الفصل التاسع
النصوص على الخلافة
النصوص على الخلافة
قد يبدو هذا العنوان الذي اخترناه مطلعاً لهذا الفصل من كتابنا، مثار تساؤل عند الكثيرين، فالعبارة التي اعتدنا على قراءتها -والتي درج عليها المؤلفون قديماً وحديثاً- فحواها: "توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يوصِ بالخِلافة لأحد من بعده"، فإذا كان الأمر كذلك فما بال هذا المدّعي وجود أكثر من نص على الخلافة إذاً!؟ ومن هم المنصوص عليهم إن وجدت مثل هذه النصوص؟ ولكي تتوضح الصورة بشكل أفضل، فان علينا أن نستعرض ما كتبه بعض المؤلفين حول موضوع (الإمامة والخلافة)، والتي كانت مدار نزاع دائم بين المسلمين، وأدت الى تميّز بعض فرقهم عن بعض بادعاء وجود نص على الخليفة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعندما نستعرض ما كتبه اُولئك المؤلفون، فاننا سندهش عندما نجدهم يتضافرون على القول بوجود النص! بل إن بعضهم يدعي أن وجود النص أفضل للاُمة وأدعى إلى تحقيق تماسكها، وأنفى لوقوع الفتن والقلاقل بين أبنائها. فهذا ابن حزم الأندلسي يقول: وجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه: أوّلها وأصحّها وأفضلها، أن يعهد الإمام الميّت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته، سواء جعل ذلك في صحته أو عند موته، كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأبي بكر، وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبدالملك بعمر بن عبدالعزيز! وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة، وانتظام أمر الإسلام وأهله، ورفع ما يُتخوّف من الاختلاف
والذي يهمنا من مقالة ابن حزم: إدعاؤه بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نص على أبي بكر، مع أن نظرية الجمهور على عمومها تنفي وجود نص على شخص بعينه مطلقاً! وانفردت طائفة الشيعة بالقول بوجود نص من النبي (صلى الله عليه وآله) بالخلافة، ولكن لعلي بن أبي طالب.
وقد تصدى المؤلّفون والمتكلّمون من الجمهور لحجج الشيعة بعدم وجود نص أصلا على أحد من الناس، وحاولوا أن يفنّدوا دعاواهم، ولكن اُولئك المؤلّفين والمتكلّمين -وهم ينقضون إدعاءات الشيعة- تجدهم بالمقابل يلمحون بوجود نص أو نصوص مقابلة للنصوص التي يتمسك بها الشيعة، ويمثل القاضي ابن العربي أحد أركان هذا الاتجاه، فهو ينعى على الشيعة قولهم بوجود نص على علي بن أبي طالب، ويتخذ من ذلك وسيلة أيضاً لتفنيد عقائدهم كلياً، ثم يبدأ بالتلميح الى النصوص التي يعتقد أنها تشكل نقضاً لنصوص الشيعة، وتوحي بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أشار الى استخلاف أبي بكر من بعده. ولأن الموضوع بالغ الحساسية والخطورة، فانني سوف أجد نفسي مضطراً مرة اُخرى الى أن اُثقل على القارئ بايراد بعض النصوص الطويلة لبعض المؤلّفين حول هذا الموضوع، وذلك لاعتقادي بضرورتها، ولأنها تعطي توضيحاً أكثر للموضوع قيد الخلاف، وتزيل الغموض الذي يكتنفه في نهاية الأمر.
ولنبدأ أولا باستعراض مقالة ابن العربي -كما عودنا القارئ- في هذا
____________
1- الفصل: 4 ـ 169.
إنما يكون ذلك في المعاني التي تُشكل، وأما هذه الاُمور كلها فلا إشكال فيها، لأن النبي (صلى الله عليه وآله)، نصّ على استخلاف علي بعده فقال: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنه لا نبي بعدي"، وقال:"اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله"، فلم يبق بعد هذا خلاف لمعاند، فتعدى عليه أبو بكر واقتعد في غير موضعه، ثم خلفه في التعدي عمر، ثم رجا أن يوفق عمر للرجوع الى الحق، فأبهم الحال وجعلها شورى قصراً للخلاف، للذي سمع من النبي (صلى الله عليه وآله). ثم تحيّل ابن عوف حتى ردها عنه الى عثمان، ثم قتل عثمان لتسوره على الخلافة وعلى أحكام الشريعة، وصار الأمر الى عليّ بالحق الإلهي النبوي، فنازعه من عانده، وخالف عليه من بايعه، ونقض عهده من شدّه، وانتدب أهل الشام مع معاوية الى الفسوق في الدين، بل الكفر. وهذه حقيقة مذهبهم، أن الكل منهم كفرة، لأن مذهبهم التكفير بالذنوب، وكذلك تقول هذه الطائفة التي تسمى بالإمامية: أن كل عاص بكبيرة كافر، على رسم القدرية، ولا أعصى من الخلفاء المذكورين ومن ساعدهم على أمرهم، وأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أحرص الناس على دنيا، وأقلّهم حماية على دين، وأهدمهم لقاعدة وشريعة...
وقال في (عاصمة) -بعد تحامل على الشيعة-:
وقد أجمعت الاُمة على أن النبي (صلى الله عليه وآله) ما نص على أحد يكون من بعده، وقد قال العباس لعلي -فيما روى عنه عبدالله ابنه-: خرج علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً. فأخذ بيده العباس بن
قال القاضي أبو بكر(رضي الله عنه): رأي العباس عندي أصح، وأقرب الى الآخرة، والتصريح بالتحقيق، وهذا يبطل قول مدّعي الإشارة باستخلاف علي، فكيف أن يدّعى فيه نص؟! فأما أبو بكر، فقد جاءت امرأة الى النبي (صلى الله عليه وآله)، فأمرها أن ترجع إليه، قالت له: فان لم أجدك -كأنها تعني الموت-، قال: تجدين أبا بكر.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعمر -وقد وقع بينه وبين أبي بكر كلام- فتمعّر وجه النبي (صلى الله عليه وآله) حتى أشفق من ذلك أبو بكر، وقال النبي (صلى الله عليه وآله): "هل أنتم تاركو لي صاحبي (مرّتين)، إني بعثت إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت، ألا إني أبرأ الى كل خليل من خلته".
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): "لو كنت متخذاً في الإسلام خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا، لا يبقين في المسجد خوخة إلاّ خوخة أبي بكر".
وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): "بينما أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم استحالت غرباً، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن".
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فان يكن في أُمتي منهم أحد فعمر".
وقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعائشة رضي الله عنها في مرضه: "ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً، فاني أخاف أن يتمنّى متمن ويقول: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر".
وقال ابن عباس: إن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سبباً واصلا من السماء الى الأرض فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وصل له فعلا (وذكر الحديث). ثم عبّرها أبو بكر فقال: وأما السبب الواصل من السماء الى الأرض، فالحق الذي أنت عليه، فاخذته فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل آخر بعدك فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فيتقطع به ثم يوصل له فيعلو به".
وصح أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا"؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهية في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال ابن العربي: وهذه الأحاديث جبال في البيان وحبال في التسبب الى الحق لمن وفّقه الله، ولو لم يكن معكم -أيها السنّية- إلاّ قوله تعالى (إلا
لابدّ لنا من وقفة قصيرة أمام مقالة إبن العربي التي يدعي فيها عدم وجود نص على أحد، لا على علي ولا على أبي بكر، ولكنه يورد مجموعة من الروايات توحي بتلميح يفوق التصريح ليس الى استخلاف أبي بكر وحده، بل على استخلاف من بعده!
إن ابن العربي يورد أولا حديثين يحتج بهما الشيعة -على ما يبدو- على وجود نص بالخلافة لعلي بن أبي طالب، والقاضي ابن العربي يذكرهما دون اهتمام، لكنه يسهب في إيراد الروايات التي توحي باستخلاف أبي بكر ومن بعده، ولا شك أن الكثير من هذه الروايات مخرّجة في الصحاح التي يعتمدها الجمهور فضلا عن السنن والمسانيد وغيرها، ولست هنا بصدد مناقشتها سنداً - إذ جرت عادة الجمهور على عدم مناقشة أسانيد الصحاح كما هو معلوم- ولكنني أود أن اُثير بعض النقاط المتعلقة بهذه الأحاديث. ففي رواية ابن عباس التي أوردها ابن العربي ووافق فيها على قول العباس، نجد كلام العباس لعلي غريباً وغامضاً، إذ ما معنى أن يصبح علي عبداً للعصا بعد ثلاث! هل يريد العباس بذلك أن من سوف يتولى الخلافة مكانه سوف يضطهد علياً ويستضعفه، ولماذا؟ وما معنى قول علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده! فهل كان علي يريد أخذ الخلافة بالرغم من رغبة النبي وأمره!
أما الروايات الاُخرى التي أوردها ابن العربي، فهي تكاد تنص على
____________
1- التوبة: 40.
2- العواصم من القواصم: 183.
إننا لا نريد الاسترسال في مناقشة ابن العربي كثيراً فان هناك من كان أكثر صراحة منه وإسهاباً في عرض الأمر، فالحافظ ابن كثير الدمشقي قد عقد فصلا لطيفاً تحدث فيه باسهاب عن هذا الأمر، وأورد حجج الطرفين -فيما يتعلق بالنص- فيما يشبه مقارنة بين آرائهما، وتغليب الرأي الأصح والأقوى -حسب اعتقاده- لذا أجد نفسي مضطراً مرة أُخرى الى إيراد جزء كبير من مقالة ابن كثير، فإن فيها اُموراً جديرة بالملاحظة والمناقشة وإيراد آراء بعض العلماء والمتكلمين فيما فيها:
حادثة الغدير وحديثها
تحت عنوان (فصل)، كتب ابن كثير الدمشقي:
في إيراد الحديث الدال على أنه (عليه السلام) خطب بمكان بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة -يقال له غدير خم- فبيّن فيها فضل علي بن أبي طالب وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جوراً وتضييقاً وبخلا، والصواب كان معه في ذلك، ولهذا لما تفرغ (عليه السلام) من بيان
ثم يورد ابن كثير حديث الغدير من سبعة طرق، نكتفي بذكر واحدة منها.
قال: روى النسائي في سننه عن محمد بن المثنى عن يحيى بن حماد عن أبي معاوية عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم، قال: لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقمّمن، ثم قال: "كأني قد دُعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض" ثم قال:"الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن" ثم أخذ بيد علي فقال: "من كنت مولاه فهذا وليّه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه". فقلت لزيد: سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: ما كان في الدوحات اُحد إلاّ رآه بعينه وسمعه باُذنيه. تفرّد به النسائي من هذا الوجه.
قال ابن كثير: قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي: وهذا حديث صحيح.
قال عبدالله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدّث علي بن حكيم الأودي: أخبرنا شريك عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب، وعن زيد بن يثيغ قال: نشد عليّ الناس في الرحبة من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول يوم غدير خم ما قال إلاّ قام؟ قال: فقام من قبل سعيد ستة ومن قبل زيد ستة، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي يوم غدير خم: "أليس الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟" قالوا: بلى. قال: "اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه". قال عبدالله: وحدثني علي بن حكيم، حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن عمرو ذي أمر مثل حديث أبي إسحاق، يعني عن سعيد وزيد، وزاد فيه: "وانصر من نصره واخذل من خذله..."(1).
الكتاب العاصم
بعد ذلك ينتقل ابن كثير الى ذكر حادثة اُخرى وحديثها، والتي تبدو من حجج الشيعة أيضاً على النص على خلافة علي بن أبي طالب، وهي قصة الكتاب الذي أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) في مرضه عن رغبته في كتابته ليعصم اُمته من الضلالة. وينفي ابن كثير دلالة الحديث على وجود نص في علي بن أبي طالب، ويشنّع على الشيعة، فينقل عن ابن عباس روايتين في البخاري قائلا: وقال
____________
1- البداية والنهاية: 5 ـ 208.
ثم يورد ابن كثير رواية اُخرى عن البخاري ويقول: ورواه مسلم عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبدالرزاق بنحوه، وقد أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه من حديث معمر ويونس عن الزهري.
ثم قال معلّقاً: وهذا الحديث مما قد توهّم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم، كل مدع أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم، وأهل السنّة يأخذون بالمحكم ويردّون المتشابه، وهذه طريقة الراسخين في العلم(1).
فابن كثير يقرّر في مقالته صحة حديث الغدير كما ورد عن الذهبي، ولكنه يقرّر أيضاً بأن لا صحة لدعاوى الشيعة في كونه نصاً في الخلافة، بل هو مجرّد إزالة لبعض ما اعتمل في نفوس البعض من تصرفات قام بها علي، فأراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يزيل هذا الالتباس ويفهمهم صحة موقف علي.
أما بشأن الكتاب الذي أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكتبه في مرضه الذي توفي فيه، فان ابن كثير يكتفي بالإشارة الى أن الشيعة يقولون فيه ما يوافق أهواءهم دون
____________
1- البداية والنهاية 5: 208.
كتاب لأبي بكر
بعدما قدّم ابن كثير لمحة عما يعتبره حججاً للشيعة في وجود نص على علي بن أبي طالب وقال رأيه فيها، ينتقل الى إيراد روايات يظن أنها تشكّل نصّاً على أبي بكر، حيث يقول مستكملا مقالته التي أوردنا قسماً منها:
وهذا الموضوع مما زلّ فيه أقدام كثير من أهل الضلالات وأما أهل السنّة فليس لهم مذهب إلاّ اتباع الحق، يدورون معه كيفما دار، وهذا الذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه، قد جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه، فانه قد قال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا نافع عن ابن عمرو، ثنا ابن أبي مليكة عن عائشة، قالت: لما كان وجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي قُبض فيه قال: "ادعوا لي أبا بكر وابنه لكي لا يطمع في أمر أبي بكر طامع ولا يتمناه متمن"، ثم قال: "يأبى الله ذلك والمؤمنون"، مرّتين. قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون.
وبعد أن يورد إبن كثير رواية اُخرى عن أحمد بنفس المعنى، ورواية عن
في صحيح البخاري ومسلم من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، قال: أتت إمرأة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك -كأنها تقول الموت- قال: "إن لم تجديني فأتِ أبا بكر" والظاهر والله أعلم إنها إنما قالت ذلك له (عليه السلام) في مرضه الذي مات فيه...
ويستكمل ابن كثير الكلام في أدلته قائلا:
وقد خطب عليه الصلاة والسلام في يوم الخميس قبل أن يقبض (عليه السلام) بخمس أيام خطبة بيّن فيها فضل الصدّيق من سائر الصحابة مع ما كان قد نصّ عليه أن يؤم الصحابة أجمعين، كما سيأتي بيانه مع حضورهم كلهم. ولعل خطبته هذه كانت عوضاً عما أراد أن يكتبه في الكتاب.
خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) في ابي بكر
يورد ابن كثير بعد ذلك روايات متعددة عن خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) منها:
قال: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر; ثنا فليح عن سالم عن أبي النضر عن بشر بن سعيد عن أبي سعيد، قال: خطب رسول الله الناس فقال: إن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد، فكان رسول الله هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) "إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، لو كنت متخذاً خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلّة الإسلام ومودته، لا يبقى في المسجد باب إلاّ سدّ، إلاّ باب أبي بكر". وهكذا رواه البخاري من حديث أبي
وبعد أن يورد ابن كثير روايات اُخرى في نفس المعنى يقول:
وهذا اليوم الذي كان قبل وفاته (عليه السلام) بخمسة أيام، هو يوم الخميس الذي ذكره إبن عباس فيما تقدم...
ثم يورد رواية عن الحافظ البيهقي، عن ابن عباس، لكن في نهايتها: "سدّوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر" قال ابن كثير: وفي قوله (عليه السلام) سدوا عني كل خوخة -يعني الأبواب الصغار- الى المسجد، غير خوخة أبي بكر، إشارة الى الخلافة، أي ليخرج منها الى الصلاة بالمسلمين.
صلاة أبي بكر
ليستكمل ابن كثير أدلّته في النص على خلافة أبي بكر بذكر صلاته بأمر النبي (صلى الله عليه وآله)، فيورد فصلا في (ذكر أمره (عليه السلام) أبا بكر الصدّيق(رضي الله عنه)أن يصلي بالصحابة أجمعين مع حضورهم كلهم، وخروجه (عليه السلام)، فصلى وراءه مقتدياً في بعض الصلوات على ما سنذكره، وإماماً له ولمن بعده من الصحابة).
ثم يورد مجموعة كبيرة من الروايات في ذلك، نذكر منها:
قال البخاري: ثنا عمر بن حفص، ثنا أبي، ثنا الأعمش عن إبراهيم، قال الأسود: كنا عند عائشة فذكرنا المواظبة على الصلاة والمواظبة لها، قالت: لما مرض النبي (صلى الله عليه وآله) مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة فأذّن بلال، فقال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له فأعاد الثالثة، فقال: "إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فخرج أبو بكر، فوجد النبي (صلى الله عليه وآله) في نفسه خفة
ويخلص ابن كثير من ذلك كله الى القول:
والمقصود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قدم أبا بكر الصدّيق إماماً للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية. قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام. قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم، لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فان كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة، فان كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنّاً، فان كانوا في السن سواء فأقدمهم مسلماً. قلت: وهذا من كلام الأشعري رحمه الله ينبغي أن يكتب بماء الذهب(1).
هذه مجمل الحجج التي أوردها ابن كثير -فيما يشبه المقارنة بين أدلة القائلين بالنص على علي، وأدلة القائلين بعدم وجود نص ظاهراً، ووجود نص على أبي بكر واقعاً، حيث يخرج ابن كثير في النهاية بنتيجة مفادها عدم صحة ادعاء القائلين بالنص على علي بن أبي طالب، بينما يثبت من ناحية اُخرى وجود نصوص -غير صريحة- على استخلاف أبي بكر، وسوف نبدأ بمناقشة حجج الطرفين واستدلالات ابن كثير للخروج بالنتيجة القاطعة إن شاء الله تعالى.
____________
1- البداية والنهاية 5: 227 - 236.
الفصل العاشر
دور الحديث النبوي
دور الحديث النبوي
إن الباحث وهو يقف أمام هذه النصوص، ليلاحظ أمراً غريباً، فخطبة النبي (صلى الله عليه وآله) في غدير خم لبيان فضل علي بن أبي طالب، يقابلها خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) في مرضه لبيان فضل أبي بكر، والكتاب الذي أراد أن يكتبه في مرضه يوم الخميس -والذي يحتج به الشيعة كما يقول ابن كثير دون أن يبين وجه احتجاجهم- يقابله الكتاب الذي أراد أن يكتبه لأبي بكر حتى لا يتمنى متمن ويأبى الله ذلك والمؤمنون، في يوم الخميس أيضاً كما يقول ابن كثير، ولا أدري كيف علم ابن كثير إن ذلك كان يوم الخميس، وليس في الروايات التي ذكرت ذلك الكتاب إشارة حول تعيين اليوم، مما يدل على أن ذلك كان من استنباط ابن كثير. إضافة الى روايات اُخرى متقابلة كحديث المرأة التي جاءت النبي، وحديث سدّ الأبواب وغيرها - مما سنتطرق إليه في هذا الفصل- حتى يمكن التوصل الى معرفة وجود نص أم لا، وإن وجد ففي من؟ فلنستعرض أولا بعض الأقوال في ذلك.
أورد إبن أبي الحديد المعتزلي أيضاً بعضاً من هذه الروايات تحت عنوان (فصل فيما وضع الشيعة والبكرية من الأحاديث)، قال فيه:
واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فانهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعها
____________
1- شرح نهج البلاغة 11: 48.
وكذلك قوله: "وسدّوا الأبواب كلها إلاّ باب علي"، فان هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة، فان الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "لا يبقين في المسجد خوخة إلاّ سدّت إلاّ خوخة أبي بكر"(1).
وقال ابن الجوزي -بعد أن أورد روايات سدّ الأبواب غير باب علي، بطرقها: فهذه الأحاديث كلها من وضع الرافضة، قابلوا بها الحديث المتفق على صحته في "سدوا الأبواب إلاّ باب أبي بكر"(2).
أما سبط ابن الجوزي، فقال:
وأما قولهم إن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بسدّ أبواب المسجد إلاّ باب أبي بكر(رضي الله عنه)فنقول: قد أخرج احمد والترمذي أن الواقعة كانت لعلي (عليه السلام)، وروى أبو سعيد أن الواقعة كانت لأبي بكر(رضي الله عنه)، وليس إحدى الروايتين بأولى من الاُخرى، فتوقف الأمر على التاريخ، غاية ما في الباب أن يقال: حديث أبي سعيد في الصحيحين(3).
محاولات الجمع والتوفيق
اختلفت آراء العلماء وتضاربت -كما أوردنا القول لبعضهم- في حديث
____________
1- منهاج السنّة النبوية 3: 9.
2- الموضوعات 1: 366 باب في فضائل علي (عليه السلام).
3- تذكرة الخواص: 46.
رأي ابن حجر العسقلاني
بعد أن أورد ابن حجر روايات سدّ الأبواب غير باب علي، قال:
وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً، وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها، وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر، مقتصراً على بعض طرقه عنهم، وأعلَّه ببعض من تكلم فيه من رواته، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، وأعلّه بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر، وزعم أنه من وضع الرافضة، قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر، وأخطأ في ذلك خطأ شنيعاً، فانه سلك في ذلك ردّ الأحاديث الصحيحة بتوهّمه المعارضة، مع أن الجمع بين القصتين ممكن، وقد أشار الى ذلك البزار في مسنده فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي، وورد من روايات أهل المدينة بأسانيد حسان في قصة أبي بكر، فان ثبتت روايات أهل الكوفة، فالجمع بينهما بما دلّ عليه حديث أبي سعيد الخدري، يعني الذي أخرجه الترمذي أن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: "لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جُنباً غيري وغيرك"، والمعنى أن باب عليّ كان الى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره، فلذلك لم يؤمر بسدّه... ومحصّل الجمع أن الأمر بسدّ الأبواب وقع
رأي ابن كثير
قال ابن كثير - بعد أن أورد الروايات في سدّ الأبواب غير باب علي-:
وقد تقدم ما رواه أحمد والنسائي من حديث أبي عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس، الحديث الطويل، وفيه سدّ الأبواب غير باب علي، وكذا رواه شعبة عن أبي بلج، ورواه سعد بن أبي وقاص، قال أبو يعلي.. عن خيثمة عن سعد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سدّ أبواب المسجد وفتح باب علي، فقال الناس في ذلك، فقال: "ما أنا فتحته ولكن الله فتحه". وهذا لا ينافي ما ثبت في صحيح البخاري من أمره (عليه السلام) في مرض الموت، بسدّ الأبواب الشارعة الى المسجد إلاّ باب أبي بكر الصدّيق، لأن نفي هذا في حق علي كان في حال حياته، لاحتياج فاطمة الى المرور من بيتها الى بيت أبيها، فجعل هذا رفقاً بها، وأما بعد وفاته، فزالت هذه العلّة، فاحتيج الى فتح باب الصديق لأجل خروجه الى المسجد ليصلي بالناس، إذ كان الخليفة عليهم بعد موته (عليه السلام)، وفيه إشارة الى خلافته...(2).
____________
1- فتح الباري 7: 12.
2- البداية والنهاية 7: 342.
القول الفصل
هذه بعض آراء العلماء والشرّاح في حديث سدّ الأبواب، فمن جملة المشاكل التي واجهها بعض الحفّاظ والشرّاح لكتب الحديث، هي مسألة التوفيق والجمع بين الأحاديث الصحيحة الأسناد -بحسب المقاييس المعروفة- المتعارضة المتون.
إن القاعدة التقليدية التي اعتمدها ابن الجوزي ومن وافقه هي أن صحيح البخاري هو أقوى كتب الحديث وأصحها، فهو بذلك حجة على ما سواه من كتب الحديث، فينبغي -على رأي هؤلاء- أن تكون الواقعة لأبي بكر لا لعلي.
وقد ادعى ابن حجر أن ابن الجوزي قد توهم أن هذه الأحاديث متعارضة وأنه أخطأ في ذلك، لكن الحقيقة أن ابن الجوزي لم يخطئ في تعارض الأحاديث، ولكنه أخطأ في معرفة الحقيقة!
إن من الأسباب التي أوقعت الكثير من الشرّاح في الخطأ، هي أخذهم الأحاديث بأسانيدها فقط دون الالتفات الى النواحي الاُخرى، وهكذا وقعوا في خطأ التقدير، لأن الأخذ بالأحاديث ينبغي أن يكون مسبوقاً بمعرفة جملة الظروف -السياسية منها خاصّة- ومطابقتها للواقع، فعندئذ يمكن الحكم على الكثير من الأحاديث -وبخاصة المتعارضة منها- حكماً صحيحاً.
وعندما نسبر أغوار القضية يتبيّن لنا أن أبا بكر لم يكن له بيت في مسجد رسول الله حين وفاته (صلى الله عليه وآله)! وهذا يفسّر قول ابن حجر: ولكن لا يتم ذلك إلاّ بحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي.
وفي تاريخ الطبري تفصيل أكثر، فقد أخرج من عدة طرق: عن سعيد بن المسيّب، وعبدالرحمان بن صبيحة التيمي عن أبيه، وعن ابن عمر، وعن عروة عن عائشة، وعن أبي وجيزة عن أبيه، قال(الطبري): وغير هؤلاء أيضاً قد حدثني ببعضه، فدخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: قالت عائشة: كان منزل أبي بالسنح، عند زوجته حبيبة ابنة خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث بن الخزرج، وكان قد حجّر عليه حجرة من سعف، فما زاد على ذلك حتى تحوّل الى منزله بالمدينة، فأقام هنالك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر، يغدو على رجليه الى المدينة، وربما ركب على فرس له، وعليه إزار ورداء ممشق، فيوافي المدينة، فيصلي الصلوات بالناس، فاذا صلّى العشاء رجع الى أهله بالسنح، فكان إذا حضر صلّى بالناس، وإذا لم يحضر صلّى بهم عمر بن الخطاب...(2)
والمصادر التاريخية الاُخرى متفقة على ذلك(3).
وقال ياقوت الحموي:
(السنح): وهي إحدى محال المدينة، كان بها منزل أبي بكر(رضي الله عنه).. بعوالي المدينة، وبينها وبين مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) ميل(4).
أما محاولة ابن كثير للتوفيق بين هذه الأحاديث، فهي الأكثر تهافتاً،
____________
1- صحيح البخاري 5: 8.
2- تاريخ الطبري 3: 432.
3- الكامل في التاريخ 2: 323، المنتظم 4: 43، البداية والنهاية 5: 242، الروض الآنف 7: 546، السيرة النبوية لابن كثير 4: 480.
4- معجم البلدان 3: 760.