الصفحة 51

مهمة التبليغ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)

لم يكتف النبيّ(صلى الله عليه وآله) بما ذكرنا من مواقف كاشفة عن كفاءة علي(عليه السلام) وجدارته، بل إنه أراد أن يبيّن لأصحابه، تميزّه عليهم جميعاً في التبليغ عنه (صلى الله عليه وآله)، فقد أجمعت الأخبار على أنه في العام التاسع للهجرة، بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) أبابكر بسورة براءة الى أهل مكة، ثم أتبعه بعليّ(عليه السلام)، فقال له: خذ الكتاب فامضِ به الى أهل مكّة. فلحقه فأخذ الكتاب منه فانصرف أبو بكر وهو كئيب، فقال لرسول الله(صلى الله عليه وآله): أنزلَ فيَّ شيء؟ قال:"لا، إلاّ أني اُمرت أن اُبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي"(1).

____________

1- الخصائص للنسائي: 20، صحيح الترمذي: 5/257 ح 3091، مسند أحمد: 3/283، 1/3، 151، 330، كنز العمال: 1/246، تفسير الطبري: 10/46، 47، المستدرك: 3/51، فتح القدير: 2 /334، الرياض النضرة: 3/119، البداية والنهاية: 5/44 حوادث سنة 9 هـ، و 7/394 حوادث سنة 40 هـ، تاريخ الطبري حوادث سنة 9 هـ، الكامل لابن الأثير حوادث سنة 9 هـ، السنن الكبرى للنسائي: 5/128 ح8461، الأموال لأبي عبيد: 215 ح 457، تاريخ دمشق: ترجمة الإمام(عليه السلام) رقم 890، الدر المنثور: 4/125، مختصر تاريخ دمشق: 18/6، شرح نهج البلاغة: 12/46 خطبة 223، المنتظم لابن الجوزي: 3/372.


الصفحة 52

علي وليّكم بعدي:

كانت النصوص تتوالى من النبيّ(صلى الله عليه وآله) في علي بن أبي طالب(عليه السلام)على مرّ الأيام والسنين، وكان النبيّ(صلى الله عليه وآله) يصرّح في بعضها بما لا يدع مجالاً للتشكيك في مقصده، وقد تمثل ذلك في تصريحه بولاية علي (عليه السلام)على المسلمين كافة، فعن بريدة، قال: بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله)علياً أميراً على اليمن، وبعث خالد بن الوليد على الجبل، فقال: "إن اجتمعتما فعليٌّ على الناس" فالتقوا وأصابوا من الغنائم مالم يصيبوا مثله، وأخذ عليّ جارية من الخمس، فدعا خالد بن الوليد بريدة فقال: اغتنمها، فأخبر النبيّ(صلى الله عليه وآله) بما صنع، فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله(صلى الله عليه وآله)في منزله، وناس من أصحابه على بابه، فقالوا: ما الخبر يا بريدة؟فقلت: خيراً، فتح الله على المسلمين، فقالوا: ما أقدمك؟ قال: جارية أخذها عليّ من الخمس، فجئت لأخبر النبي(صلى الله عليه وآله). فقالوا: فأخبر النبيّ(صلى الله عليه وآله)فإنه يسقط من عين رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ورسول الله(صلى الله عليه وآله) يسمع الكلام، فخرج مغضباً وقال: "ما بال أقوام ينتقصون علياً؟! من ينتقص علياً فقد انتقصني، ومن فارق علياً فقد فارقني، إنّ علياً مني وأنا منه، خُلق من طينتي وخُلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم"، وقال: "يا بريدة، أما علمت أنّ لعليّ أكثر من الجارية التي أخذ؟ وإنّه وليّكم بعدي".


الصفحة 53
فقلت: يا رسول الله، بالصحبة إلاّ بسطت يدك حتى اُبايعك على الإسلام جديداً. قال: فما فارقته حتى بايعته على الإسلام(1).

فالنبيّ (صلى الله عليه وآله) قد أثبت في هذا الحديث الصحيح الولاية المطلقة لعلي (عليه السلام)على كافة المسلمين دون استثناء، بما فيهم الشيخان أبوبكر وعمر، لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) لم يستثنِ أحداً.

____________

1- المعجم الأوسط للطبراني: 6/232، تاريخ دمشق لابن عساكر: 42/191 وفيه أن بريدة، قال: فرأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد غضب غضباً لم أره غضب مثله قط، إلاّ يوم قريظة والنضير، فنظر اليَّ فقال: "يا بريدة، إن علياً وليّكم بعدي، فأحبّ علياً فإنّه يفعل ما يؤمر"، وقال عبدالله بن عطاء: حدثت بذلك أبا حرب بن سويد بن غفلة فقال: كتمك عبدالله بن بريدة بعض الحديث، إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال له: "أنافقت بعدي يا بريدة؟!"، مسند الطيالسي: 360 ح 2752 وفيه عن ابن عباس أن رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال لعلي: "أنت ولي كل مؤمن من بعدي"، وأخرجه ابن عبدالبر بنفس السند في الاستيعاب: 3/1091، وقال: هذا إسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته وثقة نقلته، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 12/80 عن عمران بن حصين وفيه أن رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال: "ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ علي مني وأنا من علي، وعلي وليّ كل مؤمن بعدي"، وأخرجه أحمد في مسنده: 4/438، 5/356، وفيه: "دعوا علياً، دعوا علياً، إنّ علياً مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي"، وانظر جامع الترمذي: 5/632، خصائص النسائي: 109، مسند أبي يعلى: 1/293 ح 355 وقال محققه: رجاله رجال الصحيح، كنز العمال: 13/142، الرياض النضرة: 3/129، المعجم الكبير للطبراني: 18/128، الأوسط: 5/425، المستدرك: 3/110، تاريخ بغداد: 4/339، تاريخ دمشق: 42/102، اُسد الغابة: 3/604، كنز العمال: 11/608.


الصفحة 54

التتويج

لقد كانت مسألة الربط بين المرجعية الدينية والسلطة الزمنية من الاُمور التي أكّد عليها النبي(صلى الله عليه وآله)، وحاول أن يجعل الاُمة تعيها وعياً تاماً، ومن ثم حاول توجيه أنظار الاُمة الى أن أهل بيته(عليهم السلام) هم المؤهلون لتولّي هاتين المهمّتين الجسيمتين في حفظ الشريعة، وإدارة الاُمور في الدولة الفتية التي أنشأها، لذا فإنّه كان يربط في أكثر المناسبات بين التمسّك بأهل بيته وبين ولاية علي(عليه السلام)، باعتباره عميد أهل البيت من بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله). ولقد تجلّى ذلك على أتمّ وجه بعد عودة النبيّ(صلى الله عليه وآله)من حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، ـ وقد أوردنا الحادثة عند الكلام على حديث الثقلين ـ وقلنا إنّ النبيّ قال فيه: "اني اُوشك أن اُدعى فاُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عزّ وجلّ، وعترتي. كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"، ثم قال: "إنّ الله عزّ وجلّ مولاي، وأنا مولى كلّ مؤمن"، ثم أخذ بيد عليّ فقال: "من كنت مولاه فهذا وليّه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاده".(1)

____________

1- قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: 5/214 نقلاً عن الذهبي: وصدر الحديث، متواتر، أتيقن أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قاله، وأما "اللهم وال من والاه" فزيادة قوية الإسناد، وقال ابن الجزري في أسنى المطالب: 48 هذا حديث حسن من هذا الوجه، صحيح من وجوه كثيرة، متواتر عن أمير المؤمنين علي(رضي الله عنه)، هو متواتر أيضاً عن النبي(صلى الله عليه وآله) رواه الجمّ الغفير عن الجم الغفير، وقال ابن حجر المكي في الصواعق المحرقة: 187 رواه عن النبي(صلى الله عليه وآله) ثلاثون صحابياً، وأن كثيراً من طرقه صحيح أو حسن.


الصفحة 55
ثم قام النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فتوّج علي بن أبي طالب بعمامته (السّحاب)، وقال له: "يا علي، العمائم تيجان العرب".

مؤهلات الإمام علي(عليه السلام) للمرجعية:

لاشك أنّ اختيار النبيّ(صلى الله عليه وآله) لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) للمرجعية العامة للمسلمين من بعده لم يأتِ اعتباطاً ولا محاباة لابن عمّه أو لأنه زوج ابنته، فإنه لم يكن ليتصرف أو لينطق عن هوى نفسه، بل كان متّبعاً لأمر ربّه في كلّ اُموره، ولم تكن محاباة الأقرباء بأهمّ أو أعظم أهميّة عنده من أمر الاُمة الإسلامية، التي حرص طيلة ما يقرب من ربع قرن على تكوينها وجاهد في سبيل ذلك، وتحمّل من المشاق مالا يوصف، حتى تكوّنت نواة هذه الدولة التي كان قدرها أن تقود الإنسانية الى طريق الخير والصلاح في دنياها والفلاح في اُخراها، فالنبيّ(صلى الله عليه وآله) كان حريصاً مشفقاً على اُمته، يرشدها في حياته الى ما ينفعها، فهل يكتفي بذلك ويتركها من بعده ترتطم باللجج دون أن يبيّن لها الطريق السليم الذي يأمن

الصفحة 56
به عليها من الانحراف عن جادة الصواب والوقوع في متاهات الضلال؟! هذا ممّا لا يمكن تصوّره في حقّ النبي(صلى الله عليه وآله)، الذي نطق القرآن بأنّه: (عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)(1).

وعلى هذا فاختيار النبيّ(صلى الله عليه وآله) لعلي كان في الحقيقة اختياراً تابعاً لإرادة الله تعالى، كما اختار الله طالوت لما وهبه من بسطة في العلم وفي الجسم، علماً بأنّ الاصطفاء من عند الله سبحانه وهو أدرى بمصلحة عباده في اختيار القادة لهم.

ومن هذا المنطلق نقول: أنّ عليّاً(عليه السلام) كان قد حوى كلّ المواهب التي أهّلته للقيام بدوره القيادي، من العلم والشجاعة وغيرها، والوقائع تثبت كلّ ذلك، إذ طالما أصحر النبيّ(صلى الله عليه وآله) بتميّزه بهذه المواهب في كثير من أقواله وأفعاله.

عليّ أعلم الاُمـة:

لاشك أنّ التصدي للمرجعية بشقيها الديني والزمني، يتطلب علماً غزيراً باُمور الدين والشريعة من جهة، وباُمور السياسة والقيادة من جهة اُخرى. وقد أثبتت الشواهد أن عليّاً(عليه السلام)كان أعلم وأحكم وأقضى الاُمة بعد النبي(صلى الله عليه وآله)، شهد له بذلك النبيّ(صلى الله عليه وآله) أوّلاً،

____________

1- التوبة: 128.


الصفحة 57
وشهد له الصحابة ثانياً، واثبتته الوقائع ثالثاً، فقد أخرج المحدّثون عن ابن عباس وغيره، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)، قال: "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب"(1).

وقال أيضاً: "أنا دار الحكمة وعليّ بابها"(2).

وهذه بعض الأحاديث التي كان النبيّ(صلى الله عليه وآله) يلفت بها نظر اُمته الى امتياز علي(عليه السلام) بالعلم الذي يؤهلّه للمرجعية الإسلامية العامة من بعده. وقد ربط النبيّ(صلى الله عليه وآله)بين الأمرين بشكل واضح في حديث سلمان، إذ قال: قلت: إنّ لكلّ نبيّ وصيّاً، فمن وصيّك؟ فسكت عنّي، فلما كان بعد رآني فقال: "يا سلمان"، فأسرعت إليه وقلت: لبيك، قال: "تعلم من وصىّ موسى"؟ [قلت]: نعم، يوشع بن نون. قال: "لم"؟ قلت: لأنه كان أعلمهم يومئذ، قال: "فإن وصيّي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب"(3).

____________

1- المستدرك على الصحيحين: 3/126 وقال: هذا حديث صحيح الاسناد، تاريخ بغداد: 4/348، 7/127، 11/48، 49 وقال الخطيب: قال القاسم: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال هو صحيح، اسد الغابة: 4/22، تهذيب التهذيب: 6/320، 7/427، كنز العمال: 6/152، فيض القدير: 3/46، مجمع الزوائد: 9/114، الرياض النضره: 2/193، كنوز الحقائق للمناوي:43، الصواعق المحرقة:73.

2- جامع الترمذي: 2/299، حلية الاولياء: 1/64، كنز العمال: 6/401.

3- مجمع الزوائد: 9/113 وقال: رواه الطبراني، ولا يخفى أن سؤال النبي لسلمان عن سرّ وصاية يوشع لموسى كان بهدف إظهار أعلمية علي (عليه السلام)، والسيرة النبوية لابن اسحاق: 825، باختلاف يسير في اللفظ، تحقيق الدكتور سهيل زكار.


الصفحة 58
ولقد عبّر بعض الصحابة عن هذه الحقائق التي وعوها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وشاهدوا مصاديقها بأنفسهم، فقد سأل بعض الناس ابن عباس، فقالوا: أيّ رجل كان علي (عليه السلام)؟ فقال: كان ممتلئاً جوفه حِكَماً وعلماً وبأساً ونجدة، مع قرابته من رسول الله(صلى الله عليه وآله) (1).

وعن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قلت لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة: لم كان صَغْوُ الناس ـ يعني ميلهم ـ إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام)؟ قال: يا ابن أخي، إنّ علياً كان له ما شئت من ضرس قاطع في العلم، وكان له البسطة في العشيرة، والقِدَم في الإسلام، والصهر برسول الله والفقه في السنّة، والنجدة في الحرب، والجود في الماعون (2).

وعن عبد الملك بن سليمان، قال: قلت لعطاء: أكان في أصحاب محمد أعلم من علي؟قال: لا والله لا أعلم (3).

وكان علي(عليه السلام) يقول: "سلوني عن كتاب الله، فإنّه ليس من آية إلاّ وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل"(4).

____________

1- الرياض النضرة: 2/194 وقال: أخرجه أحمد في المناقب.

2- تهذيب التهذيب لابن حجر: 7/338.

3- اسد الغابة: 6/22، الاستيعاب: 2/462، فيض القدير: 3/46، الرياض النضره: 2/194.

4- طبقات ابن سعد 2: 2 ص 101 عن أبي الطفيل، تهذيب التهذيب: 7/337، وقال فيه: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلاّ أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار...، الإصابة: 4/270، الاستيعاب: 2/463، تفسير الطبري: 26/116، كنز العمّال: 1/228.


الصفحة 59
وعن ابن عباس أنّ عمر قال: أقضانا علي(1).

وقال ابن مسعود: كنّا نتحدث أنّ أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب(عليه السلام)(2).

ولم يكن قول أحدهم إلا صادراً عن شهادة النبيّ(صلى الله عليه وآله) له، حيث قال: "أقضى اُمتي علىّ"(3).

فهذه الأخبار ـ وهي غيض من فيض ـ تثبت تحقق شرط الأعلمية لعلي(عليه السلام)، كما تحققّ في طالوت من قبل، حتى اعترف خصوم علي(عليه السلام) له بهذه الفضيلة، فقد قال معاوية ـ عندما بلغه قتله ـ: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب (4).

____________

1- صحيح البخاري. باب تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها)، المستدرك: 3/305، مسند أحمد: 5/113، حلية الأولياء: 1/65.

2- المستدرك على الصحيحين: 3/135، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، طبقات ابن سعد: 2 قسم 2 ص 102، اُسد الغابة: 4/22، نور الأبصار للشبلنجي: 73.

3- الرياض النضرة: 2/198، الاستيعاب لابن عبدالبر: 1/8 أورد عدة روايات عن عدد من الصحابة في هذا المعنى، وقال: وروي عن عمرمن وجوه: عليّ أقضانا.

4- الاستيعاب: 2/463.


الصفحة 60

عليّ أشجع الاُمة

إنّ شجاعة علي (عليه السلام) وشدّة بأسه ونكايته في العدو من الاُمور التي لا يختلف عليها اثنان، وإنّ الأعداء لتشهد له بذلك قبل الأصدقاء، بل لقد أصبح هذا الأمر من الاُمور المشهورة المتواترة التي تتناقلها الأجيال عبر القرون، فقد كان (عليه السلام)حامل لواء رسول الله(صلى الله عليه وآله)في كل زحف(1).

عليّ في بدر

وكان بلاؤه في بدر عظيماً حتى ذكرت كتب السيرة والتاريخ، أنه قتل معظم المشركين الذين صرعوا في تلك المعركة الفاصلة.(2)

عليّ في اُحد

وفي معركة اُحد "كان المسلمون قتلوا أصحاب اللواء..وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي.. فلما قتلهم أبصر النبيّ(صلى الله عليه وآله) جماعة من المشركين، فقال لعلي: "احمل عليهم" ففرّقهم وقتل فيهم، ثم

____________

1- المستدرك على الصحيحين: 3/111 و 499، الاستيعاب: 3/173، الطبقاب الكبرى: 3/15، مسند احمد: 1/368، تهذيب التهذيب: 3/475، اُسد الغابة: 4/20،، كنز العمال: 5/295، الرياض النضرة: 2/191، مجمع الزوائد: 5/321، سنن البيهقي: 6/207. 2- مغازي الواقدي: 1/147 تسمية من قتل من المشركين ببدر، السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 708.


الصفحة 61
أبصر جماعة آخرين ففرّقهم وقتل فيهم، ثم أبصر جماعة آخرين، فقال له: "احمل عليهم"، فحمل عليهم وفرّقهم وقتل فيهم، فقال جبرائيل: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذه المواساة! فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "إنه مني وأنا منه"، فقال جبرائيل: وأنا منكما; فسمعوا صوتاً: "لا سيف إلاّ ذوالفقار، ولا فتى إلاّ علي"!.(1)

علي في الخندق

وفي معركة الأحزاب، حفر المسلمون خندقاً بإشارة من سلمان الفارسي، فامتنع المسلمون به، ولكن بقيت فيه مواضع غير حصينة جداً، "فأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله)والمسلمون وعدوّهم محاصرهم، ولم يكن بينهم قتال، إلاّ أنّ فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبدود ابن أبي قيس، أخو بني عامر بن لؤي..وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، وضرار ابن الخطاب الشاعر ابن مرداس، أخو بني محارب بن فهر، تلبّسوا للقتال ثم خرجوا على

____________

1- تاريخ الطبري: 2/514، الكامل لابن الاثير: 2/154، سيرة ابن هشام: 2/100، الرياض النضرة: 3/137، المعجم الكبير للطبراني 1/297 ح 941، تاريخ دمشق: ترجمة الامام علي (عليه السلام) كفاية الطالب للكنجي: 227 باب 69 عن الامام الباقر (عليه السلام)، مناقب الخوارزمي: 167 ح 200، وقعة صفين: 478، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/251 وقال: قد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الاخبار المشهورة.


الصفحة 62
خيلهم حتى مرّوا بمنازل كنانة، فقالوا: تهيّأوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها... ثم تيمّموا مكاناً ضيّقاً من الخندق فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع وخرج علي بن أبي طالب(عليه السلام) في نفر معه من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبدود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم اُحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله، قال: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب، فقال له: يا عمرو، إنك كنت قد عاهدت الله ألاّ يدعوك رجل من قريش الى إحدى خلّتين إلاّ أخذتها منه، قال: أجل.

قال له علي: "فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام". قال: لا حاجة لي بذلك.

قال: "فإني أدعوك إلى النزال" فقال له: لِمَ يا ابن أخي؟ فو الله ما أُحبّ أن أقتلك. فقال له علي: "لكني والله اُحبّ أن اقتلك" فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي;، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي(عليه السلام) وخرجت خيلهم

الصفحة 63
منهزمة(1).

وقال السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) في ذيل تفسير قوله تعالى (وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال)(2)، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود (رضي الله عنه)أنه كان يقرأ هذا الحرف (وكفى الله المؤمنين القتال)بعلي بن أبي طالب.

كما أورد الذهبي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ (وكفى الله المؤمنين القتال)بعلي.(3) وكان المسلمون مشفقين من مبارزة عمرو بن عبد ودّ لما يعلمون من شدّة بأسه، حتى أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) أشفق من خروج علي لمبارزته. وقد فصّل أبو جعفر الاسكافي ـ فيما يرويه عنه ابن أبي الحديد المعتزلي ـ في هذه الواقعة وحال النبيّ(صلى الله عليه وآله) فيها، بما وجده في السير والأخبار "من اشفاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلى الله عليه وآله وحذره عليه، ودعائه له بالحفظ والسلامة، حتى قال(صلى الله عليه وآله)يوم الخندق ـ وقد برز علىّ إلى عمرو ـ ورفع يديه الى السماء بمحضر من

____________

1- السيرة النبوية لابن هشام: 2 /244، تاريخ الطبري 2/573، الكامل لابن الاثير: 2/181 المستدرك 3/32.

2- الأحزاب: 25.

3- ميزان الاعتدال: 2/17.


الصفحة 64
أصحابه: "اللهم إنّك أخذت مني حمزة يوم اُحد، وعبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم عليّا(ربّ لاتذرني فرداً وأنت خير الوارثين)"(1)، وكذلك ظنّ به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مراراً، في كلّها يحجمون ويقدم علي، فيسأل الإذن له في البراز، حتى قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنه عمرو!"، فقال:"وأنا علي"، فأدناه وقبّله وعمّمه بعمامته، وخرج معه خطوات كالمودّع له، القلق لحاله، المنتظر لما يكون منه، ثم لم يزل(صلى الله عليه وآله) رافعاً يديه إلى السماء، مستقبلاً لها بوجهه، والمسلمون صموت حوله، كأنما على رؤوسهم الطير، حتى ثارت الغبرة، وسمعوا التكبير من تحتها، فعلموا أنّ علياً قتل عمراً، فكبّر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكبّر المسلمون تكبيرة سمعها مَن وراء الخندق مِن عساكر المشركين، ولذلك قال حذيفة بن اليمان: لو قُسّمت فضيلة علىّ (عليه السلام) بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم، وقال ابن عباس في قوله تعالى: (وكفى الله المؤمنين القتال)، قال: بعلي بن أبي طالب(2).

____________

1- الأنبياء: 89.

2- شرح نهج البلاغة: 13/283 ـ 284.


الصفحة 65

عليّ في خيبر

وفي العام السابع من الهجرة النبوية الشريفة، توجّه النبي(صلى الله عليه وآله)على رأس جيشه لفتح حصون خيبر الحصينة وأرسل إليها بعض أصحابه فلم يصنعوا شيئاً، فعن بريدة قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل رسول الله(صلى الله عليه وآله)أخذته الشقيقة فلم يخرج الى الناس، وأن أبا بكر أخذ راية رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً ثم رجع، فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الاول، ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: "أما والله لاُعطينّها غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه اللهُ ورسوله، يأخذها عنوة"، قال: وليس ثمَّ علي (عليه السلام)، فتطاولت لها قريش ورجا كلّ واحد منهم أن يكون صاحب ذلك.

فأصبح، فجاء عليّ(عليه السلام) على بعير له حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله(صلى الله عليه وآله)،وهو أرمد قد عصّب عينيه بشقة برد قطري، فقال رسول الله: (صلى الله عليه وآله) "مالك"؟ قال: رمدت بعد. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "اُدن مني"، فدنا منه فتفل في عينيه، فما وجعها حتى مضى لسبيله، ثم أعطاه الراية، فنهض بها معه وعليه حلة أرجوان حمراء قد أخرج خملها، فأتى خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفر يمان وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يـرتجز ويقول:


الصفحة 66

قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب

فقال علي(عليه السلام):


أنا الذي سمّتني اُمي حيدرة أكيلكم بالسيف كيل السندرة

ليث بغابات شديد قسورة

فاختلفا ضربتين، فبدره علي فضربه، فقدّ الحجر والمغفر ورأسه حتى وقع في الأضراس، وأخذ المدينة.

وعن أبي رافع مولى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال: خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله)برايته، فلما دنا من الحصن، خرج إليه أهله، فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي (رضي الله عنه) باباً كان عند الحصن فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.(1) وقد أخرج المحدّثون القصة أيضاً، فقد أخرج الحاكم عن

____________

1- تاريخ الطبري: 3/11 حوادث سنة سبع للهجرة، غزوة خيبر. الكامل لابن الاثير: 2/219، سيرة ابن هشام: 2/ 334.


الصفحة 67
علي(عليه السلام)، أنه قال (لأبي ليلى): يا أبا ليلى، أما كنت معنا بخيبر؟ قال: بلى. قال: فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)بعث أبابكر إلى خيبر فسار بالناس وانهزم حتى رجع.

وعنه أيضاً قال: سار النبي(صلى الله عليه وآله) إلى خيبر، فلما أتاها بعث عمر ومعه الناس إلى مدينتهم أو قصرهم، فقاتلوهم، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه، فجاءوا يجبّنونه ويجبّنهم...(1)

عليّ في حنين:

وفي حنين، عندما أعجبت المسلمين كثرتهم، حيث خرج النبي (صلى الله عليه وآله)في عشرة آلاف من جنده الذين فتح بهم مكة وألفين من مسلمة الفتح. فحملت عليهم هوازن وحلفاؤها حملة شديدةً انهزمت منها جموع المسلمين على كثرتهم، وثبت النبيّ(صلى الله عليه وآله) في تسعة من أهله ورهطه الأدنين، وقد فرّ المسلمون كلّهم، والنفر التسعة محدقون به: العباس آخذ بحكَمة بغلته، وعليّ بين يديه مصلتٌ سيفه، والباقون حول بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمنة ويسرة، وقد انهزم المهاجرون والأنصار...(2) وعن أنس قال: لما كان يوم حنين، انهزم الناس عن

____________

1- المستدرك على الصحيحين: 3/37 كتاب المغازي، وصححها ووافقه الذهبي في التلخيص.

2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/278.


الصفحة 68
رسول الله(صلى الله عليه وآله)إلاّ العباس بن عبدالمطلب وأبو سفيان بن الحارث ـ يعني ابن عمّ النبي(صلى الله عليه وآله) ـوأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينادى: يا أصحاب سورة البقرة، يا معشر الأنصار، ثم استمر النداء في بني الحرث بن الخزرج، فلمّا سمعوا النداء أقبلوا، فو الله ما شبهتهم إلاّ الابل تحن إلى أولادها، فلما التقوا، التحم القتال، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "الآن حمي الوطيس" وأخذ كفاً من حصى أبيض فرمى به وقال: هزموا وربّ الكعبة. وكان علي بن أبي طالب يومئذ أشدّ الناس قتالاً بين يديه.(1) فهذه المشاهد تشهد كلّها لعليّ(عليه السلام) بأنه كان رجل الحرب المقدام الذي يصلح أن يقود الاُمّة في أحلك الظروف، كما قاد طالوت اُمته للنصر، وأخرج جالوت ورهطه من أرض فلسطين، وأنهى تيه بني اسرائيل في الصحراء.

أسباب الخلاف

ليس هدفنا الآن استعراض فضائل علي (عليه السلام) ـ وهي أكثر من أن تحصى، وقد صُنفت فيها كتب عديدة ـ بل هدفنا قبل كل شيء أن نوضّح الدواعي الحقيقية التي دفعت بالنبيّ(صلى الله عليه وآله) الى الاشادة بعليّ(عليه السلام)، وإظهار دوره المهم في حياة الاُمة في السلم والحرب،

____________

1- مجمع الزوائد: 6/180وقال رواة ابو يعلى والطبراني في الاوسط: ورجالها رجال الصحيح غير عمران بن دوار.


الصفحة 69
والتي لا يمكن أن تكون مجرد محاباة لابن عمّه وأهل بيته كما بيّنا من قبل، بل إنّ الهدف كان لفت انتباه أبناء الاُمة إلى أهلية علي وأهل بيته(عليهم السلام) للقيام بمهام المرجعية الإسلامية من بعده، وبيان مدى تقبّل الاُمة لذلك والتي تباينت مواقف أفرادها بين التسليم المطلق لإرادة النبي(صلى الله عليه وآله)باعتبارها تستمد شرعيتها من وحي السماء، وبين ما كان يجول في خواطر أفراد آخرين من أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)ربما كان يحابي ابن عمّه وأهل بيته(عليهم السلام)، وبالتالي تصوّروا أنّ لهم الحقّ في إبداء الرأي أو حتى الاعتراض الذي ربما كان ناجماً في بعض الأحيان عن احساس بالحسد الذي قلّما ينجو منه أفراد البشر. وليس ما نقوله هو مجرد ادعاء غير مستند الى الحقائق، بل إنّ الأخبار متوافرة على إثبات هذه الحقيقة، وقد مرّ فيما سبق رواية عن بريدة تؤكد أنّ خالد بن الوليد قد أرسله ليشكو عليّاً(عليه السلام)للنبيّ(صلى الله عليه وآله)، ويبدو أنه كان يتحيّن مثل هذه الفرصة، لذا قال خالد لبريدة: إغتنمها، كما تبيّن الأمر في أقوال الصحابة الذين حثّوا بريدة على هذه الشكاية وأعلموه بأنّ ذلك يسقط عليّاً (عليه السلام)من عيني النبي(صلى الله عليه وآله)، ممّا جعل النبيّ(صلى الله عليه وآله) يخرج عليهم مغضباً ويخبرهم بأنّ من يؤذي علياً فانّما يؤذي شخصه الكريم (صلى الله عليه وآله).

وجاء عن جابر: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى علي بن أبي طالب يوم الطائف واطال مناجاته فرأى الكراهية في وجوه رجال، فقالوا: قد