقيقية من أتباع عبد الله بن سبأ، وأن الغافقي هذا كان يصلي بالناس في فترة حصار عثمان في داره! حتى أن محمود مهدي الاستانبولي لم يجد مناصاً من الاعتراف بأن هذا الخبر، وخبر استمالة السبائيين لعمار بن ياسر، ماهو الاّ خبر غريب موحش، وأن في سنده سيف بن عمر المتهم بالزندقة، ثم يعترف الاستانبولي بأن قسماً كبيراً من تاريخنا هو من وضع الزنادقة!
ومن الشخصيات الاُخرى التي ذكرها المؤرخون في جملة الثائرين على عثمان. عبدالرحمان بن عديس البلوي، وعبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وهم الذين يصفهم ابن العربي برؤوس القوم، ولا أدري هل أن ابن العربي ومن تابعه، كانوا يعلمون أن هذين الرجلين صحابيان أيضاً، وأن أحدهما ممن بايع النبي (صلى الله عليه وآله) تحت الشجرة، وهي بيعة الرضوان، كما أكد ذلك من ترجم لهما.
فعبد الرحمان بن عديس البلوي، "مصري شهد الحديبية".
"قال أبو عمرو: هو كان الأمير على الجيش القادمين من مصر الى المدينة، الذين حصروا عثمان وقتلوه"(1).
وعبد الله بن بديل بن ورقاء، "أسلم مع أبيه قبل الفتح، وشهد حنيناً والطائف، وكان سيد خزاعة، وخزاعة عيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) "..
وكان له قدر وجلالة.
قُتل هو وأخوه عبدالرحمان بصفين، وكان يومئذ على رجالة علي(رضي الله عنه).
كان من وجوه الصحابة!(2).
ومن التابعين الذين ورد ذكرهم من بين المسيّرين من أهل الكوفة: مالك ابن الحارث الاشتر، الذي يظهر في رواية سيف بمظهر صاحب الفتنة ورئيسها، وتابعه على ذلك المؤلفون، حيث يقول محب الدين الخطيب عنه: بطل شجاع من أبطال العرب، كان أول مشاهده الحربية في اليرموك، وفيها فقد احدى عينيه، ثم شاء أن يكون سيفه مسلولا على إخوانه المسلمين في مواقف الفتنة، ولو أنه لم يكن ممن ألب على أمير المؤمنين عثمان، وكتب الله أن تكون وقائعه الحربية في نشر دعوة الاسلام وتوسيع الفتوح، لكان له في التاريخ شأن آخر، والذي دفعه في هذا الطريق: غلوّه في الدين وحبه للرئاسة والجاه، ولست أدري كيف اجتمعا فيه(3).
لا شك أن الخطيب محق في تعجبه، إذ كيف يجتمع الغلو في الدين -كما
____________
1- الاستيعاب 2: 840، أسد الغابة 3: 370.
2- الاستيعاب 3: 872.
3- العواصم من القواصم: 125.
إن منشأ ذلك العجب هو إعتماد الخطيب على روايات سيف بن عمر الذي "ما اعتمد مؤرخ على رواياته الاّ افتضح"(1).
أما فيما يتعلق بمالك الأشتر: فقد "ذكره ابن سعد في الطبقة الاولى من تابعي الكوفة. قال: وكان من أصحاب علي، وشهد معه الجمل وصفين ومشاهده كلها.
ولاّه علي على مصر بعد قيس بن سعد بن عبادة، فسار حتى بلغ القلزم فمات بها، يقال مسموماً..
روي أن علياً نعاه الى قومه وأثنى عليه ثناءً حسناً(2).
أما حكيم بن جبلة فسوف تأتي ترجمته في حينها.
ولعل القارئ الكريم قد لاحظ من كل ما سبق، أن اولئك الذين يمتدحهم سيف بن عمر ومن تابعه، هم فئة معينة يجمعها قاسم مشترك، هو أنهم من بني اُمية وأشياعهم، وأن الذين يذمهم سيف، هم أيضاً فئة معينة يجمعها قاسم مشترك هو أنهم من أتباع علي بن أبي طالب! وسوف اُؤجل مناقشة هذا الأمر الى ما بعد استكمال فصول أحداث الفتنة، بهدف الكشف عن نواحي التزييف الذي تعرض له تاريخنا الاسلامي، مع بيان أسبابه ودوافعه ونتائجه.
ونعود فنستكمل بقية أحداث القصة -كما يرويها الطبري بطريق سيف- عن توجه اولئك النفر الى حمص، واستقبال عبدالرحمان بن خالد بن الوليد لهم، وما واجههم به من بذيء الكلام، وكيف قمعهم وأذلّهم، قال:
وخرج القوم من دمشق فقالوا: لا ترجعوا الى الكوفة فإنهم يشمتون بكم،
____________
1- بيعة علي: 306.
2- تهذيب التهذيب 10: 10.
وسمع بهم عبدالرحمان بن خالد بن الوليد -وكان معاوية ولاّه حمص وولي عامل الجزيرة حرّان والرقة فدعا بهم، فقال: يا آلة الشيطان، لا مرحباً بكم ولا أهلا، قد رجع الشيطان محسوراً وأنتم بعد نشاط. حسّر الله عبدالرحمان إن لم يؤدبكم حتى يحسركم. يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم، لم لا تقولون لي ما يبلغني أنكم تقولون لمعاوية؟ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الردة. والله لئن بلغني يا صعصعة بن ذُل أن أحداً ممن معي دق أنفك ثم أمصّك، لأطيرن بك طيرة بعيدة الهوى.
فأقامهم أشهراً كلما ركب أمشاهم، فإذا مرّ به صعصعة قال: يابن الحطيئة، أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر؟ مالك لا تقول كما كان يبلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية! فيقولون: نتوب الى الله، أقِلنا أقالك الله. فما زالوا به حتى قال: تاب الله عليكم.
وسرّح الأشتر الى عثمان وقال لهم: ماشئتم، إن شئتم فاخرجوا، وإن شئتم فأقيموا.
وخرج الأشتر، فأتى عثمان بالتوبة والندم والنزوع عنه وعن أصحابه، فقال: سلّمكم الله.
وقدم سعيد بن العاص، فقال عثمان للأشتر: احلل حيث شئت! فقال: مع عبدالرحمان بن خالد!! وذكر فضله، فقال: ذاك اليكم. فرجع الى عبدالرحمان(1).
لعل التهافت الواضح في هذه الرواية يكشفه طلب الأشتر وجماعته
____________
1- الطبري 4: 317.
وكيف يسمح لهم وجودهم عند عبد الرحمان بالاستمرار في إشعال الفتنة التي يسعون إليها، حيث إن الجزء الأخير من الرواية الذي أورده ابن العربي في ملخصه لها، يكشف عن أنهم لم يتوبوا حقيقة، وأنهم استمروا في التأليب على عثمان، فكيف اُتيح لهم ذلك مع وجود - ذلك الشبل المخزومي- كما يصفه محب الدين الخطيب. ولكن، ورغم هذا التهافت الواضح في الرواية، فإن جمهور المؤلفين قد اعتمدوها وراحوا يروجونها في كتبهم!
لكن الروايات التي جاءت عن غير طريق سيف، لا تشير الى شيء من تلك المبالغات والتهويلات، فقد روى الطبري خبر عودة القوم من عند معاوية الى الكوفة فقال:
وكتب سعيد الى عثمان يضج منهم، فكتب عثمان الى سعيد أن سيّرهم الى عبدالرحمان بن خالد بن الوليد، وكان أميراً على حمص، وكتب الى الأشتر وأصحابه، أما بعد فإني قد سيّرتكم الى حمص، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شراً، والسلام.
فلما قرأ الأشتر الكتاب، قال: اللهم أسوأنا نظراً للرعية، وأعملنا فيهم بالمعصية، فعجّل له النقمة.
فكتب بذلك سعيد الى عثمان، وسار الأشتر وأصحابه الى حمص، فأنزلهم عبدالرحمان بن خالد الساحل، وأجرى عليهم رزقاً(1).
أما القصة عند البلاذري فهي:
____________
1- الطبري 4: 322.
فقال معاوية: مالكم لا تتكلمون؟
فقال زيد بن صوحان: وما نصنع بالكلام، لئن كنا ظالمين فنحن نتوب الى الله، وإن كنا مظلومين فإنا نسأل الله العافية.
فقال معاوية: يا أبا عائشة، أنت رجل صدق.
وأذن له في اللحاق بالكوفة; وكتب الى سعيد بن العاص: أما بعد، فإني قد أذنت لزيد بن صوحان في المسير الى منزله بالكوفة لما رأيت من فضله وقصده وحسن هديه، فأحسن جواره وكفّ الأذى عنه وأقبل إليه بوجهك وودّك فإنه قد أعطاني موثقاً أن لا ترى منه مكروهاً.
فشكر زيد معاوية وسأله عند وداعه إخراج من حبس ففعل.
وبلغ معاوية أن قوماً من أهل دمشق يجالسون الأشتر وأصحابه، فكتب الى عثمان: إنك بعثت إلي قوماً أفسدوا مصرهم وانغلوه، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قبلي ويعلموهم مالا يحسنونه حتى تعود سلامتهم غائلة واستقامتهم اعوجاجاً، فكتب الى معاوية يأمره أن يسيرهم الى حمص ففعل، وكان واليها عبدالرحمان بن خالد بن الوليد بن المغيرة.
ويقال: ان عثمان كتب في ردّهم الى الكوفة، فضجّ منهم سعيد ثانية، فكتب في تسييرهم الى حمص، فنزلوا الساحل(1).
____________
1- أنساب الاشراف 6: 155.
يوم الجرعة
كان من مضاعفات تلك الأحداث، ما عُرف بيوم الجرعة، وقد تضاربت الأخبار فيها أيضاً. فالشيخ محب الدين الخطيب يلخص لنا رواية الطبري- بطريق سيف- قائلا: في الوقت الذي كان فيه الأشتر يعرض على عثمان توبته وتوبة زملائه، وذلك سنة (34)، كان السبائيون في مصر يكاتبون أشياعهم في الكوفة والبصرة بأن يثوروا على اُمرائهم، واتّعدوا يوماً، فلم يستقم ذلك لجماعة الكوفة، فثار بهم يزيد بن قيس الأرحبي، ولما وصل الأشتر من المدينة الى إخوانه الذين عند عبد الرحمان بن خالد بن الوليد: وجد بين أيديهم كتاباً من يزيد بن قيس الأرحبي يقول لهم فيه: لا تضعوا كتابي من أيديكم حتى تجيئوا، فتشاموا من هذه الدعوة وآثروا البقاء، وخالفهم الأشتر فرجع عاصياً بعد توبته، والتحق بثوار الكوفة وقد نزلوا في الجرعة - مكان مشرف على القادسية- وهناك تلقوا سعيد بن العاص أمير الكوفة وهو عائد من المدينة فردّوه. ولقي الأشتر مولىً لسعيد بن العاص فضرب الأشتر عنقه.
وبلغ عثمان أنهم يريدون إقالة سعيد بأبي موسى الأشعري فأجابهم الى ما طلبوا(1).
لكن الطبري أورد رواية اُخرى مخالفة لرواية سيف، ولكنها تتفق الى حد كبير مع ما جاء في المصادر الاُخرى، فروى عن جعفر بن عبدالله المحمدي(2) بسنده قال: اجتمع ناس من المسلمين، فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه،
____________
1- العواصم من القواصم: 126 الهامش عن الطبري 4: 330، الكامل في التاريخ 3: 148.
2- لم أعثر له على ترجمة.
قال له عثمان: انظر الى هذا، فان الناس يزعمون أنه قارئ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقّرات، فوالله ما يدري أين الله!
قال عامر: أنا لا أدري أين الله؟!
قال: نعم، والله ما تدري أين الله.
قال عامر: بلى والله إني لأدري أن الله بالمرصاد لك!(1).
أما رواية البلاذري، فهي أكثر تفصيلا واستيعاباً للأحداث ومقدّماتها، وهي تتضمن خبر الاجتماع الطارئ الذي دعا عثمان عمّاله إليه لمناقشة الأوضاع الراهنة، حيث قال:
وكتب عثمان(رضي الله عنه) الى اُمرائه في القدوم عليه للذي رأى من ضجيج الناس وشكيتهم، فقدم عليه معاوية من الشام، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح من المغرب، وعبدالله بن عامر بن كريز من البصرة، وسعيد بن العاص من الكوفة.
فأما معاوية فقال له: أعدني وعمالك الى أعمالنا وخذنا بما تحت أيدينا. وأشار عليه أيضاً بالمسير الى الشام، فأبى وقال: لا أخرج من مهاجر رسول الله وجوار قبره ومسكن أزواجه; فعرض عليه أن يوجه إليه جيشاً يقيم معه فيمنع منه، فقال: لا أكون أول من وطئ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنصاره بجيش.
وأما سعيد بن العاص، فقال له: إنما دعا الناس الى الشكية وسوء القول،
____________
1- الطبري 4: 333، الكامل 2: 150.
وأما ابن عامر فقال: إن الناس نقموا عليك في المال فأعطهم إياه، فردهم الى أعمالهم.
وقال علي: يا عثمان، ان الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيف وبيء، وإنك إن تُصدق تَسخط، ومتى تُكذب ترضَ.
وقال طلحة: إنك قد أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها.
فقال عثمان: ما أحدثت حدثاً، ولكنكم أظناء تفسدون علي الناس وتؤلبونهم. وكان علياء بن الهيثم السدوسي قد شخص مع سعيد بن العاص الى المدينة ليقرّظه ويثني عليه، لأنه سأله ذلك، وأحبَّ علياء أيضاً أن يلقى علياً ويعلم حال عثمان وما يكون منه، فلما رأى أن عثمان قد عزم على ردّ عماله، تعجّل الى الكوفة على ناقة له، فلما قدمها قال: يا أهل الكوفة، هذا أميركم الذي يزعم أن السواد بستان له قد أقبل، واغتنم أهل الكوفة غيبة معاوية عن الشام، فكتبوا إلى إخوانهم الذين بحمص مع هانئ بن خطاب الأرحبي يدعونهم الى القدوم ويشجعونهم عليه، ويعلمونهم أنه لا طاعة لعثمان مع إقامته على ما يُنكر منه.
فسار إليهم هانئ بن خطاب مغذاً للسير راكباً للفلاة. فلما قرأُوا كتاب أصحابهم أقبل الأشتر والقوم المسيّرون حتى قدموا الكوفة، فأعطاه القرّاء والوجوه جميعاً مواثيقهم وعهودهم أن لا يدعوا سعيد بن العاص يدخل الكوفة والياً أبداً.
وكان الذين كتبوا مع هانئ بن خطاب: مالك بن كعب بن عبدالله الهمداني، وعبدالله بن شجرة السلمي، وجمرة بن سنان الأسدي، وحرقوص بن زهير