الصفحة 345
البعض؟! إن استقصاء الحقائق كفيل بالكشف عن كل ذلك، حتى يمكننا أن نحكم على الاُمور وفق حكم الله.

وقد علّق الشيخ محب الدين الخطيب على أقوال ابن العربي قائلا:

لما طالب علي معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين أن يبايعوه، احتكموا إليه في قتلة عثمان، وطلبوا منه أن يقيم حدّ الله عليهم، أو أن يسلمهم إليهم فيقيموا عليهم الحد، وقد اعتذرنا عن أمير المؤمنين علي، بأن قتلة عثمان لما صاروا مع علي في العراق، صاروا في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم، فكان علي يرى - بينه وبين نفسه- أن قتلهم يفتح عليه باباً لا يستطيع سدّه بعد ذلك.

وقد انتبه لهذه الحقيقة الصحابي الجليل (القعقاع بن عمرو) التميمي، وتحدث بها مع اُم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) طلحة والزبير، فأذعنوا لها وعذروا علياً، ووافقوا على التفاهم معه على ما يوصلهم الى الخروج من هذه الفتنة، فما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرب بين الفريقين، فالمطالبون بإقامة حدّ الله على قتلة عثمان معذورون لأنهم يطالبون بحق، سواء كانوا من أصحاب الجمل أو من أهل الشام; وتقصير علي في إقامة حد الله، كان عن ضرورة قائمة ومعلومة، ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن إنشاب قتلة عثمان الحرب بين الفريقين الأولين، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين الآخرين...(1)

إن تعليق محب الدين الخطيب يعطينا صورة عن مدى التهافت والتناقض الذي قد وقع المؤلفون والباحثون من أصحاب هذا الاتجاه فيه، فالخطيب لا ينفك يتشبت بروايات سيف بن عمر حول الموضوع، وبالتالي فهو يبني

____________

1- العواصم من القواصم: الهامش 821.


الصفحة 346
تحليلاته للاُمور وفق النظرة التي تتبنى الروايات المكذوبة، والتي تصب في نهاية الأمر الى الاتجاه الذي يحاول أن يجعل علي بن أبي طالب هو المسؤول الحقيقي عن تلك الأحداث المفجعة. رغم اختلاق التبريرات التي تدعي أنها تبرئ علياً!

لقد ناقشنا فيما سبق الأساطير التي اختلقها سيف بن عمر في سرده لأحداث معركة الجمل ومقدماتها وبيّنا تهافتها وسقوطها أمام الروايات التي جاءت عن الثقاة، وعن الدور الخيالي الذي قام به القعقاع بن عمرو في الأحداث مما لا نجد له ذكراً إلاّ عند الطبري برواية سيف.

أما اعتذار الخطيب لعلي بن أبي طالب بأنه لم يستطيع الاقتصاص من قتلة عثمان لأنهم صاروا في العراق بين أفراد قبائلهم التي تحميهم، فإنهم في المدينة لم يكونوا بين قبائلهم، وكان باستطاعة علي - لو أراد- وبمساعدة الصحابة أن يقضي عليهم، لأنهم -وكما اعترف ابن العربي- لا يغلبون أربعين ألفاً من الصحابة، فلماذا تأخر علي في اقامة الحد عليهم إذاً!

إن ادعاء الخطيب بأن علياً خاف أن يفتح على نفسه باباً يصعب غلقه إذا ما اقتص من قتلة عثمان! ولكن الباب الذي كان سيفتح عليه في هذه الحالة لم يكن أكثر خطراً من الأبواب التي فتحها عليه أصحاب الجمل وصفّين، ودارت تلك المعارك الطاحنة بين الفريقين، ولو كان هذا السبب الذي يدعيه الخطيب منطقياً، فقد كان بإمكان علي بن أبي طالب أن يتحالف مع أصحاب الجمل من جهة، ومع معاوية وأهل الشام من جهة اُخرى، فيصبح لديه بذلك جيش جرّار لا يستطيع قتلة عثمان وعشائرهم مهما بلغوا من القوة والمنعة أن يواجهوا علياً وحلفاءه اولئك، وعندئذ كانت تنتهي المشكلة من أساسها

الصفحة 347
ويعاقب قتلة عثمان، وتصفو الخلافة لعلي، فلماذا لم يفعل ذلك؟!

أما الشيخ الخضري فيعلق على تلك الأحداث بقوله:

ففي الشام كان الأمير معاوية بن أبي سفيان بن اُمية أميراً على الشام في عهد عمر وعثمان، وكان محبوباً من أهله، فلما وقع إليه مقتل عثمان واستخلاف علي، لم يرض أن يدخل في بيعته لأسباب:

1 - إنه كان يتهم علياً بشيء من أمر عثمان!

2 - آوى قتلته في جيشه.

3 - إنه كان بين الرجلين نفور أدى الى أن علياً يرى ضمن أول واجباته عزل معاوية عن إمارة الشام. وليس ذلك من السهل على رجل اعتاد الامارة والعزّة...(1)

فإيواء علي بن أبي طالب لقتلة عثمان - إن كانوا حقاً بغاة ظالمين- يوقعه تحت طائلة حكم الحديث النبوي الشريف الذي يتوعد بشدّة كل من يؤوي محدثاً في المدينة المنورة!

فعن عاصم، قال: قلت لأنس بن مالك: أحرّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة؟

قال: نعم، ما بين كذا الى كذا، فمن أحدث فيها. قال: ثم قال لي: هذه شديدة "من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلا". قال: فقال ابن أنس: "أو آوى محدثاً"!(2).

ومن العجيب أن علي بن أبي طالب نفسه يروي حديثاً في هذا المعنى. فعن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي(رضي الله عنه) فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة -صحيفة فيها أسنان الابل وأشياء من

____________

1- الدولة الاُموية: 257.

2- صحيح مسلم 2: 994.


الصفحة 348
الجراحات- فقد كذب. قال: وفيها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "المدينة حرم ما بين عير الى ثور، فمن أحدث فيها، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلا ولا صرفاً"!(1).

أما اعتذار الخطيب وغيره لعلي بن أبي طالب بأنه كان يتربص بقتلة عثمان الفرصة للايقاع بهم، فهو ادعاء غير صحيح، وتكذبه الشواهد وما عُرف من سيرة علي بن أبي طالب، فقد قال الخضري:

رأى علي أن يكون أول أعماله عزل جميع ولاة عثمان قبل أن تصل إليه بيعة أهل الأمصار، وقد حذّروه عاقبة ذلك، المغيرة بن شعبة أولا وابن عباس ثانياً، فأبى ذلك إباءً تاماً، كأنه قد وقر في نفسه أن هؤلاء العمال لا يصلحون لأن يلوا شيئاً من أمر المسلمين، مع أنه قَبِل أن يؤخر الحد على قتلة عثمان حتى يهدأ الناس، مع أن هذا حد من حدود الله...(2)

فالخضري يبدي تعجبه عن تعجل علي عزل معاوية مع أنه لم يحدث حدثاً يشابه قتل الخليفة، بينما يتباطأ في إقامة الحد على قتلة عثمان، لأنه كغيره من الذين ألّفوا في هذا الشأن، يظلون أسرى للمتبنيات التي ورثوها على مرّ الأجيال، دون أن يفكروا في تمحيص هذا التاريخ جيداً!

إن علي بن أبي طالب قد عبّر عن حقيقة ما جرى من الأحداث، حين رفض طلب الاُمويين المقيمين في المدينة إقامة الحد على قتلة عثمان، وقال بأنه لو لزمه إقامة الحد عليهم اليوم، للزمه بالأمس! فلو كان علي بن أبي طالب مقتنعاً بوجوب إقامة الحد على قتلة عثمان، لما توانى عن إقامة هذا الحد في

____________

1- صحيح البخاري 2: 26 باب حرم المدينة، مسند أحمد 1: 81، تاريخ ابن عساكر 42: 396، مسند أبي يعلى 1: 462.

2- الدولة الاُموية: 257.


الصفحة 349
اليوم الأول من استلامه منصب الخلافة، بل كان سيجعل هذا أول عمل يقوم به بعد البيعة.

أما الرواية التي أشار إليها الخضري، فهي عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحج; فخرجت الى مكة فأقمت للناس الحج، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلي، فأتيته في داره، فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت: ماذا قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرّته هذه: أرسل الى عبدالله بن عامر والى معاوية والى عمال عثمان بعهودهم، تقرّهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس، فإنهم يمهدون البلاد ويسكّنون الناس، فأبيتُ ذلك عليه يومئذ وقلت: والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ولا ولّيت هؤلاء ولا مثلهم يُولّى.

قال: ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يرى أني مخطئ، ثم عاد إلي الآن فقال: إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت عليك وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك رأياً، وأنا أرى أن تصنع الذي رأيت فتنزعهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة مما كان.

قال ابن عباس: فقلت لعلي: أما المرة الاولى فقد نصحك، وأما المرة الآخرة فقد غشّك! قال علي: ولم نصحني؟ قال ابن عباس: لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالون بمن ولي الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا، ويؤلّبون عليك، فينتفض عليك أهل الشام وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك!

فقال علي: أما ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشك أن ذلك خير لي في

الصفحة 350
عاجل الدنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمال عثمان، فوالله لا اُولي منهم أحداً أبداً، فإن أقبلوا فذلك خير لهم، وإن أدبروا بذلت لهم السيف. قال ابن عباس: فاطعني وادخل دارك والحق بما لك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله إن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنّك الناس دم عثمان غداً. فأبى عليّ، فقال لابن عباس: سر الى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني اُمية وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيحكّم علي. فقال له علي: ولم؟ قال: لقرابة ما بيني وبينك، وإن كل ما حُمل عليك حُمل علي، ولكن اكتب الى معاوية فمنّه وعِدهُ. فأبى عليّ وقال: والله ما كان هذا أبداً...(1)

فإذا كان علي بن أبي طالب لا يتردد لحظة في عزل عمال عثمان وفي مقدمتهم معاوية وهو يعلم مدى خطورة هذا العمل، وأن الشام والعراق قد تنتقضان عليه؟ فكيف يؤخر إقامة الحد على قتلة عثمان خوفاً من بضع مئات من الرجال، وتحت يده اُلوف الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم؟!

إنّ الأعذار التي يسوقها المؤلفون لمعاوية، هي نفس الأعذار التي تذرّع بها معاوية، ومحاولتهم حلّ التناقض في مواقف علي لا تأتي بالنتيجة المرجوة، لأنها مبتنية أساساً على الزيف، وهي التي تصوّر الاُمور على نقيضها تماماً، ومما يثبت صحة كلامنا هو ما نلاحظه على أقوال اولئك المؤلفين، إذ يقول محب الدين الخطيب مثلا: وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغي في حرب صفين، لأنه لم يبتدئها، ولم يأت لها الاّ بعد خروج علي من

____________

1- تاريخ الطبري 4: 439.


الصفحة 351
الكوفة وضرب معسكره في النخيلة ليسير الى الشام -كما تقدم- ولذلك لما قُتل عمار، قال معاوية: إنما قتله من أخرجه...(1)

إن الخطيب يصوّر الأمر بشكل معكوس تماماً، ويحاول الايحاء بأن معاوية لم يكن هو الباغي، لأنه لم يبتدئ الحرب، وإنما الباغي الحقيقي - في نظره- هو علي بن أبي طالب، فهو لم يسلم قتلة عثمان ولم يُقم الحد عليهم، وهو الذي خرج بجيشه الى معاوية، فموقف معاوية هو موقف المدافع عن الحق وليس الباغي كما يصوّره الخطيب!

وعلى الرغم من أن ابن كثير الدمشقي لا يألو جهداً هو الآخر في تبرير مواقف معاوية، إلاّ أنه لا يملك إلاّ الاعتراف بالحقائق التاريخية إذ يقول:

وفي رواية أن معاوية لما أمر أبا الأعور بحفظ الشريعة، وقف دونها برماح مشرعة، وسيوف مسلّلة، وسهام موتورة، جاء أصحاب علي علياً فشكوا إليه ذلك، فبعث صعصعة بن صوحان الى معاوية يقول له: إنّا جئنا كافّين عن قتالكم حتى نقيم عليكم الحجة، فبعثت إلينا مقدّمتك فقاتلتنا قبل أن نبدأكم، ثم هذه اُخرى: منعتمونا الماء!(2).

فعلي بن أبي طالب وإن كان قد خرج بجيشه الى صفّين، إلاّ أنه لم يأمر هذا الجيش ببدء القتال، وكان هدفه -كما في معركة الجمل- هو محاولة إقناع الطرف الآخر بالاقلاع عن بغيه والدخول في الطاعة لحقن دماء المسلمين من الطرفين، وذلك بإرسال المفاوضين الى معاوية لاقناعه بالرجوع عما ينويه، حيث قال ابن كثير مستكملا فصول القصة:

وأقام علي يومين لا يكاتب معاوية ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير

____________

1- كتاب العواصم من القواصم: هامش 293.

2- البداية والنهاية 7: 256.


الصفحة 352
ابن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي السهمي، فقال: إيتوا هذا الرجل فادعوه الى الطاعة والجماعة، واسمعوا ما يقول لكم.

فلما دخلوا على معاوية قال له بشير بن عمرو: يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع الى الآخرة، والله محاسبك بعملك ومجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله أن تفرّق جماعة هذه الاُمة، وأن تسفك دماءها بينها.

فقال له معاوية: هلاّ أوصيت بذلك صاحبكم! فقال له: إن صاحبي أحق هذه البرية بالأمر في فضله ودينه وسابقته وقرابته، وإنه يدعوك الى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في آخرتك. فقال معاوية: ويطلّ دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً!

ثم أراد سعيد بن قيس الهمداني أن يتكلم، فبدره شبث بن ربعي فتكلم قبله بكلام فيه غلظة وجفاء في حق معاوية، فزجره معاوية وزبره في إفتياته على من هو أشرف منه وكلامه بما لا علم له به! ثم أمر بهم فاُخرجوا من بين يديه، وصمّم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل مظلوماً، فعند ذلك نشبت الحرب(1).

أما كلام شبث بن ربعي - الذي اقتطعه ابن كثير واعتبره تطاولا على معاوية- وكشف بذلك عن مكنون نفسه بتأييد موقف معاوية، فقد ذكره الطبري، قال: فتكلم فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاوية، إني قد فهمتُ ما رددتَ على ابن محصن، إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب! إنك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستحيل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم إلاّ قولك: قُتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب بدمه; فاستجاب له سفهاء طغام، وقد

____________

1- البداية والنهاية 7: 256.


الصفحة 353
علمنا أن قد أبطأتَ عنه بالنصر، وأحببتَ له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، وربَّ متمنّي أمر وطالبه الله عزّوجل يحول دونه بقدرته، وربما اُوتي المتمنّي اُمنيّته وفوق اُمنيته، واللهِ مالكَ في واحدة منهما خير، لئن أخطأتَ ما ترجو إنك لشرّ العرب حالا في ذلك، ولئن أصبت ما تمنّى لا تصيبه حتى تستحق من ربّك صُليّ النار! فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله(1).

وقد شقّ هذا الكلام على ابن كثير، لما فيه من كشف لنوايا معاوية الحقيقية، فاقتطعه من النص الذي ينقله عن الطبري -كعادته-، واتهم شبثاً بإساءة الادب مع معاوية الذي هو أشرف منه!

والذي يتبين من كلام شبث بن ربعي، أن خذلان معاوية لعثمان كان أمراً معلوماً من الجميع، وقد مرّ فيما سبق أن عثمان بن عفان كتب الى معاوية يستمده عندما اُحيط به، إلاّ أن معاوية تريّث وكره مخالفة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد علم اجتماعهم -على حد تعبير رواية الطبري-...(2)

كما قال ابن أبي الحديد:

لما أرسل عثمان الى معاوية يستمده، بعث يزيد بن أسد القسري وقال له: إذا أتيت ذا خشب، فأقم بها ولا تتجاوز، ولا تقل: يرى الشاهد مالا يرى الغائب; فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب! قال: فأقام بذي خشب حتى قُتل عثمان، فاستقدمه حينئذ معاوية; فعاد الى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه، وإنما صنع ذلك معاوية ليُقتل عثمان، فيدعو الى نفسه.

وعندما أهل شهر محرّم، اتفق الطرفان على هدنة، وتبادلوا الرسل فيما

____________

1- الطبري 4: 573.

2- الطبري 4: 368.


الصفحة 354
بينهم رجاء الصلح، "فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة الى معاوية، فلما دخلوا; حمد الله عديُّ بن حاتم ثم قال: أما بعد، فإنّا أتيناك ندعوك الى أمر يجمع الله عزّوجل كلمتنا واُمتنا، ويحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين. إن ابن عمك سيّد المسلمين، أفضلها سابقة، وأحسنها في الاسلام أثراً، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عزّوجل بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فأنت يا معاوية لا يصيبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل.

فقال معاوية: كأنك إنما جئت مهدداً لم تأتِ مصلحاً! هيهات يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، ما يقعقع لي بالشّنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان(رضي الله عنه) وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عزّوجل به، هيهات يا عدي بن حاتم، قد صلبت بالساعد الأشد(1).

والملاحظ أن عدي بن حاتم لم يدفع عن نفسه تهمة المشاركة في قتل عثمان، كما أن معاوية لم يُقم الحد عليه بعد توليه السلطة!

وقد تكلم شبث بن ربعي وزياد بن خصفة ويزيد بن قيس بكلام مقارب لكلام عدي، ودعيا معاوية الى الاُلفة والجماعة، فكان جواب معاوية أن قال: أما بعد، فإنكم دعوتم الى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنّا لا نراها، إن صاحبكم قتل خليفتنا وفرّق جماعتنا وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نردّ عليه ذلك، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فنقتلهم به، ثم نحن نجيبكم الى الطاعة والجماعة.

____________

1- الطبري 5: 5.


الصفحة 355
فقال له شبث: أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمّار تقتله؟!

فقال معاوية: وما يمنعني من ذلك! والله لو اُمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان،ولكن كنت قاتله بقاتل مولى عثمان...

ونلاحظ هنا إشارة اُخرى، وهي إتهام معاوية عمار بن ياسر بالاشتراك في قتل عثمان، لذا أقسم معاوية على استعداده لقتل عمار، ومن الجدير بالذكر أن الموقف من عمار بن ياسر يعتبر الفيصل في تمييز الطائفة المحقّة من الطائفة الباغية، كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) فيما سوف يأتي.

أما فيما يتعلق بالوفد الذي بعثه معاوية الى علي، فقد قال ابن كثير -فيما ينقل عن الطبري-:

وبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وشرحبيل بن السمط، ومعن بن يزيد بن الأخنس الى علي; فدخلوا عليه، فبدأ حبيب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهدياً عمل بكتاب الله وثبت لأمر الله، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلته إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، فيولي الناس أمرهم من جمع عليه رأيهم!

فقال له علي: وما أنت لا اُم لك وهذا الأمر وهذا العزل، فاسكت فإنك لست هناك ولا بأهل لذاك، فقال له حبيب: أما والله لتريني حيث تكره! فقال له علي: وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك، لا أبقى الله عليك إن أبقيت، إذهب فصعّد وصوّب ما بدا لك.

قال ابن كثير: ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلا جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر، فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقص فيه

الصفحة 356
معاوية وأباه، وإنهم إنما دخلوا في الاسلام ولم يزالا في تردد فيه وغير ذلك، وإنه قال في غضون ذلك: لا أقول أن عثمان قُتل مظلوماً ولا ظالماً. فقالوا: نحن نبرأ ممن لم يقل إن عثمان قتل مظلوماً، وخرجوا من عنده، فقال علي: (إنَّكَ لا تُسمعُ الموتى ولا تُسمعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا وَلَّوا مُدبرينَ * وَما أنتَ بِهدي العُميَ عَنْ ضَلالتهِمْ إنْ تُسمعُ إلاّ مَنْ يُؤمنُ بآياتِنا فَهُمْ مُسلمونَ)(1).

ثم قال لأصحابه: لا يكون هؤلاء أولى بالجد في ضلالتهم منكم بالجد في حقكم وطاعة نبيكم، وهذا عندي لا يصح عن علي(رضي الله عنه)!

إن ابن كثير لا يذكر دليله على عدم صحة هذه الأقوال، وليس له أي مستند فيما يدعي إلاّ أن يكون سلطان الهوى قد غلب عليه، فحبّه لمعاوية وبني اُمية يجعله لا يصدق أي كلمة تخدشهم،وما ذلك كله إلاّ رواسب الإعلام الاُموي الذي خطط له معاوية منذ القرن الأول، حتى وقع ضحيته جلّ المؤرخين المسلمين.

أما كلام علي بن أبي طالب، فهو كما جاء عند الطبري:

أما بعد، فإن الله جلّ ثناؤه بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) بالحق، فأنقذ به من الضلالة، وانتاش به الهلكة، وجمع به من الفرقة، ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه (صلى الله عليه وآله)، ثم استخلف الناس أبا بكر(رضي الله عنه)، واستخلف أبو بكر عمر(رضي الله عنه)، فأحسنا السيرة، وعدلا في الاُمة، وقد وجدنا عليهما أن تولّيا علينا ونحن آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فغفرنا ذلك لهما، وولي عثمان(رضي الله عنه) فعمل بأشياء عابها الناس عليه، فساروا إليه فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل اُمورهم فقالوا لي: بايع، فأبيتُ عليهم، فقالوا لي: بايع فان الاُمة لا ترضى الاّ بك، وإنّا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس;

____________

1- النمل: 80 - 81.


الصفحة 357
فبايعتهم، فلم يرعني الاّ شقاق رجلين قد بايعاني، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عزّوجل له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الاسلام، طليق ابن طليق، حتى دخلا في الاسلام كارهين، فلا غرو إلاّ خلافكم معه، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم (صلى الله عليه وآله) الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحداً. ألا إني أدعوكم الى كتاب الله عزّوجل وسنّة نبيكم (صلى الله عليه وآله) وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة...(1)

وليت شعري ماالذي أنكره ابن كثير من كلام علي بن أبي طالب، فإن كل ما ورد فيه صحيح ومعروف من الجميع، ولكن الهوى يعمي القلوب والأبصار، وسوف نُفصّل القول في أخبار معاوية وأبيه استناداً الى أوثق المصادر، وذلك في فصول لاحقة إن شاء الله.

وعلى الرغم من أن المطّلع على مجريات الأحداث تلك من خلال كتب التاريخ يستطيع وبكل بساطة أن يتعرف على نوايا معاوية الحقيقية، فإن البعض من أصحاب الاتجاه المحافظ المعروف من المؤلفين ما زال يصرّ على إغماض عينيه عن رؤية الحقيقة، أو بالأحرى يخادع نفسه ويحاول اقناع الآخرين أيضاً بسلامة نوايا معاوية ورغبته الفعلية في الاقتصاص من قتلة عثمان لا غير، ومن أصحاب هذا الاتجاه الدكتور امحزون إذ يقول:

ولو افترض أنه اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال علي طمعاً في السلطان، فماذا سيحدث لو تمكن علي من إقامة الحد على قتلة عثمان؟ حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي ومبايعته له، على أن معاوية إذا كان

____________

1- الطبري 5: 7.


الصفحة 358
يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، ولا يمكن أن يقدم عليه إذا كان ذا أطماع(1).

إن هذا الكلام يدل على عدم إحاطة الدكتور امحزون بجميع جوانب الأحداث التي وقعت في زمن عثمان وأدت الى مقتله من جهة، ولا على الأحداث التي اكتنفت فترة ولاية معاوية على الشام في زمن عثمان والترتيبات التي كان يجريها لتثبيت أقدامه طمعاً في القفز على السلطة. إن معاوية لم يكن من السذاجة بحيث يجازف مثل هذه المجازفة لو كان قد خالجه أدنى قدر من الشك في أن عثمان لم يقتل مظلوماً، وأنه لم يكن علي ابن أبي طالب على استعداد لتسليم أي فرد من الذين قتلوا عثمان أو اشتركوا في قتله، وذلك لقناعته التامة بعدم استحقاق هؤلاء إقامة الحد عليهم، ولو خامر علياً أدنى شك في ذلك لما توانى عن إقامة الحد عليهم منذ اليوم الأول لخلافته لأنه وكما هو معروف من سيرته، كان لا يتهاون في هذه الاُمور، ولقد اصطدم بعثمان منذ اليوم الأول لخلافة الأخير، لأنه رفض إقامة الحد على عبيدالله بن عمر لقتله الهرمزان. فقد كان معاوية متحققاً من أن علياً لن يسلمه أحداً من قتلة عثمان، لأن ذلك يتنافى مع مبادئه في معاقبة الأبرياء، فتشبث بهذه الحجة وعض عليها نواجذه لأنها كانت وسيلته الوحيدة لخداع أهل الشام وجرّهم الى محرقته وهو يعلم جيداً أنه هو نفسه قد جعل عثمان كبش الفداء على مذبح مطامعه.

وليس أدل على كلامنا هذا من موقف علي بن أبي طالب من الخوارج، فقد روى أبو عبيدة قال:

____________

1- تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة 2: 150.


الصفحة 359
استنطقهم علي (عليه السلام) بقتل عبدالله بن خباب، فأقرّوا به، فقال: انفردوا كتائب لأسمع قولكم كتيبة كتيبة; فتكتبوا كتائب، وأقرّت كل كتيبة بمثل ما أقرت به الاُخرى من قتل ابن خبّاب وقالوا: ولنقتلنك كما قتلناه! فقال علي: والله لو أقرّ أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا، وأنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم، ثم التفت الى أصحابه فقال لهم: شدّوا عليهم فأنا أول من يشدّ عليهم(1).

وينقل الدكتور امحزون عن ابن حزم قوله:

ولو أن معاوية بايع علياً لقوي به على أخذ الحق من قتلة عثمان، فصح أن الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن انفاذ الحق عليهم، ولولا ذلك لأنفذ الحق عليهم كما أنفذه على قتلة عبدالله بن خباب إذ قدر على مطالبة قتلته(2).

ولكن الدكتور امحزون ومن قبله ابن حزم فاتهما أن علياً كان يستطيع أن ينفذ الحق على قتلة عثمان لأنهم لم يكونوا أقوى شوكة من الخوارج، ولكن علم علي بعدم استحقاقهم ذلك هو السبب الحقيقي في توانيه عن مقاصصتهم، وعلم معاوية بذلك أيضاً هو الذي منعه من وضع يده في يد علي للسبب نفسه، فلو كانت نوايا معاوية سليمة لبايع علياً أولاً ثم طالب بمحاكمة قتلة عثمان، ولكنه أبى ذلك رغم الوساطات والنصائح، لأنه كان يعلم علم اليقين أن حجته داحضة، وأنه لن ينال ما يريد إذا ما استجاب لعلي بن أبي طالب، لأنه سوف يضطر الى مبايعة الخليفة والتنازل عن ولاية الشام كما أمره الخليفة، وفي نفس الوقت فإن التحقيق مع قتلة عثمان لن يكون في صالحه، ولن يثبت عليهم حق، فيعود معاوية بخفي حنين!

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 282.

2- تحقيق مواقف الصحابة 2: 160 عن الفصل في الملل والنحل 4: 162.


الصفحة 360

الموقف من عمّار

ذكرنا سابقاً أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أنذر أصحابه الفتن التي سوف تُقبل عليهم كقطع الليل المظلم، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد حدّد مسارات لاُمته تهتدي بها الى الطريق المستقيم، حتى قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان - صاحب سرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) - وهو يرى الأصحاب يخوضون غمرات الفتن:

والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا! والله ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قائد فتنة الى أن تنقضي الدنيا، بلغ من معه ثلثمائة فصاعداً، إلاّ قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته!!(1).

وقال أيضاً: قام فينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائماً، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك الى قيام الساعة إلاّ حدّثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه(2).

فأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) قد سمعوا ووعوا، ولكن بعضهم نسي أو تناسى، حتى سارت الاُمور هذا المسار.

وقد أدى حذيفة بن اليمان رسالته على أكمل وجه، فقبل أن يتوفى بأربعين يوماً تقريباً أتاه الناس وقالوا له: "إن أمير المؤمنين عثمان قد قُتل، فما تأمرنا؟ قال: آمركم أن تلزموا عماراً. قالوا: إن عماراً لا يفارق علياً! قال: إن الحسد هو أهلك الجسد، وإنما ينفّركم من عمار قربه من علي; فوالله لعليٌّ أفضل من عمار أبعد ما بين التراب والسحاب، وإن عماراً لمن الأحباب، وهو

____________

1- سنن أبي داود 4: 73 كتاب الفتن والملاحم.

2- المصدر السابق.


الصفحة 361
يعلم أنهم إن لزموا عماراً كانوا مع علي(1) (عليه السلام).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عمّار ما عُرض عليه أمران إلاّ اختار الأرشد منهما"(2).

فالنبي (صلى الله عليه وآله) قد أخبر بأن الفرقة التي فيها عمار بن ياسر هي الفرقة المحقّة إذا اختلف المسلمون فيما بينهم، ومن المعلوم أن عمار بن ياسر كان في فئة علي بن أبي طالب، ولم يفارقه حتى اللحظة الأخيرة من حياته، عندما سقط قتيلا في حرب صفين وهو يقاتل فئة معاوية.

يقول ابن كثير:

وهذا مقتل عمار بن ياسر(رضي الله عنه) مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قتله أهل الشام، وبان وظهر بذلك سرّ ما أخبر به الرسول (صلى الله عليه وآله) من أنه تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن علياً محق وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائل النبوة.

ذكر ابن جرير من طريق أبي مخنف، أن عماراً قال يومئذ: من يبتغي رضوان ربه ولا يلوي الى مال ولا ولد؟ قال: فأتته عصابة من الناس، فقال: أيها الناس، اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبتغون دم عثمان ويزعمون أنه قُتل مظلوماً، والله ما قصدهم الأخذ بدمه ولا الأخذ بثأره! ولكن القوم ذاقوا الدنيا واستحلوها، واستمرؤا الآخرة فقلوها، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم وشهواتهم، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس لهم ولا الولاية عليهم، ولا تمكنت من قلوبهم خشية الله التي تمنع من تمكنت من قلبه عن نيل الشهوات، وتعقله عن إرادة الدنيا وطلب العلو فيها، وتحمله على اتباع الحق والميل الى أهله،

____________

1- مجمع الزوائد 7: 223 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

2- المستدرك على الصحيحين 3: 388، جامع الترمذي 5: 133، مسند أحمد 6: 113، سنن ابن ماجة 1: 63.


الصفحة 362
فخدعوا أتباعهم بقولهم: إمامنا قتل مظلوماً. ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجلان، ولكانوا أذل وأخسّ وأقل، ولكن قول الباطل له حلاوة في أسماع الغافلين، فسيروا الى الله سيراً جميلا، واذكروا ذكراً كثيراً.

ثم تقدم فلقيه عمرو بن العاص وعبيدالله بن عمر، فلامهما وأنّبهما ووعظهما، وذكروه من كلامه لهما ما فيه غلظة، فالله أعلم.

ثم يستكمل ابن كثير فصول القصة، فيروي عن ابن ديزيل ابراهيم بن الحسن، بسنده الى الأحنف بن قيس، قال: ثم حمل عمار بن ياسر عليهم، فحمل عليه ابن جوى السكسكي وأبو الغادية الفزاري، فأما أبو الغادية فطعنه، وأما ابن جوى فاحتزّ رأسه.

وقد كان ذو الكلاع سمع قول عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعمار بن ياسر: "تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها صاع من لبن" فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ويحك، ما هذا يا عمرو؟! فيقول له عمرو: إنه سيرجع إلينا. قال: فلما اُصيب عمار بعد ذو الكلاع، قال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً، بقتل عمار أو ذي الكلاع، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار، لمال بعامة أهل الشام، ولأفسد علينا جندنا(1).

فعمرو بن العاص الذي يروي حديث مقتل عمار بن ياسر بيد الفئة الباغية، وهو يرى عماراً في الجانب الآخر مع علي، ثم لا يكتفي بذلك، بل يخدع أبا الكلاع الذي استغرب من وجود عمار في الطرف الآخر من ساحة المعركة -بعد أن كانت أكاذيب معاوية قد أضلته كما أضلت أهل الشام-

____________

1- البداية والنهاية 7: 267.


الصفحة 363
فيقول له بأن عماراً سيعود إلينا، بل ويعبّر عن سروره بمقتل كلا الرجلين بعد أن تحقق بأن الفئة التي يقاتل تحت لوائها هي الفئة الباغية لأنها قتلت عماراً، أما زعيمه معاوية فلم يكتف بذلك، بل حاول أن يقلب الاُمور رأساً على عقب -كما هي عادة المزيفين-، حيث يروي ابن كثير عن ابن ديزيل- مستكملا قص الحوادث- قال:

"فبلغني أن معاوية قال: إنما قتله من أخرجه، يخدع بذلك أهل الشام"!

ولنا هنا وقفة مع الذين يستشهدون بالآية الكريمة حول قتال الطائفتين، ويدّعون أن فئة معاوية لم تخرج من الإيمان ببغيها، وكأنهم لا يفقهون قوله تعالى (فإنْ فاءتْ فأَصلحُوا بَينَهُما)، فهل فاءت فئة معاوية ورجعت عن بغيها بعد أن تبين وجه الحق بمقتل عمار بن ياسر على يديها؟ ولو أننا سلّمنا بأن معاوية وفئته كانوا مخطئين متأولين -كما يدعي الذين يلتمسون الأعذار لمعاوية- فإن هذا الخطأ قد تكشف وظهرت الحقائق جليّة، فلو أن معاوية أوقف الحرب بعد مقتل عمار، وذهب الى علي وبايعه معتذراً عما بدر منه واستغفر الله لكان الأمر كما يدعي اُولئك، ولصدّقنا أن معاوية كان مخطئاً متأولا، أما أن يرى ما يرى ثم لا يكتفي بالإصرار على بغيه، بل يخدع رعيته من أهل الشام، حتى يقول لوزيره في البغي عمرو بن العاص، حينما أخبره عمرو بحديث النبي (صلى الله عليه وآله) حول مقتل عمار بيد الفئة الباغية: إنك شيخ أخرق ولا تزال تحدّث بالحديث وأنت تدحض في بولك، أو نحن قتلنا عماراً؟ إنما قتل عماراً من جاء به!

قال: فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم وهم يقولون: إنما قتل عماراً

الصفحة 364
من جاء به، فلا أدري من كان أعجب، هو أو هم!(1).

وقد قال علي بن أبي طالب عند سماعه ذلك: فيكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قتل حمزة لأنه أخرجه!

فمعاوية لم يكتف بالإصرار على البغي، بل راح يخدع الناس بأضاليله، مع تأكيد النبي (صلى الله عليه وآله) على حرمة ذلك، وتوعد فاعله بالعذاب، فيما أخرج المحدثون عن معقل بن يسار، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "ما من وال يلي رعيةً من المسلمين، فيموت وهو غاشٌ لهم، إلاّ حرّم الله عليه الجنة!"(2).

فهل يبقى بعد ذلك كلام للعاذرين لمعاوية بدعوى التأول والاجتهاد؟

القاسطون

إن أصحاب الاتجاه المحافظ من المؤلفين الذين انساقوا وراء الإعلام الاُموي ومن ناصرهم من الزنادقة وغيرهم، يصرون على تبرئة معاوية وحزبه من تبعات الجرائم التي ارتكبوها بحق المسلمين، بخروجهم على الخلافة الشرعية وإشعالهم نار الحروب التي ذهب ضحيتها عشرات الاُلوف من المسلمين، وأنهكت قوى الدولة الاسلامية وتسببت في توقف الفتوحات مدة من الزمن، وجعلت بلاد المسلمين هدفاً لأعدائهم.

ويحاول أصحاب هذا الاتجاه التشبث بقشة الغريق وهم يحاولون إثبات صفة المجتهد المخطئ على معاوية، ويجعلونه مأجوراً على أعماله هذه أجراً واحداً كما قال ابن العربي وغيره، ويصرّون على أن قتال معاوية لعلي لم يكن بهدف الوثوب على السلطة، وفي هذا الصدد يقول الشيخ الخضري:

____________

1- البداية والنهاية 7: 267.

2- صحيح البخاري 9: 80.