مقدّمة:
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين...
لقد حظيت مسألة حقيقة التشيّع ونشأته باهتمام الكثير من المؤلفينوالباحثين قديماً وحديثاً، وتضاربت فيها الآراء والأفكار، حيث كان معظم المؤلفين فيها ينظرون الى الشيعة على أنها فرقة من الفرق التي ظهرت في فترة الانقسامات العقائدية، التي شملت شرائح واسعة من الاُمة الإسلامية، بسبب الاختلافات العقائدية التي ظهرت كنتيجة للانقسامات السياسية بعد مرور أقل من نصف قرن على بدء الهجرة النبوية، وحدوث فتن أدت الى انقسام المسلمين الى معسكرات متحاربة يستبيح فيها المسلم دم أخيه، وصارت كل فرقة تعتقد أو توحي على أنها هي صاحبة الحق وخصمها هو المبطل، ولأجل ذلك صارت الفرق الإسلامية تتسابق لتجسيد نظرياتها، من خلال تأوّل بعض النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، ثم استفحل الأمر أكثر من ذلك عندما بدأ منظّرو هذه الفرق ومتعصّبوها بالتجرّؤ على الحديث النبوي الشريف،
مع أنّ من المتعارف عليه عند المؤلفين في الفرق أن اسم الروافض قد اطلقه زيد بن علي بن الحسين(عليهم السلام) على الذين فارقوه أثناء ثورته على الاُمويين، وأن هذه المفردة وغيرها من الأسماء التي اُطلقت على الفرق المخالفة للجمهور لم تكن معروفة في زمن النبي(صلى الله عليه وآله).
ومن الأحاديث التي اكتسبت صفة شبه التواتر بعدما روتها كل الفرق حديث انقسام الاُمة الى ثلاث وسبعين فرقة، كلّها هالكة إلاّ واحدة، فحاولت كل فرقة أن تثبت أنها هي المعنيّة بالفرقة الناجية وأنّ ما عداها هالك في النار!
وممّا زاد الطين بلّة أنّ هذه العقائد قد بدأت تترسخ على مرّ الأيام، ودخلت هذه الأحاديث المكذوبة في المجاميع الحديثية وصارت تلقّن على انّها من كلام النبي(صلى الله عليه وآله)، مع أنّ هذه الأسماء والمصطلحات لم تكن معروفة في عصر الرسالة ومابعدها بقليل، ولم تبدأ بالانتشار إلاّ بعد أن بدأت المعارك الكلامية تحتدم بين المسلمين بعد انفتاحهم على الثقافات الأجنبية للاُمم التي دخلت
وعندما بدأ عصر التدوين بالازدهار، وأدلى المفكرون المسلمون بدلوهم في مختلف العلوم والفنون، كان أتباع مدارس الكلام قد بدأوا ينظّرون النظريات في الخلافة والإمامة واُسلوب الحكم. وكانت الطامة عندما بدأت الكتابة في الفرق والمذاهب والأديان، فقد كان معظم الكتّاب في هذا المضمار، كالشهرستاني والبغدادي وغيرهما من الجمهور، الذي يمثّل هوى ورأي الأكثرية في الاُمة الإسلامية، والذي اصطلح فيما بعد على تسميته بأهل السنة والجماعة، فكانت هذه المؤلفات كلّها تركز على نقطة معينة، وهي محاولة حصر الفرق الإسلامية بثلاث وسبعين فرقة، ثمّ بيان ضلال اثنتين وسبعين منها وإثبات أنّ الفرقة التي تمثّل الجمهور هي الفرقة الناجية، وأنّ بقية الفرق ـ ومنها الشيعة ـ هي ليست إلاّ فرقاً من المبتدعة الزائغة عن جادة الصواب. ولأجل إثبات ذلك فقد تضاربت الآراء في نشأة هذه الفرقة وعقائدها، فنسبت تارة الى أنها أتباع ابن سبأ وتستمد عقائدها من اليهودية، وتارة الى أنّها فارسية تستمد أفكارها من عقائد المجوس، واُخرى
وهكذا تضاربت الأقوال في تاريخ نشأة التشيّع، فعزا البعض نشأتها الى ما بعد حادثة السقيفة، وآخرون أرّخوها بعصر عثمان وأحداث الفتنة، وآخرون عزوها الى بدء معركة الجمل، أو صفين، أو الى ما بعد استشهاد الحسين(عليه السلام).
وكان سبب هذه النظرة الغائمة الى نشأة التشيع، هو عدم معرفة حقيقة التشيّع كخط يمثّل حقيقة الإسلام بكل مظاهره وعقائده، وأنه ليس حدثاً طارئاً على فكر الاُمة الإسلامية أو عقيدة مستوردة من إحدى الاُمم، بل هي عقيدة إسلامية بكل معنى الكلمة، بذر بذرتها الاُولى النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله)، واستمرت في النموّ يوماً بعد يوم يُغذّيها أهل البيت(عليهم السلام)، ويبيّنون ملامحها ويدرءون عنها الشبُهات ويحاربون المتطفّلين والمتسللين إليها، ويفضحون المتستّرين بأهل البيت(عليهم السلام) للوصول الى أغراض اُخرى تستهدف هدم الإسلام.
ومن هنا جاء الخلط عند البعض، فحاولوا أن ينسبوا عقائد اُولئك المتسللين الى الشيعة على أنها تمثّل الفكر والاتجاه والعقيدة الشيعية، ملصقين بالشيعة عموماً تهمة التحريض والتآمر على
ومن المؤسف حقاً أن ينبري الباحثون المعاصرون للطعن في الشيعة والتشيّع بالاعتماد على ما قيل فيهم من خصومهم، دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء البحث عن الحقيقة والاطلاع على عقيدة كلّ فرقة من خلال تراثها. وبخاصة فإنّ العصر الحديث قد أتاح كلّ ذلك وهيّأ أدوات البحث العلمي لكلّ من أراد الوصول الى الحقيقة بتجرّد.
إنّ سلامة النيّات هي التي تحدّد اتجاه الباحث عن الحقيقة، فإذا فقد هذا الشرط فإنّه لا أمل في ظهور الحقيقة على كتاباته.
على أن الزمن لم يعدم عدداً من الباحثين ـ ومن بينهم بعض المستشرقين ـ ممن لا يتوخّون سوى الحقيقة، فاكتشفوا وكشفوا عن وجه الحقيقة أو بعضها، كما انبرى مؤلفو الشيعة وباحثوها،الى تصنيف الكتب وتدوين أبحاثهم في هذا المجال، لكي تكون سابلاً لمن يريد أن يتصدى للبحث في هذا الموضوع طلباً للحقيقة.
وبحثنا هذا هو إحدى هذه المحاولات المتواضعة، عسى الله أن ينفع بها من يريد أن ينتفع أو يلقي السمع وهو شهيد، والله من وراء القصد.
الفصل الأوّل
الإسلام والتسليم
قال ابن منظور: الإسلام والاستسلام: الانقياد.
والإسلام من الشريعة: إظهار الخضوع واظهار الشريعة والتزام ما أتى به النبي(صلى الله عليه وآله)، وبذلك يحقن الدم ويستدفع المكروه، وما أحسن ما اختصر به ثعلب ذلك فقال: الإسلام باللسان والإيمان بالقلب.
وأما الإسلام: فإنّ أبا بكر محمد بن بشار، قال: يقال فلان مسلم، وفيه قولان: أحدهما هو المستسلم لأمر الله، والثاني هو المخلص لله العبادة(1).
ومن هنا يمكن أن نتبيّن أنّ هناك فرقاً قد لا يبين لأوّل وهلة بين الاستسلام لأمر الله، وبين الاخلاص للعبادة، فالمعنى الأوّل هو
____________
1- لسان العرب: 12/293.
فمن هنا يتبين أن الإسلام الذي يريده الله سبحانه من عباده، هو المتضمن لكل معاني التسليم لقرارات النبي(صلى الله عليه وآله)، حتى لو كانت هذه المقررات ممّا يخالف ما تهواه نفس الإنسان وتصبو إليه، أو
____________
1- الحشر (59): 7.
2- النساء (4): 59.
3- النساء (4): 65.
أما الاصطلاح الثاني الذي هو الاخلاص لله في العبادة، فهو يتضمن اخلاص التعبد لله في المسائل الشرعية التي تتضمن العبادات المتعلقة بأداء الجوارح، كالصلاة والصوم والحج وما الى ذلك، وهي في مفهومها أضيق من مفهوم التسليم المطلق لأوامر النبي(صلى الله عليه وآله) ونواهيه، لأنّ التعبد بالأحكام الشرعية قد يتساوى فيه كثير من الناس ويجتهدون فيه، إلاّ أن الفرد منهم قد لا يتحمل التعرض لأي فتنة، أو بلاء، أو قد لا يسلم لحكم يعتقد أنّ المصلحة في غيره.
لقد عبّر القرآن عن هذين المفهومين وميّز بينهما، فسمى الأوّل إيماناً والثاني إسلاماً، عندما خاطب الأعراب، بقوله: (قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في
الاجتهاد في مواقف بعض الصحابة
إنّ استعراض تاريخ فترة الرسالة يؤكد لنا حقيقة مفادها: أنّ الصحابة لم يكونوا كلّهم على درجة واحدة من التسليم لأوامر النبي(صلى الله عليه وآله)، فقسم منهم كان يتلقى أوامر النبيّ ونواهيه ووصاياه على أنها من المسلّمات التي لا ينبغي تجاوزها بأي شكل من الأشكال ـ وهم أقلية ـ بينما كان هناك من يرى أنّ تعليمات النبي(صلى الله عليه وآله)يمكن مناقشتها(2)، بل وحتى مخالفتها إذا اعتقدت ضرورة
____________
1- الحجرات (49): 14.
2- و (2) السيرة النبوية والآثار المحمدية بهامش السيرة الحلبية: 1/370 ـ 373.
أن النبيّ(صلى الله عليه وآله) عندما خرج بأصحابه في طلب قافلة أبي سفيان، وما كان من تدبير أبي سفيان وقدرته على النجاة من أيدي المسلمين، وما أعقبه من خروج مشركي مكة للدفاع عن أموالهم، حيث وجد المسلمون أنفسهم وجهاً لوجه أمام قريش في خيلها وسلاحها، وكانت رغبة النبيّ(صلى الله عليه وآله) واضحة في مناجزة القوم، خصوصاً وأنّ زعماء المشركين وعلى رأسهم أبو جهل كانوا مصرّين على مقاتلة المسلمين(وظنّهم انّها) فرصة لاستئصال شأفتهم والاستراحة من النبي(صلى الله عليه وآله) ومن دعوته الى الأبد، وكان رجوع النبي(صلى الله عليه وآله) مع المسلمين دون مناجزة يعدّ فراراً من القتال، بل ربّما شجّع المشركين على غزو المسلمين في عقر دارهم، وفي ذلك خطر عظيم. ولكن الصحابة رغم معرفتهم برغبة النبيّ(صلى الله عليه وآله) في القتال، إلاّ أن الكثير منهم لم يؤيد الفكرة، حتى قال له بعضهم: هلاّ ذكرت لنا القتال حتى نتأهّب له! إنا خرجنا للعير، وفي رواية: يا رسول الله! عليك بالعير ودع العدو، فتغيّر وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله). قال أبو أيوب: وفي ذلك أنزل الله تعالى: (كَمَا أخرَجَكَ رَبُّكَ
وحينما خرج النبيّ(صلى الله عليه وآله) الى بدر ـ وكان ذلك في شهر رمضان ـ فصام يوماً أو يومين ثم رجع ونادى مناديه: يا معشر العصاة، إني مفطر فافطروا! وذلك أنه كان قد قال لهم قبل ذلك: "افطروا" فلم يفعلوا(2).
بل إنّ البعض كان موقفه مثبّطاً للنبيّ(صلى الله عليه وآله) في عزمه على القتال، فلما استشار النبي(صلى الله عليه وآله) أصحابه قام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله! إنّها والله قريش وعزُّها، والله ما ذلّت منذ عزّت، والله ما آمنت منذ كفرت، والله لا تُسلم عزّها أبداً ولتقاتلنّك. فأعرض عنه النبي(صلى الله عليه وآله)(3)...
وفي الطرف الآخر نجد صحابة آخرين كان موقفهم مغايراً لموقف اُولئك، فإنّ المقداد بن عمرو قام، فقال: يار سول الله!
امضِ لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها: (فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون)(4)، ولكن
____________
1- السيرة النبوية والآثار المحمّدية، لأحمد زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/371، والآية في سورة الانفال: 5.
2- المغازي للواقدي: 1/47 ـ 48.
3- المصدر السابق.
4- المائدة (5): 24.
وقام سعد بن معاذ من الأنصار فكان ممّا قاله للنبي(صلى الله عليه وآله):... إنّا قد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ كلّ ما جئت به حقّ، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامضِ يا نبيّ الله، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منّا رجل، وصِلْ من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا ممّا تركت، والذي نفسي بيده ما سلكت هذا الطريق ومالي بها من علم، وما نكره أن يلقانا عدوّنا غداً، إنّا لصُبّر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به عينك(1).
فمن هذه الكلمات تتبيّن مواقف الصحابة التي كانت تتأرجح بين التسليم وعدمه.
وبالإضافة الى ذلك فقد بدأت تظهر على مواقف بعض الصحابة نظرة جديدة تتمثل بتغليب آرائهم على رأي النبي(صلى الله عليه وآله)، أو بتعبير آخر الاجتهاد في مقابل النصّ النبوي، والذي قد يؤدي بالنتيجة الى عدم الامتثال لأمر النبي(صلى الله عليه وآله)، وقد بدا ذلك في مناسبات عديدة، فعن
____________
1- المغازلي للواقدي: 1/47 ـ 48.
يا رسول الله إني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل متخشّع حسن الهيئة يصلي، فقال له النبيّ(صلى الله عليه وآله): "اذهب فاقتله".
قال: فذهب إليه أبوبكر فلمّا رآه على تلك الحال كره أن يقتله، فرجع الى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال: فقال النبي(صلى الله عليه وآله) لعمر: "اذهب فاقتله". فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر، فكره أن يقتله، فرجع، فقال: يا رسول الله اني رأيته يصلّي متخشّعاً فكرهت أن أقتله. قال: "يا علي إذهب فاقتله" قال: فذهب عليّ فلم يره، فرجع علي، وأخبر رسول الله بأنّه لم يره. فقال النبي(صلى الله عليه وآله): "إنّ هذا وأصحابه يقرأون القرآن ما يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه فاقتلوهم، هم شرّ البرية"(1).
وفي صلح الحديبية أعطى النبيّ(صلى الله عليه وآله) لقريش كل ما طلبوا منه، بينما صرّح بعض الصحابة بأنه إعطاء الدنيّة، رغم أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد أمضاه وهو أعلم بالمصلحة فيه من غيره، ولا يمكن تصوّر أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) يقدم على أمر فيه ضرر على الإسلام والمسلمين، ورغم ذلك فإنّ بعض الصحابة اعتقد أنّ له الحقّ في الاعتراض على القرار
____________
1- مسند احمد: 3/15.
قال(صلى الله عليه وآله): "إنّي رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري". قلت: أوليس كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟! قال: "بلى، أفأخبرتك أنّا نأتيه العام؟" قلت: لا، قال: "فإنّك آتيه ومطوّف به". قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبيّ الله حقاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: أيّها الرجل، إنّه لرسول الله وليس يعصي ربّه وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنّه لعلى الحق.
فقلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنّك آتيه ومطوّف به. قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً.
فلمّا فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا". قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على اُمّ سلمة فذكر لها مالقي من الناس، فقالت اُم سلمة: يا نبيّ الله، أتحبُ ذلك؟ اُخرج ثم لا تُكلّم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج
وهذه الحادثة تدلّنا على غرابة مواقف بعض الصحابة، فبعد أن أخبر النبيّ(صلى الله عليه وآله)عمربن الخطاب بأنّه رسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي لا يعصي ربّه، وكفى ذلك في إثبات صحة موقف النبيّ، وبعد أن أخبره أيضاً بأنّه سيأتي البيت ويطوف به في غير هذا العام، فإنّ جواب النبي(صلى الله عليه وآله) لم يكن كافياً لإقناع عمر بضرورة الإمتثال دون مناقشة، إذ إنه ذهب الى أبي بكر وأعاد عليه نفس المسألة، وتبدّى الأمر بشكل أفظع حين امتنع الأصحاب من طاعة النبي(صلى الله عليه وآله) عندما أمرهم بالنحر والحلق!
وتكرّرت مخالفات الصحابة لأوامر النبيّ(صلى الله عليه وآله) بعد ذلك حتى بدأ النبيّ(صلى الله عليه وآله) يشكو علناً مما يلقاه من الأذى من مخالفاتهم واعتراضاتهم المتكررة عليه.
فعن عائشة أنّها قالت: قدم رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل عليَّ وهو غضبان، فقلت من أغضبك يا رسول الله؟ أدخله الله النار! قال: "أوما شعرت أ نّي أمرت الناس بأمر فإذا هم يتردّدون، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي
____________
1- صحيح البخاري: 2/81، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، صحيح مسلم: باب صلح الحديبية.
وجاء عنها أيضاً أنّها قالت: صنع النبي(صلى الله عليه وآله) شيئاً ترخّص فيه، وتنزّه عنه قوم فبلغ ذلك النبي(صلى الله عليه وآله)فحمد الله ثم قال: "ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله انّي أعلمهم بالله وأشدّهم له خشية"(2).
فكأنّ القوم كانوا يجهلون أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان أشدّهم تقوى ومخافة من الله! وما بالهم يظنّون به الظنون ويتوهمون أنّ فعله قد يكون مخالفاً لأمر الله حتى يتنّزهوا عنه ويستنكفوا منه!
وبلغ الأمر بالبعض الى مخالفة أوامره ونواهيه الصريحة، سواء منها في صغائر الاُمور أو أكابرها، وكأنّهم ظنّوا أنّ لهم الحقّ في التصرف والافتاء بما يخالف قول النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فعن جابر أنّه قال: نهانا رسول الله(صلى الله عليه وآله)أن نطرق النساء، فطرقناهن بعد!(3)
____________
1- صحيح مسلم: 4/34، سنن ابن ماجة: 2/993، مسند احمد: 4/286 و6/175، وفي رواية البراء بن عازب أن النبي قال: "اجعلوا حجكم عمرة" فقال الناس: يا رسول الله، كيف نجعلها عمرة وقد أحرمنا بالحج؟ قال: "انظروا الذي آمركم به فافعلوه"، فردّدوا عليه القول... الخ. قال الذهبي: هذا حديث صحيح من العوالي، أخرجه ابن ماجة، سير اعلام النبلاء: 8/498.
2- صحيح البخاري: 8/145.
3- المصنف لابن أبي شيبة: 7/727، مسند الحميدي: 2/543، مسند أحمد: 3/308، مسند أبي يعلى: 3/373.
تفاقم الأمر
لقد أدّت جرأة بعض الصحابة على أوامر النبي(صلى الله عليه وآله) وتعليماته، الى استفحال الظاهرة حتى تكوّنت قناعة لدى البعض بأنّهم ملزمون باتّباع النبيّ(صلى الله عليه وآله) فيما يبلغهم من الوحي عن الله سبحانه، وفيما يتعلق باُمور العبادة فقط، أما الاُمور التي تتعلق بالقيم الاجتماعية الموروثة، أو ببعض العادات والأعراف، أو حتى فيما يتعلق باُمور التنظيم السياسي وشكل نظام الحكم من بعد النبي(صلى الله عليه وآله)، فقد رأوا أنّ من حقّهم أن يبتّوا فيها بأنفسهم وأن يخالفوا النصوص النبويّة إذا ماتصوروا أنّ المصلحة في غيرها. وقد ظهر ذلك جليّاً في موقفهم من تأمير اُسامة بن زيد، رغم أنّ النبي(صلى الله عليه وآله)كان هو الذي قد ولاّه قيادة الجيش وعقد له اللواء بيديه الشريفتين، فإنّ ذلك لم يمنع بعض الصحابة من الاعتراض على فعل النبي(صلى الله عليه وآله)، والطعن في إمارة اُسامة زعماً منهم أنّ حداثة سنّه لا تؤهّله لكي يتأمّر على مشيخة المهاجرين والأنصار، وفيهم أمثال أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وغيرهم(1)!
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/190، تاريخ اليعقوبي: 2/74 ط بيروت، الكامل لابن الأثير: 2/317، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: 1/53، السيرة الحلبية: 3/207، السيرة النبوية لدحلان بهامش السيرة الحلبية: 2/339، كنز العمال: 5/312، انساب الأشراف: 1/474، ترجمة اُسامة من تهذيب تاريخ دمشق.
"أيّها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة؟! ولئن طعنتم في تأميري اُسامة، لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وأيمُ الله إنّه كان لخليقاً بالإمارة، وإنّ ابنه من بعده لخليق بها"(1).
وعلى الرغم من تشديد النبيّ(صلى الله عليه وآله) أوامره بالتعجيل ببعث اُسامة، فقد ظلّ الناس يتثاقلون عنه حتى توفي النبي(صلى الله عليه وآله) قبل أن يغادر البعث مواقعه في الجرف، بل وكاد البعث أن يُلغى، أو على الأقل يُغيّر أميره(2).
لقد وصل موقف بعض الصحابة في عدم الامتثال لأوامره(صلى الله عليه وآله)الى ذروته وذلك قبيل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)بفترة وجيزة، فقد أخرج جمع من المحدّثين والمؤرّخين وأرباب السّير، ـ واللفظ للبخاري ـ عن ابن عباس، أنّه قال: لما حُضِر رسول الله(صلى الله عليه وآله) وفي البيت رجال
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/190، تاريخ اليعقوبي: 2/74 ط بيروت، الكامل لابن الأثير: 2/317، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: 1/53، السيرة الحلبية: 3/207، السيرة النبوية لدحلان بهامش السيرة الحلبية: 2/339، كنز العمال: 5/312، انساب الأشراف: 1/474، ترجمة اُسامة من تهذيب تاريخ دمشق، وانظر المغازي للواقدي: 3/1119.
2- تاريخ الطبري: 3/226، الكامل: 2/335، السيرة الحلبية: 3/209.
فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبيّ(صلى الله عليه وآله) كتاباً لا تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قاله عمر، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي(صلى الله عليه وآله)، قال لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): "قوموا عنّي" فكان ابن عباس، يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله(صلى الله عليه وآله)وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(1).
وفي لفظ آخر للبخاري عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتدّ برسول الله(صلى الله عليه وآله) وجعه فقال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً"، فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبيّ تنازع ـ فقالوا: ما شأنه؟! أهجر؟ استفهموه، فذهبوا يردّون عليه فقال:دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت اُجيزهم" وسكت عن الثالثة، أو قال فنسيتها(2).
____________
1- صحيح البخاري: 1/22، كتاب العلم.
2- صحيح البخاري: 5/137 باب مرض النبيووفاته، ووردت بلفظ مقارب في الجزء الرابع ؤصفحة 65 من صحيح البخاري كتاب الجزية باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، والسكوت عن الوصية الثالثة من جانب ابن عباس أو إدعاء سعيد نسيانها توحي بخطوره موضوعها وهو ما سوف يتبيّن في الأبحاث القادمة، وانظر أيضاً صحيح البخاري: 8/61، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة باب كراهية الخلاف، وصحيح مسلم: 5/75 كتاب الوصية، ومسند أحمد: 4/356 ح 2992، بسند صحيح وغيرها من المصادر.