الصفحة 25
فهم الإسلام ويبدون رغبة في الانتساب إليه(1) .

ثمّ عرّف السلفي بقوله: فالسلفي اليوم، كلّ من تمسّك بقائمة من الآراء الاجتهادية المعينة ودافع عنها وسفّه الخارجين عليها ونسبهم إلى الابتداع سواءٌ منها ما يتعلق بالأمور الاعتقادية أو الأحكام الفقهية والسلوكية(2) .

ولو تنزّلنا وقلنا إنّهم يؤمنون بالاجتهاد، وهذا حسن لو كان مبنيّاً على أُسس وقواعد علمية سليمة، ولكن لا يخفى أنّ محور الاجتهاد هو فروع الدين، فعلى من يعتمدون في الأُصول؟ علماً أنّ رأيهم بأبي الحسن الأشعري إمام أهل السُنّة والجماعة في الأُصول في غاية السوء، ويعدّونه ضالاّ، ولا يساوي عندهم شيئاً، كما هو واضح من أقوالهم ومصنّفاتهم، وهل يوجد فرع بلا أصل أو بنيان بلا أساس؟! إنّه لبنيان واه، بل أوهن من بيت العنكبوت.

وبالرغم ممّا عرفت من وهنهم هذا إلاّ أنّهم لم يدعوا الآخرين وشأنهم، بل تراهم بين نعيق وزعيق، ونعيب ونقيق، ورغاء ونهيق، فمرّة يكفّرون هـذا ومرّة يضلّلون ذاك، وأُخرى يفترون على ثالث، كاشفين بذلك عن خبث سرائرهم، وسوء دخائلهم وقبح عوارهم، وفي كلّ يوم لهم مع الآخرين سوءة بادية، وفرية واهية، وقالة نابية، وفعل طائش، وعمل شائن، بعيد كلّ البعد عن روح الإسلام المشرقة، ونابع من الفراغ الفكري.

وإذا ما اتّفق ورأيت على أحدهم سيماء حملة العلم، وحاورته وجادلته بالتي هي أحسن وجدته أجهل من راعي ضأن، وأنّ علمه كعلم

____________

(1) السلفية مرحلة زمنية ص 230 ـ 231.

(2) السلفية مرحلة زمنية ص 237.


الصفحة 26
الأباعر بما تحمل، وما أن تأخذه من بين يديه ومن خلفه، وتلوي عنقه بالدليل والبرهان، حتّى يبدأ باللغط والتهريج، وتغيير الموضوع الذي هو محلّ النقاش، وهذا دأب كلّ من تعوزه الحجّة والدليل.

نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الزلل وسوء المعتقد، إنّه سميع الدعاء، والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين وسلّم تسليما.

جواد حسين الورد     
دمشق الشام         
12 / جمادى الآخرة / 1424


الصفحة 27

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمّد وآله الطاهرين، وصحبه المنتجبين.

وبعـد..

فقد أطلعني بعض الفضلاء على مقالة منشورة على أحد مواقع الإنترنيت وطلب منّي أن أردّ عليها، وعندما سبرتها وجدتها عيبة سقطات، وعلبة سفاسف، ليس لها مسيس من الصحّة كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى، فلبّيت طلبه مقدّراً حرصه في الدفاع عن الحقّ، وإظهار الحقيقة.

وعندما أتممت كتابة الردّ(1) ، والذي كان بحدود ثلث مادّة هذا

____________

(1) اعتمدنا في ردّنا وغالب نقولاتنا على المصادر المعتمدة في الحديث عند أهل السنّة والجماعة، كالجوامع والسنن والمسانيد الستّة عشر، التي هي في عداد الصحيح أو بحكمه أو من الحسان، وهي:

صحيح البخاري، ومسلم، وابن خزيمة، وابن حبّان، ومستدرك الحاكم، والمختارة ـ للضياء ـ وهؤلاء اشترطوا الصحّة في جوامعهم.

وبإضافة سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة إلى الشيخين على رأي المقدسي.

وسنن الدارمي على رأي بعضهم، وموطّأ مالك على رأي رزين العبدري، وابن الأثير.

أو ما يسمّى بالكتب العشرة حسب تقسيم ابن كثير والهيثمي، وغيرهما، بإضافة مسند أحمد ومعجم الطبراني ومسند أبي يعلى ومسند البزّار إلى الستّة، فهذه ستّة عشر.

مضافاً إلى بعض المصنّفات التي هي في حكم الصحيح على رأي بعضهم كالمنتقى ـ لابن الجاورد ـ والذي عدّه ابن حزم بعد البخاري ومسلم وصحيح ابن السكن، وتهذيب الآثار ـ لابن جرير ـ وشرح معاني الآثار ـ للطحاوي ـ، ومنتخب عبد بن حميد، ومستخرج (مسند) أبي عوانة، وسنن الدارقطني، وغيرها من المصنّفات المعتبرة، كمسند الحميدي، ومصنّفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وسنن سعيد بن منصور، ومسند الطيالسي، ومسند علي بن الجعد، ومسند الروياني، ومسند الشاشي، وسنن البيهقي، وتاريخ ابن عساكر.

وكذا الحال بالنسبة لمصادر الفقه، والأصلين، والتفسير، والتاريخ، وباقي الموضوعات، حتّى تكون أبلغ في الحجّة.


الصفحة 28
الكتاب، لم يتهيّأ لنا نشره على نفس الموقع لأسباب فنّية، فنشرناه في إحدى المجلاّت الفصلية، ثمّ اقترح علينا بعض الفضلاء، ببسط مادّة البحث في بعض المطالب، حتّى يكون أكثر نفعاً وفائدة، فاستحسنّا الفكرة، ووسّعنا بعض المطالب، وبالتحديد ما يرتبط بالتقيّة، وتعديل الصحابة، إضافة إلى بعض المواضيع النافعة التي اقتضاها سير البحث وقد ذكرناها استطراداً لارتباطها بالمقام، وعدم إخلالها بأصل المطلب تحشيةً ومتناً.

وكانت المقالة معنونة بعنوان (عرض عقائد الرافضة مع الإسلام ـ عقيدة أنّ القرآن الموجود محرّف ومبدّل فيه، أنّ الشيعة لا يؤمنون بالقرآن الموجود بين أيدي المسلمين لوجوه ثلاثة...) .

والمقالة وإن كانت بعنوان التحريف إلاّ أنّها تشتمل على وجوه ثلاثة، ثالثها: التحريف، وثانيها: يتعلق بعدالة الصحابة والرواية عنهم، وأوّل هذه الوجوه يتضمّن موضوع التقيّة.

وعليه سيكون ردّنا في ثلاثة مباحث وفقاً لهذه الوجوه.

وسوف نردّ عليها بعد إيراد كلّ وجه ونبيّن بالتالي من هو الذي يقول بالتحريف ـ نعوذ بالله تعالى ـ ومن هو أولى بهذه الوصمة، الشيعة أم السُنّة؟ والله المعين.


الصفحة 29

المبحث الأوّل
التقيّة

قال صاحب المقالة:

الوجه الأوّل:

" حسب عقيدة الشيعة، الصحابة كلّهم كذّابون، وكانوا يعتقدون أنّ الكذب عبادة، وكذا أئمّة أهل البيت كاذبون وأصحاب تقيّة، وكانوا يعتقدون أنّ الكذب عبادة، فإذا صار سائر الصحابة وأئمّة أهل البيت كاذبين فمن الذي يبلّغهم هذا القرآن المجيد من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على حقيقته ".

الجواب:

عقيدة الشيعة في أئمّتهم.

هذه أساطير الأوّلين، وتخرصات المبطلين! وإلاّ كيف يعتقد الشيعة بأنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) كاذبون وهم يقولون بوجوب عصمتهم كالأنبياء من الكذب والخطأ والدنس والقبائح والفواحش وجميع الصغائر والكبائر من الصغر إلى الموت، عمداً كان ذلك أم سهواً، لأنّهم حفظة الشرع والقوّامون به، حالهم في ذلك حال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولأنّ الحاجة إلى الإمام إنّما هي لدفع الظلم والانتصاف للمظلوم من الظالم، ورفع الفساد، وحسم مادّة الفتن، وإنّ الإمام لطف يمنع القاهر من التعدّي ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحرّمات، ويقيم حدود الله وفرائضه، ويؤاخذ الفسّاق، ويعزّر من يستحقّ التعزير، فلو جازت عليه المعصية وصدرت عنه، انتفت هذه الفوائد واحتاج إلى إمام آخر ولزم التسلسل.


الصفحة 30
وبما أنّ طاعة الإمام واجبة عقلا وشرعاً عندنا، وشرعاً عند غيرنا لقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم) (1) ، وغيرها من أدلّة الكتاب والسُنّة، فإنّ هذا يستلزم ـ القول بعدم عصمة الإمام ـ اجتماع الضدّين وهو محال، لأنّ غير المعصوم قد يأمر بمعصية وتحرم طاعته فيها، لأنّها معصية منهيٌّ عنها من قبل الله ورسوله، كما ويجب طاعته فيها لأنّه وليّ الأمر الذي تجب طاعته، فلو وجبت أيضاً اجتمع الضدّان.

كما ويستلزم ذلك بأنّ الله تعالى هو الذي يأمر بالخطأ والذنب والمعصية بناءً على أمره بإطاعة وليّ الأمر والذي لا يؤمن معه عدم المعصية لعدم عصمته.

نعوذ بالله من هذا الرأي الفاسد، وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

نعم، هذه عقيدة الشيعة في أئمّتهم، وهذه مطوّلاتهم ومختصراتهم تشهد بذلك، وهم يتميّزون بذلك عن سائر الفرق الإسلامية(2) ، خلافاً لغيرهم ممّن قال بجواز إمامة الفسّاق والعصاة، وجوّزوا عليهم الصغائر والكبائر وجميع القبائح والشرور(3) ، بل نسبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه

____________

(1) سورة النساء 4: 59.

(2) تصحيح الاعتقاد ـ للشيخ المفيد ـ: 129، الذخيرة: ص 429، شـرح جمل العلم والعمل ـ للشريف المرتضى ـ ص 192، تقريب المعارف ـ لأبي الصلاح الحلبي ـ ص 172، الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد ـ للشيخ الطوسي ـ ص 305، المنقذ من التقليد ـ للشيخ سديد الدين الحمصي ـ ج 2 ص 278، تجريد الاعتقـاد ـ للخواجه نصير الدين ـ ص 221، كشف المراد ص 390، ونهج الحقّ ـ للعلاّمة الحلّي ـ ص 164.

(3) راجع: أُصول السنّة ـ لأحمد بن حنبل ـ ص 80، الأحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ ص 24، الإرشاد ـ لأبي المعالي الجويني ـ ص 358، شرح المقاصد ـ للتفتازاني ـ ج 5 ص 257، شرح العقائد النسفية ص 239 ـ 241.


الصفحة 31
قال: " يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ من مالك "(1) .

أليس مؤدّى هذا الحديث هو اجتماع الأمر بالمعصية والنهي عنها؟!

فهل يعقل بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر بإطاعة إمام لا يهتدي بهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يستنّ بسنّته وقلبه قلب شيطان في جثمان إنسان؟! وهل الذي أوصل الأُمّة إلى هذه الحال من الانحطاط والانحدار إلاّ هذا الرأي الفاسد؟!

الكذب عند الشيعة من الكبائر.

وأمّا قوله: كانوا يعتقدون أنّ الكذب عبادة، فهذا افتراء عليهم، فإنّ الكذب عندهم من الكبائر، بل يتميّزون عن سائر الفرق الإسلامية بأنّ الكذب المتعمد على الله ورسوله والأئمة عندهم من المفطرات في الصوم(2) .

قول جميع المذاهب بالتقيّة.

وأمّا قوله: بأنّهم أصحاب تقيّة.

فنقول: نعم، نحن أصحاب تقيّة، ونتمسّك بها ونؤمن بمشروعيّتها وفقاً لما نصّ عليه الكتاب وجاءت به السنّة، كقوله تعالى (إلاّ أن تتّقوا

____________

(1) انظر: صحيح مسلم ج 6 ص 20 كتاب الإمارة، سنن البيهقي ج 8 ص 157، الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ ج 1 ص 283 ح 398.

(2) وسائل الشيعة ج 10 ص 33 كتاب الصوم، باب وجوب إمساك الصائم عن الكذب.


الصفحة 32
منهم تقاة) (1) ، وقوله تعالى (إلاّ من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان) (2) ، وقد نزلت هذه الآية في شأن عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) كما ذكره المفسرون(3) ، وفي السُنّة أمثلة وشواهد كثيرة، كحادثة الأسيرين اللذين وقعا في أسر مسيلمة الكذّاب، فأحدهما قتل عندما لم يمتثل لما طُلِبَ منه، والآخر سلم، والحادثة مستفيضة(4) .

وأخرج البخاري عن الحسن البصري قوله: التقيّة إلى يوم القيامة(5) ، وغيرها كثير، وليس بدعاً منّا هذا القول، فقد شاركنا فيه بقيّة المذاهب، وإليك نصوص بعض من أعلامهم:

1 ـ الأحناف وقولهم بالتقيّة:

روى الخطيب بإسناده عن سفيان بن وكيع، قال: جاء عمر بن حمّاد ابن أبي حنيفة، فجلس إلينا، فقال: سمعت أبي حمّاداً يقول: بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن، فقال: مخلوق، فقال: تتوب وإلاّ أقدمت عليك! قال: فتابعه، فقال: القرآن كلام الله، قال: فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب من قوله القرآن مخلوق، فقال أبي: فقلت لأبي حنيفة: كيف صرت إلى هذا وتابعته؟ قال: يا بُني خفت أن يقدم عليّ فأعطيته التقيّة(6) .

____________

(1) سورة آل عمران 3: 28.

(2) سورة النحل 16: 106.

(3) تفسير الطبري ج 7 ص 651، تفسير الثعلبي ج 6 ص 45، تفسير ابن كثير ج 2 ص 568.

(4) انظر: تفسير الحسن البصري ج 2 ص 76، مصنّف ابن أبي شيبة ج 7 ص 642 كتاب الجهاد ـ باب 85، تفسير القرطبي ج 10 ص 124، الدرّ المنثور ج 5 ص 172.

(5) صحيح البخاري ج 9 ص 35 كتاب الإكراه.

(6) تاريخ بغداد ج 13 ص 387.


الصفحة 33
ـ ما ذكره السرخسي في المبسوط: " وفيه تبيين أنّه لا بأس باستعمال التقيّة وأنّه يرخّص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه، ومقصوده من إيراد الحديث أن يبيّن أنّ التعذيب بالسوط يتحقّق فيه الإكراه كما يتحقّق في القتل، لأنّه قال: لو علمت أنّه يقتلني لغرقتها ولكن أخاف أن يعذّبني فيفتنّي، فتبيّن بهذا أنّ فتنة السوط أشدّ من فتنة السيف، وعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: لا جناح عليّ في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها، وإنّما أراد بيان جواز التقيّة في إجراء كلمة الكفر "(1) .

ـ وقال الإمام أبو بكر الجصّاص: ومن امتنع من المباح حتّى مات كان قاتلا نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم، ولا يختلف في ذلك عندهم حكم العاصي والمطيع(2) .

وقال في معرض كلامه عن قوله تعالى: (إلاّ ما اضطررتم إليه) (3) : ومعنى الضرورة هنا هو خوف الضرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل، وقد انطوى تحته معنيان:

أحدهما: أن يحصل في موضع لا يجد غير الميتة.

والثاني: أن يكون غيرها موجوداً ولكنّه أُكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه، وكلا المعنيين مراد بالآية عندنا لاحتمالهما ; وقد روي عن مجاهد أنّه تأوّلها على ضرورة الإكراه، لأنّه إذا كان المعنى في ضرورة الميتة ما يخاف على نفسه من الضرر في ترك تناوله

____________

(1) المبسوط ج 24 ص 47 وتوجد موارد كثيرة في هذا الجزء تنصّ على جواز التقيّة، بل وجوبها في بعض الموارد.

(2) أحكام القرآن ج 1 ص 179.

(3) سورة الأنعام 6: 119.


الصفحة 34
وذلك موجود في ضرورة الإكراه، وجب أن يكون حُكمُهُ حُكْمَهْ ; ولذلك قال أصحابنا في من أُكره على أكل الميتة فلم يأكلها حتّى قتل كان عاصياً لله، كمن اضطرّ إلى ميتة بأن عدم غيرها من المأكولات فلم يأكل حتّى مات كان عاصياً(1) .

ـ وقال الميرغياني في " الهداية ": (وإذا خاف على ذلك ـ إن أُكره على الكفر أو سبّ رسول الله ـ وسعه أن يظهر ما أمروه به ويورّي، فإن أظهر ذلك وقلبه مطمئنّ بالإيمان فلا إثم عليه) لحديث عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) حين ابتُليَ به وقد قال له النبيّ عليه الصلاة والسلام: " كيف وجدت قلبك؟ قال: مطمئنّاً بالإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: فإن عادوا فعد "، وفيه نزل قوله تعالى: (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان) الآية، ولأنّ بهذا الإظهار لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق وفي الامتناع فوت النفس حقيقة فيسعه الميل إليه(2) .

2 ـ المالكية وقولهم بالتقيّة:

ما ذكره مالك بن أنس في " المدوّنة الكبرى ": أخبرني ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن عبيد بن عمير ومجاهد وطاووس وغيرهم من أهل العلم، أنّهم كانوا لا يرون طلاق المكره شيئاً، وقال ذلك عبد الرحمن بن القاسم ويزيد بن القسيط، وقال عطاء قال الله تبارك وتعالى: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) ، وقال ابن عبيد الليثي: إنّهم قوم فتّانون (ابن وهب) عن حيوة عن محمّد بن العجلان أنّ عبد الله بن مسعود قال: ما من

____________

(1) أحكام القرآن ج 1 ص 181.

(2) نصب الراية ـ للزيلعي ـ ج 5 ص 364 هامش الهداية.


الصفحة 35
كلام يدرأ عنّي سوطين من سلطان إلاّ كنت متكلّماً به(1) .

ـ وقال أبو بكر ابن العربي عند كلامه على الآية 106 من سورة النحل (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان) : فذكر استثناء من تكلّم بالكفر بلسانه عن إكراه، ولم يعقد على ذلك قلبه، فإنّه خارج عن هذا الحكم، معذور في الدنيا، مغفورٌ في الأُخرى.

ثمّ قال: والمُكرَه: هو الذي لم يُخَلّ وتصريف إرادته في متعلّقاتها المحتملة لها، فهو مختار، بمعنى أنّه بقيَ له في مجال إرادته ما يتعلّق به على البدل، وهو مكره بمعنى أنّه حذف له من متعلّقات الإرادة ما كان تصرّفها يجري عليه قبل الإكراه، وسبب حذفها قول أو فعل ; فالقول هو التهديد، والفعل هو أخذ المال، أو الضرب، أو السجن...

ثمّ قال: وقد اختلف الناس في التهديد، هل هو إكراه أم لا؟ والصحيح أنّه إكراه ; فإنّ القادر الظالم إذا قال لرجل: إن لم تفعل كذا وإلاّ قتلتك، أو ضربتك، أو أخذت مالك، أو سجنتك، ولم يكن له من يحميه إلاّ الله، فله أن يقدم على الفعل، ويسقط عنه الإثم في الجملة، إلاّ في القتل، فلا خلاف بين الأُمّة أنّه إذا أُكره عليه بالقتل أنّه لا يحلّ له أن يفدي نفسه بقتل غيره، ويلزمه أن يصبر على البلاء الذي ينزل به.

ثمّ قال: واختلف في الزنا، والصحيح أنّه يجوز له الإقدام عليه، ولا حدّ عليه خلافاً لابن الماجشون، فإنّه ألزمه الحدّ ; لأنّه رأى أنّها شهوة خلقية لا يتصوّر عليها إكراه، ولكنّه غفل عن السبب في باعث الشهوة، وأنّه باطل، وإنّما وجب الحدّ على شهوة بعث عليها سبب اختياري، فقاس

____________

(1) المدوّنة الكبرى ج 2 ص 129 ـ 130.


الصفحة 36
الشيء على ضدّه، فلم يَحْل بصواب من عنده.

ثم قال: وأمّا الكفر بالله فذلك جائز له بغير خلاف على شرط أن يلفظ بلسانه وقلبه منشرح بالإيمان، فإن ساعد قلبه في الكفر لسانه كان آثماً كافراً ; لأنّ الإكراه لا سلطان له في الباطن وإنّما سلطته على الظاهر، بل قد قال المحقّقون من علمائنا: إنّه إذا تلفظ بالكفر أنّه لا يجوز له أن يجري على لسانه إلاّ جريان المعاريض...

ثمّ قال: ولمّا كان هذا أمراً متّفقاً عليه عند الأئمّة، مشهوراً عند العلماء ألّف في ذلك شيخ اللغة ورئيسها أبو بكر بن دريد كتاب " الملاحن " للمكرهين، فجاء ببدع للعالمين، ثم ركّب عليه المفجع الكابت، فجمع في ذلك مجموعاً وافراً حسناً، استولى فيه على الأمد وقرطس الغرض.

ثمّ قال: إنّ الكفر وإنْ كان بالإكراه جائزاً عند العلماء فإنّ من صبر على البلاء ولم يفتتن حتّى قتل فإنّه شهيد ولا خلاف في ذلك، وعليه تدلّ آثار الشريعة التىّ يطول سردها، وإنّما وقع الإذن رخصة من الله رفقاً بالخلق، وإبقاءً عليهم، ولما في هذه الشريعة من السماحة، ونفي الحرج، ووضع الإصْر.

ثمّ قال: لمّا سمح الله تعالى في الكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخِذْ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به، ولا يترتّب حكم عليه، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء (رفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (1) .

____________

(1) أحكام القرآن ج 3 ص 160 ـ 163.


الصفحة 37
وقال القرطبي في تفسيره ـ بعد أن ذكر حديث تعذيب عمّار بن ياسر وقوله: كلّنا تكلّم بالذي قالوا، لولا أنّ الله تداركنا، غير بلال فإنّه هانت عليه نفسه في الله فهان على قومه حتّى ملّوه وتركوه ـ: أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل، أنّه لا أثم عليه إن كفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر ; هذا قول مالك والكوفيّين والشافعي.

وقال: إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حدّ عليها ; لقوله (إلاّ من أُكره) وقوله (عليه السلام) : " إنّ الله تجاوز عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "، ولقول الله تعالى: (فإنّ الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم) (1) يريد الفتيات، وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدّها، والعلماء متّفقون على أنّه لا حدّ على امرأة مستكرهة.

ثمّ، قال: أجمع العلماء على من أُكره على الكفر فاختار القتل أنّه أعظم أمراً عند الله ممّن اختار الرخصة، واختلفوا في من أُكره على غير القتل من فعل ما لا يحلّ له ; فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدّة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب وسحنون، وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنّه إذا تهدّد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أُكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير ; فإن لم يفعل حتّى قتل خفنا أن يكون آثماً كالمضطرّ...

ثمّ قال: وذكر أبو بكر محمّد بن محمّد بن الفرج البغدادي، قال: حدثنا شريح بن يونس، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس بن عبيد،

____________

(1) سورة النور 24: 33.


الصفحة 38
عن الحسن، أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما: أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أنّي رسول الله؟ قال: نعم، فخلّى عنه، وقال للآخر: أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: وتشهد أنّي رسول الله؟ قال: أنا أصمّ لا أسمع ; فقدّمه وضرب عنقه، فجاء هذا إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: هلكت، قال: وما أهلكك؟ فذكر الحديث، قال: أمّا صاحبك فأخذ بالثقة وأمّا أنت فأخذت بالرخصة على ما أنت عليه الساعة، قال: أشهد أنّك رسول الله، قال: أنت على ما أنت عليه.

ثمّ قال: الرخصة في من حلّفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدلّه على رجل أو مال رجل ; فقال الحسن: إذا خاف عليه وعلى ماله، فليحلف ولا يكفّر يمينه ; وهو قول قتادة، إذا حلف على نفسه أو مال نفسه، وقد تقدّم ما للعلماء في هذا، وذكر موسى بن معاوية أنّ أبا سعيد ابن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنّه ما آواه، ولا يعلم له موضعاً ; قال: فحلف ابن أشرس ; وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه، فحلّفه بالطلاق ثلاثاً، فحلف له ابن أشرس، ثمّ قال لامرأته: اعتزلي، فاعتزلته ; ثمّ ركب ابن أشرس حتّى قدم على البهلول بن راشد القيرواني، فأخبره الخبر ; فقال له البهلول: قال مالك: إنّك حانث، فقال ابن أشرس: وأنا سمعت مالكاً يقول ذلك، وإنّما أردت الرخصة، أو كلام هذا معناه ; فقال له البهلول ابن راشد: قال الحسن البصري: إنّه لا حنث عليك، قال: فرجع ابن أشرس إلى زوجته وأخذ بقول الحسن.

وذكر عبد الملك بن حبيب قال: حدثني معبد، عن المسيب بن

الصفحة 39
شريك، عن أبي شيبة، قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه؟ فقال: نعم، ولأن أحلف سبعين يميناً وأحنث أحبّ إليّ أن أدلّ على مسلم.

وقال إدريس بن يحيى: كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسّسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء ابن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه، فقال: يا رجاء! أُذْكَر بالسوء في مجلسك ولم تغيّر؟!

فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.

فقال له الوليد: قل الله الذي لا إله إلاّ هو.

قال: الله الذي لا إله إلاّ هو.

فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً.

فكان يلقى رجاء، فيقول: يا رجاء! بك يستقى المطر، وسبعون سوطاً في ظهري!

فيقول رجاء: سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم.

ثمّ قال: واختلف العلماء في حدّ الإكراه، فروي عن عمر بن الخطّاب (رض) أنّه قال: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته، وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عنّي سوطين من [سلطان] إلاّ كنت متكلماً به، وقال الحسن: التقيّة جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلاّ أنّ الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقيّة(1) .

____________

(1) الجامع لأحكام القرآن ج 10 ص 119 ـ 125

الصفحة 40
وهو عين ما نقول به، فإذا وصلت إلى الدماء، فلا تقيّة، كما ورد عن أئمّتنا (عليهم السلام) (1) .

3 ـ الشافعية وقولهم بالتقيّة:

قال الشافعي: قال الله عزّ وجلّ: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) ، فلو أنّ رجلا أسره العدو، فأُكره على الكفر، لم تبن منه امرأته ولم يحكم عليه بشيء من حكم المرتدّ، وقد أُكره بعض من أسلم في عهد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) على الكفر، فقاله، ثمّ جاء إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فذكر له ما عذّب به فنزلت هذه الآية، ولم يأمره النبيّ (صلى الله عليه وسلم) باجتناب زوجته، ولا بشيء ممّا على المرتدّ(2) .

وقال الفخر الرازي الشافعي في تفسيره: ظاهر الآية يدلّ على أنّ التقيّة إنّما تحلّ مع الكفّار الغالين، إلاّ أنّ مذهب الشافعي (رض) أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت بين المسلمين والمشركين حلّت التقيّة محاماة على النفس، وقال: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله (صلى الله عليه وسلم) : حرمة مال المسلم كحرمة دمه، ولقوله (صلى الله عليه وسلم) : من قتل دون ماله فهو شهيد، ولأنّ الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمّم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز ههنا؟ والله أعلم(3) .

ـ وقال ابن حجر العسقلاني الشافعي: قوله، وقول الله تعالى (إلاّ

____________

(1) الوسائل ج 16 ص 234 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ باب عدم جواز التقيّة في الدم.

(2) أحكام القرآن للإمام الشافعي ـ جمع الإمام البيهقي ص 316.

(3) تفسير الرازي ج 8 ص 15.


الصفحة 41
من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) وساق إلى (عظيم) هو وعيد شديد لمن ارتدّ مختاراً، وأمّا من أُكره على ذلك فهو معذور بالآية، لأنّ الاستثناء من الإثبات نفي فيقتضي أن لا يدخل الذي أُكره على الكفر تحت الوعيد، والمشهور أنّ الآية المذكورة نزلت في عمّار بن ياسر كما جاء من طريق عبيدة بن محمّد بن عمّار بن ياسر...

وعن مجاهد، عن ابن عبّاس، قال: عذّب المشركون عمّاراً حتّى قال لهم كلاماً تقيّة فاشتدّ عليه... الحديث.

وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان) ، قال: أخبر الله أنّ من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله، وأمّا من أُكره بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، إنّ الله إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.

قلت: وعلى هذا فالاستثناء مقدّم من قوله: فعليهم غضب، كأنّه قيل: فعليهم غضب من الله إلاّ من أُكره، لأنّ الكفر يكون بالقول والفعل من غير اعتقاد وقد يكون باعتقاد فاستثنى الأوّل وهو المكره. قوله: (وقال: (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) وهي تقيّة) أخذه من كلام أبي عبيدة قال: تقاة وتقيّة واحد، ومعنى الآية: لا يتّخذ المؤمن الكافر وليّاً في الباطن ولا في الظاهر إلاّ للتقيّة في الظاهر، فيجوز أن يواليه إذا خافه ويعاديه باطناً...

قوله: (وقال الحسن) أي البصري (التقيّة إلى يوم القيامة) وصله عبد ابن حميد وابن أبي شيبة من رواية عوف الأعرابي (عن الحسن البصري قال: التقيّة جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلاّ أنّه لا يجعل في القتل تقية) ولفظ عبد بن حميد (إلاّ في قتل النفس التي حرّم الله) يعني: لا يعذر من

الصفحة 42
أُكره على قتل غيره لكونه يؤثر نفسه على نفس غيره.

قلت: ومعنى التقيّة: الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير، وأصله وقية بوزن حمزة فعلة من الوقاية.

وأخرج البيهقي من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبّاس، قال: (التقيّة باللسان والقلب مطمئنٌّ بالإيمان ولا يبسط يده للقتل) .

قوله: (وقال ابن عبّاس في من يكرهه اللصوص فيطلّق ليس بشيء، وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن) .

أمّا قول ابن عبّاس فوصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة أنّه سئل عن رجل أكرهه اللصوص حتّى طلّق امرأته، فقال: قال ابن عبّاس: ليس بشيء، أي لا يقع عليه الطلاق.

وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن عكرمة، عن ابن عبّاس، أنّه كان لا يرى طلاق المكره شيئاً.

وأمّا قول ابن عمرو وابن الزبير، فأخرجهما الحميدي في جامعه، والبيهقي من طريقه قال: (حدّثنا سفيان، سمعت عَمراً يعني ابن دينار، حدّثني ثابت الأعرج، قال: تزوّجت أُمّ ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب، فدعاني ابنه ودعا غلامين له فربطوني وضربوني بالسياط وقال: لتطلّقها أو لأفعلنّ وأفعلنّ، فطلّقتها، ثمّ سألت ابن عمر وابن الزبير فلم يرياه شيئاً) .

وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن ثابت الأعرج نحوه.

وأمّا قول الشعبي فوصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه، قال: إنْ أكرهه اللصوص، فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان وقع، ونقل عن ابن عيينة توجيهه وهو أنّ اللصّ يقدم على قتله والسلطان لا يقتله، وأمّا قول

الصفحة 43
الحسن، فقال سعيد بن منصور (حدّثنا أبو عوانة عن قتادة عن الحسن أنّه كان لا يرى طلاق المكره شيئاً) وهذا سند صحيح إلى الحسن.

قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر: أجمعوا على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان أنّه لا يحكم عليه بالكفر ولا تبين منه زوجته، إلاّ محمّد بن الحسن، فقال: إذا أظهر الكفر صار مرتدّاً وبانت منه امرأته ولو كان في الباطن مسلماً، قال: وهذا قول تغني حكايته عن الردّ عليه لمخالفته النصوص، وقال قوم: محلّ الرخصة في القول دون الفعل كأن يسجد للصنم أو يقتل مسلماً أو يأكل الخنزير أو يزني، وهو قول الأوزاعي وسحنون، وقالت طائفة: الإكراه في القول والفعل سواء، واختلف في حدّ الإكراه، فأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عمر قال: (ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أُوثق أو عذّب) ، ومن طريق شريح نحوه وزيادة، ولفظه (أربع كلهن كره: السجن والضرب والوعيد والقيد) .

وعن ابن مسعود قال: " ما كلام يدرأ عنّي سوطين إلاّ كنت متكلماً به) ، وهو قول الجمهور، وعند الكوفيّين فيه تفصيل، واختلفوا في طلاق المكره فذهب الجمهور إلى أنّه لا يقع، ونقل فيه ابن بطال إجماع الصحابة.

قوله: (وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : الأعمال بالنيّات) ... قال: وكأنّ البخاري أشار بإيراده هنا إلى الردّ على من فرّق في الإكراه بين القول والفعل لأنّ العمل فعل، وإذا كان لا يعتبر إلاّ بالنيّة كما دلّ عليه الحديث فالمكره لا نيّة له، بل نيّته عدم الفعل الذي أُكره عليه(1) .

____________

(1) فتح الباري ج 12 ص 386 ـ 389.


الصفحة 44

4 ـ الحنابلة وقولهم بالتقيّة:

أمّا الحنابلة فقد كانوا أشدّ الناس فزعاً إلى التقيّة عندما لم يجدوا مندوحة عنها لمّا دال الدهر عليهم يوماً من الأيّام، وكوتهم نار الاضطهاد، وذلك في أيّام المحنة بخلق القرآن(1) عندما حمل المأمون والواثق

____________

(1) من المسائل الكلامية التي شغلت بال المسلمين في القرن الثاني الهجري وما تلاه من القرون وبلغت الذروة زمن المأمون وحتّى زمن المتوكّل هي مسألة قدم كلام الله وحدوثه والتي عرفت بـ (محنة خلق القرآن) ، وإن شئت فسمّها مهزلة المحنة، والتي بسببها أريقت الدماء وأُزهقت النفوس، والحقّ أنّ كل عاقل يرى أنّ الخوض فيها مضيعة للوقت، بل من التفاهات، وقد أمر أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أصحابهم بعدم الخوض فيها، وعلى العموم فالأقوال فيها ثلاثة:

1 ـ جعل التكلّم من صفات الذات والقول بقدمه، وتبنّى هذا القول أهل الحديث، والحشوية، والحنابلة وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، قال في كتاب السنّة ص 49: (والقرآن كلام الله ليس بمخلوق فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّ وجلّ ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم، وكلّم الله موسى تكليماً، من الله سمع موسى يقيناً، وناوله التوراة من يده) ، بل قال بعضهم: الجلد والغلاف قديمان، كما في المواقف ص 293، شرح التجريد ص 416.

2 ـ جعل التكلّم من صفات الفعل والقول بخلقه، وتبنّى هذا القول المعتزلة والإمامية، وأبو حنيفة الذي استتيب من القول به تقيّة.

3 ـ ثمّ برز رأي ثالث أتى به إمام الأشاعرة أبو الحسن الأشعري والذي كما يبدو أنّه ورث الذكاء والنباهة من جدّه التاسع بطل التحكيم يوم صفّين، فقد قسّم الكلام إلى قسمين: الكلام النفسي، وجعله من صفات الذات، وقال بقدمه، والحروف والأصوات المسموعة وجلعها من صفات الفعل، وهي دالّة عليه.

ونقول: لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم، والمعقول من الكلام عبارة عن الحروف والأصوات المسموعة، ولا تلتئم كلاماً مفهوماً إلاّ بأحد الوجوه التي يحصل بها

=>


الصفحة 45

____________

<=

الإفهام، وذلك بأن يكون خبراً أو أمراً أو نهياً أو استفهاماً أوتنبيهاً، وهو الشامل للتمنّي، والترجّي، والتعجّب، والقسم، والنداء، ولا وجود له إلاّ في هذه الجزئيات، غير إنّ الذين أثبتوا قدم الكلام وجعلوه مغايراً لهذه المعاني أثبتوا شيئاً لا يعقل ولا يتصوّر مطلقاً.

وخلاصة القول: إنّ الكلام إمّا أن يكون إخباراً وليس وراءه شيء سوى التصوّرات والتصديقات، فيدخل في صفة العلم، وإمّا أن يكون إنشاءً وليس وراء الجملة الإنشائية المتضمّنة للأمر والنهي سوى الإرادة والكراهة، فلا وجود للكلام النفسي، لأنّه ليس بمتصوّر ولا يعقل، حتّى الأشاعرة أنفسهم لم يعقلوه.

والصحيح أنّ كلامه تعالى محدث ليس بقديم عقلا وسمعاً، فمن جهة العقل: إنّ الكلام مركّب من حروف وأصوات، ومن المحال اجتماع حروف كلمة واحدة، بل حرفين في السماع في آن واحد ودفعةً واحدة، فلابدّ أن يكون أحدهما سابق الآخر، والمسبوق حادث بالضرورة، والسابق متناه، فهو حادث بالضرورة.

وأمّا من جهة السمع: فقد قال تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث) سورة الأنبياء الآية 2.

وأجمع المفسّرون على أنّ الذكر هو القرآن، وقوله تعالى: (إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) سورة النحل الآية 40، وهذا إخبار عن المستقبل فيكون حادثاً.

ولا يخفى ماذا يعني الالتزام بهذه المقالة الفاسدة من استلزام نسبة السفه والجهل إليه تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فكيف يخاطب في الأزل بمثل قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) و (يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم) و (أوفوا بالعقود) ولا مخاطب هناك، ولا ناس عنده؟! كما ويستلزم نسبة الكذب إليه جلّ وعلا عن ذلك بمثل قوله تعالى: (إنّا أرسلنا نوحاً) ولا نوح هناك، وقوله تعالى: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ) ولا ابن أُبَي بن سلول عنده، وقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) ولا خولة الأنصارية عنده، وقوله تعالى: (إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات) ولا مناد ولا حجرات هناك، بل يستلزم أن يكون كلّ ما ذكر في القرآن من سماوات وأرضين ونجوم وكواكب وإنسان وحيوان وجانّ وشجر وثمر وماء وهواء أن يكون قديماً أزلياً.

نعوذ بالله من هذا الرأي الفاسد.

ولا بُدّ من التنبيه ها هنا على أنّ أصل شيوع هذه الفكرة في الأوساط الإسلامية كان على يد يوحنّا الدمشقي وأصحابه من النصارى الذين كانوا من حاشية البلاط الأُموي، لأنّه أراد بثّ فكرة قدم كلام الله حتّى يحصل القول ضمناً بقدم المسيح عيسى بن مريم، لأنّ القرآن ذكر بأنّه كلمة الله ألقاها إلى مريم، وبذلك تثبت دعوى النصارى بقدم المسيح.


الصفحة 46
والمعتصم المسلمين على القول بها، ومن لم يقل بخلق القرآن سوف يتعرّض للضرب والتعذيب والسجن والقتل، فكلّهم أجاب إلى ذلك ومن امتنع قتل، كأحمد بن نصر الخزاعي(1) ، وممّن أجاب إلى القول بخلق القرآن والتجأ إلى التقيّة أحمد بن حنبل ـ وإن نفى بعضهم ذلك، ولكن الصحيح أنّه أجاب كما سيأتي ـ ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومحمّد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم المستملي، ويزيد بن هارون، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد ابن الدورقي، والقواريري، وعلي بن الجعد، والنضر بن شميّل، وغيرهم من أئمّة الحديث(2) .

ـ قال ابن واضح: وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علماً، ولم أعلم فيه بهذا، فأحضر له الفقهاء، وناظره عبد الرحمن بن إسحاق وغيره، فامتنع أن يقول إنّ القرآن مخلوق، فضرب عدّة سياط، فقال إسحاق بن إبراهيم: ولّني يا أمير المؤمنين مناظرته، فقال: شأنك به! فقال إسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك، أو علمته من الرجال؟

قال: بل علمته من الرجال.

____________

(1) انظر: تاريخ الطبري ج 5 ص 283.

(2) تاريخ الطبري ج 5 ص 188، تاريخ ابن الأثير ج 6 ص 3، تاريخ ابن كثير ج 10 ص 228.