ثم قال: ائتوا اُبيّ بن كعب فقد علم كما علمت، قال: فانطلقنا إلى اُبيّ، فضربنا عليه بابه، حتى صار خلف الباب، فقال: من أنتم؟ فكلّمه المقداد، فقال: ماحاجتكم؟ فقال له: افتح عليك بابك فإنّ الأمر أعظم من أن يجري وراء حجاب. قال ما أنا بفاتح بابي، وقد عرفت ماجئتم له، كأنّكم أردتم النظر في هذا العقد، فقلنا: نعم، فقال: أفيكم حذيفة؟ فقلنا: نعم. قال: فالقول ما قال، وبالله افتح عني بابي حتى يُجرى على ماهي جارية، ولما يكون بعدها شرّ منها، وإلى الله المشتكى!(1).
ويبدو أنّ اُبيّاً ظلّ يحمل هذا السّر بين جوانحه حتى أراد أن يفشيه بعد ذلك بسنوات لو لا أن عاجلته المنيّة قبل ذلك بيوم واحد، فعن عُتي بن صخرة، قال: قلت لاُبيّ بن كعب: ما شأنكم يا أصحاب رسول الله؟! نأتيكم من الغربة نرجو عندكم الخير فتهاونون بنا؟! قال: والله لئن عشت إلى هذه الجمعة لأقولنّ قولاً لا اُبالي استحييتموني أو قتلتموني.
فلما كان يوم الجمعة خرجت فإذا أهل المدينة يموجون في سكهها، فقلت: ما الخبر؟ قالوا: مات سيّد المسلمين اُبيّ
____________
1- شرح نهج البلاغة: 2/51ـ52.
____________
1- سير أعلام النبلاء: 1/399.
2- الطبقات الكبرى: 3/501.
3- المستدرك: 3 / 305.
4- تاريخ اليعقوبي: 2/124.
وقدم خالد بن سعيد بن العاص، وكان النبيّ(صلى الله عليه وآله)قد استعمله على عمل، فقدم بعدما قُبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد بايع الناس أبابكر، فدعاه إلى البيعة. فأبى، فقال عمر: دعني وإيّاه، فمنعه أبوبكر حتى مضت عليه سنة، ثم مرّ به أبو بكر وهو جالس على بابه، فناداه خالد: يا أبابكر هل لك في البيعة؟ قال: نعم، قال: فادنُ، فدنا منه فبايعه خالد وهو قاعد على بابه.(2) وقد استمرّت معارضة الصحابة المؤيدين لعلي(عليه السلام) إلى أيام الشورى التي انتهت بتولية عثمان، وفي تلك الأيام التي سبقت التولية أظهر اُولئك الصحابة موقفهم علناً، ففي اليوم الثالث ـ وهو اليوم الأخير من المهلة التي حدّدها عمر للاستشارة ـ قال عبد الرحمن بن عوف: أيها الناس، أشيروا عليّ في هذين الرجلين ـ يعني علياً وعثمان ـ، فقال عمّار بن ياسر: إن أردت ألا يختلف
____________
1- العقيدة والشريعة في الإسلام: 186، وانظر فجر الإسلام لأحمد أمين: 266.
2- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 6/41.
فقال المقداد: صدق عمّار، وإن بايعت علياً سمعنا وأطعنا.
فقال عبدالله بن أبي سرح(1): إن أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان.
وقال عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي: صدق، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا.
فشتم عمّار ابن أبي سرح وقال له: متى كنت تنصح الإسلام؟!
فتكلّم بنو هاشم وبنو اُمية، وقام عمار، فقال: أيّها الناس، إنّ الله أكرمكم بنبيّه، وأعزّكم بدينه، فالى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم؟!
____________
1- عبدالله بن سعد بن أبي سرح، قال ابن عبدالبر في ترجمته: أسلم قبل الفتح وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ثم ارتدّ مشركاً، وصار الى قريش مكة فقال لهم: إنّي كنت أصرف محمداً حيث اُريد، كان يملي عليّ: (عزيز حكيم) فأقول: أوَ عليم حكيم؟ فيقول: "نعم، كل صواب" فلما كان يوم الفتح أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) بقتله وقتل عبدالله بن خطل، ومقيس بن حبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة. ففرّ عبدالله بن أبي سرح الى عثمان، وكان أخاه في الرضاعة، أرضعت اُمه عثمان، فغيّبه عثمان حتى أتى به رسول الله(صلى الله عليه وآله)بعدما إطمأنّ أهل مكة، فاستأمنه له، فصمت رسول الله(صلى الله عليه وآله) طويلاً. ثم قال: "نعم". فلمّا انصرف عثمان، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لمن حضره: "ما صمتُّ إلاّ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه". وقال رجل من الأنصار: فهلاّ أومأت إليّ يا رسول الله؟ فقال: "إنّ النبيّ لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين". الاستيعاب: 3/50 رقم 1571.
فقال سعد: يا عبدالرحمن، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس. فحينئذ عرض عبدالرحمن على عليّ (عليه السلام)العمل بسيرة الشيخين، فقال: بل اجتهد برأيي، فبايع عثمان بعد أن عرض عليه، فقال: نعم.
فقال علي(عليه السلام): ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ماتصفون، والله ما وليّته الأمر إلاّ ليردّه إليك، والله كلّ يوم في شأن.
فقال عبد الرحمن: لا تجعلنّ على نفسك سبيلاً يا علي ـ وهو يقصد أمر عمر أبا طلحة أن يضرب عنق المخالف ـ فقام علي(عليه السلام)فخرج وقال: سيبلغ الكتاب أجله.
فقال عمّار: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وإنّه من الّذين يقضون بالحق وبه كانوا يعدلون.
وقال المقداد: تالله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم، واعجبا لقريش! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أنّ أحداً أقضى بالعدل ولا أعلم ولا أتقى منه! أما والله لو أجد أعواناً!
فقال عبد الرحمن: اتّقِ الله يا مقداد فإنّي خائف عليك الفتنة.(1)
____________
1- شرح نهج البلاغة: 1/193ـ194.
فقال عبدالرحمن: اسمع رحمك الله، اسمع. قال: لا أسمع والله، وجذب يده من يده، ومضى حتى دخل على علي(عليه السلام)فقال: قم فقاتل نقاتل معك.
قال علي: "فبمن اُقاتل رحمك الله؟!" وأقبل عمار بن ياسر ينادي:
يا ناعي الإسلام قم فانعه | قد مات عرفٌ وبدا نكرُ |
فقال علي: يا أبا اليقطان! والله لا أجد عليهم أعواناً، ولا أحب أن اُعرّضكم لما لا تطيقون.(1) ومن هنا يبدو أنّ معارضة الموالين لعلي(عليه السلام) قد بدأت تتخذ شكلاً أكثر عنفاً، حيث كان يصل أحياناً إلى الدعوة للنهوض لانتزاع الحق بعد أن فرغ صبر هؤلاء.
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 9/55.
قال جندب: دخلت مسجد رسول الله، فرأيت رجلاً جاثياً على ركبيته يتلهّف من كأنّ الدنيا كانت له فسُلبها، وهو يقول: واعجباً لقريش ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيّهم، وفيهم أول المؤمنين، وابن عمّ رسول الله، أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وأعظمهم غناء في الإسلام، وأبصرهم بالطريق، وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحاً للاُمة ولا صواباً في المذهب، ولكنّهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعداً وسحقاً للقوم الظالمين.
فدنوت منه، فقلت: من أنت يرحمك الله؟ ومن هذا الرجل؟ فقال: أنا المقداد بن عمرو، وهذا الرجل علي بن أبي طالب. قال: فقلت: ألا تقوم بهذا الأمر فأعينك عليه؟ فقال: يابن أخي، إنّ هذا الأمر لا يجري فيه الرجل ولا الرجلان، ثم خرجت، فلقيت أباذر فذكرت له ذلك فقال: صدق أخي المقداد، ثم أتيت عبدالله بن
إلاّ أنّ الأحداث التي وقعت بعد ذلك في خلافة عثمان، والتي أدّت إلى نقمة الناس عليه، قد فتحت أعين الناس على حقائق جديدة، وبدأت المعارضة لسياسة عثمان تتسع وتكتسب قاعدة أكبر حتى شعر المجتمع بفداحة الخطأ الذي ارتكبه بحقّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، وأدرك الناس أنّ الخطأ في المسيرة قد تعمّق نتيجة الإعراض عنه وعن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان أوائل الشيعة من أمثال: عمار وابن مسعود وأبي ذر الغفاري في طليعة الدعاة لتصحيح المسيرة وإعادة الحقّ الى نصابه، ولقيت دعوتهم آذاناً صاغية كثيرة، وسرعان ما تحوّلت المعارضة الكلامية إلى معارضة مسلّحة أطاحت بالخليفة الثالث.
وعندما وصلت الأخبار إلى حذيفة بن اليمان ـ وهو من الشيعة الأوائل ـ وكان على فراش الموت، وسئل عن الأمر، فقال لهم: آمركم أن تلزموا عمّاراً. قالوا: إنّ عمّاراً لا يفارق علياً! قال: إنّ الحسد هو أهلك الجسد، وإنما ينفّركم من عمار قربه من عليّ، فوالله
____________
1- تاريخ اليعقوبي: 2/57.
2- شرح نهج البلاغة: 9/57 ـ 58.
____________
1- مجمع الزوائد: 7/243 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2 / 187 ـ 188.
3- مجمع الزوائد 7/236 وقال: رواه البزار ورجاله ثقات، فتح الباري: 13/45.
ما بعد البيعة:
لقد كان لهذه الدعوات المستمرة من اُولئك الصحابة الممثّلين لخطّ التشيّع لعليّ(عليه السلام)صدىً كبيرٌ أدّى إلى اتساع نطاق التشيّع يوماً بعد يوم، ليشمل عدداً آخر من الصحابة ومن ثم التابعين لهم. لهذا لا نستغرب أن نجد مالك الأشتر يوم بيعة علي(عليه السلام)، يقول: أيّها الناس، هذا وصيّ الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء، الحسن
____________
1- تاريخ اليعقوبي: 2 / 67 ـ 68.
2- جمع نحيزة: أي الطبيعة.
3- جمهرة الخطب: 1 / 379 رقم 267.
وقد بايع الأشتر عليّاً(عليه السلام) نيابة عن أهل الكوفة، وبايعه طلحة والزبير نيابة عن المهاجرين، وقام أبو الهيثم بن التيهان وعقبة بن عمرو وأبو أيوب فقالوا: نبايعك على أنّ علينا بيعة الأنصار وسائر قريش.
وقام قوم من الأنصار فتكلّموا، وكان أوّل من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وكان خطيب الأنصار فقال: والله يا أمير المؤمنين، لئن كانوا تقدّموك في الولاية، فما تقدّموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ولا يجهل مكانك، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك.
ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري، وهو ذو الشهادتين، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلاّ إليك، ولئن صدقنا أنفسنا فيك، فلأنت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس بالله، وأولى المؤمنين برسول الله، لك ما لهم، وليس لهم ما لك.
تعثّر المسيرة:
بلغ اتّجاه التشيّع لعليّ (عليه السلام) أوجه خلال فترة حكم عثمان، وبعد تسنّم علي سدّة الحكم بعد البيعة الجماهيرية العظيمة التي تمّت له، والتي يصفها هو نفسه بقوله: "فتداكّوا عليَّ تداكّ الإبل الهيم يوم وردها وقد أرسلها راعيها، وخُلعت مثانيها، حتى ظننت أنّهم قاتلي، أو بعضهم قاتل بعض ولدي..."(2) إلاّ أنّ الاُمور بدأت تسير عكس المسيرة، عندما عارض بعض الصحابة عليّاً(عليه السلام)، بعدما تبيّن لهم أنّه يريد أن يعيد الاُمور إلى ما كانت عليه في زمن النبي(صلى الله عليه وآله)، من مساواتهم مع سائر الناس في العطاء ـ وهو الأمر الذي كان عمر قد سنّه وغيّره وتابعه عليه عثمان ـ بالاضافة إلى تغيير بعض الولاة ممّن اشتهروا بسوء سيرتهم خاصة في زمن عثمان، فتأججت نيران الحرب واستمرت
____________
1- تاريخ اليعقوبي: 2/75.
2- شرح نهج البلاغة: 4/6.
ولمّا حاول عليّ (عليه السلام)أن يثنيهم عن عزمهم كاشفاً وجه الخداع في المسألة، نجدهم يبادرون إلى عصيانه إلى درجة تهديده بالقتل أو بالتسليم لعدوّه، فلم يجد بدّاً من النزول عند رغبتهم، ولم يكن ذلك نهاية المطاف، إذ إنّهم سرعان ماندموا على قبول التحكيم، وتبيّن لهم خطأهم، ولكنهم عالجوا الأمر بسلبية أكثر، فطلبوا منه التحلل من عهوده التي قطعها على نفسه والعودة إلى الحرب، وهذا ممّا يدلّل على أنّ هؤلاء لم يكونوا أصحاب بصيرة، ولا كان تشيّعهم لعليّ(عليه السلام)إلاّ تشيّعاً ظاهرياً غير نابع من عقيدة راسخة، كما ويدلّنا تصرّفهم ذاك على مدى عمق ترسّخ المنهج الذي اتّبعه أصحاب الخط الاجتهادي، ممّا جعل الخروج على أمر أولياء الاُمور
لقد أدّى تمرّد هذه الفئة إلى زيادة الاُمور تعقيداً، إذ إنّ علياً(عليه السلام)قد وجد نفسه في نهاية الأمر مضطراً إلى خوض الحرب معهم بعدما أفسدوا في بعض النواحي وقتلوا بعض الأبرياء دون ذنب، وكانت نتيجة ذلك أكثر وبالاً، فإنّ المعركة قد أنهكت قوى مؤيديه، وأدت إلى تقاعسهم أكثر فأكثر، ولم يفلح تحريضه ومن بقي معه من خواصّ شيعته في استنهاض هممهم من جديد.
ثم جاءت الطامة الكبرى حينما تجرّأ أحد المتمرّدين عليه وقتله في محراب عبادته، لينهي صفحة من الكفاح الدؤوب لتنشئة جيل من الشيعة متشرّب بالقيم التي تؤهّله للنهوض بأعباء المرحلة العصيبة التي واجهها منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وحتى لحظة سقوطه في محرابه بسيف ابن ملجم.
إنّ هذه النهاية المأساوية التي جاءت في هذا الوقت العصيب، قد أثّرت على المسيرة بشكل واضح، ولهذا فإنّ ابنه الحسن(عليه السلام) لم يجد بُدّاً من القيام بدوره التكميلي في الإصلاح أمام هذه الأعباء الثقيلة، مع الافتقار إلى العدد الكافي من الأعوان ذوي العقائد الصحيحة، وتخاذل الجزء الأكبر من الباقين، فلم يجد بدّاً من مهادنة معاوية بن أبي سفيان، بعد أن أدرك عدم جدوى الاستمرار في
وباستلام معاوية زمام الاُمور دخل التشيّع في أصعب مراحله، إذ بدأ معاوية بملاحقة الشيعة والانتقام منهم بكلّ تعسّف، ولم يكن قد بقي من خلّص الشيعة إلاّ عدد ضئيل، التقطهم معاوية وأوردهم موارد الهلاك، من أمثال: حجر بن عدي وأصحابه، وعانى البقية ظروفاً شديدة من القهر والملاحقة والتضييق على مدى عشرين عاماً من حكم معاوية الذي افتتح ولايته على الاُمة الإسلامية بقهر الشيعة واضطهادهم بكلّ صنوف العذاب، فقد نقل ابن أبي الحديد المعتزلي عن كتاب "الأحداث" للمدائني، قائلاً: كتب معاوية نسخة واحدة الى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقام الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي(عليه السلام)، فاستعمل عليها زياد بن سميّة، وضمّ اليه البصرة، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف; لأنه كان منهم أيّام عليّ(عليه السلام)، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، وكتب معاوية الى
ثم كتب الى عمّاله: أنّ الحديث في عثمان قدكثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعو الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ اليَّ وأقرّ لعينيوأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقُرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا
ثم كتب الى عمّاله نسخة واحدة الى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة، أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه.
وشفع ذلك بنسخة اُخرى: من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، واهدموا داره.
فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيّما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي(عليه السلام) ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه.
فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة; وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنُّسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقرّبوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي(عليه السلام)، فازداد البلاء والفتنة، لم يبق أحدٌ من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض.
ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين(عليه السلام)،وولي عبدالملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، وولّى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النّسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضهلم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغضّ من علي(عليه السلام) وعيبه والطعن فيه والشنآن عليه، حتى إنّ إنساناً وقف للحجّاج ـ ويقال إنه جدّ الأصمعي عبدالملك بن قريب ـ فصاح به: أيها الأمير: إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً، وإني فقير بائس، وأنا الى صلة الأمير محتاج! فتضاحك له الحجاج وقال: لِلُطفِ ما توسّلت به قد ولّيتك موضع كذا!
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر، وقال: إنّ
كما وأورد ابن أبي الحديد رواية اُخرى عن الإمام الباقر(عليه السلام)في هذا المعنى، يُحدّث بعض أصحابه، قال (عليه السلام): يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيّانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس! إن رسول الله(صلى الله عليه وآله)قُبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، ثم تداولتها قريش واحدٌ بعد واحد، حتى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قُتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غُدر به واُسلم، ووثب عليه أهل العراق حتى طُعن بخنجر في جنبه، ونُهبت عسكره، وعولجت خلاخيل اُمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حق قليل، ثم بايع الحسين(عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثم غدروا به، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه، ثم لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذل ونُستضام، ونقصى ونُمتهن، نحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به الى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله
____________
1- شرح نهج البلاغة: 11/44 ـ 46، ذكربعض ما مني به آل البيت من الأذى والاضطهاد.