الفصل الثالث عشر
تدوين الحديث
تدوين الحديث
يميل معظم الباحثين في تاريخ تدوين السنّة النبوية الشريفة الى القول بأنها لم تدوّن حتى نهاية القرن الأوّل الهجري، باستثناء بعض الصحف التي كان بعض الصحابة يدوّنون فيها شيئاً من أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) ; كصحيفة جابر بن عبدالله وصحيفة عبدالله بن عمرو بن العاص التي سميت (الصادقة) وغيرهما.
ويبدو أن المحاولة الاُولى لتدوين الحديث قد بدأت في مطلع القرن الثاني الهجري، بإيعاز من الخليفة الاُموي عمر بن عبدالعزيز 101 هـ، "فقد كتب هذا الخليفة الى قاضيه في المدينة المنورة أبي بكر بن عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو سنّة فاكتبه، فاني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، إلاّ أن عمر بن عبدالعزيز توفي قبل أن ينفذ أمره"(1).
ويعدّ الزهري أوّل من دوّن الحديث، ويبدو أنه قد فعل ذلك بأمر من الخليفة الاُموي هشام بن عبدالملك، أو عبدالملك نفسه، وفي ذلك يقول الزهري: كنّا نكره الكتاب حتى أكرهنا عليه الاُمراء، فرأيت أن لا أمنعه مسلماً(2).
وروى الوليد بن مسلم، قال: خرج الزهري من الخضراء، من عند عبدالملك، فجلس عند ذلك العمود فقال: يا أيها الناس، إنا كنا قد منعناكم شيئاً
____________
1- أكرم ضياء العمري. بحوث في تاريخ السنّة المشرّفة: 7.
2- سير أعلام النبلاء 5: 334 ترجمة الزهري.
وقد بدأت منذ ذلك الحين حملة تدوين الحديث، وأقبل الناس على الحديث النبوي، وكثر المشتغلون به، ولكن بما أن الحديث كان غير مدوّن طيلة أكثر من قرن من الزمان، بل وكان هناك تشديد على منع روايته، الى أن فتح معاوية بن أبي سفيان الباب للحديث، ولكن للحديث المكذوب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، من أجل ترويج سياسته، فانتشر الحديث الموضوع رواية، وكانت الفجوة الزمنية بين الرواية الشفهية والتدوين خير فرصة للوضّاعين، "فكانت هذه ثغرة نفذ منها أهل الأهواء الى تحقيق أغراضهم"(2)، مما جعل البعض يرفضون الركون الى الحديث بسبب ذلك، وبخاصة أصحاب مدرسة الرأي، وعلى رأسها محمد بن النعمان أبو حنيفة الذي أعرض عن معظم الأحاديث المتناقلة بين الناس، لأنه "فحص الأحاديث الموجودة في عصره، وكانت عشرات الآلاف، فلم يصح في نظره منها إلاّ نحو سبعة عشر"(3)، وتبعه على ذلك معظم الذين تمسكوا بالقياس، لذا فقد تعرض إمام الأحناف الى حملة تشهير شديدة من قبل أصحاب الحديث الذين كانوا يذمّون القياس وردّ الأحاديث. قال ابن عبدالبرّ: كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على
____________
1- سير أعلام النبلاء 5: 334، ترجمة الزهري.
2- بحوث في تاريخ السنّة المشرفة: 24.
3- أئمة الفقه التسعة: 68.
وقال أيضاً: فممن طعن عليه وجرحه: أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، فقال في كتابه (الضعفاء والمتروكين): أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، قال نعيم بن حماد: حدثنا يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ، سمعنا سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرّتين! وقال نعيم عن الفزاري: كنت عند سفيان بن عينية، فجاء نعي أبي حنيفة، فقال: لعنه الله، كان يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود أشرّ منه. هذا ما ذكره البخاري.
وقال ابن عدي: سمعت ابن أبي داود يقول: الوقيعة في أبي حنيفة إجماع من العلماء، لأن إمام البصرة أيوب السختياني، وقد تكلم فيه، وإمام الكوفة الثوري، وقد تكلم فيه، وإمام الحجاز مالك، وقد تكلم فيه، وإمام مصر الليث بن سعد، وقد تكلم فيه، وإمام الشام الأوزاعي، وقد تكلم فيه، وإمام خراسان عبدالعزيز بن مبارك، وقد تكلم فيه، فالوقيعة فيه إجماع من العلماء في جميع الآفاق(2).
وقال الذهبي: قال ابن عدي: عامة ما يرويه غلط وتصحيف وزيادات، وله أحاديث صالحة. وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، كثير الغلط على
____________
1- الإنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: 149، جامع بيان العلم 1: 148.
2- الكامل في ضعفاء الرجال 7: 5.
وقال أبو نعيم الإصفهاني: قال بخلق القرآن، واستتيب من كلامه الرديء غير مرّة، كثير الخطأ والأوهام(2). الى غير ذلك من الأقوال في ذمّه.
ولم يكن أبو حنيفة وأتباعه من أصحاب مدرسة الرأي هم وحدهم في ذلك الموقف من الحديث المتداول بين الناس، إذ أن أتباع المدرسة العقلية كالمعتزلة قد أخذوا جانب الحذر منه أيضاً، وذكروا لذلك أسباباً، كوجود التضاد والتناقض بين الأحاديث مما لا يمكن صدوره عن النبي (صلى الله عليه وآله)، سواء في الاُصول - حيث تروي كل فرقة ما يؤيد وجهة نظرها- أو في الفروع أيضاً- كاختلاف روايات العراقيين والحجازيين- وكذلك رواياتهم للأحاديث التي تنافي تنزيه الله سبحانه وتعالى، حيث تصوّره وفق العقائد التي تدعو الى التجسيم والتشبيه والحلول، وكذلك تناقضهم في الجرح والتعديل..(3)
وقال ابن قتيبة أيضاً: ولقد أطلق المعتزلة ألسنتهم في أهل الحديث بتجريحهم واتهامهم بالجمود والغفلة وعدم الفطنة، ولقَّبوهم بالحشوبة والنابتة والمجبّرة، وربما قالوا: الجبرية، وسموهم: الغثاء والغثر(4).
وردّ المحدّثون على خصومهم فسمّوهم: أهل الباطل والكفر والفرقة، ورموهم بالبدعة والهوى والضلالة والغرور(5).
____________
1- ديوان الضعفاء والمتروكين 2: 404، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 3: 163، الضعفاء والمتروكين للنسائي: 233.
2- كتاب الضعفاء: 154.
3- انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 2.
4- المصدر السابق: 96.
5- مقدمة كتاب شرف اصحاب الحديث للخطيب البغدادي.
السلطة والحديث
استمرت حركة تدوين الحديث في أواخر العصر الاُموي، ولم تظهر المدوّنات المبوّبة للأحاديث في تلك الفترة، بل في أوائل عصر الدولة العباسية: حيث نهض بهذه المهمة عدد من العلماء، كابن جريج 150 هـ، ومعمّر بن راشد 154 هـ، وسفيان الثوري 161 هـ، وسفيان بن عينية 198 هـ وغيرهم.
إلاّ أن أهم المدونات التي حظيت بالقبول وذاع صيتها هو موطأ مالك بن أنس، الذي كتبه بإيعاز من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، الذي قال لمالك -كما يروي هو-: لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها.
فقلت له: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في عملهم رأينا. فقال أبو جعفر; يُحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طيّ ظهورهم بالسياط..(1)
انتعشت سوق الحديث، وراجت بضاعة المحدّثين، حتى إذا ما تولى المأمون العباسي - الذي تأثر بآراء المدرسة العقلية- الخلافة، مال الى رأي المعتزلة ونصرهم، وأساء المعتزلة استخدام جاههم عند الخلفاء، فراحوا يفرضون آراءهم بالقوة. ونكّلوا بالمحدّثين الذين رفضواالقول بخلق القرآن، وامتحنوهم، فيما عرف بفتنة خلق القرآن في عهد المعتصم والى أواخر عهد الواثق، حتى إذا ما تولى الخلافة المتوكل، قلب للمعتزلة ظهر المجن، وقرّب أصحاب الحديث، وأمرهم بنشره والتحديث به. "قال نفطويه في تاريخه:
____________
1- الإمامة والسياسة 2: 202.
وقال خليفة بن خياط: استخلف المتوكل، فأظهر السنّة، وتكلم بها في مجالسه، وكتب الى الآفاق برفع المحنة، وبسط السنّة، ونصر أهلها(2).
وقال الصولي: نهى المتوكل عن الكلام في القرآن، وأشخص الفقهاء والمحدّثين الى سامراء، منهم إبن أبي الشوارب، وأمرهم أن يحدّثوا، وأجزل لهم الصلات.
وذكر الخطيب بأن المتوكل العباسي أمر المحدّثين أن يجلسوا للناس ويحدّثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدّثوا بالأحاديث في الرؤية(3).
ولذلك قال إبراهيم بن محمد التيمي، قاضي البصرة: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصدّيق يوم الردة، وعمر بن عبدالعزيز في ردّ مظالم بني اُمية، والمتوكل في محو البدع وإظهار السنّة!(4).
____________
1- تاريخ الاسلام للذهبي، وفيات 230 - 240: ص 230.
2- سير أعلام النبلاء 12: 31.
3- تاريخ بغداد 10: 66.
4- تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 241 - 250 ص 196.
الموقف من علي
إن انتشار الحديث بمرحلتيه: الرواية الشفهية والتدوين، كانت في الحقيقة من المراحل المعادية لعلي بن أبي طالب بشكل سافر، فرواية الحديث الموضوع قد بدأت على نطاق واسع في عهد معاوية ومن جاء بعده - وقد مرّ فيما سبق نماذج منه- وكان أهم رواة الحديث في هذا العهد من مؤيدي السلطة الاُموية ومن المنحرفين عن علي بن أبي طالب، إما طلباً للدنيا ونيل عطاء معاوية وبني اُمية، وإما تهدئة لنائرة الحقد وإطفاء للثأر في صدور الذين قُتل آباؤهم وأقرباؤهم في حربي الجمل وصفّين!
قال أبو جعفر الاسكافي المعتزلي: إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلا يُرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: عروة بن الزبير، روى الزهري أن عروة بن الزبير حدّثه قال: حدثتني عائشة قالت: كنت عند رسول الله، إذ أقبل العباس وعلي، فقال: "ياعائشة، إن هذين يموتان على غير ملّتي" أو قال: "ديني"!.
وروى عبدالرزاق عن معمر، قال: كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي (عليه السلام)، فسألته عنهما يوماً، فقال: ما تصنع بهما وبحديثهما، الله أعلم بهما، إني لأتهمهما في بني هاشم!
قال: فأما الحديث الأوّل، فقد ذكرناه، وأما الحديث الثاني، فهو أن عروة زعم أن عائشة حدثته قالت: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل العباس وعلي، فقال:
وقال الاسكافي: وقد تظاهرت الرواية عن عروة بن الزبير، أنه كان يأخذه الزمع (الرعدة) عند ذكر علي (عليه السلام)، فيسبّه، ويضرب باحدى يديه على الاُخرى ويقول: وما يغني أنه لم يخالف الى ما نُهي عنه، وقد أراق من دماء المسلمين ما أراق!(2).
وقال أيضاً: وعن يحيى بن عروة قال: كان أبي إذا ذكر علياً نال منه، وقال لي مرة: يا بني، والله ما أحجم الناس عنه إلاّ طلباً للدنيا، لقد بعث إليه اُسامة بن زيد: أن ابعث إلي بعطائي، فوالله إنك لتعلم أنك لو كنت في فم أسد لدخلت معك. فكتب إليه: إن هذا المال لمن جاهد عليه، ولكن لي مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت!
قال يحيى: فكنت أعجب عن وصفه إياه بما وصفه به، ومن عيبه له وانحرافه عنه(3).
فعروة بن الزبير من كبار التابعين، وهو من الأعلام المعروفين، ورواياته تملأكتب الحديث، ولا خلاف بين المحدثين في وثاقته، إلاّ أن الكثير منهم لم يأخذ بنظر الاعتبار العوامل النفسية القاهرة التي قد تدفع بالفرد الى الاختلاق والافتراء على من وترهم، والأحاديث التي ذكرها الزهري، واتهامه لعروة في بني هاشم، واعتراف يحيى بن عروة بانحراف أبيه عن علي، تكفي شهادة على عروة، رغم كل ما يقال في فضله، وستأتي أمثلة اُخرى عن مواقف الرواة
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 63 - 64.
2- المصدر السابق 4: 69.
3- شرح نهج البلاغة 4: 102.
وقد جرت عادة المحدّثين على عدم التعرض للصحابة والتابعين بجرح بعد أن عدّلهم الله ورسوله - على حد قولهم- وإنما يشمل التعديل والجرح ما دونهم، إلاّ أنه قد مرّت أخبار عمرو بن العاص، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة، الذي كان يلعن علياً على المنبر بأمر معاوية، وبقي أن نذكر صحابياً آخر كان من المنحرفين عن علي، إذ قال الاسكافي: وروى الأعمش، قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة، جاء الى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس، جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أني أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار! والله لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إن لكل نبي حرماً، وإن حرمي بالمدينة ما بين عير الى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". وأشهد بالله أن علياً أحدث فيها!.
فلما بلغ معاوية قوله، أجازه وأكرمه وولاّه إمارة المدينة(1).
وقال الاسكافي أيضاً: وقد صحّ أن بني اُمية منعوا من إظهار فضائل علي (عليه السلام)، وعاقبوا على ذلك الراوي له، حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله، بل بشرائع الدين، لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول: عن أبي زينب(2).
هكذا كان الموقف من علي بن أبي طالب في فترة انتشار رواية الحديث على عهد معاوية ومن جاء بعده، الى أن جاءت الفترة التي بدأ فيها تدوين
____________
1- شرح نهج البلاغة 4: 63.
2- السابق 4: 73.
وكان مالك يرى مساواة علي بن أبي طالب لسائر الناس!(2).
ولم يخرج مالك شيئاً عن علي بن أبي طالب في موطئه، ولما سأله هارون الرشيد عن السبب، اعتذر بأنه (لم يكن في بلدي، ولم ألق رجاله)!(3).
المتوكل العباسي وعلي
أما المرحلة التي أوعز المتوكل بنشر الحديث فيها - والتي تعدّ الفترة الذهبية لتدوين الحديث - فكانت من أشد الفترات عداءً لعلي بن أبي طالب!
قال ابن الأثير: وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهل بيته بأخذ المال والدم، وكان من جملة ندمائه: عبادة المخنث، وكان أصلع، فيشدّ تحت ثيابه مخدّة، ويكشف رأسه ويرقص، والمغنّون يغنّون: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين، يحكي بذلك علي بن أبي طالب، والمتوكل يشرب ويضحك...! وقيل: إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء: المأمون والمعتصم والواثق في محبة علي وأهل بيته، وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، منهم: علي بن الجهم، الشاعر الشامي، وأبو السمط، من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني اُمية، وعبدالله بن داود
____________
1- كتاب المجروحين 1: 258.
2- ترتيب المدارك: ترجمة مالك.
3- تنوير الحوالك للسيوطي 1: 7، شرح الموطأ للزرقاني 1: 11.
وعلي بن الجهم هو الشاعر المشهور، قال عنه ابن حجر: كان مشهور النصب، كثير الحط على علي وأهل بيته، وقيل إنه كان يلعن أباه لم سمّاه علياً!(2).
ولقد جازف بعض المنصفين من الرواة والمحدّثين بأرواحهم حينما رووا في مناقب علي وأهل بيته بحضرة المتوكل ما أثار حفيظته، ففي ترجمة نصر بن علي الجهضمي، أنه لما حدّث بحديث، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ بيد حسن وحسين، فقال: "من أحبني وأحب هذين وأباهما واُمهما، كان في درجتي يوم القيامة"، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه فيه جعفر بن عبدالواحد، وجعل يقول له: هذا من أهل السنّة، فلم يزل به حتى تركه!(3).
وقال المتوكل يوماً ليعقوب بن السكيت: أيّما أحب إليك، أنا وولداي المؤيد والمعتز، أم علي والحسن والحسين؟ فقال: والله إن شعرة من قنبر خادم علي، خير منك ومن ولديك!
فأمر المتوكل الاتراك فداسوا بطنه، فحمل الى بيته ومات!(4).
وقال الذهبي: وفي سنة ست وثلاثين ومائتين، هدم المتوكل قبر الحسين، فقال البسامي أبياتاً منها:
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا | في قتله فتتبعوه رميماً |
وكان المتوكل فيه نصب وانحراف، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور،
____________
1- الكامل في التاريخ 4: 318.
2- لسان الميزان 4: 210.
3- تهذيب التهذيب 10: 383.
4- النجوم الزاهرة لابن تغري 2: 203، سير أعلام النبلاء 12: 18، تاريخ أبي الفداء 2: 40، وفيات الأعيان 6: 397.
أما اُولئك المحدّثين والفقهاء الذين استدعاهم المتوكل، فكان في مقدمتهم مصعب الزبيري الذي قال عنه ابن الأثير: وكان عالماً فقيهاً، إلاّ أنه كان منحرفاً عن علي (عليه السلام)!(2).
موقف المحدّثين من الرواة:
إن من يتعقب مواقف أهل الحديث من الرواة، يستطيع أن يلاحظ بكل وضوح، أن المقاييس التي كانوا يتبعونها تكاد تكون متممة لخطة العمل التي بدأها معاوية بن أبي سفيان وبنو اُمية عامة، ومن ثم سار على نهجهم بنو العباس في عصر المتوكل وبعده، واستمر هذا النهج الى يومنا هذا!.
لقد بدأ معاوية عهده باستبعاد العراق - وبخاصة الكوفة - من لعب أي دور في ترويج الحديث النبوي، وأمر بتعقب شيعة علي بن أبي طالب واضطهادهم وردّ شهاداتهم، فكان عدم قبول حديث العراقيين إحدى سمات وثمرات هذا الأمر.
وقد درج الباحثون المعاصرون على ترديد كلمات الأقدمين، والتمسك بموازينهم دون محاولة للتنقيب عن الحقيقة، مما يوقع بعض اُولئك الباحثين في التناقض أحياناً.
يقول أكرم ضياء العمري: لقد أدّت كثرة الوضع للحديث في الكوفة الى إعطاء فكرة سيئة عن العراق، كمركز مهم من مراكز العلم والرواية في العالم الإسلامي آنذاك، فتدهورت سمعة العراقيين العلمية في الأمصار المختلفة، منذ
____________
1- سير أعلام النبلاء 12: 35، والمنتظم لابن الجوزي 2: 237.
2- الكامل في التاريخ 4: 320.
وقدم جماعة من أهل العراق الى عبدالله بن عمرو بن العاص بمكة طالبين إليه أن يحدّثهم، فقال لهم: (إن من أهل العراق قوماً يكذبون ويكذبون ويسخرون).
وقال الزهري: (إذا سمعت بالحديث العراقي فاردد به ثم اردد به).
وقد كان من نتيجة ذلك أن ضربت السلطة في دمشق العزلة العلمية عليهم، فلم تستفتهم فيما يستجد من أقضية وأحداث، بل اعتمدت على علماء الشام والمدينة فقط. يقول الأوزاعي: كانت الخلفاء بالشام، فاذا كانت الحادثة سألوا عنها علماء أهل الشام وأهل المدينة، وكانت أحاديث العراق لا تتجاوز جدر بيوتهم، فمتى كان علماء أهل الشام يحملون عن خوارج أهل العراق.
وهذا مالك بن أنس، فقيه المدينة العظيم، لم يرو عن أحد من الكوفيين سوى عبدالله بن إدريس الذي كان على مذهبه، وكان يقول في ذلك: كما لم يرو أولونا عن أوليهم، كذلك لا يروي آخرونا عن آخريهم، وكلام مالك صريح في أن عدم رواية العلماء عن الكوفيين ليست ظاهرة برزت في جيله، بل ان جيله كان يتبع الأقدمين في عدم الأخذ عنهم.!(1)
لو أننا حلّلنا مقولة العمري لوجدناها تكشف عن نقاط الإلتقاء بينها وبين سياسة الدولة الاُموية بشكل واضح، إضافة الى أن الأشخاص المذكورين بذم العراق وأهل الكوفة ورفض احاديثهم، هم في الحقيقة الذين كانوا إما في
____________
1- بحوث في تاريخ السنّة المشرفة: 19 - 23 عن إبن عساكر 1: 69، الطبقات 4: 267.
ومن المفارقات العجيبة أن يناقض الباحث نفسه بنفسه، فالعمري الذي ينقل عن عائشة إدعاءها بأنه لم يخرج الى الكوفة إلاّ نفر قليل من الصحابة، يعود فيقول: لقد كان نصيب الكوفة من الصحابة كثيراً، إذ هبط فيها ثلاثمائة من أصحاب الشجرة، وسبعون من أهل بدر، وكان منهم عبدالله بن مسعود احد كبار فقهاء الصحابة ومحدثيهم، وكان الحسن البصري إذا سئل عن أهل البصرة وأهل الكوفة، يبدأ بأهل الكوفة!(1).
ويقيناً لو أننا راجعنا طبقات ابن سعد وغيره من الكتب، لوجدنا أن الصحابة الذين نزلوا الكوفة كانوا في معظمهم من السابقين والخيار، وعددهم أكبر من عدد الصحابة الذين نزلوا الشام، ولم يتمكن خيارهم الاستقرار في
____________
1- بحوث في تاريخ السنه المشرفه: 24 عن الطبقات 6: 9، الكامل لابن عدي 1: 45 أ.
مواقف المحدثين من أهل البدع
لقد جرت عادة أهل الحديث الى تقسيم الرواة إلى قسمين هما: أهل السنّة، وأهل البدعة، ولفظة أهل السنّة بمفهومها المعروف اليوم والذي يعني عامة الجمهور، لم يكن هذا هو المقصود منه، بل كان القصد منه تخصيص أصحاب الحديث بهذا اللقب باعتبارهم حفّاظ السنّة النبوية والقيّمون عليها، وعلى هذا الأساس، فقد كان أهل السنّة من أصحاب الحديث، هم بالدرجة الاُولى السائرون في ركب السلطتين الاُموية والعباسية، ومن ثم كل السلطات التي تشكّلت على أنقاض الدولة العباسية فيما بعد، قال إبن سيرين: ـ 110 هــ: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فينظر الى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر الى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم(1).
إلاّ أن هذه القاعدة لم تطبق بهذا الشكل، فان المحدثين أخذوا من حديث أهل البدع، وصححوا منه ما يوافق عقيدتهم، وردّوا ما عدا ذلك، ويتضح ذلك من مقولة الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي، قال: شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته... فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحدّ الثقة العدالة والاتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟
____________
1- صحيح مسلم 1: 15، الكامل لابن عدي 1: 239، المجروحين لابن حبان 2: 27، المحدّث الفاصل للرامهرمزي 1: 12، الكفاية للخطيب.
وأيضاً فما استحضر الآن في هذا الضرب رجلا صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يُقبل نقل من هذا حاله؟! حاشا وكلا.
فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم، هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً(رضي الله عنه)، وتعرّض لسبّهم. والغالي في زماننا وعُرفنا، هو الذي يكفّر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضال معثّر، ولم يكن ابان بن تغلب يعرض للشيخين أصلا، بل قد يعتقد علياً أفضل منهما...(1)
إلاّ أن هذا المقياس الذي ادعاه الذهبي لم يكن دقيقاً أيضاً، لأن المحدّثين تركوا الكثير من رواة الشيعة لمقولات اُخرى غير تلك التي ذكرها الذهبي - كما سوف يتبيّن من ترجمة جابر الجعفي- كما أن بعض المحدّثين تركوا حديث بعض الشيعة رغم توثيقهم، ففي ترجمة علي بن هاشم البريد، قال الذهبي:
وثقه يحيى بن معين.
وقال أبو داود: ثبت يتشيّع.
____________
1- ميزان الاعتدال 1: 5.
وقال النسائي: ليس به بأس.
قلت (الذهبي): ولغلوه ترك البخاري إخراج حديثه، فانه يتجنب الرافضة كثيراً، كأنه يخاف من تدينهم بالتقية، ولا نراه يتجنب القدرية والخوارج ولا الجهمية، فانهم على بدعهم يلزمون الصدق(1).
1 - الموقف من النواصب:
وهنا تبرز مسألة مهمة، فأهل البدع ليسوا سواء حتى ولو تساووا في الوثاقة، ويتضح ذلك من خلال ما يبديه الحافظ إبن حجر العسقلاني من ملاحظات حول توثيق العلماء لمن يسموهم بأهل البدع فيما ينقل إلينا من ملاحظات في ترجمة لمازة بن زبّار، أبو الوليد الجهضمي، الذي يقول فيه الذهبي:
بصري، حضر موقعة الجمل، وكان ناصبياً ينال من علي(رضي الله عنه)ويمدح يزيد(2).
وروى ابن حجر، عن مطر بن جمران: كنا عند أبي لبيد، فقيل له: أتحب علياً؟
فقال: أحب علياً وقد قتل من قومي في غداة واحدة ستة آلاف!
وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: حدثنا وهب بن جرير عن أبي لبيد، وكان شتاماً. زاد العقيلي، قال وهب: قلت لأبي: من كان يشتم؟ قال: كان
____________
1- ميزان الاعتدال 3: 160.
2- ميزان الاعتدال 3: 419.