الصفحة 48
الأدواة تحتها في أصل السمرة يريد بقاءها(1).

فلو كان عمل ابن عمر غير جائز، لأنكر عليه الصحابة ذلك ونهوه عنه.

وقال العلياني ـ في التبرّك الممنوع بالأمكنة والجمادات ـ:

... ولا يعكر على هذا ما رواه البخاري في صحيحه: أن عتبان ابن مالك ـ وهو من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ممن شهد بدراً من الأنصار ـ أنّه أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا اُصلّي لقومي، فإذا كانت الأمطار، سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فاُصلي بهم، وددت يا رسول الله أنّك تأتيني فتصلّي في بيتي، فأتّخذه مصلى. قال: فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): "سأفعل إن شاء الله". قال عتبان: فغدا رسول الله(صلى الله عليه وآله)وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله(صلى الله عليه وآله)فأذنت له، فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال: "أين تحب أن اُصلي من بيتك؟" قال: فأشرت له الى ناحية من البيت، فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) فكبّر، فقمنا فصففنا، فصلّى ركعتين ثم سلّم(2).

وذلك لأنّه ليس قصد عتبان أن يتبرّك بالموضع الذي صلّى فيه

____________

1- مغازي الواقدي: 2/1096، باب حجة الوداع.

2- صحيح البخاري: 1/ 115، 170، 175، صحيح مسلم: 1/445، 61، 62.


الصفحة 49
رسول الله(صلى الله عليه وآله). وإنّما قصده أن يقرّه الرسول(صلى الله عليه وآله) على الصلاة جماعة في داره عند عدم استطاعته حضور الجماعة عندما يسيل الوادي، فأراد أن يفتتح له رسول الله(صلى الله عليه وآله)مسجداً في منزله، ولأجل هذا بوّب البخاري في صحيحه بعنوان: باب المساجد في البيوت. وصلّى البراء بن عازب في مسجده في داره جماعة ـ وهذا من فقهه يرحمه الله ـ فالمقصود هو أن يسنّ له الرسول(صلى الله عليه وآله)الصلاة جماعة في منزله عند الحاجة. كما أن الصحابي الآخر البراء بن عازب فعل الجماعة في مسجده في داره ولم ينكر عليه، وهو في زمن التشريع. وقد يكون من مقصود عتبان اصابة عين القبلة، فإن الرسول(صلى الله عليه وآله)لا يقرّ على خطأ لو صلّى الى غير جهة القبلة(1).

أقول: لا شكّ أن رغبة الصحابي عتبان في تأدية الصلاة جماعة في بيته هو أحد الأسباب لذلك، ولكن ليس كلّها، فإن رغبته في التبرّك بموضع صلاة الرسول(صلى الله عليه وآله) واضحة. وقد فهم النبي(صلى الله عليه وآله)رغبة عتبان هذه، لذا ابتدره بالسؤال عن المكان الذي يحبّ أن يصلّي له فيه من بيته، ولو أن الأمر كما يقول العلياني، لصلّى النبي(صلى الله عليه وآله) في أي مكان من البيت يصلح لذلك.

ومن جهة ثانية، فإن ادّعاء العليان أن رغبة الصحابي عتبان في

____________

1- التبرّك المشروع: 68 ـ 69.


الصفحة 50
إصابة عين القبلة لا ينهض بحجّة، فإذا كان عتبان لا يبصر جيداً فقد كان في مقدور أهله أو غيره من الصحابة أن يدلّوه عليها، ولما احتاج الأمر لأن يصلي النبي(صلى الله عليه وآله) ركعتين في ذلك الموضع ـ ممّا يدل على أنها لم تكن فريضة ـ وكان يكفيه أن يشير الى مكان القبلة ليستدل بها الصحابي عليها!

ولا أظن أن العليان كان أقدر على الفهم من العلاّمة ابن حجر العسقلاني الذي قال في شرحه للحديث:

وإنّما استأذن النبي(صلى الله عليه وآله) لأنه دُعي للصلاة ليتبرّك صاحب البيت بمكان صلاته، فسأله ليصلّي في البقعة التي يجب تخصيصها بذلك(1)...

وقال أيضاً: في حديث عتبان وسؤاله النبي(صلى الله عليه وآله) أن يصلي في بيته ليتّخذه مصلّى وأجابه النبي(صلى الله عليه وآله)الى ذلك، فهو حجة في التبرّك بآثار الصالحين(2).

وإذا كان طلب عتبان من النبي(صلى الله عليه وآله) الصلاة في بيته للأسباب التي ادّعاها، فبماذا نفسّر طلب اُمّ سليم وغيرها من الصحابة من النبي(صلى الله عليه وآله) الصلاة في بيوتهم، فيما أخرج المحدثون، وكما يأتي:

____________

1- فتح الباري: 1/433.

2- المصدر السابق: 1/469.


الصفحة 51
1 ـ عن أنس بن مالك: أنّ اُمّ سليم سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن يأتيها فيصلّي في بيتها فتتّخذه مصلّى، فأتاها، فعمدت الى حصير فنضحته بماء فصلّى عليه وصلّوا معه(1).

2 ـ وعنه أيضاً قال: صنع بعض عمومتي طعاماً فقال للنبي(صلى الله عليه وآله): إنّي أحب أن تأكل في بيتي وتصلّي. قال: فأتاه وفي البيت فحل من هذه الفحول، فأمر بناحية منه فكنس ورش، فصلّى وصلّينا معه(2).

3 ـ وعنه أيضاً، قال: كان رجل ضخم لا يستطيع أن يصلّي مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال للنبي(صلى الله عليه وآله):

إنّي لا أستطيع أن اُصلّي معك، فلو أتيت منزلي فاقتدي بك. فصنع الرجل طعاماً ثم دعا النبي(صلى الله عليه وآله)، فنضح طرف حصير لهم فصلّى النبي (صلى الله عليه وآله) ركعتين(3).

فهل كان مقصود اُم سليم أنّ تؤم المسلمين في بيتها مثل عتبان عندما طلبت من النبي(صلى الله عليه وآله)أن يصلّي في بيتها، أم أنّها طلبته للتبرّك بالصلاة في الموضع الذي يصلي فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟

____________

1- سنن النسائي: 1/268، كتاب المساجد، باب 43 الصلاة على الحصير، ح 816.

2- سنن ابن ماجة: 1/249، كتاب المساجد، باب المساجد في الدور، ح 756، والفحل هو الحصير الذي قد اسود، مسند أحمد: 3/130 بسندين، مسند أنس بن مالك، ح 11920.

3- مسند الإمام أحمد: 3/586، ح 11920، ط مؤسسة التاريخ العربي.


الصفحة 52
وهل كان عمومة أنس والرجل الآخر ـ الذي لم يذكر اسمه ـ عمياناً أيضاً فجاء النبي(صلى الله عليه وآله)ليحدد لهم القبلة! وإذا لم يكن قصد الرجل التبرّك بموضع صلاة النبي(صلى الله عليه وآله)، أفلم يكن في استئذانه النبي بعدم الحضور الى المسجد ـ لتعذر ذلك عليه ـ كافياً دون الحاجة الى الطلب منه(صلى الله عليه وآله)أن يحضر ليصلي في بيته.


الصفحة 53

التبرّك بالصحابة والصالحين

تبيّن ممّا سبق أن لا خلاف بين طوائف المسلمين في جواز التبرّك بالنبي(صلى الله عليه وآله) في حياته، وبآثاره بعد موته. وأن ما احتجّ به الشاذّون في ذلك مردود، يكذبه فعل الصحابة أنفسهم. إلاّ أنّ الخلاف هل هو في جواز التبرّك بغير النبي(صلى الله عليه وآله) من الصحابة والتابعين والصالحين أم لا؟

لقد جوّز بعض علماء المسلمين ذلك، بينما منعه آخرون، ومن المانعين له: الشاطبي، حيث يقول: الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام، لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة الى من خلفه، إذ لم يترك النبي(صلى الله عليه وآله) بعده في الاُمّة أفضل من أبي بكر الصديق، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر، وهو كان أفضل الاُمّة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذي لا أحد أفضل منهم في الاُمّة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أنّ متبرّكاً تبرّك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتّبعوا فيها النبي(صلى الله عليه وآله)، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء(1).

____________

1- الاعتصام: 2/8.


الصفحة 54
وقال أيضاً: لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرّك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة(1)...

ومن المانعين أيضاً ابن رجب، إذ قال: وكذلك التبرّك بالآثار، فإنّما كان يفعله الصحابة مع النبي(صلى الله عليه وآله)، ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم.. ولا يفعله التابعون مع الصحابة مع علوّ قدرهم، فدلّ على أن هذا لا يفعل إلاّ مع النبي(صلى الله عليه وآله)، مثل التبرّك بوضوئه وفضلاته وشعره، وشرب فضل شرابه وطعامه(2).

فأدلّة المانعين تقوم على أساس أن الصحابة لم يتبرّكوا ببعضهم، ولا يتبرّك التابعون بهم، فدلّ تركهم ذلك على عدم جوازه.

إلاّ أنّ الادّعاء بعدم تبرّك الصحابة ببعضهم، وكذلك بآل الرسول(صلى الله عليه وآله) غير صحيح، فهناك شواهد صحيحة على حدوث ذلك، وقد استند بعض كبار علماء المسلمين الى ذلك في تجويز التبرّك ليس بالصحابة والتابعين فحسب، بل بكل أهل الخير والصلاح.

ومن المجوزين القائلين بذلك، الإمام النووي الذي استند الى بعض الروايات الصحيحة في استسقاء عمر بن الخطاب بالعباس واستسقاء بعض الصحابة ببعض من صالحيهم، قال:

ويستسقى بالخيار من أقرباء رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لأن عمر استسقى

____________

1- الاعتصام: 2/10.

2- الحكم الجديرة بالاذاعة: 55.


الصفحة 55
بالعباس وقال: اللهم إنّا كنّا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسل بعم نبيّنا فاسقنا فيسقون.

ويستسقى بأهل الصلاح لما رُوي أن معاوية استسقى بيزيد ابن الأسود فقال: اللهم إنّا نستسقي بخيرنا وأفضلنا، اللّهم إنّا نستسقي بيزيد بن الأسود. يا يزيد ارفع يديك الى الله تعالى، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فثارت سحابة من المغرب كأ نّها ترس، وهبّ لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم(1).

ولقد استدلّ ابن حجر العسقلاني بحادثة استسقاء عمر بالعباس على جواز التبرّك والاستشفاع ببعض الأخيار فقال:

ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوّة(2).

ومن أمثلة تبرّك الصحابة ببعضهم وتبرّك التابعين بهم:

1 ـ روى عبدالله بن مسعود أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالعباس فقال: اللّهم إنا نتقرب إليك بعم نبيّك وقفية آبائه وكبر رجاله، فإنّك قلت وقولك الحق: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في

____________

1- المجموع شرح المهذب للإمام النووي: 5/68 كتاب الصلاة، باب صلاة الاستسقاء، وقال ابن حجر: أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه بسند صحيح، ورواه أبو القاسم الكلالكائي في السنّة في كرامات الأولياء.

2- فتح الباري: 2/399.


الصفحة 56
المدينة... الآية)، فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ الله نبيّك بعمه فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين... الحديث(1).

وفي لفظ: وروينا من وجوه عن عمر أنّه خرج يستسقي وخرج معه العباس فقال: اللّهم إنّا نتقرب إليك بعم نبيّك(صلى الله عليه وآله)ونستشفع به فاحفظ فيه لنبيّك كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما وأتيناك مستغفرين ومستشفعين.

ثم أقبل على الناس فقال: استغفروا ربّكم انّه كان غفارا ـ الى أن قال ـ فنشأت طريرة من سحاب فقال الناس: ترون ترون! ثم تلاءمت واستتمت ومشت فيها ريح ثم هزت ودرّت، فوالله ما برحوا حتى اعقلوا الجدر وقلصوا المآزر وطفق الناس بالعباس يتمسحون أركانه ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين.

وفي لفظ ابن الأثير: ولما سقى الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين، وكان الصحابة يعرفون للعباس فضله ويقدمونه ويشاورونه(2).

2 ـ الحسن البصري، حنّكه عمر بيده، وكانت اُمّه تخدم اُمّ سلمة زوج النبي(صلى الله عليه وآله) فربّما غابت فتعطيه اُمّ سلمة ثديها تعلله بها الى أن

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7/274، شرح الخطبة 114، باب أخبار وأحاديث في الاستسقاء، اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية: 338.

2- اُسد الغابة: 3/167، ترجمة عباس بن عبدالمطلب، رقم 2797.


الصفحة 57
تجيء اُمّه، فيدر عليه ثديها فيشربه، فكانوا يقولون فصاحته ببركة ذلك(1).

3 ـ قال السمهودي ـ عند ذكره لاسطوانة المحرس:

كان علي بن أبي طالب يجلس في صفحتها التي تلقي القبر ممّا يلي باب رسول الله(صلى الله عليه وآله)وهو مقابل الخوخة التي كان النبي(صلى الله عليه وآله)يخرج منها إذا كان في بيت عائشة الى الروضة للصلاة، وهي الاسطوان الذي يصلّي عندها أمير المدينة، يجعلها خلف ظهره، ولذا قال الأقشهري: إنّ اسطوان مصلّى علي(عليه السلام) اليوم أشهر من أن تخفى على أهل الحرم، ويقصد الاُمراء الجلوس والصلاة عندها الى اليوم، وذكر أنّه يقال لها: مجلس القادة، لشرف من كان يجلس فيه(2).

ونقل عن مسلم بن أبي مريم وغيره، أنّه كان باب بيت فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في المربعة التي في القبر. قال سليمان: قال لي مسلم: لا تنس حظّك من الصلاة إليها فإنّها باب فاطمةرضي الله عنها الذي كان علي يدخل عليها منه(3).

وفي حديثه عن اسطوان التهجد قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)يخرج

____________

1- صفة الصفوة: 3/47.

2- وفاء الوفا: 2/448.

3- المصدر السابق: 2/450.


الصفحة 58
حصيراً كل ليلة إذا انكفت الناس فيطرح وراء بيت علي ثم يصلّي صلاة الليل...

وحدثني سعيد بن عبدالله بن فضيل قال: مرّ بي محمد بن الحنفية وأنا اُصلي إليها فقال لي: أراك تلزم هذه الاسطوانة، هل جاءك فيه أثر؟ قلت: لا، قال: فالزمها فإنّها كانت مصلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله)من الليل...

قال ابن النجار: فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي(صلى الله عليه وآله)يستحب الصلاة عندها لأنه لا يخلو أن كبار الصحابة صلّوا إليها(1).

4 ـ لما خطب عمر بن الخطاب اُم كلثوم بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)ـ على ما رُوي عن بعضهم ـ قال: إني اُحب أن يكون عندي عضو من أعضاء رسول الله(صلى الله عليه وآله)(2).

5 ـ لما خرج الحسين بن علي من المدينة يريد مكة، مرّ بابن مطيع وهو يحفر بئره، فقال له:

أين فداك أبي واُمي؟! قال: أردت مكة ـ وذكر أنه كتب إليه شيعته بالكوفة ـ، فقال له ابن مطيع: فداك أبي واُمي، متّعنا بنفسك ولا تسرِ إليهم. فأبى الحسين. فقال له ابن مطيع: إن بئري هذه قد رشحتها، وهذا اليوم أوان ما خرج إلينا في الدلو شيء من ماء، فلو

____________

1- وفاء الوفا: /452.

2- ذخائر العقبى: 169، الفصل الثامن في ذكر اُمّ كلثوم بنت فاطمة وعلي(عليهما السلام).


الصفحة 59
دعوت الله لنا بالبركة. قال: هات من مائها، فأتى من مائها فشرب منه ثم مضمض ثم ردّه في البئر فاعذب وأمهى(1).

6 ـ لما بلغ الرضا ـ علي بن موسى(عليه السلام) ـ نيسابور، واجتمع الناس حول دابته، أخرج رأسه من المحمل وشاهده الناس، فهم بين صارخ وباك وممزق ثوبه ومتمرغ في التراب ومقبّل لحافر بغلته أو مقبّل حزام بغلته(2)...

بل إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قد تبرّك بوضوء المسلمين، كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة:

فعن ابن عمر، قال: قلت يا رسول الله، أتوضأ من جرّ جديد مخمّر أحبّ إليك، أم من المطاهر؟ قال: "لا، بل من المطاهر، إن دين الله يسّر الحنيفية السمحة". قال: وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله)يبعث الى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه، يرجو بركة أيدي المسلمين(3).

هذه إذاً بعض الأخبار التي تثبت أن الصحابة والتابعين ـ من أهل القرون الثلاثة الاُولى ـ كانوا يتبرّكون ببعضهم البعض، خلافاً لما

____________

1- الطبقات الكبرى: 5/107.

2- الصواعق المحرقة: 310، الفصل الثالث في الأحاديث الواردة في بغض أهل البيت(عليهم السلام)، نور الأبصار للشبلنجي: 168، فصل في مناقب سيد علي الرضا بن موسى الكاظم.

3- مجمع الزوائد: 1/214، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثّقون، كنز العمال: 7/112، ح 18231.


الصفحة 60
يدّعيه البعض من أمثال الجديع، إذ يقول:

الحق أنّه لم يؤثر عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه أمر بالتبرك بغيره من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم، سواء بذواتهم أو بآثارهم، أو أرشد الى شيء من ذلك، وكذا فلم ينقل حصول هذا النوع من التبرّك من قبل الصحابة رضي الله عنهم بغيره(صلى الله عليه وآله)، لا في حياته ولا بعد مماته...(1).

وقال في تعليل ذلك: إن السبب الرئيسي في ترك الصحابة رضي الله عنهم ذلك التبرّك مع بعضهم ـ والله أعلم ـ هو اعتقاد اختصاص الرسول(صلى الله عليه وآله) به دون سواه ما عدا سائر الأنبياء...

وقال نقلاً عن الشاطبي: فعلى هذا المأخذ، لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرّك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة(2).

أقول: بعد أن أثبتنا تبرّك الصحابة والتابعين ببعضهم وبالصالحين من الاُمّة، فإن عدم أمر النبي(صلى الله عليه وآله)بالتبرّك بغيره، يقابله أيضاً عدم نهيه عن ذلك، فلو كان الأمر بهذه الدرجة من الخطورة على عقائد المسلمين لما أغفل النبي(صلى الله عليه وآله) هذا الأمر ولكان نهى عنه بكل شدّة. وذلك بيّن في قول النبي(صلى الله عليه وآله)عن عمرو بن العاص، أن

____________

1- التبرّك أنواعه وأحكامه: 261.

2- المصدر السابق: 264 نقلاً عن الاعتصام: 2/9.


الصفحة 61
النبي(صلى الله عليه وآله)قال: "إنّه لم يكن نبي قبلي إلاّ كان حقاً عليه أن يدل اُمّته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم..."(1).

فهل يناقض النبي(صلى الله عليه وآله) ـ حاشاه ـ نفسه ويخفي هذا الأمر الذي فيه فساد الاُمّة دون أن يبيّنه لهم!

أما إنّه لا يجوز الاقتداء بغيره في التبرّك قياساً على عدم جواز الزيادة على أربع نسوة فالقياس باطل ـ لما تقدم ـ فالنبي(صلى الله عليه وآله)قد أعلم اُمّته الحكم الشرعي في ذلك، فليس هناك مسلم على وجه الأرض ـ منذ زمن النبي والى اليوم ـ إلاّ وهو يعلم حرمة ذلك لغيره(صلى الله عليه وآله)، وهذا أكبر دليل على صحة ما نقول، وتهافت استدلال الشاطبي، فلو كان التبرّك بغير النبي(صلى الله عليه وآله) محرّماً لبيّنه لاُمّته كما بيّن حرمة الزيادة في التزوج على أربع نسوة.

ومن الحجج الاُخرى المتهافتة التي يحتجّ بها الجديع على عدم جواز التبرّك بغير النبي(صلى الله عليه وآله)إدعاؤه بأن ذلك لسد ذريعة الشرك، لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي الى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله، فوجب المنع من ذلك.. وهكذا تبيّن لنا عدم جواز قياس الصالحين على النبي(صلى الله عليه وآله). وعليه فلا يجوز التبرّك بذوات الصالحين أو بآثارهم فضلاً عن غيرهم، وأن تعظيم الشيء والتبرّك به لا يجوز

____________

1- صحيح مسلم: 3/1472 كتاب الامارة، باب وجوب الوفا ببيعة الخلفاء الأوّل فالأوّل.


الصفحة 62
إلا بدليل شرعي(1).

أقول: أثبتنا أنه لا ينبغي أن يترك النبي(صلى الله عليه وآله) اُمّته دون أن ينبههم الى خطورة هذا الأمر، لأنه بذلك يكون قد قصّر في أداء رسالته وترك اُمّته تتردى في مهاوي الضلال، وتكون الاُمّة ـ على مرّ الأزمنة السابقة ـ قد وقعت في الشرك، وهو أمر لا يجوز عقلاً ولا شرعاً، وكيف يستقيم ذلك مع قوله(صلى الله عليه وآله): "تركتكم على الواضحة"!

____________

1- التبرّك أنواعه وأحكامه: 268.


الصفحة 63

التبرّك بقبور الصالحين وآثارهم

لم يقتصر عمل المسلمين على التبرّك بقبر النبي(صلى الله عليه وآله)وآثاره من بعد موته، بل كان ديدنهم هو التبرّك بقبور الصحابة والتابعين وصلحاء الاُمّة وآثارهم، والاستشفاء والاستسقاء بها أيضاً، ومن ذلك:

1 ـ بلال الحبشي:

مؤذن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قبره بدمشق، وفي رأس القبر المبارك تاريخ باسمه(رضي الله عنه)، والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب، وقد جرّب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبركين بزيارتهم(1).

2 ـ أبو أيوب الأنصاري:

قال الحاكم: يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به إذا قحطوا(2).

3 ـ صهيب الرومي:

قال السمهودي: إنهم جربوا تراب قبر صهيب للحمى.

4 ـ حمزة بن عبدالمطلب:

نقل السمهودي قول الزركشي: ثمّ استثني في عدم جواز حمل تراب المدينة الى غيرها ـ لكونها حرماً ـ تربة حمزة (رضي الله عنه)، لاطباق

____________

1- رحلة ابن جبير: 251.

2- المستدرك: 3/518، وابن الجوزي في صفة الصفوة: 1/407.


الصفحة 64
الناس على نقلها للتداوي.

ثم قال: حكى البرهان بن فرحون عن الإمام العالم أبي محمد عبدالسلام بن إبراهيم بن مصال الحاحاني قال: نقلت من كتاب الشيخ العالم أبي محمد صالح الهرمزي قال: قال صالح بن عبدالحليم: سمعت عبدالسلام بن يزيد الصنهاجي يقول: سألت ابن بكون عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرّك، هل يجوز أو يمنع؟ فقال: هو جائز، ومازال الناس يتبرّكون بقبور العلماء والشهداء والصالحين، وكان الناس يحملون تراب قبر سيدنا حمزة بن عبدالمطلب في القديم من الزمان(1).

5 ـ الحسين بن عليّ(عليه السلام):

عقد الشبراوي باباً كبيراً في مشهد رأس الحسين بن علي(عليهما السلام)، وذكر فيه زيارته وشطراً من الكرامات له وإحياء يوم الثلاثاء بزيارته، قال:

والبركات في هذا المشهد مشاهدة مرئية، والنفحات العائدة على زائريه غير خفية، وهي بصحة الدعوى ملية والأعمال بالنية، ولأبي الخطاب بن دحية في ذلك جزء لطيف مؤلف، واستفتي القاضي زكي الدين عبدالعظيم في ذلك، فقال: هذا مكان شريف وبركته ظاهرة والاعتقاد فيه خير، والسلام.

____________

1- وفاء الوفا: 1/69.


الصفحة 65
وما أجدر هذا المشهد الشريف والضريح الأنور المنيف بقول القائل:


نفسي الفداء لمشهد أسراره من دونها ستر النبوة مسبكُ
ورواق عزّ فيه أشرف بقعة ظلّت تحار لها العقول وتذهلُ
تفضي لجبهته النواظر هيبة ويرد عنه طرفه المتأمل
حسدت مكانته النجوم فودّ لو أمسى يجاوره السماك الأعزل
وسما علوّاً أن تقبّلَ تربَهُ شفةٌ فأضحى بالجباه يقبّل

5 ـ عمر بن عبدالعزيز، الخليفة الاُموي ـ المتوفّى سنة 101 هـ ـ:

قال الذهبي: قبره بدير سمعان يُزار(1).

6 ـ عليّ بن موسى الرّضا(عليهما السلام):

قال أبو بكر محمد بن المؤمل: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي، مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافدون الى زيارة علي بن موسى الرضا بطوس. قال: فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا(2).

كما وأخرج الخطيب البغدادي باسناده عن أحمد بن جعفر ابن حمدان القطيعي قال: سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال

____________

1- تذكرة الحفّاظ: 1/121.

2- تهذيب التهذيب: 7/339.


الصفحة 66
شيخ الحنابلة في عصره يقول: ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أحب!(1).

7 ـ قال العلاّمة أحمد بن محمد المقري المالكي ـ المتوفّى سنة 1041 هـ ـ في فتح المتعال بصفة النعال، نقلاً عن ولي الدين العراقي، قال: أخبر الحافظ أبو سعيد بن العلا، قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر(2). وغيره من الحفّاظ: أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي(صلى الله عليه وآله) وتقبيل منبره، فقال:

لا بأس بذلك!

قال: فأرينا التقي ابن تيمية فصار يتعجب من ذلك ويقول: عجبت من أحمد عندي جليل! هذا كلامه أو معنى كلامه. وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنّه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به(3).

وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فما بالك بمقادير الصحابة! وكيف بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما أحسن

____________

1- تاريخ بغداد: 1/120.

2- هو الحافظ محمد بن ناصر أبو الفضل البغدادي ـ المتوفى سنة 505 هـ ـ قال: ابن الجوزي في المنتظم: 18/103 رقم 4201: كان حافظاً متقناً ثقة لا مغمز فيه.

3- مناقب أحمد لابن الجوزي: 609، البداية والنهاية لابن كثير: 10/365 حوادث سنة 241 هـ.


الصفحة 67
قول مجنون ليلى:


أمرُّ على الديار ديار ليلى اُقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار(1)

قال القاضي عياض المالكي في الشفا: وجدير بمواطن عمّرت بالوحي والتنزيل وتردد بها جبرئيل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح، وضجّت عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنّة نبيّه ما انتشر، مدارس وآيات ومساجد وصلوات ومشاهد الفضائل والخيرات ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين ومشاعر المسلمين، ومواقف سيد المرسلين ومتبوّأ خاتم النبيّين، حيث انفجرت النبوّة، واين فاض عبابها، ومواطن مهبط الرسالة، وأوّل أرض مسّ جلد المصطفى ترابها، أن تعظم عرصاتها وتنسّم نفحاتها وتقبّل ربوعها وجدرانها(2)...

فهذه هي سيرة المسلمين خلفاً عن سلف، وهذه مواقف شيخ الحنابلة الذي يدّعي ابن تيمية وأتباعه أنهم تلاميذه في التبرّك بآثار الصالحين والأولياء، وليس لهم من حجة يحتجّون بها، سوى أن

____________

1- فتح المتعال: 329.

2- الشفاء بتعريف حقوق المصطفى: 2/131.


الصفحة 68
ذلك التبرّك ربّما يقود الى الشرك وتأليه الشخص المتبرّك به!

التمسّح بالمتبرّك به

أود أخيراً أن اختتم هذا البحث بالإشارة الى موضوع يثير حوله البعض إشكالات يستهدفون بها تضليل المسلمين وحرفهم عن جادة الصواب بإثارة الشكوك في أنفسهم بغية التمكّن من التلاعب بعقائدهم وسوقهم الى مقالاتهم التي ظاهرها برّاقة وباطنها جوفاء لا تقنع إنساناً له مسكة من عقل، ألا وهو موضوع المسح والتمسّح بالأشخاص والأشياء المتبرّك بهم.

قال العلياني ـ بعد أن ساق الكلام في فضل بعض الأمكنة:

فمن سكن في مكة أو المدينة أو الشام ملتمساً لبركات الله عزّ وجلّ في تلك البقاع سواء من زيادة أرزاقها أو دفع الفتن عنها، فقد وفق الى خير كثير، أما لو تعدى العبد في طلب التبرّك كأن يتمسح بترابها وأحجارها وأشجارها، وكأن يضع تربتها في الماء للاستشفاء بها ونحو ذلك فإنّه مأزور غير مأجور، لأنه سلك في التبرّك مسلكاً لم يفعله رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم يفعله الرعيل الأوّل(1)...

وقال:وقد كان السلف الصالح ينهون عن تعظيمهم غاية النهي، كأنس والثوري وأحمد، وكان أحمد يقول: من أنا حتى تجيئون

____________

1- التبرّك المشروع: 42.